مثابرة القديسين

التعريف

جميع المؤمنين الحقيقيين بالمسيح سوف يثابرون في إيمانهم حتى نهاية حياتهم لأنهم محفوظون بنعمة الله التي تسندهم.

الموجز

هل يصمد جميع المؤمنين حتى النهاية ومن ثم ينعمون بالخلاص؟ هل يمكن للمَرْءِ أن يفقِدَ خلاصَه ويخسَرَ نعمة الله المخَلِّصَة؟ لقد اختلف المسيحيون أصحاب النوايا الحسنة حول هذه الأمور، ولكن يمكن لنا أن نقدِّمَ الدليل الكتابيِّ القاطِع على أن جميع المؤمنين الحقيقيين بالمسيح سوف يثابرون في إيمانهم حتى نهاية حياتهم بفضل عمل الرُّوح القُدُس الحافظ والفائض بالنعمة. وهنا ينبغي أن نحدِّد المصطلحات المرتبطة بهذا الموضوع بكلِّ دِقَّةٍ: المثابرة، والحفظ، والضمان الأبدي. لا بُدَّ أيضًا من النظر في التعاليم المرتبطة بحفظ شعب الله ومثابرته في الإيمان. أخيرًا، ينبغي أن نفسِّر بكلِّ دِقَّةٍ معنى تحذيرات العَهْد الجَدِيد من الارتداد.


المصطلحات والمواقف

هل يمكن للمؤمن أن يفقِدَ خلاصَه؟ هل يصمدُ جميع المؤمنين الحقيقيين حتى النهاية؟ لقد نَجَمَ عن هذه الأسئلةِ المُلِحَّةِ مدًى كبير من الإجابات في تاريخ اللاهوت المسيحي. كما نشأ عنها مجموعة متنوعة من المفردات والمصطلحاتٍ الموَظَّفَة لجمع تعاليم الكِتَابِ المُقَدَّسِ في هذا الشأن. المصطلح المُفَضَّل لدى كثيرين من لاهوتيي حركة الإصلاح هو “مثابرة القديسين”. هذا المصطلح يأتي كدرعٍ واقٍ ضد نوعية “الإيمان السهل” الذي يَفْتَرِضُ بأن مجرَّدَ صلاةٍ يصليها المَرْءُ ببساطة أو قرارٍ بيتَّخِذَه بصدْقٍ بالحياة من أجل المسيح في وقتٍ ما من حياته كافٍ لتغطيته باقي أيام الحياة، بغض النظر عن الثمر الذي يميِّزُ حياته بعد ذلك الوقت. تُعَلِّم عقيدةُ المثابرة أن جميع المؤمنين الحقيقيين سوف يثابرون بالفعل في الإيمان (لا في عدم الإيمان) حتى نهاية حياتهم.

لقد أَعْرَبَ البعضُ عن قلَقِهِم من أن هذا المصطلح يُركِّز بشكلٍ كبيرٍ للغاية على إيمان المؤمن، بدلاً من نعمة الله. ومقابل ذلك، اقترحوا بأننا يجب أن نستخْدِم مصطلح “الحفظ” للتأكيد على أمانة الله نحو شعبه على الرغم من سقطاتهم المتكرِّرة الكاشفة عن عدم أمانتهم. لكن، في حقيقة الأمر، تسعى العقيدة المُصْلَحَة إلى التأكيد على هذه النقطة بعينها. إن الفهم الأكمل للموقف المُصْلَحَ سيكون أشبه بـ “المثابرة” عن طريق “الحفظ”. ينبغي على جميع المؤمنين الحقيقيين المثابرة في الإيمان، على الرغم من كثرة الروابي والأوطئة التي يجتازون فيها عبر مسيرتهم الروحية. لكن، بنفس القَدْرِ من الصحة، سوف يُثابر جميع المؤمنين الحقيقيين في الإيمان بفضل العمل الداعم للرُّوحِ القُدُسِ في قلوبهم وإرادتهم. مصطلح آخر يُستخدم أحيانًا في هذه المناقشة هو “الضمان الأبدي” للمؤمن. يعبِّر هذا المصطلح عن الحقيقة الثمينة التي تتمثل في ضمان المؤمنين، وأمانِهم، ويقينهم، وحمايتهم بنعمة الله. لكن يمكن لهذا التعليم، وقد حدث أحيانًا، أن يتشوَّه بواسطة البعض ممن يُعَلِّمُون عمَّا يُسَمَّى بـ “إنجيل النعمة المجانية” الذي يُقلِّل من حاجة المؤمن إلى التَّوبَة والخضوع لسيادة المسيح. لذلك، فإن التعبير الأفضل عن هذه العقيدة ربما يكون على هذا النحو: المثابرة والضمان عن طريق الحفظ.

كما أَلْمَحْنَا من قبلٍ، يتمسَّكُ اللاهوت المُصْلَح بأن جميع المؤمنين الحقيقيين سوف يثابرون في إيمانهم، وأنه ليس بوسعهم أن يفقدوا خلاصهم وتحديدًا بسبب العمل الإلهي الداعم في حياتهم. تأتي هذه العقيدة متَّسِقَة مع المفهوم الأوسع عن الخلاص في الفكرِ. جميع المختارين أزلاً بواسطة الآب، ممن قد افتداهم الابْنُ، وقام الرُّوحُ القُدُسُ بتجديدهم، سيأتي بهم الله في النهاية لخلاص يقين في اليوم الأخير عن طريق نعمة الله ذات السيادة المطلقة. جميع الذين اختارهم الله ودعاهم وقام بهدايتهم إليه محفوظون بواسطة الله.[1]

لكن لم يتفق الجميع على هذا الموقف. في اللاهوت الكاثوليكي الروماني، يمكن للمؤمن أن يفقد التجديد والتبرير الأَوَّلي بالمعمودية بسبب خطية مميتة أو عدم التعاون مع نعمة الله عن طريق الأسرار المقدسة. ونتيجةً لذلك، لا يمكن لأي مؤمن مُعترف أن يكون على يقين تام بأنه سينعم بالخلاص في اليوم الأخير. هذا اليقين يُعَد نوعًا من العجرفة وفقًا لمفهوم الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.

انشقَّ اللاهوتيُّ الهولندي المُصْلَح چيمس أرمينيوس James Arminius عن الرأي العقيدي المُصْلَح حول عقائد النعمة، مع أنه ترك موضوع الارتداد (أي فقدان المَرْءِ للخلاص) على الأكثر مفتوحًا. أما چون ويسلي John Wesley، الذي تَبَنَّى العديد من أفكار أرمينيوس، فكان أكثر صراحةً بشأن إمكانية الارتداد. لقد آمن هو والتقاليد الويسلية الناجمة عن تأثيره، بأنه من الممكن بالفعل أن يفقِدَ المؤمنُ خلاصَه. فالحاجة إلى الصمود بثبات وتحذيرات العهد الجديد لا بُدَّ من تناولها بأقصى درجات الجدية. إن قرار اتباع المسيح هو قرارٌ تقوِّيِه النعمةُ لكنَّه يبقى اختيارًا حرًّا بشكلٍ خالص، فالله لكي يحترم حريتنا، لا بُدَّ وأن يترك إمكانية الارتداد مفتوحةً.[2]

ومع ذلك، رحَّبَ آخرون بالتَّمَسُّك بالضمان الأبدي للمؤمن كالتزامٍ أساسي مُصْلَح، لكن رفض بعضهم وعدَّل بعضُ آخر الفكر اللاهوتي المُصْلَح والأوسعَ بشأن الخلاص الذي يجعلُ هذا الموقفَ مفهومًا. يميلُ هذا الموقفُ “الكالفينيُّ المُعَدَّل” إلى الاتفاقِ بشكلٍ أكبر مع الأرمينيَةِ عندما يرتبط الأمر بالاختيارِ، والإرادةِ الحرةِ، ومدى الكفارةِ، والعلاقةِ بين التجديدِ والتوبة. لكنه يقبلُ الحقَّ بِأنَّ من يؤمِن بالمسيحِ إيمانًا حقيقيًّا لا يُمكنُ أن يَهْلِكَ في النهاية. في بعضِ الحالات، يميلُ هذا الموقفُ في اتجاه ما يُسمَّى بـ “لاهوت النعمةِ المجانية” الذي تكون فيه المثابرةُ في الإيمانِ بالأعمالِ الصالحةِ أمرًا ضروريًّا لنوال بعض المكافآت السماوية، لكنه ليسَ ضروريًّا للخلاصِ النهائيِّ. على هذا النحو، يُمثِّلُ هذا الرأي موقفًا وَسَطِيًّا يفتقر للثبات. ما أن تَتَخَلَّى (الكنيسة) عن فهمها المُصْلَح لنعمة الله المنتصرة التي تعمل على الإرادة البشرية المتمردة، فإنها تفتقرُ إلى الموارد اللاهوتية اللازمة لحفظ عقيدة الضمان الأبدي دون التقليل من أهميَّة المثابرة.

في ضوء هذا المسح للمصطلحات والآراء، يبقى الآن أن نَنْظُرَ فيما تُعَلِّمُهُ الشهادة الكتابية عن هذه الأمور.

الحفظ

يُسَلِّطُ الإنجيلُ بحسب البَشِير يُوحَنَّا الضوءَ على أن نعمة الله بسيادتها المطلقة قاطِعَةٌ ولا يمكِنُ إيقافُ عملها في حياة المؤمنين. يُعَلِّم يسوع أن الخلاص الذي يأتي به يُحقِّق انتقالاً دائمًا من الموت إلى الحياة: “اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ” (يُوحَنَّا 24:5). الحياة الأبدية لَيْسَتْ مجردَ رجاءٍ مستقبليٍّ، بل هي أيضًا ملكية يمكن اقتناؤها في الزمن الحاضر. لدى المؤمنين ينبوعُ مَاءٍ في داخلهم يَنْبَعُ إلى الحياة الأبدية (يُوحَنَّا 14:4). من يأكل من هذا الخبز السَّماوي لن يجوع إلى الأبد، بل يحيا إلى الأبد (يُوحَنَّا 51:6). من يؤمن بقوة قيامة المسيح لن يموتَ إلى الأَبَدِ (يُوحَنَّا 25:11-26). إن الأساس الذي يضمنُ هذا اليقين بالحياة الأبدية هو مشيئة الآب المتحقِّقَة بواسطة الابن. “كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجًا. لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي. وَهَذِهِ مَشِيئَةُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئًا بَلْ أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ” (يُوحَنَّا 37:6-39). في حديثِهِ عن الرَّاعي الصَّالح، عَلَّم يسوع أنه لا يمكن لأحد أن يَخْطفَ خرافَه من يَدِهِ: “وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي” (يوحنا 10: 28). يتضاعف هذا اليقين عندما نعلم أنه لا يمكن لأحد أن يَخْطِفَ خراف يسوع من يَدِ الآب، مما يُؤكد وَحدَةَ الآب والابن: “أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ” (يُوحَنَّا 30:10). كما أن الرُّوحَ القُدُسَ الموعود به سيكون وسيلة الإعلان، والتمكين، والتأهيل لهذا الضمان: “وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ” (يُوحَنَّا 16:14؛ مع يُوحَنَّا 7:16-15). لذلك، بالنسبة إلى يسوع في الإنجيل بحسب البَشِير يُوحَنَّا، يرتكزُ يقين المؤمن على العمل الموحَّد والدَّؤوب للثالوثِ القُدُّوس.

تُعَلِّم رسائل العهد الجديد أيضًا عن حفظ جميع المؤمنين الحقيقيين. يَصِفُ الرَّسُول بُولُس العمل الإلهي في الفداء كسلسلة أحداث خلاصية متصلة: “لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ. وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضًا. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضًا. وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهَؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضًا” (رومية 29:8-30). لا يوجد أيُّ انفصال في حلقات هذه “السلسلة الذهبية”. كل من يختبر بركة ما سابقة ينعم بالبركة التالية لها. من المثير للاهتمام أن الرَّسُولَ بُولُس لا يستخدم الزمن المستقبل لوصف الحلقة الأخيرة في السلسلة، أي حلقة التمجيد، مع أنه حدثٌ مستقبليٌّ في اختبار المؤمنين الحاضر. والسبب هو أن تمجيدهم مضمونٌ حقًّا بفعل قيامة الابن وتمجيده، وبالتالي يمكن الحديث عنه كواقعٍ حقيقيٍّ راسِخٍ. كما كَتَبَ الرَّسُولُ قبلاً: “فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا وَنَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ الآنَ بِدَمِهِ نَخْلُصُ بِهِ مِنَ الْغَضَبِ” (رومية 9:5). هنا، يكْمُن المنطقُ التنازلي: “لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ” (رومية ٥:١٠).

أَعْرَبَ الرَّسُولُ بُولُس عن هذا اليقين نفسه في مواضع أخرى من رسائله. يكتب الرَّسُول بثقة عن الله لمؤمني الكنيسة في كُورِنْثُوس قائلاً: “الَّذِي سَيُثْبِتُكُمْ أَيْضًا إِلَى النِّهَايَةِ بِلاَ لَوْمٍ فِي يَوْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (1 كُورِنْثُوس 8:1). ما الذي يجعل هذا اليقين راسخًا، وبالتحديد في ظل كثرة الخطايا والانقسامات في كنيسة كُورِنْثُوس؟ يُجيب الرَّسُول بُولُس بالقول: “أَمِينٌ هُوَ اللهُ الَّذِي بِهِ دُعِيتُمْ إِلَى شَرِكَةِ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا” (1 كُورِنْثُوس 9:1). كما يتحدَّث الرَّسُول عن عمل الرُّوح القُدُس بوصفًا ختمًا ليوم الفداء (أَفَسُس 13:1؛ 30:4)، وَعَرْبُونًا لميراثِنا (أَفَسُس 14:1؛ 2 كُورِنْثُوس 23:1). المغزى هو أن عمل الرُّوحِ القُدُسِ في قلوب المؤمنين يضمنُ خلاصِهِم النهائي. عندما يُصَلِّي الرَّسُول بُولُسُ أن يَتَقَدَّس أهل تسالونيكي تقديسًا كاملاً روحًا ونفسًا وجسدًا، فإنه يُعَبِّر عن ثقته بالله في تحقيق ذلك بالقول: “أَمِينٌ هُوَ الَّذِي يَدْعُوكُمُ الَّذِي سَيَفْعَلُ أَيْضًا” (١ تَسَالُونِيكِي 23:5-24). وبالمثل، يكتبُ الرَّسُول إلى مؤمني الكنيسة في فِيلِبِّي: “وَاثِقًا بِهَذَا عَيْنِهِ أَنَّ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحًا يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (فِيلِبِّي 6:1).

تُظْهِرُ رسائل العَهْد الجَدِيد الأخرى هذه اللافتة عن اليقين المرتبط بحفظ شعب الله. يرسِّخ كاتِبُ الرِّسَالة إلى العِبْرانيِّين أساس هذا اليقين على شفاعة المسيح الكهنوتية المستمرة: “فَمِنْ ثَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضًا إِلَى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ” (العِبْرانيِّين 25:7). يتحدَّث الرَّسُول بُطْرُس عن الميراث الذي ينعمُ به المؤمنون بالولادة الجديدة بأنه ميراثٌ “لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ، أَنْتُمُ الَّذِينَ بِقُوَّةِ اللهِ مَحْرُوسُونَ، بِإِيمَانٍ، لِخَلاَصٍ مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي الزَّمَانِ الأَخِيرِ” (1 بُطْرُس 4:1-5). من المؤكَّد أن كُتَّابَ العَهْدِ الجَدِيدِ يؤمنون أن الخلاص النهائي يعتمدُ إلى حدٍّ ما على مثابرة المؤمنين في الإيمان، كما يتم مناقشتها أدناه، لكن لا ينبغي استخدام تلك التحذيرات المُهِمَّة لِطَمْسِ ثقتهم المطلقة بأن الله سيحفظ كلَّ من يدعوهم في المسيح يسوع.

المثابرة والنصوص التحذيرية

بالإضافة إلى هذا التعليم بشأن حفظ الله لشعبه، يُعَلِّم العَهْدُ الجَدِيدُ، بنفس القدر، عن حاجة المؤمنين للمثابرة في الإيمان والأعمال الصالحة. تُشير الوعود التحذيرية في رسائل يسوع إلى الكنائس السَّبْع في سِفْرُ الرُّؤْيَا إلى ذلك: من يغلب، ويحفظ كلامه إلى النهاية، يَخْلُصُ (الرُّؤْيَا 7:2، 11، 17، 26؛ 5:3، 12، 21). يُعبِّر الرَّسُول بُولُس عن هذه الاحتمالية ذاتها أيضًا. فكثيرًا ما يُقَدِّم هذا القول: “إِنْ ثَبَتُّمْ عَلَى الإِيمَانِ” كشرطٍ لقبول المؤمنين النهائي لرحمة الله المُخلِّصَة (انْظُرْ، على سَبِيلِ المِثَالِ، كُولُوسِّي 21:1-23). كما يُعَلِّمُ الرَّسُول أن التبريرَ هبَةٌ يقبَلُها المَرْءُ بالإيمان وَحْدَهُ، لكنه يُعَلِّمُ أيضًا أن الدينونة الأخيرة ستكون “حَسَبَ” الأعمالِ (انْظُرْ، على سَبِيلِ المِثَالِ، رومية 6:2-11). الأعمال الصالحة ليست أساسًا للخلاص النهائي (الذي هو طاعة المسيح وَحْدَهُ)، كما أنها ليستْ الوسيلة التي بها يحظَى المؤمنون بالتبرير (الذي يتحقَّقُ بالإيمانِ وَحْدَه)، بالأحرى، الأعمال الصَّالحة هي الثَّمَرُ الضروري الذي يبرهن على الإيمان الخلاصي الحقيقي. في هذا الصدد، يتفق الرَّسُول بُولُس تمامًا مع معلِّمِنا يَعْقُوب في أن : “الإِيمَان … بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّتٌ” (يَعْقُوب 26:2؛ مع غَلَاطِيَّة 6:5). في روايات الإنجيل، يُعَلِّم يسوع أيضًا عن الدينونة النهائية للأعمال. في يوم الدينونة، سيتم تقسيم الناس إلى خراف وجداء بناءً على أعمال الرحمة أو عدم القيام بها من أجل إِخْوَتِه الأَصَاغِرِ (مَتَّى 31:25-41). لكن لا شيء من كلِّ هذا يجعل الخلاص متوقِّفًا على الأعمال الصالحة. إن الخلاص الذي يُقَدِّمُه الإنجيل هو خلاصٌ مجانيٌّ من باب النعمة، يقبلهُ المَرْءُ كهبَةٍ لا يستحِقُّها ولا يمكن اقتناؤها بأيِّ مقابل. لكن المثابرة على الأعمال الصالحة هي الدليل على أن شخصًا ما قد انتقل من الموت إلى الحياة.

من الأمور شديدة الارتباط بضرورةِ المثابرة النصوص التحذيرية الكثيرة في العَهْدِ الجَدِيدِ. في هذا الشَّأن يكون للرِّسَالة إلى العِبْرانيِّين بصفة خاصة أهميَّة بالغة، وعلى وجه التحديد، يقَدِّم نصُّ العِبْرانيِّين 4:6-6 أقوى حجَّة على إمكانية الارتداد.

لأَنَّ الَّذِينَ اسْتُنِيرُوا مَرَّةً، وَذَاقُوا الْمَوْهِبَةَ السَّمَاوِيَّةَ وَصَارُوا شُرَكَاءَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَذَاقُوا كَلِمَةَ اللهِ الصَّالِحَةَ وَقُوَّاتِ الدَّهْرِ الآتِي، وَسَقَطُوا، لاَ يُمْكِنُ تَجْدِيدُهُمْ أَيْضًا لِلتَّوْبَةِ، إِذْ هُمْ يَصْلِبُونَ لأَنْفُسِهِمُِ ابْنَ اللهِ ثَانِيَةً وَيُشَهِّرُونَهُ (العِبْرانيِّين 4:6-6).

للوهلة الأولى، يوحي هذا النصُّ على ما يبدو بشكلٍ مباشر بأنَّ المؤمن الحقيقي يمكن أن يسقط تاركًا الإيمان، لكن الادعاء برؤية المشار إليه في هذا المقطع باعتباره مؤمنين حقيقيِّين لا يمثِّل القراءة الممكنة الوحيدة. يشير أنتوني هوكيما Anthony Hoekema، إلى عدم وجود أيَّة إشارة في النص إلى إيمانهم أو تجديدهم.[3] ربما يكون المقصود بالاستنارة هنا المعمودية، وأما “المَوْهِبَة السَّمَاوِيَّة” فربما كانَتْ إشارة إلى عَشَاءِ الرَّبِّ. ربما كان الأشخاص الموصوفون مرتبطين بالكنيسة ظاهريًّا. كما أن عَمَلَ الرُّوح القُدُس المشار إليه في النص ليس بالضرورة حاسمًا، لأن كاتب الرِّسَالة إلى العِبْرانِيِّين يتحدَّث لاحقًا عن بعض الأشخاص ممن ازْدَروا بِرُوحِ النِّعْمَة (العِبْرانِيِّين 29:10). لذلك، من الممكن أن تكون الإشارة هنا إلى من اختبروا تبكيتات الرُّوح القُدُس لكنهم رفضوها. على أيَّة حالٍ، يواصل كاتِبُ الرِّسَالة التمييز بين هؤلاء الأشخاص وبين مستقبلي رسالَتِهِ بالقول: “وَلَكِنَّنَا قَدْ تَيَقَّنَّا مِنْ جِهَتِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ أُمُورًا أَفْضَلَ، وَمُخْتَصَّةً بِالْخَلاَصِ، وَإِنْ كُنَّا نَتَكَلَّمُ هَكَذَا” (9:6).

هناك أربع طرق مختلفة لاستيعاب هذا النص التحذيري في الرِّسَالة إلى العِبْرانِيِّين

أحد الطرق هو أن النص يُعَلِّم عن الارتداد بوصفه إمكانية حقيقة للمؤمنين الحقيقيين. ومع ذلك، يتعامل آخرون مع هذه التحذيرات على أنها مجرَّد افتراضات: فإن ارتدَّ أحدهم عن الإيمان، لا يمكن استرداده بالتوبة، وهذا ليس بالأمر الممكن أو المحتمل مع المؤمنين الحقيقيين. إلا أن هذا التفسير يشبه إلى حدٍّ كبير التماس خاص، كما يبدو أنه يحُطُّ من شأن التحذيرات. بينما يرى آخرون هذه التحذيرات بوصفها مُوجَّهَةً للمؤمنين المعترفين بالإيمان، أي للكنيسة المنظورة، وليس بالتحديد للمؤمنين الحقيقيين، أي ليس للكنيسة غير المنظورة. كلُّ المجتمعات المسيحية تُقِرُّ بأنه من الممكن للناس الإدلاء باعترافات إيمان كاذبة. في حقيقة الأمر، لا توجد على الأرض كنيسة منظورة طاهرة تمامًا؛ فقد يَتَسَلَّل إلى الكنيسة، وبدون انتباهٍ، معترفون بالإيمان لكنهم كاذبون (يهوذا ٤:1). لذلك، في هذه الحالة، تكون التحذيرات حقيقية، لكنها لا تُعَلِّم بالضرورة عن ارتدادٍ لمؤمنين حقيقيين.

في دراسة مهمة عن عقيدة المثابرة، يتَّخِذُ توماس شراينرThomas Schreiner  وأرديل كَنَدي Ardel Canady نهجًا مختلفًا عن المناهج الأخرى.[4] كلاهما يرى التحذيرات كوسيلةٍ بها يحفظ الله المؤمنين الحقيقيين في الإيمان. في هذه الحالة، تكون التحذيرات حقيقيةً في تهديداتها، لكنهما لم يقولا شيئًا عن حقيقة هذه التهديدات أثناء تطبيقها على المستوى الواقعي. لماذا؟ لأن الكاتبَ (والله من خلاله) يُوظِّفُ التحذير كوسيلةٍ لحفظ المؤمنين في دَرْبِ الطاعة، وخاصة المؤمنين الذين نقرأن الكاتبَ متيقِّن من جهتهم “أمورًا أفضل”.

يبدو أن أيًّا من هذين الخيارين الأخيرين أو كليهما – تحذير للمؤمنين المعترفين و/أو وسيلة لحفظ المختارين – هما طريقان مشروعان لتفسير النصوص التحذيرية دون اللجوء إلى الارتداد الفعلي (الذي من شأنه أن يقوِّضَ التعليم عن الحفظ الموضح أعلاه).

لكن ماذا عن نصوص العَهْدِ الجَدِيدِ التي تبدو أنها تُعَلِّم عن حالات ارتداد حقيقية؟ هنا، قد يُفَكِّرُ المَرْءُ في مثل يسوع عن الزارع، حيث تُمَثِّل بعضُ البذار مَن يسمعون الكلمة ويقبلونها على الفورِ – وبفرح أيضًا – لكن عندما يأتي الاضطهاد “حَالاً يَعْثُرُون” (مَتَّى 20:13-21). يبدو أن مغزى المثل هو التمييز بين الإيمان الحقيقي، وهو الإيمانُ المُثابر، وبين عدم الإيمان، ونوعٌ من الإيمان المؤقَّت، الذي يُخْتَبَرُ بِدِقَّةٍ بالضيقات التي تَمْتَحِنُ صِدْقَهُ. إن البذار التي تقع على أرضٍ جيدة هي التي تُثْمِرُ ثمرًا يُظهر إيمانًا حقيقيًا.

مثالٌ آخر على الارتداد مفيدٌ للغاية في الجمع بين نقطتي هذه المقالة: الحفظ والمثابرة. في الرِّسَالَةِ الأولى للبَشِير يُوحَنَّا، ينظرُ الرَّسُول بعين الاعتبارِ لطائِفَةٍ داخل الكنيسة لكن هجرتها من أجل تَعْلِيم عقيدي ضد المسيح. يَصِفُ البَشِير يُوحَنَّا الوضع على النحو التالي:

أَيُّهَا الأَوْلاَدُ هِيَ السَّاعَةُ الأَخِيرَةُ. وَكَمَا سَمِعْتُمْ أَنَّ ضِدَّ المَسِيحِ يَأْتِي، قَدْ صَارَ الآنَ أَضْدَادٌ لِلْمَسِيحِ كَثِيرُونَ. مِنْ هُنَا نَعْلَمُ أَنَّهَا السَّاعَةُ الأَخِيرَةُ. مِنَّا خَرَجُوا، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا. لَكِنْ لِيُظْهَرُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَمِيعُهُمْ مِنَّا. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَكُمْ مَسْحَةٌ مِنَ الْقُدُّوسِ وَتَعْلَمُونَ كُلَّ شَيْءٍ (1 البَشِير يُوحَنَّا 18:2-20).

لذلك، من الممكن لمن كانوا مرتبطين في وقتٍ ما بالكنيسة ظاهريًّا أن يتخلُّوا عن إيمانهم. أما بالنسبة للبَشِير يُوحَنَّا، فإن فقدانهم للإيمان دليل على أنهم لم ينتموا قط لمسار الكنيسة الخلاصي.

في الختام، يُعَلِّم العَهْدِ الجَدِيدِ ضرورة المثابرة بثبات ويقينها بعمل الله الداعم: المثابرة والضمان عن طريق الحفظ. هذه العقيدة حافزٌ على الإيمانِ المستمر والطَّاعَة، وهي أيضًا تشجيعٌ على أن الله سَيُكَمِّل العمل الذي بَدَأَه. يَمْسِكُ الرَّسُول بُولُس بجانبي هذه الديناميكية ببراعة، وهو يكتب لمؤمني الكنيسة في فِيلِبِّي: “تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ [مثابرة] لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ المَسَرَّةِ [حفظ] (فِيلِبِّي 12:2-13).


[1] John Murray, Redemption Accomplished and Applied (Grand Rapids: Eerdmans, 1955), 160-70.

[2] J. Steven Harper, “A Wesleyan Arminian View,” in Four Views on Eternal Security, ed. J. Matthew Pinson (Grand Rapids: Zondervan, 2002), 207-255.

[3] Anthony A. Hoekema, Saved by Grace (Grand Rapids: Eerdmans, 1989), 250.

[4] Thomas R. Schreiner and Ardel B. Caneday, The Race Set Before Us: A Biblical Theology of Perseverance and Assurance (Downers Grove: IVP Academic, 2001).

شارك مع أصدقائك

أستاذ الدراسات اللاهوتيّة بجامعة كاليفورنيا المعمدانية.