الاستعداد للاستشهاد يبدأ من هنا!

في الخامس عشر من فبراير عام 2015، أقدم عناصر تنظيم داعش على نحر عشرين من الأقباط مع رجل من غانا على رمال شاطئ مدينة سرت في ليبيا. ثم أمعنوا في فجورهم، فبثوا للعالم كله مقطعاً مصوراً بجودة عالية، شاهراً وحشيتهم في وجه الإنسانية.

كان هؤلاء الشهداء من أبناء قرية فقيرة في صعيد مصر، وقد ذهبوا إلى ليبيا طلبًا للقوت وإعانةً لعائلاتهم. وهناك وقعوا في قبضة الظلم، فذاقوا خلال ثلاثة وأربعين يومًا صنوف العذاب، ولم يكتفِ سجّانوهم بذلك، بل كانوا يُكرهونهم كل يوم على النطق بالشهادة الإسلامية، غير أن أفواههم أبت، وقلوبهم صمدت.

وقبيل أن تهوي سيوف الموت على أعناقهم، سُمع الشهداء وهم يهمسون بشجاعة قائلين: «يا رب يسوع». وفيما كانت أنظار العالم تتابع مشهد المجزرة البربرية، دوّت في الآذان شهادة حية للإيمان بالمسيح وسط أتون الاضطهاد. إن هذا الثبات في وقت الألم يسير على نهج شهداء الكنيسة الأولى، ويقدم مثالًا لتلاميذ المسيح في المستقبل.

الاستشهاد في الكنيسة الأولى

بآلامهم وشهادتهم الصامدة، سار الواحد والعشرون على درب قوافل الشهداء في الكنيسة الأولى، خصوصاً في تلك القرون المظلمة التي سبقت مجيء قسطنطين إلى الحكم في مطلع القرن الرابع، حيث بسط السلام على الكنيسة داخل الإمبراطورية. وعلى الرغم من أن أغلب أشكال التمييز ضد المسيحيين كانت تحدث على مستوى المجتمعات المحلية، إلا أن بعض الحكام وأحياناً الأباطرة أنفسهم اضطهدوا الكنيسة أيضًا.

حين كان المسيحيون يُساقون إلى المحاكم أو يقفون بين يدي الحكام، كانوا يثبتون بشجاعة ويجهرون بولائهم للمسيح. على سبيل المثال، في مدينة برغامس في قلب آسيا الصغرى، وفي منتصف القرن الثالث، رفض المؤمن كارْبُس أن يقدم الذبائح الوثنية، معترفًا: «أنا مسيحي… وأكرّم المسيح ابن الله». وأضاف رفيقه في الشهادة بابيلوس قائلاً: «لقد خدمت سيدي المسيح منذ صباي، ولم أنحنِ قط لصنم، أنا مسيحي!»

كثير من المؤمنين أدلوا باعترافاتهم وكأنهم يترنمون بقانون الإيمان، موضحين أركان الإنجيل في مواجهة الاضطهاد. وهكذا وقف أسقف قرطاج، كبريانوس، أمام قضاته قائلاً: «أنا مسيحي وأسقف. لا أقر بآلهة خرى سوى الإله الحق الواحد، خالق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها.»

ولما استنطق الوالي روستيكس يوستين الشهيد مستفسرًا عن جوهر إيمانه، أجاب يوستين بشجاعة قائلًا:

لقد كرّست نفسي لتعاليم المسيحيين الحقة… بالإيمان الذي نتمسك به بتقوى عن إله المسيحيين، الذي نعتبره وحده خالق العالم كله منذ البدء، وبابنه يسوع المسيح، الذي سبق الأنبياء وتنبأوا بمجيئه إلى العالم مبشراً بالخلاص ومعلماً للتعاليم الصالحة.

الشهادة في وسط الألم

لقد استحق كل واحد من هؤلاء التلاميذ الأوائل أن يُدعى شهيدًا. فرغم أن كلمة «شهيد» تعني في أصلها «الشاهد» (martus) أو «الذي يشهد» (martureo)، إلا أنه مع مطلع القرن الثاني صار هذا الاسم يطلق على أولئك الذين ختموا شهادتهم للمسيح ببذل نفوسهم حتى الموت.

قد يبدو للوهلة الأولى أن الاستشهاد لا يعدو كونه موتًا بسبب الهوية المسيحية. ولكن هؤلاء الشهداء ماتوا من أجل إيمانهم بينما واصلوا تقديم شهادة لفظية عن رجائهم في المسيح. كان المسيحيون الأوائل يكرزون بالإنجيل مستخدمين الكلمات، لأنها كانت ضرورية للتعبير عن الحق.

إن قدرتهم على الثبات في وجه الاضطهاد وتقديم الشهادة الحية لم تأتِ من فراغ، بل لأنهم كانوا أولاً تلاميذ. ففي الكنيسة الأولى، كان منهاج التلمذة السابق للمعمودية هو قانون إيمان، أي صيغة عقائدية تلخّص الإنجيل وتقدم رؤية شاملة للكتاب المقدس وقصة الخلاص. وقد دُعي هذا التعليم أحياناً بـ “قاعدة الإيمان”، ثم تطور عبر السنين إلى صيغتي قانون الإيمان الرسولي والنيقاوي، اللذين يتلى أسبوعيًا في العبادة الجماعية.

لقد جاءت شهادات كثير من مسيحيي الكنيسة الأولى في محاكماتهم كأنها صدى لقوانين الإيمان، وما ذلك إلا لأمر طبيعي. فعندما كان يُطلب منهم إنكار إيمانهم، كانوا يتمسكون بجوهر تعليمهم الروحي، مستحضرين جوهر عقيدتهم. كانوا، من جانب، يكرزون بالإنجيل لذواتهم فتقوى عزيمتهم وسط لهيب الاضطهاد؛ ومن جانب آخر، كانت كلماتهم شهادة ناطقة وواضحة للمحققين ولكل من حضر المشهد.

تلمذة شهود المسيح القادمين

إن مجموعة سير الشهداء التي ظهرت في الكنيسة الأولى تذكّرنا كيف تشبّث الشهداء بالإنجيل بكل جوارحهم، مستحضرين قوانين الإيمان وناطقين بها بشجاعة أمام الآخرين.

في وحدة رائعة تتلاقى شهادة شهداء 2015 مع شهداء الكنيسة الأولى في الإمبراطورية الرومانية، لتقدّما للكنيسة في كل مكان دروسًا ثمينة. فقد وعوا أن السير خلف المسيح يعني الاستعداد للألم، بل والتضحية بالحياة نفسها بدل إنكار المخلص أو الانحناء لآلهة أخرى. وعندما ضاق عليهم خناق الاضطهاد، أجهروا ببشارة الإنجيل حتى آخر أنفاسهم.

لكننا نرى أيضًا أن الثبات ساعة التجربة هو ثمرة لحياة التلمذة والتربية الروحيّة في دروب النعمة. فواحدة من الوسائل الجوهرية التي بها تهيئ الكنيسة قديسيها لاحتمال الاضطهاد هي أن يكون محور عبادتها هو الإنجيل، وأن تكون تعاليمها مرتكزة على كلمة الله وقوانين الإيمان. إن الذين يشهدون للمسيح في أتون الاستشهاد إنما هم الذين تدرّبوا على محبة المسيح واحتمال الألم من أجله.

شارك مع أصدقائك

عميد كلية الإرسالية والأديان المقارنة في جامعة كولومبيا الدولية.