لماذا لا يَنْقُلُ إيمانُنا الجبال؟

يُخبِرنا بطرس أنَّ بولس كَتَبَ بعض الأشياء عَسِرَة الْفَهْمِ (2بطرس 3: 16)، وقال يسوع بعض الأشياء الصعبة أيضًا، فقد أخبر الرَّبُّ تلاميذه مرَّتَيْن أنَّه لَوْ كَانَ لَهُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، لَأمكنهم فِعْل أمور مذهلة. في إنجيل مَتَّى، الإيمان الذي مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مرتبط بطرد شيطان، ويقول يسوع إنَّ مَنْ له مثل هذا الإيمان يستطيع أن ينقل الجبال (متَّى 17: 20). في إنجيل لوقا، مَنْ له الإيمان الذي مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ سيكون قادرًا على أن يغفر لِمَنْ يُخطِئ إليه؛ لأنَّ مثل هذا الإيمان يستطيع أن يقتلع أشجار الجُمَّيز (أشجار التوت) ويُلقيها في البحر (لوقا 17: 6). تتبادر إلى أذهاننا الآن كل أنواع الأسئلة:

  • ما هو الإيمان الذي مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ؟
  • لماذا لا يَنْقُلُ إيمانُنا الجبال؟
  • هل نفشل في رؤية أمور عظيمة من الله لعدم إيماننا؟

الإيمان الذي يُشَجِّع

في القصص المَروِيَّة في كلٍّ من إنجيل مَتَّى وإنجيل لوقا، يتوق التلاميذ إلى المزيد من الإيمان؛ فـيمكنهم حينئذٍ فعل أمور عظيمة من أجل الله، فـيمكنهم حينئذٍ إخراج شياطين ومسامحة أخٍ أو أختٍ مُضجِرَةٍ على نحوٍ خاصٍّ. لكن يُخبِرهم يسوع أنَّهم لا يحتاجون إلى إيمان عظيم، بل يحتاجون إلى القليل من الإيمان فقط، فهو يتحدَّث بوضوح عن قدرٍ ضئيل من الإيمان؛ إذ إنَّ حَبَّة الخَرْدَل كانت أصغر حَبَّة معروفة في أيامه. يُخبِر يسوع تلاميذه أيضًا أنَّ مَلَكُوت السَّمَاوَاتِ صغيرٌ مثل حَبَّةِ خَرْدَلٍ (مَتَّى 13: 31).

نميل إلى الاعتقاد بأنَّنا لو فقط امتلكنا المزيد من الإيمان؛ لَاستطاع الله فعل أمور مُبهِرة من خلالنا، ولكن يُخبِرنا يسوع بشيء مُدهِشٍ إلى حَدٍّ بعيد، فالمسألة ليست ما إذا كُنَّا مملوئين بالإيمان، بل ما إذا كان لنا أيُّ إيمان أصلًا، فإذا كان لنا أدنى قدر من الإيمان، يعمل الله نيابةً عنَّا. يُسكِت يسوع تلاميذه فَجْأةً ويسألهم: هل تؤمنون بي أصلًا؟ هل تثقون بالله أصلًا؟

لماذا يُعَدُّ جواب يسوع مُشَجِّعًا؟ لأنَّنا لا نَعلَق في مستنقع التفكير فيما إذا كان إيماننا كافيًا، فعند مواجهة موقف مُعَيَّن، نصرخ إلى الله كي يمنحنا إيمانًا، مهما كان ضئيلًا، إذ إنَّ قدرًا ضئيلًا من الإيمان كافٍ؛ لأنَّ التركيز ليس على إيماننا، بل على موضوعه.

لماذا يُعَدُّ حقيقيًّا أنَّ الإيمان الذي مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ يستطيع أن ينقل الجبال ويقتلع أشجار الجُمَّيز؟ يُخبِرنا يسوع بوضوح. لا يرجع الأمر إلى قَدْر إيماننا، بل إلى موضوع إيماننا، فإذا كان إيماننا هو بإله وأبي ربِّنا يسوع المسيح، يكون له تأثيرٌ عظيمٌ. يصنع إيماننا فرقًا ليس لأنَّـ عظيمٌ جِدًّا، لكن لأنَّ الله عظيمٌ جِدًّا، لأنَّه السَّيِّد المُتَسَلِّط على كل شيء. لا يزدهر إيماننا عندما نُفَكِّر في مقدار إيماننا، بل ينبثق عندما ننظر إلهنا، عندما نرى يسوع كالمصلوب والمُقام من أجلنا.

الإيمان الذي يقف على الوعود

مع ذلك، لا يزال لدينا أسئلة حول هذه الآية: هل إيماننا الذي مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ ينقل الجبال ويقتلع أشجار الجُمَّيز؟ هل نرى هذا يحدث اليوم؟ هل الذين يَعِظون بالرَّخاء مُحِقُّون في القول بأنَّه لو كان لنا المزيد من الإيمان، لَمَا مَرِضنا ولَاستمتعنا بثروات هذا العالم؟

أوَّلًا- من المِحوَرِيّ ملاحظة أنَّ يسوع يستخدم مثالًا توضيحيًّا، فهو لا يتحدَّث حرفيًّا عن نقل الجبال واقتلاع الأشجار. لا يوجد أيُّ مثال في الكتاب المقدس لجبالٍ تختفي بسبب إيمان شخص ما. يُعَلِّم يسوع أنَّ أمورًا مُذهِلَة تحدث إذا كان لنا إيمان، والسؤال هو: ما نوع الأمور المُذهِلَة التي ينبغي أن نتوقَّعها؟

وهنا يجب أن نضع في الحسبان الكتاب المقدس بأكمله، فالقول القديم صحيح: “آيةٌ بلا قرينةٍ ذَرِيعَةٌ”، والقرينة هي الكتاب المقدس بأكمله، والتي تتضمَّن قراءته في تسلسله الزمنيّ العهديّ والفدائيّ التاريخيّ، فلا يمكننا أن ننتزع فقط أي آية في الكتاب المقدس ونُطَبِّقها على حياتنا دون النظر في علاقتها بنطاق الكتاب المقدس كَكُلٍّ.

الإيمان ليس مُجَرَّدًا، فنحن نؤمن بوعود الله، بالحقِّ الذي أعلنه، ولا يَعِد الكتاب المقدس المؤمنين أبدًا بالصِّحَّة أو الثراء، فشوكة بولس في الجسد (2كورنثوس 12: 7-10) كانت على الأرجح مرضًا جسديًّا، ومع أنَّه صلَّى ثلاث مرَّات من أجل الخلاص منها، قال الله “لا”، وبالمثل، لم تَكُنْ مشيئة الله أن يشفي شريك بولس في الخدمة، تُرُوفِيمُس (2تيموثاوس 4: 20)، ولم يَكُنْ ذلك بسبب افتقار بولس إلى الإيمان الذي مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ! بالإضافة إلى ذلك، لم يُشْفَ تيموثاوس بشكل معجزيّ ولَحْظِيّ من أسقام المعدة، بل طُلِبَ منه أن يتناول خمرًا لتهدئة عُسْر الهضم لديه (1تيموثاوس 5: 23)، وبلا شَكٍّ كان بولس يؤمن أنَّ الله يقدر أن يشفي تيموثاوس، لكنَّ الله كان قد قرَّر أنَّه لن يُشفَى. علاوةً على ذلك، تُعَلِّم (رومية 8: 35-39) بوضوح أنَّ بعض المؤمنين يُضْطَهَدُونَ، وبعضهم يعانون من نقص المَأْكَل والمَلْبَس. لم يَعِدنا الله أبدًا بحياةٍ مريحة.

يجب أن يكون الإيمان الذي ينقل الجبال إذًا مبنيًّا على وعود الله -على ما هو مُعلَن في كلمته- لا على ما نتمنَّى أن يحدث أو حتَّى نؤمن بحرارة أنَّه سيحدث.

الإيمان المبني على فهم مغلوط يمكن أن يُؤدِّي إلى كارثة. في عشرينِيَّات القرن السادس عشر، آمن تُومَاسْ مُونْتْسَرْ أنَّ الروح القدس يقوده لجلب العصر الذهبي، وحارب إلى جانب الفلاحين لإسقاط السُّلطَة السياسيَّة، غير أنَّ مُونْتْسَرْ كان مدفوعًا بخيالات ومات في الثورة التي قادها. لقد وَثَق في “الإعلانات الروحيَّة” بدلًا من كلمات الكتاب المقدس المكتوبة.

يجب أن نسأل أوَّلًا إذًا ما إذا كان إيمان المَرْء مبنيًّا حقًّا على كلمة الله، وإلَّا فإنَّه يستند إلى خيالات الإنسان الباطلة.

الإيمان الذي يُقَدِّس

لكن يَظَلُّ السؤال مطروحًا: ما هو الإيمان الذي ينقل الجبال؟ لاحِظْ ما يقوله يسوع في إنجيل لوقا: مَنْ لهم إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ يفعلون أمورًا عظيمة، فلديهم الإيمان ليغفروا لإخوتهم وأخواتهم الذي يُخطِئون إليهم على نحوٍ مُتَكَرِّرٍ.

يُعَدُّ المثال التوضيحي الذي يُقَدِّمه يسوع إذًا عظيم الفائدة، فنحن نعلم أنَّ مشيئة الله هي أن نغفر لمَنْ يُخطِئون إلينا، إلَّا أنَّنا عندما نواجه مسألة الغفران لهم فعليًّا، غالبًا ما نعاني لأنَّ الألم شديد جِدًّا.

إنَّ الإيمان الذي مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ إذًا هو إيمان يقتل أعمال الجسد (غلاطِيَّة 5: 19-21) ويُنتِج ثَمَر الروح (غلاطِيَّة 5: 22، 23). المَحَبَّة والفرح والسلام وطول الأناة هي جبال لا يمكن تَسَلُّقها إلَّا بالإيمان، فالإيمان في النهاية يُعَبِّر عن نفسه بالمَحَبَّة (غلاطِيَّة 5: 6). يؤمن الإيمان الذي مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ بأنَّ الإنجيل سوف يصل إلى أقاصي الأرض وينتصر على أبواب الجحيم، وأوضح دليل على الإيمان الذي مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ هو ما إذا كُنتَ تُحِبُّ الله وقريبك.

إنَّ أعظم أعدائنا ليسوا خارجنا بل داخلنا، فأعظم عَدُوٍّ لنا هو الكراهية والتَّمَرُّد اللذان يُسَيطِران علينا، والإيمان الذي مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ -لأنَّه موضوع في يسوع المسيح- يمنحنا الغَلَبَة على خطيَّتنا.

غير أنَّنا نتحرَّر من الخطيَّة التي تستعبدنا عندما نَتَّكِل على المسيح لا على قُوَّتنا وأعمالنا الخاصَّة. يملك الإيمان الذي مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ قُوَّةً جَبَّارةً، ليس بفضل إيماننا، بل لأنَّه يُوَحِّدنا بالله الذي أقام يسوع المسيح من الأموات.

شارك مع أصدقائك

توماس شرينر

أستاذ العهد الجديد والعميد المشارك لقسم الدراسات الكتابيّة بالكليّة المعمدانيّة الجنوبيّة، بولاية كنتاكي الأمريكيّة