التعريف
دراسة لعقيدة المسيح مثلما تَبلورَ فَهمها في القرون المُبكرة للكنيسة.
المُوجز
سيَفحص هذا المقال تبلوُر فَهم العقيدة المسيحيَّة بخصوص المسيح في القرون المُبكرة للكنيسة وسيَختتم ببعض التطبيقات لمؤمني اليوم.
مقدمة
عندما سألَ يسوعُ الرُسل عما اعتقدوه بخصوص هويَّته، صرَّح بطرس بأنه رأى أن يسوع هو المسيح، ابن الله (متى ١٦: ١٥، ١٦). يُمثَّل تصريحُ بطرس مُعتقد الكنيسة، مؤكدًا على أن يسوع هو الله وإنسان معًا. إلى يومنا هذا، يوجد مستوى ملحوظ من الاتفاق بين كنيسة روما الكاثوليكيَّة، والكنيسة الأرثوذوكسيَّة الشرقيَّة، والكنيسة البروتستانتيَّة فيما يَتعلَّق بشخص يسوع المسيح. تبلورَ فهمٌ كبير لهذا الاعتراف الذي أعلنه بطرس بخصوص يسوع المسيح إذ اضطرَ المُفكرون في الكنيسة المُبكرة للتجاوب مع الآراء الخاطئة التي لم تَتماشى مع ذلك الإيمان “الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ” (يهوذا ١: ٣). بينما يُعتبر الاعتراف بألوهيَّة وإنسانيَّة المسيح محوريًا للإيمان المسيحي، تبلورتْ العقيدة الكريستولوجيَّة في ضوء التعاليم الخاطئة العديدة التي ظهرتْ منذ الأيام الأولى للكنيسة. إن أفضل طريقة لتلخيص كريستولوجي الكنيسة المُبكرة هو التأكيد على شهادة الرُسل وتبلوُر التقليد والمُفردات المُستقيمة. لقد أَعلنَ المسيحيون الأوائل المسيحَ ربًا على أساس الشهادة الكتابيَّة (تعاليم الرُسل) التي تم التأكيد عليها مُجددًا في كتاباتهم، وعبادتهم، وشهادتهم في العالَم.
الأبيونيَّة والدوسيتيَّة
دارَ أقدم نِزاع كريستولجي في الكنيسة المُبكرة حول الأبيونيَّة والدوسيتيَّة. إن الدوسيتيين، الذين تم تعريف قائدهم على أنه أبيون (Ebion) بواسطة العديد من المؤرخين والباحثين في الهرطقات (مِثل: إيريناوس، Adversus Haereses 1.26.1–2, 5.1.3؛ يوسابيوس، Ecclesiastical History, 3.27.2)، كانوا نوعًا من الطوائف اليهوديَّة في أواخر القرن الأول وبداية القرن الثاني. تمسَّكوا بسُلطة العهد القديم، وبذلك تمسَّكوا بضرورة حِفظ شريعة موسى. لقد جادلوا بأن الله تبنَّى يسوع في معموديته، وبذلك رفضوا وجوده الأزلي والحَبَل العذراوي. اعتنقَ مُعلمٌ زائف اسمه كيرينثوس (Cerinthus، واشتهر من ٥٠ -١٠٠ م) رأيًا مُماثلًا في أواخر القرن الأول وبداية القرن الثاني. عاشَ في آسيا الصغرى واعتبره آباء الكنيسة المُبكرة مُهرطقًا (مِثل: إيريناوس، Adversus Haereses 1.26.1؛ هيبوليتس أسقف روما، Refutation 7.21؛ يوسابيوس، Ecclesiastical History 3.28–35, 7.25.3). وفقًا لهذه المصادر، أنكرَ كيرينثوس الميلادَ العذراوي، وعلَّم بأن يسوع كان إنسانًا عاديًا تمتَّع بحكمة فائقة، وتم تمكينه بواسطة روح المسيح عند معموديَّته. بدا أنه كان يَتمسَّك بجوانب كثيرة من علم الكونيات الغنوصي حيث خُلِقَ العالَمُ بواسطة كائن أدنى، وأن يسوع تحدَّث عن إلهٍ سامٍ لم يَكن معروفًا مِن قَبل، وأن الناموس اليهودي شُرِّعَ بواسطة كائن أدنى.
ظهرَ خطأ كريستولجي مُبكر آخر في الكنيسة وهو الدوسيتيَّة، والتي تحدَّتْ الشهادة الكتابيَّة بخصوص إنسانيَّة المسيح الكاملة. حذَّر الرسول يوحنا من هذا الخطأ، مُشيرًا إلى أن البعض رفضوا أن يعترفوا “بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ” (١ يوحنا ٤: ١-٣). حذَّرَ أيضًا أغناطيوس الأنطاكي (مات ١١٠ م) من هذا الرأي الخاطئ عندما حذَّرَ الكنيسة في أفسس قائلًا: “لا تستمعوا لأي شخص إلا إذا تحدَّث بصدقٍ عن يسوع المسيح” (رسالة أغناطيوس إلى أفسس ٦: ٢). أكَّدَ أغناطيوس على أن يسوع كان “جسدًا وروحًا، مولودًا وغير مولود، الله في الجسد، حياة حقيقيَّة في الموت، آتيًا من مريم وآتيًا من الله، مُعرَّضًا أولًا للألم ثُم ساميًا فوقه” (رسالة أغناطيوس إلى أفسس ٧: ٢). لن يكون هناك سبب لأن يتألَّم الإنسان من أجل يسوع، مثلما تألَّم الرُسل والشهداء، إذا لم يتألَّم يسوع أيضًا في الجسد.
الغنوصيَّة
ظهرَ تحدي كبير آخر للشهادة الكتابيَّة بخصوص يسوع المسيح في المنظومة الفِكريَّة المُعقدة للغنوصيَّة. على الرغم من أن الغنوصيَّة كان بها عناصر عديدة ترتبط بالفلسفة الأفلاطونيَّة، إلا أنها كانت أيضًا مُتأثِّرة بِشدِّة بجوانب لاهوتيَّة يهوديَّة ومسيحيَّة. سعى جزء كبير من الفِكر الغنوصي إلى ربط التعاليم الكتابيَّة بنظرته المُعقدة للكون. بدأت تَظهر نصوصٌ غنوصيَّة تدَّعي أنها بِقلم الرُسل في القرن الثاني، وربما أشهرها هو إنجيل توما. قامت نصوص غنوصيَّة أخرى، والتي ارتبطت بأسماء كتابيَّة، بترويج علم نشأة الكون الغنوصي بِطرقٍ عديدة من خلال تقديمها تحت غطاء مُفردات كتابيَّة. كان المَيل العام هو إنكار صلاح الخليقة والتركيز على خلاصٍ روحي فقط. كان المسيح مُخلِّصًا جاء ليُحضر المعرفة (غنوسيس) المُرتبطة بهذا الخلاص الروحي، الذي يُعطى فقط لمجموعة صغيرة مُختارة من الناس. ضمَّ المُناصرون الأكبر للغنوصيَّة في الكنيسة المُبكرة ڤالينتينوس (Valentinus) الروماني (اشتهر في القرن الثاني) ومارسيون (Marcion) من سينوب (اشتهر في منتصف القرن الثاني). كان مارسيون عضوًا في كنيسة روما وبدأ في التعليم بأن إله العهد القديم كان الإله الأدنى بحسب علم الكونيات الغنوصي. كان إلهًا انتقاميًا، وشريرًا، ولذلك كان ما خَلَقه ذلك الإله شريرًا أيضًا. على العكس، كان إله العهد الجيد إلهًا مُحبًا وروحيًا وأَرسلَ يسوعَ ليُظهر طريق المحبة والسلام والخلاص الحقيقي. عدَّلَ مارسيون الكتاب المُقدَّس، رافضًا كل العهد القديم، ومُحتفظًا فقط بأجزاء العهد الجديد التي لا تبدو يهوديَّة. عُزِلَ كنسيًا من كنيسة روما، وبدأ كنيسةً مُنافِسة ازدهرت إلى بعض الوقت بعد ذلك.
قدَّمَ كلٌ مِن إيريناوس (١٣٠-٢٠٢ تقريبًا) وترتليان (١٥٥-٢٤٠ تقريبًا) دفاعًا شاملًا عن الكريستولجي الكتابي في مواجهة الهرطقة المارسيونيَّة. ردَّ إيريناوس على الهرطقة الغنوصيَّة بالتركيز على الطبيعة التأسيسيَّة لكلٍ مِن العهد القديم والعهد الجديد باعتبارهما عملَ الإله الواحد الحقيقي. لقد أعطى الروح القُدس للكُتَّاب البشريين للأسفار المُختلفة معرفةً كاملة وبذلك كانوا غير قادرين على التصريح بأخطاء (Against Heresies 3.1.1). وفقًا لإيريناوس، يُعتبر الكتاب المُقدَّس وحدةً مُتناغمة. قال: “سيَجِد المرء أن كل الكتاب المُقدَّس، الذي أعطاه لنا اللهُ، مُتناسق بشكل كامل … وعلى الرغم من الأسفار المُتعددة (في الكتاب المُقدَّس)، إلا أننا سنَسمع لحنًا مُتناغمًا واحدًا، مُسبحين في ترانيم الإلهَ الذي خلقَ كلَ الأشياء” (Against Heresies 3.5.1). بالنسبة لإيريناوس والكنيسة المُبكرة، يَجب أن يُستخدَم كل الكتاب المُقدَّس لِفَهم عمل الله الفِدائي. إن تجميع نصوص مُعينة معًا لكي تُناسب فِكر المرء لا يستطيع أن يُنتج “صورةً جميلة عن المَلك،” بل، سيُنتج صورةً مُشوَّهة “لِكَلبٍ أو ثعلبٍ” (Against Heresies 1.8.1). على عكس الغنوصيين الذين فرَّقوا بين المسيح، باعتباره كائنًا من أصل سماوي، ويسوع الإنسان الأر ضي، أعلنَ إيريناوس أن “يسوع المسيح هو واحدٌ وهو نفسه،” وهذا التعبير تم ضَمه لاحقًا في قانون الإيمان الخلقيدوني (Heresies 3.16.2; 3.17.4). ناقش ترتليان أيضًا خطأ مارسيون في تعامله مع الكتاب المُقدَّس. زيَّفَ مارسيون رسالة الإنجيل بعدم الاعتراف بأن يسوع المسيح هو تتميم نبوات العهد القديم (Against Marcion 4.1). باستخدام إنجيل لوقا، الإنجيل الوحيد الذي قَبِله مارسيون بعد أن غيَّر بعض أجزاءه، أظهرَ ترتليان خطأ مارسيون في الفصل بين الله، والمسيح، والكتاب المُقدَّس (Against Marcion 4.5ff).
الموناركيَّة الديناميكيَّة والشكلانيَّة
نشأ توأم الأخطاء الموناركيَّة في القرنين الثاني والثالث، مع ذلك، لم يكونا نظامًا فِكريًا مُتجانسًا. كان التركيز المُشترك على وحدانية الله (من الكلمة اليونانيَّة، مونارخيا) على حساب شخصانيَّة الله. على الرغم من أنه كانت هناك اختلافات بين اللاهوتيين الموناركيين، إلا أنه كان هناك نموذجان شائعان: التبنويَّة (adoptionism) والشكلانيَّة (modalism). علَّمَ ثيودوتس (اشتهر في أواخر القرن الثاني) –المدعو “الدباغ” أو “صانع الأحذية”– بأن الآب والابن متميزان لكن يسوع، لِكونه إنسانًا صالحًا بشكل استثنائي، أصبحَ ابن الله بالتبني عند معموديته. إن كلمة “الديناميكيَّة” تأتي من اللُغة اليونانيَّة ديناميس (قوة) لتَصف الوسيلة التي أصبحَ يسوع بها ابن الله. أحضرَ ثيودوتس آراءه إلى كنيسة روما وسريعًا ما تم عزله كنسيًا، لكن آراءه استمرت من خلال آخرين في القرن الثالث. كان بولس الساموساطي (اشتهر من مُنتصف القرن الثالث إلى أواخره) أشهر التبنويين.
كان نؤيتوس من سميرنا (اشتهر من مُنتصف القرن الثالث إلى أواخره) وسابيليوس من روما (اشتهر من أوائل القرن الثالث إلى مُنتصفه) المُفكريْن الشكلانيين الرائدين في القرن الثاني والثالث. لقد رأوا أن الآب، والابن، والروح القُدس لم يكونوا أشخاص متميزين، بل طُرق أو أشكال مُختلفة لأفعال الإله الواحد. سعى هؤلاء المُفكرون وأتباعهم إلى التمسُّك بوحدانيَّة الله وألوهيَّة المسيح، لكنهم اعتقدوا أن التصريح بأن الآب والابن متميزان يعني الإيمان بوجود إلهيْن. ولذلك، أنكروا الدور والشخصانيَّة الفريدة لكل أقنوم في الجوهر الإلهي لكي يُعطوا الأولويَّة لِموناركيَّة، أو وحدانيَّة، الله. كان الابن ببساطة شكلًا للظهور. قدَّمَ ترتليان دفاعًا شاملًا في مواجهة هذه الآراء الخاطئة. لقد لخَّصَ تعاليم واحد من الشكلانيين الذي عرَّفه باسم پراكسياس (Praxeas، اشتهر من مُنتصف القرن الثالث إلى أواخره) بقوله إن پراكسياس “جعلَ الروح المُعزِّي (الباركليت) يهرب، وصَلبَ الآب” (Against Praxeas, 1). في ردَّه، صاغَ ترتليان قواعد لُغوية ثالوثيَّة للكنيسة الغربيَّة. وفقًا لترتليان، يُعد الآب، والابن، والروح القُدس ثلاثة أشخاص (personae) “لكن ليس بحسب المكانة، بل بحسب الترتيب، ليس في الجوهر، بل في الهيئة، ليس في القوة، بل في الحالة…؛ في حين لهم جوهرٌ واحد، وحالةٌ واحدة، وقوةٌ واحدة” (Against Praxeas, 2).
الأريوسيَّة
في القرن الرابع، ظهرتْ أخطاء كريستولوجيَّة عديدة وتطلَّبتْ دفاعًا شاملًا من القادة المسيحيين. كان الخطأ الكبير الأول هو الأريوسيَّة. بدأ أريوس (٢٥٦- ٣٣٦)، والذي كان قسيسًا في الإسكندريَّة، في التعليم في ٣١٣ بأن الابن كان مخلوقًا بدلًا من كونه ابن الله الأزلي المساوي لله. وفقًا لأريوس وأتباعه، كان يسوع مخلوقًا، لا مساويًا أنطولوجيًا للآب. لكي يُساعد على انتشار تعاليم، كتب حتى ترانيمًا تحتوي على اعتقاده بخصوص المسيح والتي تقول: “مرَّ وقتٌ لم يَكُن المسيح موجودًا فيه.” تعاملتْ الكنيسة مع هذا الخطأ في مَجمع نيقية عام ٣٢٥ م، والذي انعقدَ بِطلبٍ من الإمبراطور قُسطنطين (حوالي ٢٧٢-٣٣٧). أعلنَ المَجمع أن يسوع “مولودٌ غير مخلوق،” و”نورٌ من نور،” و”إلهُ حقٍ من إله حقٍ،” و”مساوٍ للآب في الجوهر،” باستخدام كلمة مُساوٍ هوموسيوس “homoousias” (من اليونانيَّة، homo بمعنى “نفس”؛ وousia بمعنى “جوهر”) ليَصفوا علاقة الجوهر بين الابن والآب. إن هذه الكلمة، رُغم أنها لا تَرِد في الكتاب المُقدَّس، إلا أنها استُخدِمتْ للتعبير عن العلاقة الكتابيَّة المُعلَنة في الكتاب المُقدَّس، ولِرفض رأي الأريوسيين غير الكتابي. أخذتْ الأريوسَّة أشكالًا عديدة بعد قانون الإيمان النيقاوي، في مجموعات أكَّدتْ على عقيدة مُشابهة لعقيدة أريوس بينما حاولوا تجنُّب الخطأ الحقيقي نفسه. أكَّدتْ بعض المجموعات على أن الابن هوميسيوس “homoiousias” (من اليونانيًّة، “له جوهر مُشابه”). على حسب الإمبراطور الحاكم، لَقتْ الأريوسيَّة والعقائد المُرتبطة بها جمهورًا مُرحبًا أكبر. وضَّحَ هذا كيف أن قادة الكنيسة الذين دافعوا عن الإيمان النيقاوي المستقيم، مِثل أثناسيوس السكندري، نالوا وخسروا رضا السُلطات بشكل مُتكرر. في نُقطة ما، انتشرتْ العقيدة الأريوسيَّة في الكنيسة لدرجة أن جيروم (٣٤٧- ٤٢٠ تقريبًا) كتب لاحقًا أن: “العالَم كله تأوَّه وتعجَّبَ من أن يَجِد نفسه أريوسيًا.”
الأبوليناريَّة
اعتقدَ أبوليناريوس (Apollinaris) أُسقف لاودكية [اللاذقيَّة] (توفى ٣٩٠) أنه عندما أخذَ الكلمةُ طبيعةً بشريَّة، اتحدَ بجسدٍ فقط. كان مُتحمسًا لتجنُّب الخطأ الأريوسي وللتأكيد على ألوهيَّة المسيح ووحدانيَّة شخصه، لدرجة أنه أنكرَ أن يسوع كان له نفس بشريَّة. حلَ الكلمة الأزلي، أو اللوغوس، محل النفس. بكلمات أخرى، لم يَكُن يسوع إنسانًا عاديًا. ناقش غريغوريوس النَزينزي (٣٢٩-٣٩٠) هذه القضيَّة وربطها بهرطقة الدوسيتيَّة، مُصرَّحًا بأنه بحسب الأبوليناريَّة كان جسد المسيح مُجرد “ظاهرة لا حقيقة” (Letter 102). إذا لم يَكُن لديه نفس، وبذلك لا يكون لديه ذِهن وإرادة، فلن يكون من الصحيح أن يُدعى المسيح إنسانًا. جادلَ غريغوريوس في مَوضع آخر بأنه “إذا كان لديه [المسيح] نفس، ولكن بدون ذِهن [بشري]، كيف يكون إنسانًا، لأن الإنسان ليس حيوانًا بلا ذهن؟ … كيف يَتعلَّق ذلك بي؟ لأن اتحاد الألوهة بالجسد فقط لا يُصيِّره إنسانًا” (Letter 101). بالنسبة لغريغوريوس، لم تُقدِّم الأبوليناريَّة سوى خلاصًا جزئيًا لأن المُخلِّص كان إنسانًا جزئيًا. وهكذا، تمت إدانة الآراء الأبوليناريَّة في مَجمع القُسطنطينيَّة (٣٨١)، حيث أكَّدَ أيضًا قادة الكنيسة على التصريحات والصِيَغ العقائديَّة لِمَجمع نيقية على المُعلَنة منذ خمسين عامًا.
النسطوريَّة
في أوائل القرن الخامس، علَّمَ نسطور أُسقف القُسطنطينيَّة (حوالي ٣٨٦-٤٥٠) بأن يسوع المسيح كان في الواقع شخصيْن متميزيْن. صارعَ نسطور مع قبول اللَقب التراثي لمريم، الثيوطوكس (“والدة الإله”)، لأن اللَقب بدا وكأنه يُنكر الخصائص البشريَّة للمسيح. لقد صارعَ مع التفكير في كيف يُمكن أن الله يُولَد من إنسانة، أو أن الله تألَّم ومات. لذلك، نادتْ النسطوريَّة بأنه بداخل المسيح يوجد الشخص البشري والشخص الإلهي، لكن تَصرَّفَ كلٌ منهما بشكل مستقل. في لحظة ما قد يكون الشخص الإلهي هو مَن يعمل، وفي لحظة أخرى يكون الشخص البشري. بهذه الطريقة، سعى النسطوريون إلى التعامل مع النصوص الكتابيَّة التي تحدَّثتْ عن صفات المسيح الإلهيَّة والتي تحدَّثتْ عن صفاته البشريَّة. خاطبَ كيرلس السكندري (٣٧٥-٤٤٤) الخطأ اللاهوتي للنسطوريَّة وآثارها. لقد أكَّدَ على أنه في التجسُّد “اجتمعتا الطبيعتان في وحدة حقيقيَّة، فهناك مسيحٌ واحد وابن واحد من الاثنين” وكذلك تحتفظ كل طبيعةٍ بخصائصها (الرسالة الرابعة من القديس كيرلس إلى نسطور). وفقًا لكيرلس، أَخذَ الابنُ الأزلي طبيعةً بشريَّة واتحدَ بها بِشخصه، اتحدَ بالجسد والنفس. آثرتْ تعاليم كيرلس السكندري على مَجمع أفسس في ٤٣١ لكي يَشجُب النسطوريَّة باعتبارها هرطقةً، وبذلك أكَّدَ على شخص المسيح الواحد.
الأوطاخيَّة
في التعاليم الصادرة من الراهب أوطاخي القُسطنطيني (حوالي ٣٨٠-٤٥٦)، تَجمع الأوطاخيَّة طبيعتي المسيح في طبيعة واحدة. إن المصطلح الرسمي لهذا الخطأ اللاهوتي هو فِكر الطبيعة الواحدة (monophysitism). اعتقدَ أوطاخي أن كلا الطبيعتين كانتا موجودتين قبل التجسُّد، لكن بعد ميلاد المسيح، كانت هناك طبيعة واحدة فقط. بحسب أُوطاخي، كانت الطبيعة البشريَّة مُجرد مَظهر، راجعًا إلى الآراء التي عبَّرتْ عنها الدوسيتيَّة. إن هذه الطبيعة الواحدة جعلتْه مختلفًا عن البشر الآخرين. وهكذا، في مَجمع خلقيدونية في ٤٥١، أكَّدَ قادة الكنيسة المُجتمعون على طبيعتي المسيح (من اليونانيَّة، henophysitism أو miaphysitism) مع اتحاد الطبيعتين “دون امتزاجٍ، أو تغييرٍ، أو انقسامٍ، أو انفصالٍ.” على الرغم من أن هذا المَجمع حدثَ في الجزء الشرقي من الإمبراطوريَّة الرومانيَّة، قدَّمَ ليون (Leo) أُسقف روما مُلخصًا للتقليد الكريستولوجي اللاتيني، والمعروف باسم طوموس ليون. كان هذا الطوموس موضوع جِدالٍ في خلقيدونية، مع ذلك، أصبحَ الصيغة العقائديَّة المقبولة بخصوص شخص المسيح والطبيعتين.
كريستولوجي ما بعد خلقيدونية
أثبتْ مَجمع خلقيدونية أنه خطوة رئيسيَّة نحو صياغة الكريستولوجي للكنيسة، لكنه لم يَحل كل الإشكاليات. ظهرتْ إحدى النقاط التي تدعو إلى القَلق بسبب تصريح خلقيدونية بأن الابن أخذَ طبيعةً بشريَّة، لكن لم يأخذ شخصًا بشريًا. كان المقصود من هذه الصياغة أن تُقاوم التبنويَّة وأن تَرفض أن يسوع كان موجودًا بصفته إنسانًا بِمعزل عن التجسُّد، لكن تساءلَ البعضُ حول ما إذا أعطى هذا التصريح شرعيَّةً للنسطوريَّة. بحلول مَجمع القُسطنطينيَّة الثاني (٥٥٣)، الذي دعا إليه الإمبراطور جستينيان الأول لتوضيح الصياغة الخلقيدونية وتوحيد الكنائس، صارت عقيدة الطبيعتين تُعتبر أكثر الطُرق وضوحًا لِوَصف العلاقة بين طبيعتي المسيح وشخصه الواحد. وضَّحَ التأكيد في القُسطنطينيَّة عدة جوانب في الكريستولوجي: ١) إن يسوع شخصاني، من جهة إنسانيَّته، بِفضل الاتحاد بين الطبيعة البشريَّة مع شخص الابن الأزلي؛ ٢) إن التجسُّد فعلٌ ديناميكي من جانب شخص الابن، لكن في علاقة مع الثالوث ومِن فعل الثالوث؛ ٣) كانت طبيعة المسيح البشريَّة مثل أي إنسان آخر في حالتها قبل السقوط، باستثناء الوجود الشخصي المستقل لأي إنسان عن الله الابن؛ ٤) إن الله الابن قادر على أن يعيش حياةً بشرية وحياة إلهيَّة كاملة؛ ٥) يَدعم مفهومُ أن الإنسان مخلوقٌ على صورة الله عقيدة الطبيعتين. على الرغم من أن التحديات واجهت الكريستولوجي المستقيم دائمًا، إلا أن الكنيسة تستمر في الاعتماد على عقيدتها في المسيح المُنقادة روحيًا والتي تمت صياغتها في القرون الأولى للكنيسة.
اعتبارات للمسيحين الإنجيليين
يوجد لدى المؤمنين اليوم الكثير ليُفكروا فيه ويُقدِّروه عندما يَتعلَّق الأمر بالحلول الكريستولوجيَّة التي تَوصَّلتْ إليها الكنيسة المُبكرة. أولًا، يُعد شخص وعمل يسوع المسيح مؤثرًا للغاية. دافعتْ الكنيسة المُبكرة عن عقيدتها في المسيح بقوة لأن رسالة الإنجيل والخلاص في حد ذاته على المحك. يستطيع فقط المُخلِّصُ الذي هو اللهُ حقًا وإنسانٌ حقًا أن يَضمن خلاص الإنسان. ثانيًا، تُعد اللُغة الواضحة وغير الغامضة ضروريَّةً للِنقاش والصياغة العقائديَّة. هذا لا يعني أننا نَفهم بالكامل كلَ جوانب طبيعة الله وعمله الفِدائي، لكن بالتأكيد من الضروري أن نُفكر بوضوح وأن نُقدِّم كلمات ذات معنى للكنيسة. يُؤثِّر ذلك على كل شيء، مِن التعليم إلى العبادة إلى الكرازة إلى التلمذة الفرديَّة. ثالثًا، ينبغي على المؤمنين أن يَظلوا مُترفقين لكن حاسمين في القضايا الكريستولوجيَّة. مرة أخرى، لا يُمكن إدراك كل الأسرار بخصوص المسيح، لكن ينبغي ألا نَنحي عندما يتحدَّى أحدهم العقيدة الكتابيَّة المستقيمة بخصوص شخص وعمل المسيح. وهكذا، فإن أي معتقد يُقدِّر مكانة يسوع، لكن لا بصفته الله وإنسانًا بالكامل وفقًا للكتاب المُقدَّس، يُعد معتقدًا خاطئًا. أخيرًا، من خلال خدمة التعليم، والعبادة، والتلمذة للكنيسة، ينبغي أن يتعلَّم المؤمنون ما هو معنى أن يُفكروا، ويتكلموا، ويعبدوا بأمانةٍ أكبر الإلهَ الذي صار جسدًا نيابةً عنَّا لكي يُنقذنا ويفدينا من الخطيَّة. إن الهدف من الكريستولوجي هو تقديم عبادة مُتواضعة لله وأن يزداد فرحُ المؤمن.