التعريف
إحدى فريضتَي الكنيسة أو سِرَّيْها المُقَدَّسَيْن، عَشَاء الرَّبِّ، وأسَّسها الرَّبُّ يسوع لإحياء ذِكرَى موته، وللرمز إلى العهد الجديد الذي قطعه بدمه، وللإشارة إلى شَرِكَة شَعْبٍ مَفْدِيٍّ مُجتَمِعٍ على مائدته، وللتَّطَلُّع إلى الوليمة المَسِيَّانِيَّة العتيدة أن تأتي.
المُوجز
تعود جذور عَشَاء الرَّبِّ الرمزيَّة إلى وجبة الفِصْح في زمن الخروج، وأسَّسه الرَّبُّ يسوع وقت وجبته الأخيرة مع تلاميذه. يُشير الخبز والكأس إلى جسد الرَّبِّ يسوع المكسور ودمه المسفوك، وهما الرمزان القَطْعِيَّان للعهد الجديد في المسيح. مَثَّل الجَدَل حول معنى فريضة عَشَاء الرَّبِّ (وخاصَّةً طريقة حضور المسيح في العشاء) نقطة انقسام مركزيَّة وقت الإصلاح، بين البروتستانت والكاثوليك الرومانيِّين، وبين البروتستانت وبعضهم. يرفض البروتستانت فكرة استحالة الجوهر، لكنَّهم يحتفظون بفَهْمٍ مُتَبَايِنٍ للمعنى الدقيق لفريضة العشاء. مع ذلك، يتَّفِق الجميع على أنَّ الخبز والكأس يُمَثِّلان بقُوَّةٍ ووضوحٍ رمزَيْن إلى عمل المسيح الفدائي في الجُلْجُثَة، وإلى شَرِكَة شعب الله في المسيح، وإلى اليوم الآتي الذي سيجتمع فيه شعبٌ مَفْدِيٌّ في حضور المُخَلِّص على وليمته الإِسْخَاتُولُوچِيَّة (الأُخْرَوِيَّة).
جذور فريضة عَشَاءِ ٱلرَّبِّ
كان ذات وجود شعب الله في العهد القديم مُؤَسَّسًا على عمل الإنقاذ الذي أجراه الله في الخروج، فَقَدْ أنزل الله دينونةً على أرض مصر من أجل سوء معاملتهم لإسرائيل، لكن أثناء قيامه بذلك، وَفَّر لشعبه وسيلةَ خلاصٍ، وهي أن يُذبَح حَمَلٌ ويُوضَع دم هذا الحَمَل على إطارات أبواب بيوت شعب الله، وعندما يعبر ملاك الموت، فإنَّ البيوت التي يُرَى عليها دم الحَمَل تنجو من ضربة موت الأبكار. بمعنى ملموس إلى حَدٍّ بعيد، مات الحَمَل بدلًا عن الابن البكر لأهل البيت. يأكل شعب إسرائيل عشاء الحَمَل مَعَ أَعْشَابٍ مُرَّةٍ وفَطِيرٍ، وهُمْ مُستَعِدُّون للهَرَب، وتكون وجبة عيد الفِصْح (خروج 12) تذكيرًا مُستَمِرًّا بالخلاص العظيم الذي خَلَّص به الله شعب عهده من خلال عمل دينونةٍ عظيم.
تأسيس فريضة عَشَاءِ الرَّبِّ
كانت الوجبة الأخيرة التي تناولها الرَّبُّ يسوع مع تلاميذه قبل خيانته والقبض عليه مباشرةً هي وجبة عيد الفِصْح التقليديَّة، لكنَّ الرَّبَّ يسوع أضفى على الوجبة معنًى جديدًا مُرتَبِطًا بموته الوشيك[1].
وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ ٱلْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى ٱلتَّلَامِيذَ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا. هَذَا هُوَ جَسَدِي». وَأَخَذَ ٱلْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلًا: «ٱشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ دَمِي ٱلَّذِي لِلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ ٱلَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا (مَتَّى 26: 26-28).
رَبَطَ الرَّبُّ يسوع الخبز والكأس رمزيًّا بجسده الذي سَيَنْكَسِر قريبًا ودمه الذي سَيُسْفَك قريبًا. الدم هو الآن “دَمُ العَهْدِ” (التَّرْجَمَةُ العَرَبِيَّةُ المُبَسَّطَةُ)، العهد الجديد الذي سَيُؤَسِّسه الرَّبُّ يسوع من خلال موته وقيامته. كما مَثَّلَتْ وجبة الفِصْح وجبةً تأسيسيَّة للعهد القديم تَتِمُّ على شَفَا الفِعْل الخلاصي التأسيسي لهذا العهد (الخروج من مصر)، هكذا كان عَشَاءُ الرَّبِّ الوجبة التأسيسيَّة للعهد الجديد التي تَتِمُّ على شَفَا العمل الخلاصي الذي سَيُحَقِّقه الرَّبُّ يسوع على الصليب[2]، وكما مَثَّلَتْ وجبة الفِصْح تذكيرًا بالفداء الذي حَقَّقه الرَّبُّ لشعبه في إخراجهم من العبوديَّة في مصر، يُصبِح عَشَاءُ الرَّبِّ تذكيرًا قويًّا بالفداء الذي حَقَّقه الرَّبُّ يسوع لشعبه في تحريرنا من عبوديَّة الخطيَّة. هذه الوجبة هي إذًا الرمز التأسيسيّ والمُستَمِرّ للعهد الجديد في المسيح[3].
بينما يُسَجِّل بولس وصايا الرَّبِّ يسوع في 1كورنثوس 11 (والذي يمكن القول بأنَّه أقدم سِجِلٍّ لدينا لتأسيس فريضة عَشَاءِ الرَّبِّ)، يتحدَّث الرَّبُّ يسوع عن طاعة تلاميذه لوصاياه “كُلَّمَا” (1كورنثوس 11: 25، 26) تناولنا العشاء، مُشيرًا إلى أنَّ هذا الأمر يجب أن يكون ممارسة مُستَمِرَّة؛ فلا عَجَبَ إذًا أنَّه منذ تأسيس الكنيسة في يوم الخمسين، كان المؤمنون “يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ ٱلرُّسُلِ، وَٱلشَّرِكَةِ، وَكَسْرِ ٱلْخُبْزِ، وَٱلصَّلَوَاتِ” (أعمال الرسل 2: 42).
معنى فريضة عَشَاءِ الرَّبِّ
تُوَضِّح كلمات التأسيس التي قالها الرَّبُّ يسوع أنَّ العشاء يُمَثِّل رمزًا للعهد الجديد وذِكْرًا لموته (1كورنثوس 11: 24، 25)، إلَّا أنَّ طبيعة حضور الرَّبِّ يسوع في العشاء مَحَلُّ خلاف.
عندما يقول الرَّبُّ يسوع إنَّ الخبز “هُوَ جَسَدِي” والكأس “[هي] دَمِي ٱلَّذِي لِلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ” (مَتَّى 26: 26-28)، ماذا يعني بالضبط؟ في حديثه عن الخطر الروحي للمشاركة في الولائم الوثنيَّة، يَعقِد بولس تَوَازِيًا مع المعنى الروحي للمشاركة في عَشَاءِ الرَّبِّ: “كَأْسُ ٱلْبَرَكَةِ ٱلَّتِي نُبَارِكُهَا، أَلَيْسَتْ هِيَ شَرِكَةَ دَمِ ٱلْمَسِيحِ؟ ٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي نَكْسِرُهُ، أَلَيْسَ هُوَ شَرِكَةَ جَسَدِ ٱلْمَسِيحِ؟ (1كورنثوس 10: 16)، بأي معنى يُشَكِّل هذا الأمر “شَرِكَةَ” جسد المسيح ودمه؟
بصفةٍ أساسيَّة، طُرِحَتْ أربعة أنواع مختلفة من الإجابات على هذه الأسئلة أدَّت إلى أربع وجهات نظر مختلفة حول طبيعة عَشَاءِ ٱلرَّبِّ وطبيعة حضور الرَّبِّ يسوع فيه.
- استحالة الجوهر Transubstantiation (وجهة النظر الكاثوليكيَّة الرومانيَّة إلى حَدٍّ كبير): يتبنَّى هذه النظرة الكاثوليك الرومانيُّون وآخرون، والذين يؤمنون أنَّه في القُدَّاس تصير العناصرُ (الخبز والخمر) جَسَدَ المسيح ودَمَهُ بحيث يكون هناك بمعنًى ما تكرار لذبيحة المسيح. في الإصلاح، تَمَّ رفض العقيدة الكاثوليكيَّة الرومانيَّة، وذلك بصفةٍ جوهريَّة بناءً على ثلاثة أُسُس رئيسة: 1) يسوع حاضر الآن جسديًّا في السماء، والاقتراح بأنَّ جسده المادي يمكن أن يكون حاضرًا في أماكن مُتَعَدِّدَة في آنٍ واحد يُقَوِّض بصورة فعَّالة إنسانيَّته الحقيقيَّة؛ 2) تبجيل العناصر (التي يُنظَر إليها على أنَّها جسد المسيح ودمه) إلى درجة العبادة الذي كان يحدث في القُدَّاس كان وثنيَّة؛ 3) تُقَوِّض فكرةُ تكرار ذبيحة يسوع نهائيَّة عمله على الصليب وكفايته (راجِعْ عبرانيِّين 9: 24-26).
- الحضور المزدوج Consubstantiation (وجهة النظر اللوثريَّة إلى حَدٍّ كبير): كانت هذه نظرةً تبنَّاها مارتن لوثر (مع أنَّه لم يَكُنْ ليستخدم هذه التَّسْمِيَة)، ولا يزال اللوثريُّون يَتَبَنَّوْنها بشكل عام اليوم. أراد لوثر تصحيح أخطاء وجهة النظر الكاثوليكيَّة الرومانيَّة مع الاحتفاظ بالتعامل الجاد مع كُلٍّ من: مطابقة يسوع جسدَه ودمَه بعناصر العشاء، وفكرة أنَّه حاضرٌ حقًّا في العشاء. تَمَثَّل حَلُّ لوثر في القول بأنَّه مع أنَّ الخبز والخمر لا “يصيران” حرفيًّا جَسَدَ المسيح ودَمَهُ، فإنَّ يسوع حاضرٌ روحيًّا في وتحت ومن خلال العناصر (ومن هنا جاء استخدام البادِئَة اللاتينيَّة con، التي تعني “مع”)؛ وهكذا فهناك معنًى حقيقيّ يكون فيه يسوع حاضرًا في العشاء، حتَّى لو لم يَكُنْ هناك تَغَيُّر في جوهر العناصر نفسها.
- النظرة التَّذكارِيَّة Memorial (وجهة النظر المعمدانيَّة إلى حَدٍّ كبير): ترتبط هذه النظرة بصفة خاصَّة بالمُصلِح السويسري هولدريش زوينجلي، ويتبنَّاها بشكلٍ ما الكثير من المعمدانيِّين. أَصَرَّ زوينجلي على أنَّ تصريح يسوع القائل بأنَّ الخبز “هُوَ” جسده والخمر “هُوَ” دمه ينبغي أن يُفهَم مجازيًّا وليس حرفيًّا، ففي نهاية المطاف، يستخدم الرَّبُّ يسوع بالحقيقة الفعل “يكون” [والذي يُتَرجَم في اللغة العربيَّة إلى كلمة “هُوَ” أحيانًا، وفي أحيان أخرى لا تحتاج ترجمته إلى ذِكْر كلمة “يكون” أو “هُوَ”] بِطُرُقٍ رمزيَّة واضحة في الأناجيل، فهو لا يقول فقط “أَنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ” (يوحنَّا 6: 35)، بل يقول أيضًا “أَنَا هُوَ الْبَابُ” (يوحنَّا 10: 9)، و”أَنَا ٱلْكَرْمَةُ” (يوحنَّا 15: 5). إنَّ ذبيحة يسوع على الصليب كاملة، مَرَّةً واحدة وإلى الأبد؛ ومن ثَمَّ فإنَّ فريضة العشاء هي تذكير تصويريّ، تَذْكار a memorial. مع أنَّ المسيح حاضر دائمًا مع شعبه، فإنَّه لا يكون حاضرًا بصفة خاصَّة في فريضة العشاء.
- الحضور الروحي Spiritual Presence (وجهة النظر المُصلَحة إلى حَدٍّ كبير):
يأتي هذا الموقف من چون كالڤن، وهو الموقف المُصلَح السائد، مع أنَّه يوجد نطاق كامل من الفَهْم بين أولئك الذين يُعَرِّفون أنفسهم بأنَّهم مُصلَحون لاهوتيًّا[4]. رَفَضَ كالڤن كُلًّا من فكرة التَّغَيُّر المادي للخبز والخمر وفكرة التَّذكار المُجَرَّد. في فريضة العشاء، يكون المسيح حاضرًا روحيًّا بطريقة خاصَّة، لكنَّه ليس حاضرًا جسديًّا. هناك شَرِكَة روحيَّة حقيقيَّة تَتِمُّ بين الرَّبِّ وكنيسته أثناء الاحتفال بالفريضة. يحتفظ الفعل “يكون” [أو كلمة “هُوَ”] بمعنًى رمزي (وليس حرفي)، ولكن في نفس الوقت هناك “شَرِكَة” حقيقيَّة في المسيح تَتِمُّ في الفريضة.
ممارسة فريضة عَشَاءِ الرَّبِّ
بعد تسوية السؤال الأوسع الخاصِّ بالمعنى اللاهوتي لفريضة عَشَاءِ تالرَّبِّ، يَظَلُّ هناك عددٌ من الأسئلة المُتَعَلِّقَة بممارسة الفريضة وتقديمها.
التَّكْرار
قاوم الكثير من الإنجيليِّين الممارسة الكاثوليكيَّة الرومانيَّة الخاصَّة بالقُدَّاس الأسبوعي وقَلَّلوا من تَكْرار الاحتفال به، بينما يُؤَكِّد آخرون أنَّه نظرًا لأنَّ الرَّبَّ يسوع بدا أنَّه يتوقَّع أن تُشَكِّل هذه الفريضة ممارسة منتظمة (“كُلَّمَا…”)، ونظرًا لأنَّنا يمكننا تَوَقُّع أنَّ الرَّبَّ قَصَدَ بفريضة العشاء خيرنا الروحي؛ فهناك حُجَّة قويَّة تدعم الحفاظ على الممارسة الأسبوعيَّة. اِستَقَرَّ الكثير من الإنجيليِّين (رُبَّما الأغلبيَّة) على موقف وسيط يَتَمَثَّل في الاحتفال الشهري بالفريضة. يبدو أنَّه لا يوجد أساس كبير لوضع قاعدة قاطعة وراسخة بشأن هذا الأمر، لكنَّ أولئك الذين يريدون التقليل بدرجة كبيرة من تَكْرار ممارسة فريضة العشاء يحتاجون إلى السؤال عن الدافع لفِعْل ذلك. هل يتَّفِق هذا مع تَوَقُّع الرَّبِّ بأن يُذكَر موته بانتظام؟ ما هو التأثير الروحي على جسد المؤمنين من عدم اجتماعهم حول مائدة الرَّبَّ إلَّا نادرًا؟ وبالنسبة لأولئك الذين يحتفلون بالذِّكْرَى أسبوعيًّا، سيكون من المُهِمِّ التَّأَكُّد من أنَّ تَكْرار الاشتراك في هذه الفريضة لا ينجرف إلى الطَّقْسِيَّة أو يُقَلِّل من معنى فريضة العشاء للذين يشتركون فيها.
التقديم
كان من المُهِمِّ بالنسبة للبروتستانت إعلان الابتعاد عن الفهم الكاثوليكي الروماني القائل بوجوب تَرَأُّس “كاهن” لفريضة العشاء لكي يُحَقِّق الاستحالة الجوهريَّة لعناصر الفريضة ولكي يكون الشخص الذي يُقَدِّم ما يُنظَر إليه على أنَّه ذبيحة. لا يجد بعض البروتستانت غضاضةً في تقديم أعضاء غير مرسومين من شعب الكنيسة فريضة العشاء، بينما سَيَظَلُّ آخرون مُتَمَسِّكين بالمبدأ القائل بأنَّ قيادة اجتماع عشاء الرَّبِّ هي مسؤوليَّة القادة المُعتَرَف بهم أو المرسومين (قسوس، شيوخ)؛ وذلك بصفة عامَّة لسببَيْن رئيسيَّيْن: 1) للتَّأَكُّد من أنَّ الأمور تَتِمُّ بِلِيَاقَةٍ وَبِحَسَبِ تَرْتِيبٍ في العبادة الجماعيَّة (راجِعْ 1كورنثوس 14: 40)، مع تقديم فريضة العشاء بعناية ومهابة؛ 2) نظرًا لأنَّ فريضة العشاء هي تذكير بموت يسوع، وبهذا المعنى صورة للإنجيل، فلا يجب فصلها عن الوعظ بالكلمة (وهي النقطة التي أَصَرَّ عليها كالڤن)؛ لذلك قد يبدو من اللائق أن يقوم شخصٌ مُعَتَرَفٌ به كَمُعَلِّم للكلمة داخل الكنيسة بتقديم العشاء ووضعه في سياقه الصحيح للتعليم الكتابي.
تَسْيِيج المائدة
يُصدِر بولس في (1كورنثوس 11: 27-30) تحذيرًا جادًّا من الاشتراك في فريضة العشاء بِدُونِ ٱسْتِحْقَاقٍ:
إِذًا أَيُّ مَنْ أَكَلَ هَذَا ٱلْخُبْزَ، أَوْ شَرِبَ كَأْسَ ٱلرَّبِّ، بِدُونِ ٱسْتِحْقَاقٍ، يَكُونُ مُجْرِمًا فِي جَسَدِ ٱلرَّبِّ وَدَمِهِ. وَلَكِنْ لِيَمْتَحِنِ ٱلْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَهَكَذَا يَأْكُلُ مِنَ ٱلْخُبْزِ وَيَشْرَبُ مِنَ ٱلْكَأْسِ. لِأَنَّ ٱلَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِدُونِ ٱسْتِحْقَاقٍ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ، غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَدَ ٱلرَّبِّ. مِنْ أَجْلِ هَذَا فِيكُمْ كَثِيرُونَ ضُعَفَاءُ وَمَرْضَى، وَكَثِيرُونَ يَرْقُدُونَ.
من الواضح أنَّ الوضع الخاص في كورنثوس كان أنَّه أثناء الوجبة الجماعيَّة يأتي أولئك الأيسر حالًا بالطعام لأنفسهم، ويُفرِطون في الأكل بل ويَسْكَرُون، في حين لم يَكُن لدى الفقراء ما يأكلونه؛ فيمكن القول إذًا إنَّ الفشل في “تمييز جَسَد ٱلرَّبِّ” هو فشل في تمييز وإكرام شعب المسيح، أي “جَسَده”، ولكن يمكن القول أيضًا إنَّ تطبيق المبدأ يمتد على نطاقٍ أوسع، فمن الممكن التَّقَدُّم إلى المائدة بدون التوبة عن الخطيَّة (وخاصَّةً تلك الخطايا التي تُؤَثِّر على العلاقات داخل الكنيسة)؛ ومن ثَمَّ الاشتراك “بِدُونِ ٱسْتِحْقَاقٍ”.
في ضوء ذلك، من المُهِمِّ لقائد اجتماع عشاء الرَّبِّ أن يَحُثَّ المؤمنين ويُشَجِّعهم على الفحص الدقيق لِلذَّات، مع التوضيح أيضًا لغير المؤمنين الحاضرين أنَّ فريضة العشاء ليست لهم. بالإضافة إلى ذلك، يحتاج قادة الكنيسة إلى ممارسة التأديب الكنسيّ؛ ومن ثَمَّ إبعاد أولئك الذين يعيشون دون توبة عن مائدة الرَّبِّ. في بعض الأحيان أُشِيرَ إلى ممارسة هذه المسؤوليَّة بعبارة “تسييج المائدة”، أي إقامة حواجز مناسبة من التحذير والتأديب حول مائدة الرَّبِّ لمنع اشتراك أولئك الذين لا يعيشون في إيمانٍ وتوبةٍ وانسجامٍ مع شعب الله سِمَتُهُ الخير والإحسان. وسوف يُظهِر التقديم الحكيم لفريضة عَشَاءِ الرَّبِّ حَسَاسِيَّةً في هذا الأمر تجاه المؤمنين ذوي الضمائر الرقيقة الذين قد يَتَرَدَّدون في التَّقَدُّم إلى المائدة، لكن الذين من أجلهم أسَّس الرَّبُّ فريضة العشاء. يصف چون كالڤن الاشتراك “بِٱسْتِحْقَاقٍ” بهذه العبارات: “لذا فإنَّ هذا هو الاستحقاق – الأفضل بل الأوحد الذي يمكننا أن نأتي به إلى الله – أنْ نطرح أمامه عَفَن فسادنا (إن جاز القول) وعدم استحقاقنا كي تجعلنا رحمتُه جديرين به؛ أن نيأس في ذواتنا كي نجد راحتنا وعزاءنا فيه؛ أن نُذِلّ أنفسنا كي نرتفع به؛ أن نتّهم أنفسنا كي نتبرّر به”[5].
أين “ننظر” أثناء فريضة عَشَاءِ الرَّبِّ
تُشَجِّعنا الأسفار المقدَّسة على أن “ننظر” في عددٍ من الاتِّجاهات بعيون الإيمان بينما نشترك في عَشَاءِ الرَّبِّ[6]: أوَّلًا، علينا أن ننظر إلى الوراء بامتنان للرَّبِّ يسوع وموته على الصليب (1كورنثوس 11: 24). بعد ذلك، علينا أن ننظر حولنا إلى جسد المؤمنين الذين نُشارِكهم فريضة العشاء، فهذه الفريضة هي شيءٌ نفعله بينما نجتمع معًا (آية 17)، ونُمَيِّز جسد المسيح (آية 29) بينما نأكل. إنَّ تَشَارُكنا هذه الوجبة كجماعة وعدم تناوُلها بشكل فردي في منازلنا هو أمرٌ له دلالة، فالاشتراك فِي ٱلْخُبْزِ ٱلْوَاحِدِ معًا هو دلالة وحدتنا الجوهريَّة (1كورنثوس 10: 17). ننظر أيضًا عاليًا إلى السماء، حيث المسيح المُقام والمُصعَد يشفع فينا كرئيس كهنتنا العظيم (راجِعْ عبرانيِّين 4: 14-16). أخيرًا، ننظر إلى الأمام إلى اليوم الذي سيعود فيه الرَّبُّ يسوع (1كورنثوس 11: 26). يُمَثِّل الاحتفال بفريضة العشاء إخبارًا بموت الرَّبِّ يسوع يَتَطَلَّع إلى عودته، فالرَّبُّ يسوع نفسه، عندما أَسَّس فريضة العشاء، تناولها في تَطَلُّعٍ إلى المستقبل (مَتَّى 26: 29). لَطَالَمَا ارتبط التتميم النهائي لخطة الله الخلاصيَّة بالوعد بوليمة عظيمة (إِشَعْيَاء 25: 6؛ راجِعْ رؤيا يوحنَّا 19: 9)، ويُمَثِّل عَشَاء ٱلرَّبِّ عَيِّنَة مُسَبَّقَة لهذه الوليمة العظيمة في نَفْس الوقت الذي يُذَكِّرنا فيه بالأساس الوحيد لرجائنا في الاشراك فيها.
[1] بالإضافة إلى سِجِلِّ بولس عن تأسيس فريضة عَشَاءِ ٱلرَّبِّ في (1كورنثوس 11: 23-26)، هناك ثلاث روايات في الأناجيل: مَتَّى 26: 26-30؛ مرقس 14: 22-26؛ لوقا 22: 19، 20.
[2] حول هذه الروابط الكتابيَّة اللاهوتيَّة بين عَشَاءِ ٱلرَّبِّ والخروج، اُنْظُرْ بصفة خاصَّة:
Waters, Supper, 88-91.
[3] نستخدم طوال هذا المقال مُصطَلَح “عَشَاءِ ٱلرَّبِّ” (اُنْظُرْ 1كورنثوس 11: 20)، إلَّا أنَّ مُصطَلَح “الإِفْخَارِسْتِيَا” (من الكلمة اليونانيَّة إِفْخَارِسْتِيَا εὐχαριστία، التي تعني “شُكْر”؛ اُنْظُرْ 1كورنثوس 11: 24) ومُصطَلَح “الشَّرِكَة المُقَدَّسة” (اُنْظُرْ 1كورنثوس 10: 16) يُستَخدَمان أيضًا في كثير من الأحيان.
[4] من الجدير بالذِّكْر أنَّ الكثير من المعمدانيِّين الذين يُعَدُّ لاهوتهم مُصلَحًا على نطاق واسع سَيُؤَيِّدون مع ذلك نسخةً من الموقف التَّذكارِيّ حول عَشَاءِ ٱلرَّبِّ.
[5] كالڤن، أُسُس الدِّين المسيحيّ، 4. 17. 42. اِقْتَبَسَهُ:
Phillips, Supper, 28.
[6] أتذكَّر أوَّل مَرَّة تَشَجَّعْتُ فيها على “النظر” في بعض هذه الاتِّجاهات في اجتماع عَشَاءِ ٱلرَّبِّ بقيادة ڤُونْ رُوبِرْتْسْ في كنيسة القِدِّيسة إِبْ St. Ebbe’s Church، أكسفورد، إنجلترا.