التعريف
“مشكلة أو معضلة الشرِّ” هي واحدة من أكثر الاعتراضات على وجود الله التي تُعَدُّ مثارَ جدلٍ ونقاشٍ كثيرٍ، وهي من أهمِّ الأسباب التي يقدِّمها غير المؤمنين لعدم إيمانهم. تقول هذه الاعتراضات إنَّه توجد كثير جدًّا من حالات الألم والمعاناة الشديدة في العالم، التي كان بإمكان الله أن يمنعها بسهولة، وحقيقة أنَّ كلَّ هذا الشرِّ لم يُمنَع تعني أنَّه من المستبعد كثيرًا (إن لم يكن من المستحيل) أن يكون الله موجودًا.
الموجَز
“مشكلة الشرِّ” تحتكم إلى ظاهرة الشرِّ (أي الحالات الكثيرة من الألم والمعاناة) بصفتها برهانًا ينفي وجود الله. وبالنسبة إلى كثيرين، يبدو هذا البرهان قاطعًا، لأنَّه إذا كان الله موجودًا، فهو سيكون قويًّا بما يكفي لمنع مثل هذا الشرِّ، وصالحًا بما يكفي ليرغب في منع مثل هذا الشرِّ. لكن بما أنَّه يوجد شرٌّ بالفعل، فلا وجود إذًا لمثل هذا الكائن القويِّ والصالح. وطوال الألفي سنة الماضية، قدَّم المؤمنون في المعتاد ردَّين على تلك المشكلة: الثيوديسيا، والغموض. أوَّلاً، ربَّما يكون لدى الله سبب وجيه هو الذي دعاه إلى أن يسمح بالشرِّ الذي يسمح به، وهذا السبب متوافق مع قداسته وصلاحه. ثمَّ تواصل الثيوديسيا لتسرد بعضًا من هذه الأسباب. ثانيًا، إنَّ حقيقة عجز غير المؤمنين عن إدراك أو تخمين مبرِّرات الله وأسبابه للسماح بالشرِّ ليس سببًا وجيهًا يدعوهم إلى الظنِّ بأنَّه ليس لدى الله أسباب. ففي ضوء لا محدوديَّة العلم الكلِّيِّ لله، ومدى تعقيد عنايته الإلهيَّة، وعمق الخير الذي يهدف إلى تحقيقه، ومحدوديَّاتنا المعرفيَّة الجوهريَّة، يجب ألاَّ نتوقَّع أن نتمكَّن من تخمين أسباب الله.
ما هي مشكلة الشرِّ؟
ما يُسمَّى “مشكلة الشرِّ” هو حُجَّة ضدَّ وجود الله، ومنطقها كالتالي:
- يستطيع أيُّ كائنٍ كامل القدرة أن يمنع أيَّ شر.
- أيُّ كائن كامل الصلاح سيمنع الشرَّ بقدر استطاعته.
- الله كامل في قدرته وصلاحه.
- إذا كان إلهٌ كاملٌ في القدرة والصلاح موجودًا، لن يكون هناك أيُّ شرٍّ.
- يوجد شرٌّ.
- إذًا، الله غير موجود.
يُفهَم “الشرُّ” هنا على أنَّه أيُّ حالة من حالات الألم والمعاناة الشديدة في العالم، سواء كان شرًّا “أخلاقيًّا” (أي شرٌّ سبَّبه البشر عن عمد، مثل القتل، والزنا، والسرقة، والاغتصاب، إلخ)، أو شرًّا “طبيعيًّا” (أي ضرر سبَّبته قوى الطبيعة غير العاقلة، مثل الزلازل، والأعاصير، والأوبئة، إلخ).
الردُّ على مشكلة الشرِّ
ما يجب ألاَّ نفعله
على المؤمن أن يكون صادقًا، وأن يواجه هذه القضيَّة بأمانة. فلن يجدي نفعًا أن ننكر وجود الشرِّ (النقطة 5 أعلاه)، لأنَّ الشرَّ هو الفرضيَّة التي تُشكِّل أساس الإنجيل نفسه. كذلك، لا يمكننا أن ننكر أنَّ الله قادر أن يمنع الشرَّ (النقطة 1 أعلاه)، أو أنَّه كامل في قدرته وصلاحه (النقطة 3 أعلاه). لكن، يمكننا (بل وينبغي) أن نستجوب الفرضيَّة الثانية أعلاه، وهي أنَّ أيَّ إله كامل في صلاحه يجب أن يمنع كلَّ شرٍّ، لأنَّه لا يترتَّب بالضرورة على صلاح الله الكامل أن يمنع كلَّ شرٍّ يستطيع أن يمنعه. فربَّما لدى الله سبب وجيه يدعوه إلى السماح بالشرِّ، لا إلى أن يمنعه. وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ سماحه بالشرِّ يكون مُبرَّرًا، ولا يتعارض مع صلاحه.
طريقتا الثيوديسيا والغموض
وبالتالي، فإنَّ ردَّنا على مشكلة الشرِّ يمكن أن يسلك واحدًا من اتِّجاهين. فإنَّنا نستطيع أن نقول إنَّ الفرضيَّة الثانية أعلاه خاطئة، ونسعى إلى إثبات خطئها عن طريق توضيح أسباب الله لسماحه بالشرِّ، وهذه هي طريقة “الثيوديسيا”. أو ربَّما نستطيع أن نقول إنَّ الفرضيَّة الثانية غير مُثبَتة، لأنَّ غير المؤمنين لا يستطيعون أن يستبعدوا وجود سببٍ وجيهٍ لدى الله هو الذي دعاه إلى السماح بالشرِّ، وهذه هي طريقة “الغموض”.
طريقة الثيوديسيا (جاءت الكلمة theodicy من الكلمة اليونانيَّة theos [“ثيوس”] ومعناها الله، والكلمة dikaios [“ديكايوس”] ومعناها “عادل” أو “بارٌّ”. وبالتالي، فإنَّ الثيوديسيا هي تبرير لطرائق الله في تعاملاته مع البشر) تسعى إلى توضيح أسباب الله التي دعته إلى السماح بالشرِّ. والفكرة المقصودة هنا هي أنَّ الله، بسماحه بالشرِّ، يحقِّق خيرًا أعظم من الخير الذي كان من الممكن تحقيقه دون هذا الشرِّ. وطريقة الثيوديسيا تبيِّن أنَّ الفرضيَّة (2) خاطئة، وتقول إنَّ الله لا يريد أن يمنع كلَّ شرٍّ يستطيع أن يمنعه.
وتقول طريقة الغموض، بطريقة أكثر اعتدالاً واتِّضاعًا، إنَّ لا أحد يَعلَم ما إن كانت الفرضيَّة (2) صحيحة أم خاطئة، لأنَّ لا أحد يعلم القدر الكافي الذي يمكِّنه من استنتاج أنَّ الله ليس لديه أيُّ سبب وجيه للسماح بالشرِّ. فإنَّنا ببساطة عاجزون عن استيعاب علم الله، أو مدى تعقيد خططه، أو الطبيعة العميقة للخير الذي يهدف إلى تحقيقه في عنايته الإلهيَّة. وما من دليل على أنَّ الله ليست لديه أسباب وجيهة للسماح بالشرِّ، لكن لأنَّه صالح، فكلُّ ما نستطيع أن نفترضه هو أنَّ لديه تلك الأسباب. وفي هذه الطريقة، لسنا مضطرِّين أن نقدِّم “ثيوديسيات” للدفاع عن الله ضدَّ مشكلة الشرِّ. بل بالأحرى، إنَّ طريقة الغموض تبيِّن أنَّه من المتوقَّع تمامًا ألاَّ تتمكَّن مخلوقات مثلنا من اكتشاف أسباب الله، وذلك في ضوء طبيعة الله وفي ضوء طبيعتنا نحن أيضًا.
طريقة الثيوديسيا
ثيوديسيتان شائعتان ليس لهما أساسٌ كتابيٌّ
بعض الثيوديسيات التي قُدِّمت تفتقر إلى الأساس الكتابيِّ المتين. على سبيل المثال، تقول ثيوديسيا حرِّيَّة الإرادة إنَّ الشرَّ الأخلاقيَّ سببه إساءة استخدام الإنسان لحرِّيَّة إرادته. فإنَّ حرِّيَّة الإرادة تحقِّق خيرًا عظيمًا، وهو اتِّخاذ قرارات أخلاقيَّة جيِّدة، وقدرة البشر على أن يعكسوا صورة الله من خلال هذه القرارات. لكن لحرِّيَّة الإرادة عاقبة مؤسفة، وهي أنَّها تسمح بالشرِّ الأخلاقيِّ. وردًّا على ذلك، ربَّما نطرح السؤال التالي: إذا كانت حرِّيَّة الإرادة من هذا النوع عالية القيمة إلى هذا الحدِّ، فلِمَ لا يتمتَّع بها الله، ولِمَ لن نتمتَّع بها نحن في السماء؟
تقول ثيوديسيا قوانين الطبيعة إنَّ الشرَّ الطبيعيَّ سببه قوانين الطبيعة. فإنَّ قوانين الطبيعة تحقِّق خيرًا عظيمًا، وهو أنَّها تنشئ البيئة المستقرَّة اللازمة لاتِّخاذ قرارات عقلانيَّة من أيِّ نوع. لكنَّ قوانين الطبيعة لها عاقبة مؤسفة، ألا وهي أنَّها تسمح بالكوارث الطبيعيَّة (مثل الزلازل، والبراكين، وغير ذلك). ردًّا على ذلك، قد نطرح السؤال التالي: إذا كانت البيئة المستقرَّة تستلزم احتماليَّة وجود الشرِّ الطبيعيِّ، لأنَّها تستلزم وجود قوانين الطبيعة، فَلِمَ إذًا لم يكن هناك أيُّ شرٍّ طبيعيٍّ في جنَّة عدن قبل السقوط، ولِمَ لن يكون هناك أيُّ شرٍّ طبيعيٍّ في السماوات الجديدة والأرض الجديدة؟
أربع ثيوديسيات شائعة لها قدر من الأسس الكتابيَّة
في المقابل، قُدِّمت أربع ثيوديسيات على الأقلِّ لها قدر من الأسس الكتابيَّة. تقول ثيوديسيا العقاب إنَّ الألم هو نتاج عقاب الله العادل لفعلة الشرِّ (تكوين 3: 14-19؛ رومية 1: 24-32؛ 5: 12؛ 6: 23؛ 8: 20-21؛ إشعياء 29: 5-6؛ حزقيال 38: 19؛ رؤيا 6: 12؛ 11: 13؛ 16: 18). فمن خلال العقاب، يهدف الله إلى تحقيقِ خيرٍ متمثِّلٍ في استعلان دينونته على الخطيَّة.
أمَّا ثيوديسيا بناء النفس، فتقول إنَّ الألم يغيِّرنا من التمحور حول الذات إلى الاهتمام بالآخرين (عبرانيِّين 12: 5-11؛ رومية 5: 3-5؛ 2كورنثوس 4: 17؛ يعقوب 1: 2-4؛ 1بطرس 1: 6-7؛ راجع أمثال 10: 13؛ 13: 24؛ 22: 15؛ 23: 13-14؛ 29: 15). ومن خلال أفعال العناية الإلهيَّة المؤلمة، يهدف الله إلى تحقيق الخير المتمثِّل في إظهار صلاحه المتمثِّل في تشكيل شخصيَّاتنا تشكيلاً إيجابيًّا.
وتقول الثيوديسيا التي مفادها أنَّ الألم هو البوق الإلهيُّ إنَّ الألم هو الوسيلة التي يستخدمها الله للفت انتباه غير المؤمنين بطريقة غير قسريَّة، حتَّى يتخلَّوا عن أمور الأرض الباطلة، ويفكِّروا في المقابل في الأمور الروحيَّة، بل وربَّما حتَّى يتوبوا عن خطاياهم (لوقا 13: 1-5). ففي الألم، يهدف الله إلى الخير المتمثِّل في إظهار رحمته، حتَّى يتسنَّى لنا من خلال مثل هذه التحذيرات أن نخلص من الغضب الآتي.
تقول ثيوديسيا الدرجات العليا للخير إنَّ بعض الخيرات لا يمكن أن توجد دون الشرور التي تُعَدُّ هذه الخيرات ردَّ فعلٍ لها. فلا شجاعة دون وجود خطر، ولا شفقة دون ألم، ولا غفران دون خطيَّة، ولا كفَّارة دون ألم، ولا تعاطف وتحنُّن دون عوز، ولا صبر دون محنة. ففي كثير من الأحيان، يلزم أن يسمح الله بكثيرٍ من الشرور ليجعل هذه الخيرات جزءًا من عالمه، وذلك في ضوء الكيفيَّة التي تُعرَّف بها هذه الخيرات (أفسس 1: 3-10؛ 1بطرس 1: 18-20).
هذه الثيوديسيات تندرج تحت مظلَّة “ثيوديسيا الخير الأعظم”
تقول “ثيوديسيا الخير الأعظم” إنَّ الألم والمعاناة في عالم الله يلعبان دورًا أساسيًّا في تحقيق خيرات أعظم لم يكن ممكنًا أن تتحقَّق بطريقة أخرى. لكنَّ السؤال المتبقِّي أمامنا الآن هو ببساطة كالتالي: هل يعلِّم الكتاب المقدَّس حقًّا بأنَّ الله يهدف إلى تحقيق خيرات أعظم من خلال الشرور المتنوِّعة؟
تأسيس “ثيوديسيا الخير الأعظم”: حجَّة ثلاثيَّة مؤيِّدة لثلاث أفكار كتابيَّة
إنَّ حجَّتنا هنا مفادها أنَّ الكتاب المقدَّس يمزج بين طريقتي الثيوديسيا والغموض. فإنَّ قصَّة أيُّوب، ويوسف، ويسوع في الكتاب المقدَّس تكشف عن صلاح الله في وسط الشرِّ، وتنسج الأفكار الثلاث التالية معًا:
- يهدف الله إلى تحقيق خير أعظم (سواء للجنس البشريِّ، أو لنفسه، أو لكليهما).
- يتعمَّد الله في كثير من الأحيان أن يتحقَّق هذا الخير الأعظم من خلال شرور متنوِّعة.
- يترك الله المخلوقات في جهل (في جهل بنوع الخيرات التي تمثِّل في حقيقة الأمر أسباب الله للسماح بالشرور، أو في جهل بكيفيَّة اعتماد تلك الخيرات على الشرور).
وهكذا، يبدو أنَّ الكتاب المقدَّس يفترض بقوَّة أنَّ “ثيوديسيا الخير الأعظم” (وهي أنَّ الله يهدف إلى تحقيق خير أعظم من خلال الشرور المتنوِّعة) هي في حقيقة الأمر الطريقة التي يعمل بها في عنايته الإلهيَّة. لكنَّ هذه الثيوديسيا توجد في توازن لا بأس به مع جرعةٍ من الغموض الإلهيِّ.
مثال أيُّوب
في قصَّة أيُّوب، كان الله يهدف إلى تحقيق خير أعظم، وهذا الخير الأعظم هو إظهار برِّه هو نفسه، وبصفة خاصَّة، إثبات كونه جديرًا بأن يُعبَد لأجل شخصه، وليس لأجل الخيرات الأرضيَّة التي يعطيها (أيُّوب 1: 11؛ 2: 5). وقد قصد الله أن يتحقَّق هذا الخير الأعظم المتمثِّل في تبرئة ذمَّته من خلال شرور متنوِّعة. وهذه الشرور كانت مزيجًا من شرٍّ أخلاقيٍّ وشرٍّ طبيعيٍّ (أيُّوب 1: 15، 16، 17، 19، 21-22؛ 2: 7، 10؛ 42: 11). كذلك، ترك الله أيُّوب في جهلٍ بما كان الله يفعله، وذلك لأنَّه لم تكن لدى أيُّوب وسيلة للاطِّلاع على مقدِّمة القصَّة في الإصحاح 1. وعندما كلَّمه الله “مِنَ الْعَاصِفَةِ”، لم يكشف له قط عن سبب تألُّمه في المقام الأوَّل، بل في المقابل، انكشف جهل أيُّوب بكلِّ العالم والواقع المخلوق (أيُّوب 38: 4-39-30؛ 40: 6-41: 34)، واعترف أيُّوب بجهله هذا بكلٍّ من الخليقة وطرق العناية الإلهيَّة (أيُّوب 40: 3-5؛ 42: 1-6).
مثال يوسف
نجد الشيء نفسه في قصَّة يوسف. فقد كان الله يهدف إلى تحقيق خير أعظم، ألا وهو أن ينجِّي عالم البحر المتوسِّط الأوسع من مجاعة، وأن يحفظ حياة شعبه في وسط خطرٍ كهذا، وفي النهاية أن يأتي بفادٍ إلى العالم من نسل هؤلاء الإسرائيليِّين (متَّى 1: 1-17؛ لوقا 3: 23-38). وقد قصد الله أن يتحقَّق الخير الأعظم المتمثِّل في حفظ شعبه من المجاعة من خلال شرور متنوِّعة (تكوين 45: 5-7؛ مزمور 105: 16-17)، ومنها الخيانة التي تعرَّض لها يوسف، وبيعه عبدًا، واتِّهامه ظلمًا وإلقاؤه في السجن (تكوين 37، 39). أدرك يوسف أنَّ هذه الشرور هي الوسيلة التي استخدمتها عناية الله السياديَّة (تكوين 50: 20). لكنَّ الله ترك إخوة يوسف، والتجَّار المديانيِّين، وزوجة فوطيفار، وساقي الملك في جهلٍ. فلا أحد من هؤلاء كان يعلم الدور الذي ستلعبه أفعاله الخاطئة في حفظ حياة شعب الله في وقت الخطر. ولم يكونوا يدرون على الإطلاق أيَّ خيراتٍ كانت تعتمد على أيِّ شرور، أو حتَّى إنَّ تلك الشرور ستعمل على الإطلاق في اتِّجاه تحقيق أيِّ خير.
مثال يسوع
وفي قصَّة يسوع، نرى الأمر نفسه مرَّة أخرى. فقد كان الله يهدف إلى تحقيق خير أعظم، ألا وهو فداء شعبه بواسطة كفَّارة المسيح، وتمجيد الله من خلال إظهار عدله، ومحبَّته، ونعمته، ورحمته، وحكمته، وقوَّته. فقد قصد الله أن يتحقَّق خير الكفَّارة الأعظم من خلال شرور متنوِّعة، منها المؤامرات اليهوديَّة (متَّى 26: 3-4، 14-15)، وتحريضات الشيطان (يوحنَّا 13: 21-30)، وخيانة يهوذا (متَّى 26: 47-56؛ 27: 3-10؛ لوقا 22: 22)، وظلم الرومان (متَّى 26: 57-68)، وجُبن بيلاطس (متَّى 27: 15-26)، وعنف الجنود (متَّى 27: 27-44). لكنَّ الله ترك العديد من المخلوقات الذين اشتركوا في ذلك (سواء من البشر أو الشياطين) في جهلٍ، لأنَّه من الواضح أنَّ رؤساء اليهود، والشيطان، ويهوذا، وبيلاطس، والجنود كانوا جميعًا يجهلون الدور الذي يلعبونه في تتميم القصد الفدائيِّ الذي تنبَّأ عنه الله، والذي سيتحقَّق بصليب المسيح (أعمال الرسل 2: 23؛ 3: 18؛ 4: 25-29؛ يوحنَّا 13: 18؛ 17: 12؛ 19: 23-24).
إباحة ثيوديسيا الخير الأعظم ووضع حدود لها
في كلِّ قصَّة من هذه القصص، تسلِّط الفكرتان الأولى والثانية الضوء على طريقة الثيوديسيا (أنَّ الله كان يهدف إلى تحقيق خير أعظم من خلال الشرور)، في حين تسلِّط الفكرة الثالثة الضوء على طريقة الغموض (أنَّنا إذا تُرِكنا لأنفسنا، لن نتمكَّن من إدراك أسباب الله للسماح بأيِّ حالةٍ من حالات الشرِّ). ومن خلال الفكرتين الأولى والثانية، يؤيِّد الكتاب المقدَّس مرارًا وتكرارًا الرأي القائل إنَّ لدى الله سببًا مُبرَّرًا للسماح بالشرور في العالم. وهذا هو الجانب الصائب من طريقة الثيوديسيا. لكنَّ الكتاب المقدَّس، من خلال الفكرة الثالثة، يُحبِط مرارًا وتكرارًا الرأي القائل إنَّنا نستطيع دائمًا أن نعرف طبيعة تلك الأسباب في أيِّ حالة خاصَّة من حالات الشرِّ. وهذا هو الجانب الصائب من طريقة الغموض. في الفلسفة المعاصرة، هاتان الطريقتان تُقدَّمان فعليًّا على أنَّهما وسيلتان مختلفتان لحلِّ مشكلة الشرِّ (الثيوديسيا والغموض) لكن، يبدو أنَّ الكتاب المقدَّس يدمج هاتين الطريقتين معًا في حديثه عن علاقة الله بالشرور التي تحدث في العالم. يعني ذلك أنَّ الكتاب المقدَّس يبيح ثيوديسيا الخير الأعظم، باعتبارها منظورًا عامًّا عن الشرِّ، لكنَّه في حكمة يضع حدودًا لذلك المنظور، على نحوٍ نافعٍ لكلٍّ من المؤمنين وغير المؤمنين.
إباحة ثيوديسيا الخير الأعظم: سلطان الله على كلِّ شرٍّ
سلطان الله على الشرِّ الطبيعيِّ
يوجد فرق شاسع بين الإقرار بعناية الله وسلطانه على الشرور الأخلاقيَّة والطبيعيَّة التي وقعت في حياة أيُّوب، ويوسف، ويسوع، وبين التصريح بأنَّ الله متسلِّط على كلِّ الشرور الطبيعيَّة والأخلاقيَّة. لكن هذا هو تحديدًا ما يعلِّمه الكتاب المقدَّس مرارًا. وهذا يقودنا لمسافة لا بأس بها باتِّجاه إباحة ثيوديسيا الخير الأعظم، بصفتها منهجيَّة عامَّة للتعامل مع مشكلة الشرِّ. فإنَّ الكتاب المقدَّس يعرض العديد من الأمثلة التي تبيِّن كيف تعمَّد الله أن يجلب الشرور الطبيعيَّة -مثل المجاعات، والحيوانات المفترسة، والأمراض، والعيوب الخلقيَّة كالعمى والصمم، بل والموت نفسه أيضًا– وليس فقط أنَّه اكتفى بالسماح للطبيعة أن “تأخذ مجراها” بمفردها. وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
- المجاعات (تثنية 32: 23-24؛ 2ملوك 8: 1؛ مزمور 105: 16؛ إشعياء 3: 1؛ حزقيال 4: 16؛ 5: 16-17؛ 14: 13، 21؛ هوشع 2: 9؛ عاموس 4: 6، 9؛ حجَّي 2: 17).
- الجفاف (تثنية 28: 22؛ 1ملوك 8: 35؛ إشعياء 3: 1؛ هوشع 2: 3؛ عاموس 4: 6-8؛ حجَّي 1: 11).
- الحيوانات البرِّيَّة المفترسة (لاويِّين 26: 22؛ العدد 21: 6؛ تثنية 32: 23-24؛ 2ملوك 17: 25؛ إرميا 8: 17؛ حزقيال 5: 17؛ 14: 15، 21؛ 33: 27).
- المرض (لاويِّين 26: 16، 25؛ العدد 14: 12؛ تثنية 28: 21-22، 27؛ 2ملوك 15: 5؛ 2أخبار الأيَّام 21: 14؛ 26: 19-20).
- عيوب خلقيَّة كالعمى والصمم (خروج 4: 11؛ يوحنَّا 9: 1-3).
- الموت نفسه (تثنية 32: 39؛ 1صموئيل 2: 6-7).
- الضربات العشر على مصر (خروج 7: 14-24؛ 8: 1-15، 16-19؛ 8: 20-32؛ 9: 1-7، 8-12، 13-35؛ 10: 1-20، 21-29؛ 11: 4-10؛ 12: 12-13، 27-30).
- القوى والأشياء “غير العاقلة” (مزمور 65: 9-11؛ 77: 18؛ 83: 13-15؛ 97: 4؛ 104: 4، 10-24؛ 107: 25، 29؛ 135: 6-7؛ 147: 8، 16-18؛ 148: 7-8؛ يونان 1: 4؛ نحميا 1: 3-4؛ زكريَّا 7: 14؛ متَّى 5: 45؛ أعمال الرسل 14: 17).
سلطان الله على الشرِّ الأخلاقيِّ
بالإضافة إلى ذلك، وربَّما من المفاجئ أيضًا، أنَّ الكتاب المقدَّس يصف الله بأنَّه متحكِّم بدقَّة شديدة في مسار التاريخ البشريِّ، لدرجة أنَّ الكثير من الشرور الأخلاقيَّة –مثل القتل، والزنا، وعصيان الوالدين، ورفض المشورة الحكيمة، بل وكراهية البشر– يمكن أن تُحسَب بأنَّها “من الربِّ”. ومن دون محو أو قمع تعمُّد المخلوقات –الذي يشمل نواياهم، وتخطيطهم، واختيارهم بين البدائل التي يفكِّرون فيها– يقف قصد الله فوق ووراء القرارات المسؤولة لمخلوقاته. ومرَّة أخرى، إليك بعض الأمثلة على ذلك:
- عصيان ابني عالي (1صموئيل 2: 23-25).
- رغبة شمشون في الزواج بامرأة أجنبيَّة (قضاة 14: 1-4).
- رفض أبشالوم، ورحبعام، وأمصيا الأخذ بالمشورة الحكيمة (2صموئيل 17: 14؛ 1ملوك 12: 15؛ 2أخبار الأيَّام 25: 20).
- الاغتيال (2أخبار الأيَّام 22: 7-9؛ 32: 21-22).
- الزنا (2صموئيل 12: 11-12؛ 16: 22).
- كراهية البشر (مزمور 105: 23-25؛ خروج 4: 21؛ تثنية 2: 30، 32؛ يشوع 11: 20؛ 1ملوك 11: 23، 25؛ 2أخبار الأيَّام 21: 16-17).
سلطان الله على كلِّ شرٍّ
إذًا، النصوص التي تروي قصَّة أيُّوب، ويوسف، ويسوع ليست استثناءات أو حالات شاذَّة، لكنَّها جزء لا يتجزَّأ من نظرة أكثر عمومًا يتبنَّاها الكتاب المقدَّس عن هذا الموضوع الذي يتعلَّق بكلٍّ من الشرِّ الطبيعيِّ والشرِّ الأخلاقيِّ. وفي حقيقة الأمر، بالإضافة إلى هذه المجموعة الكبيرة من النصوص “الخاصَّة” التي تقدِّم حالات فرديَّة من الشرِّ، توجد بعض النصوص “العامَّة” التي يبدو أنَّها تنسب كلَّ البلايا، وكلَّ القرارات التي يتَّخذها البشر، وكلَّ الأحداث على الإطلاق إلى مشيئة الله.
- سلطان الله على كلِّ بليَّة (جامعة 7: 13-14؛ إشعياء 45: 7؛ مراثي 3: 37-38؛ عاموس 3: 6).
- سلطان الله على كلِّ القرارات التي يتَّخذها البشر (أمثال 16: 9؛ 19: 21؛ 20: 24؛ 21: 1؛ إرميا 10: 23).
- سلطان الله على كلِّ الأحداث على الإطلاق (مزمور 115: 3؛ أمثال 16: 33؛ إشعياء 46: 9-10؛ رومية 8: 28؛ 11: 36؛ أفسس 1: 11).
وضع حدود لثيوديسيا الخير الأعظم: غموض مقاصد الله
عبء الإثبات
من المؤكَّد أنَّ كلَّ ثيوديسيا محدَّدة مذكورة سابقًا لها بعض المحدوديَّات. فعلى سبيل المثال، يحبط الكتاب المقدَّس في كثير من الأحيان الفكرة القائلة إنَّ ثيوديسيا العقاب قادرة على أن تفسِّر أسباب كلِّ الشرور التي تحدث في العالم (أيُّوب 1: 1، 8؛ 2: 3؛ 42: 7-8؛ يوحنَّا 9: 1-3؛ أعمال الرسل 28: 1-6). وعلى نحو أكثر عمومًا، لا يستطيع المؤمنون أن يعرفوا البتَّة ما يكفي عن ظروف أحدهم، أو عن مقاصد الله، كي يتمكَّنوا من تقديم ثيوديسيا محدَّدة، على أنَّها السبب الذي جعل الله يسمح بالشرِّ في حالة معيَّنة. وفي حقيقة الأمر، سيكون من قبيل الكبرياء والغرور الشديد أن نفعل ذلك. لكن إذا كان مَن يؤكِّد شيئًا يجب أن يثبته، فإنَّ السؤال المتعلِّق بمشكلة الشرِّ ليس هو ما إذا كان المؤمنون يعرفون ما يكفي ليتمكَّنوا من الحكم بإمكانيَّة تطبيق ثيوديسيا محدَّدة على ظرف معيَّن، بل السؤال هو ما إذا كان النقَّاد يعرفون ما يكفي ليتمكَّنوا من “استبعاد” إمكانيَّة تطبيق ثيوديسيا محدَّدة على ظرف معيَّن. لكن كيف يمكن لأيِّ ناقد أن يدَّعي بشكل معقول أنَّه يعرف أنَّه لا يوجد سبب يمكن أن يبرِّر سماح الله بالألم؟ كيف يمكنه أن يعلم أنَّ الفرضيَّة (2) في الحجَّة الأصليَّة أعلاه هي فرضيَّة صحيحة؟ ولِمَ قد يرى أحدهم أنَّنا قادرون أن ندرك الأسباب التي تجعل الله يسمح بحالات معيَّنة من الشرِّ من خلال إمكانيَّاتنا المعرفيَّة، هذا إذا كانت هذه الأسباب موجودة بالفعل؟
بعض الأمثلة التي توضِّح محدوديَّاتنا المعرفيَّة
من المعروف على نطاق واسع أنَّنا نعاني محدوديَّات معرفيَّة في ما يتعلَّق بتمييز الخيرات، والعلاقات بين الأشياء، على الأقلِّ في المجالات التي نفتقر فيها إلى الخبرة، أو إلى المنظور الكافي عن الأمور. إليك بعض الأمثلة:
- لا يبدو لي بالعين المجرَّدة أنَّه توجد صخرة دائريَّة كاملة الآن على الجانب المظلم من القمر، لكن هذا ليس سببًا يدعوني إلى استنتاج عدم وجود هذه الصخرة.
- لم يبدُ لأيٍّ من الذين عاشوا في القرون الوسطى أنَّ نظريَّة النسبيَّة أو نظريَّة ميكانيكا الكمِّ صحيحتان، لكن ليس هذا سببًا يدعو إلى الظنِّ بأنَّهما غير صحيحتين.
- لم يبدُ للبشر في الحقب الأقدم من التاريخ أنَّ حقوق الإنسان الأساسيَّة المختلفة هي في حقيقة الأمر حقوق مهمَّة، لكن لم يكن هذا مبرِّرًا للظنِّ بأنَّ تلك الحقوق غير موجودة.
- قد يبدو لأيِّ شخص لا يتحدَّث اللغة اليونانيَّة أنَّ الجمل اليونانيَّة المنطوقة هي بلا معنى، لكنَّ هذا ليس مبرِّرًا للظنِّ بأنَّه ليس لهذه الجمل أيُّ معنى بالفعل.
- لن يبدو لشخص غير مثقَّف موسيقيًّا أنَّ بيتهوفن اعتمد “قالب سوناتا” في سيمفونيَّته ككلٍّ، مضفيًا بهذا على المقطوعة الموسيقيَّة ككلٍّ وحدة جوهريَّة لم تكن لتتمتَّع بها بأيِّ وسيلة أخرى. لكن، لا يمكن أن يترتَّب على جهله هذا استنتاج أنَّ بيتهوفن لم ينوِ فعل ذلك، ناهيك أيضًا بكونه لم ينجح في تنفيذ ذلك.
- قد يبدو لابني البالغ من العمر شهرًا واحدًا أنَّه ليس لديَّ سبب وجيه يدفعني إلى قبول تلقِّيه مجموعة مؤلمة من الوخزات عند الطبيب. لكن، لن يترتَّب على جهله هذا عدم وجود مثل هذا السبب الوجيه.
إنَّ الله كلِّيُّ العلم، وهذا يعني أنَّه ليس فقط يعرف كلَّ شيء قد نتكهَّن به، لكنَّه أيضًا يعرف كلَّ حقٍّ على الإطلاق. يعني ذلك أنَّ الله يعرف الأمور التي لا نستطيع حتَّى أن نستوعبها. وكما توحي الأمثلة أعلاه، هذا يتجلَّى بسهولة في مجموعة كبيرة من الحالات. وإذا كانت تعقيدات الخطَّة التي وضعها إله غير محدود للكون تتضمَّن بالفعل علم الله إمَّا بالخير الأعظم، وإمَّا بالعلاقات الضروريَّة بين الشرور المختلفة وإدراك ذلك الخير، أو كليهما، فهل يمدُّنا عجزنا عن إدراك هذا الخير أو هذه العلاقات بسببٍ للاعتقاد بأنَّها غير موجودة؟ وماذا سيكون أساس مثل هذه الثقة؟ لكن، دون هذه الثقة، لن تكون لدينا أسباب تُذكَر لقبول الفرضيَّة (2) من فرضيَّات مشكلة الشرِّ. وبهذا، لن تكون لدينا أسباب تُذكَر لقبول الاستنتاج النهائيِّ لهذه الفرضيَّات.
الحُجَّة الكتابيَّة المؤيِّدة للغموض الإلهيِّ
إنَّ موضوع الغموض الإلهيِّ ليس فقط منطقًا طبيعيًّا يسهل الدفاع عنه، لكنَّه أيضًا موجود بكثرة في الكتاب المقدَّس، وله تطبيقات رعويَّة ودفاعيَّة على حدٍّ سواء. وهو يسدُّ أفواه المؤمنين الذين قد يقدِّمون للمتألِّمين “أسباب الله” دون أيِّ مراعاة لمشاعرهم (في حين هم لا يعلمون هذه الأسباب). وهو أيضًا يسدُّ أفواه النقَّاد الذين قد يستبعدون على نحوٍ غير عقلانيٍّ الأسباب الإلهيَّة للألم. تخيَّلْ معي أنَّنا دخلنا أحد مشاهد حياة أيُّوب (في دور أصدقائه)، أو يوسف (في دور إخوته)، أو يسوع (في دور معذِّبيه)؛ فهل سنتمكَّن من التكهُّن بقصد الله من الألم؟ ألن نشعر على النقيض بجهلٍ تامٍّ بهذا القصد؟ أليس جزء كبير من التأثير الأدبيِّ للقصَّة الكتابيَّة، والتشجيع الروحيِّ الذي تقدِّمه، يكمن في هذا التفاعل المتبادل بين جهل الشخصيَّات البشريَّة في القصَّة وحكمة العناية الإلهيَّة؟
أحد أطول التأمُّلات التي جاءت في العهد الجديد في مشكلة الشرِّ –وفي هذه الحالة تحديدًا، هو شرُّ الارتداد اليهوديِّ– هو رومية 9-11. وإنَّ تسبحة داود التي تختتم هذا الجزء تدمج معًا فكرتي السيادة الإلهيَّة على الشرِّ، والغموض الإلهيِّ في وسط الشرِّ.
“يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الِاسْتِقْصَاءِ! «لِأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ؟ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيرًا؟ أَوْ مَنْ سَبَقَ فَأَعْطَاهُ فَيُكَافَأَ؟». لِأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الْأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الْأَبَدِ. آمِينَ” (رومية 11: 33-36).
فما دام لم يتكلَّم الله عن حدث معيَّن في التاريخ، تكون أحكامه بشأن هذا الحدث بعيدة عن الفحص، وطرقه بعيدة عن الاستقصاء. لكنَّ هذا لا يعني أنَّه لا يوجد خير أعظم يبرِّر تعيين الله لذلك الحدث.