أثناء التحاقي بالجامعة لدراسة الموسيقى، عملت لفترة في قسم (الجوقات) في محل موسيقي كبير. كان رئيس هذا القسم رجلاً علمانياً وغير تقي إلى أبعد حد، غير أنه كان خبيراً في الموسيقى الكورالية المقدسة. لم أُعرْ هذا الأمر تفكيراً كبيراً في ذلك الوقت، لأني لم أكن مؤمناً في ذلك الحين. لكن عندما فكّرت بهذا الأمر بعد سنوات، رأيت أن الأمر مؤسف جداً.
عرفتُ منذ ذلك الحين آخرين كانت لديهم الموسيقى المقدسة مجرد ميدان تخصُّص، وميدان خبرة. كان اهتمامهم به أكاديمياً أو جماليّاً محضاً – فكانوا أشبه بمن تفوته الغابة ككل وتجذب انتباهه الأشجار المفردة! فإذا سُمِح لي أن أعيد صياغة ما قاله الرسول بولس بتوقير: “إن كنا نركّز على الموسيقى المقدّسة في هذه الحياة فقط، فإننا أشقى جميع الناس (جديرون بالشفقة)!”
حضرتُ قبل سنتين ندوة ممتازة دامت يوماً واحداً حول الأسلوب الصوتي الكورالي، وقد أشرفت عليها مدرسة موسيقية شهيرة. وسرعان ما اتضح لي أن القيمة المهيمنة لدى ذلك المحاضر وذلك المعهد هو إنتاج أصوات علّة جميلة نقية – فبغضّ النظر عن الكلام المرافق، دنيوياً كان أم مقدساً، كان الهدف النهائي هو الخروج بأصوات علّة ذات تميُّز حقيقي. وفكّرت في نفسي كم أن هذا الأمر مأساوي- هذا هو ما يعيشون ويعملون من أجله! فهم يقلِّمون الأشجار بعناية كبيرة ولا يتراجعون إلى الوراء قليلاً لكي يروا الغابة بكل بهائها.
لكن قبل أن نعتدّ بأنفسنا، دعونا نعترف بمدى سهولة أن يَعْلَق المؤمنون بالمسيح في تفاصيل ما يحدث في اجتماعات الخدمة في كنائسنا ونفس ما يجب أن يكون عليه التركيز الحقيقي لجهودنا – لا بالمعنى المطلق لما فعله أولئك الذين سبق أن ذكرتهم، لكن بمعنى أن يكون الضياع في التفاصيل مشكلة حقيقية جداً لنا.
دعونا نتأمل عظمة العبادة وبهاءها، ونفكر بالأهمية المركزية للعبادة في حياتنا كلها وفي كل هويتنا وكياننا وفي كل ما نفعله كمؤمنين بالمسيح.
جون بايبر والعبادة:
حدثت نقطة تحوُّل في فهمي للعبادة عندما أراني راعي الإرساليات في كنيستنا العبارات التقديمية لكتاب حول الإرساليات بعنوان “لتفرح الشعوب“ كتبه الدكتور جون بايبر، وهو راعي كنيسة بيت لحم المعمدانية في مدينة منيابوليس. لم تكن تلك مقدمة عادية يمكنك أن تضعها لكتاب حول الإرساليات، لأنها ركّزت على الأهمية الثانوية للإرساليات، وأوضحت أنها هي النشاط الثاني الأهم للكنيسة. والآن، كيف يمكن أن يسعى شخص عادةً إلى إقناع قرّائه بأهمية الموضوع الذي يتناوله؟ هل يتحدث عن أهمية الثانوية؟
هذا هو ما كتبه جون بايبر – ثلاث جمل قصيرة تحمل تضمينات ثورية لكيفية فهمنا للعبادة.
“ليست الإرساليات هي الهدف النهائي أو الأسمى للكنيسة، بل العبادة. فالإرساليّات موجودة لأن العبادة غير موجودة.”[1]
لا يحط جون بايبر هنا من قدر الإرساليات. لكنه يبين الأهمية القصوى للعبادة- الآن وعلى مدى الأبدية. وهو يطور فكرته هذه على هذا النحو:
للعبادة أهمية قصوى ونهائية. وهذا أمر لا ينطبق على الإرساليات، لأن لله أهمية قصوى ونهائية، لا الإنسان. فعندما ينتهي هذا العصر، وتنحني الملايين التي لا تُحصى من الأشخاص المفديين على وجوهها أمام عرش الله، لن يكون هنالك وجود للإرساليات. فهي ضرورة مؤقتة. أمّا العبادة فتثبُت إلى الأبد.[2]
يقول جون بايبرر إن العبادة هي الهدف النهائي والأبعد للكنيسة. بل إنه يقول في واقع الأمر، “يتحرّك كل التاريخ نحو هدف عظيم واحد، ألا وهو العبادة البارّة الحارّة المقدمة لله وابنه من كل شعوب الأرض.”[3]
لا ينفرد بايبر في هذا التوكيد على أهمية العبادة. فقد توصَّل آخرون إلى نفس الاستنتاجات على أساس دراستهم لكلمة الله. فعلى سبيل المثال، ألّف الدكتور جون ماك آرثر كتاباً حول العبادة. وقد روى في مقدمة كتابه هذا كيف أنه أمضى زمناً طويلاً في الخدمة قبل أن يتعلّم من الله كيف يقدّر الأهمية المركزية للعبادة. ولعنوان كتابه دلالة مهمة، “الأولوية القصوى“.[4]
غاية الله الرئيسية:
نريد أن نفهم الأهمية الهائلة التي ينسبها هؤلاء الأشخاص وغيرهم إلى العبادة. ولكي نفعل هذا، يجب أن نتراجع أكثر ونحاول أن نستوعب ما تقوله كلمة الله حول الهدف الرئيسي، لا للكنيسة، بل لله.
يستقي بايبر من أفكار متبصّرة لجوناثان إدواردز، فيبيّن من كلمة الله أن قصد الله المهيمن وأولويته الأهم هي أن يُظهر ويعزز مجده.[5] “ومجد الله” هو أحد تلك التعابير اللاهوتية الجذابة التي يمكن أن يفكر بها الإنسان. يتحدث مجد الله عن قداسة الله الكلية والمطلقة، وبهائه البديع، وكمالات طبيعته الأخلاقية. “اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ” (١ يوحنا ١: ٥). “تَعَالَى اسْمُهُ وَحْدَهُ. مَجْدُهُ فَوْقَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ.” (مزمور ١٤٨: ١٣) “قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ” (إشعياء ٦: ٣).
مجده مطلق وفريد، وهو لهذا يعلن في إشعياء ٤٢: ٨ “أَنَا الرَّبُّ هذَا اسْمِي، وَمَجْدِي لاَ أُعْطِيهِ لآخَرَ”.
يسعى الله إلى إظهار مجده عبر التاريخ الكتابي دون كل أو ملل. وتقول إشعياء ٤٣: ٦-٧: “اِيت بِبَنِيَّ مِنْ بَعِيدٍ، وَبِبَنَاتِي مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ. بِكُلِّ مَنْ دُعِيَ بِاسْمِي وَلِمَجْدِي خَلَقْتُهُ وَجَبَلْتُهُ وَصَنَعْتُهُ.” (لقد خلقنا من أجل مجده).
وفي إشعياء ٤٩: ٣ يقول: “أَنْت عَبْدِي إِسْرَائِيلُ الَّذِي بِهِ أَتَمَجَّدُ (سأظهر مجدي).” (وهكذا أقام إسرائيل قديماً من أجل مجده).
(يوحنا ١: ١٤) “وَالْكَلِمَة صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا.”
(٢ كورنثوس ٤: ٦) “لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (يُرى مجد الله في المسيح).
(أفسس ١: ١٣-١٤) “الَّذِي فِيهِ أَيْضًا أَنْتُمْ، إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ، إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ، الَّذِي فِيهِ أَيْضًا إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ، الَّذِي هُوَ عُرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ الْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ.” (القصد من الخلاص هو تعظيم مجد الله).
(١ أخبار الأيام ١٦: ٢٤) “حَدِّثُوا فِي الأُمَمِ بِمَجْدِهِ وَفِي كُلِّ الشُّعُوبِ بِعَجَائِبِهِ.” (مجد الله هو النقطة المركزية للتفويض الإرسالي).
(فيلبي ٢: ١٠-١١) “لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ.” (الغرض من جمع كل الأشياء في المسيح هو تعظيم الله).
(رؤيا ٢١: ٢٣) “وَالْمَدِينَةُ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى الشَّمْسِ وَلاَ إِلَى الْقَمَرِ لِيُضِيئَا فِيهَا، لأَنَّ مَجْدَ اللهِ قَدْ أَنَارَهَا، وَالْخَرُوفُ سِرَاجُهَا.” (جوهر السماء هو مجد الله)
(مزمور ٧٢: ١٨-١٩) “مبارَك الرب إله إسرائيل، الصانع العجائب وحده. ومبارك اسم مجده إلى الدهر، ولتمتلئ الأرض كلها من مجده. آمين ثمّ آمين. (قصد الخليفة هو إعلان مجد الله على الدوام).
إن الحقيقة المذهلة هي أن لكل ما هو واقع، وكل ما سيحدث، هدف نهائي وغاية نهائية هما مجد الله. لقد خلق الله في قدرته وسيادته هذا الكون لكي يتجلّى مجده (لكي يكون “مدرَكاً” كما يقول بولس في رومية ١: ٢٠). أمّا مزمور ١٩: ١ فيصوغ الفكرة على هذا النحو: (السماوات تحدّث بمجد الإله”. لقد خلق الله الإنسان على صورته، ومع أن الإنسان تمرّد على الله وأخطأ، إلاّ أن الله دبّر طريقة لكي يظهر مجده ومحبته وعدله من خلال عمل المسيح.. وحتى دينونة الله البارة على الهالكين ستبين القيمة غير المتناهية لمجد الله، وذلك بإظهار “لا نهائية خطية عدم تمجيد الله”.[6]
ويقول بايبر أيضاً: “الرؤية الكتابية لله هي أنه مكرَّس لأقصى حد، وبرغبة لا حدود لها، لتعزيز مجد اسمه وإظهاره.”[7] لكننا مكيَّفون بحيث نعتبر أن أي شخص يسعى دائماً إلى مجده الشخصي فقط هو شخص متمحور على الذات. لكن السبب في هذا هو أننا نحن الخطاة نختار أن نمجّد أنفسنا بدلاً من أن نمجد الله، الذي هو أعظم منّا بما لا يحد ولا يقاس (انظر رومية ٣: ٢٣: “إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ”) لكن، وكما يوضح بايبر، بالنسبة لله لا يوجد من هو أعظم من نفسه لكي يسعى إلى تمجيده. وهو في كماله يسعى إلى أعظم خير لنفسه ولمخلوقاته، وهذا الخير الأعظم هو بكل بساطة الله نفسه ومجده!
توجد عبارة مألوفة في دليل أسئلة وأجوبة وستمنستر الموجز تقول إن “الغاية العظمى للإنسان هي تمجيد الله والتمتع به إلى الأبد.” والحقيقة المذهلة هي أن الغاية العظمى لله هي أيضاً أن يمجّد الله![8] فلا يوجد لديه ما هو أعظم منه لكي يمجّده. فهو، وهو وحده، جدير بكل مجد. آمين!
وهكذا نرى أن مجد الله هو في واقع الأمر أعظم كل المواضيع، وهو فعلاً موضوع العبادة ودافعها وهدفها.
الغاية العظمى للإنسان:
لدى الله توق لا يهدأ أبداً إلى مجده. وهذا بالتضمين هو ما يتوجب أن تتضمنه التقوى بالنسبة للبشر. ولهذا يتوجب أن نأتي لكي نشاركه توقه إلى مجده. يتوجب علينا أن نتعلم كيف نُعِز ونُثمّن مجد الله. وهذا هو معنى العبادة، أن نُعِز ونُثمن مجد الله. ويُعبَّر عن العبادة بطرق كثيرة مختلفة، لكنها في معناها الأوسع، وفي التحليلي النهائي تعني أن نُعِز مجد الله.
لنعد الآن إلى عبارة وستمنستر التي سبقت الإشارة إليها الغاية العظمى للإنسان – كما هو بالنسبة لله أيضاً – هي تمجيد الله والتمتع به إلى الأبد (وهذان هما وجهان لنفس العملة)، وهي في نهاية الأمر عبارة مرتبطة بالعبادة.
لندرس الآن ثلاثة نصوص من العهد الجديد تبيّن – بطرق مختلفة تماماً – الأهمية المركزية المطلقة للعبادة بصفتها أسمى هدف للجنس البشري وسبب وجوده.
رومية ١:
يتناول بولس في الإصحاح الأول من الرسالة إلى مؤمني رومية هذه المسألة من الجانب السلبي وهو يصف مصير الإنسان الساقط بسبب رفضه لله.
لأَنَّ غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ. إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ، لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ، لأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً (تُرى بوضوح) بِالْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةَ وَلاَهُوتَهُ، (مجده) حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ.
لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، [وهذا تلخيص جيد للعبادة] بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. [والآن نرى السقوط اللولبي للإنسان]. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ، وَأَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى، وَالطُّيُورِ، وَالدَّوَابِّ، وَالزَّحَّافَاتِ.
لِذلِكَ أَسْلَمَهُمُ اللهُ أَيْضًا فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إِلَى النَّجَاسَةِ، لإِهَانَةِ أَجْسَادِهِمْ بَيْنَ ذَوَاتِهِمِ. الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا حَقَّ اللهِ [حوْل مجده] بِالْكَذِبِ، وَاتَّقَوْا وَعَبَدُوا الْمَخْلُوقَ دُونَ الْخَالِقِ، الَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ. (رومية ١: ١٨-٢٥)
وبطبيعة الحال، يصف بولس في الإصحاحات الأولى من الرسالة إلى رومية الخطية بكل سوادها لكي يشع نور البشارة بسطوع أكبر بالمفارقة مع الصورة السابقة كما يبيّن بدءاً من الإصحاح الثالث، لكنه سبق أن ألمح إلى الأمجاد العتيدة في ١: ١٦-١٧، حيث يتحدث عن كون البشارة أو الإنجيل “قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ.”
سينقض الخلاص بالإيمان بقوة الإنجيل من ناحية عملية، السقوط للخطية الذي يصفه بولس في الإصحاحين الأول والثاني. عندما ننظر مرة أخرى إلى كلمات بولس التي تدين البشرية الساقطة، يمكننا أن نعيد قولبتها ونصيغها من جديد بلغتنا ونرى شيئاً من مقاصد الله في افتداء البشر الهالكين وردهم إليه:
لأن نعمة الله معلنة من السماء لكل الناس الساقطين والآثمين الذين قبلوا حق الإنجيل لأولئك الذين جذبهم الله إليه. فالآن ليست قوة الله وجلاله مدرَكين بالمصنوعات (من خلال ما صُنع) فقط، لكنه أعلن أيضاً محبته ورحمته ورأفته من خلال عمل فداء المسيح، ابنه، لكي يخلص جميع الناس.
والآن هم لا يعرفون الله فحسب، لكنهم أيضاً يمجدونه كإله ويشكرونه، وأفكارهم مليئة بأفكاره وقلوبهم مليئة بالتكريس لهم. وبعد أن اعترفوا بحمقهم صاروا حكماء، وأبدلوا مواضيع العبادة الزائفة بمجد الله الذي لا يفسد.”
ولهذا سكن الله قلوبهم التي جدّدها بروحه للنقاء لكي يقدموا أجسادهم ذبائح حية ومقدسة له. لأنهم أبدلوا كذبة بحق الله، وهم الآن يعبدون ويخدمون الخالق دون المخلوق من أجل مجد اسمه. آمين.
يُدخل هذا النقض العظيم الذي يحدث من خلال العمل الافتدائي للمسيح العبادة في حياة أولئك الذين يجدون حياة جديدة فيه. وأساس الخطية هو رفض عبادة الله وإعطائه الكرامة والشكر اللذين يستحقهما. إنها رفض تمجيد الله. لكن المسيح يقوم، كذروة لعمله الخلاصي، بإعادة الأشخاص المؤمنين إلى أسلوب حياة العبادة ونظرة العبادة.
لقد قصد الله أن ينتج عن إعلان مجده في الخليقة وفي الفداء استجابة عبادة من قِبل أولئك الذين تمكّنهم النعمة من عمل ذلك.
رؤيا ٥:
سنقوم الآن بنقلة كبيرة من الصورة المظلمة التي رسمها بولس للإنسان الساقط في رسالته إلى مؤمني رومية إلى مجد عرش الله السماء في الإصحاح الخامس من سفر الرؤيا. ونرى هنا صورة أخرى للأهمية المركزية للعبادة.
(وبالمناسبة، لا تُرى مشاهد العبادة السماوية هذه في الإصحاحين الرابع والخامس بصفتها مجرد مشاهد تعليمية لنا. إذ لنا بمعنى حقيقي الامتياز في عبادتنا الجماعية في الكنيسة لكي نضم قلوبنا وأصواتنا مع قلوب ملائكة السماء وأصواتهم، مشتركين في عبادتهم. ونحن نتمتع بهذا الحق وهذا الامتياز، لأنه كما يقول لنا بولس في فيلبي ٣: ٢٠ “سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ”. فنحن مواطنون سماويّون، ونحن نتمتع بالحقوق والامتيازات التي تتضمّنها تلك المواطَنة حتى ونحن غرباء نسكن في أرض غريبة).
نجد هنا المشهد السماوي الذي يصفه لنا الرسول يوحنّا في الإصحاح الخامس من سفر الرؤيا. فالله الآب على العرش، مع الحمل الموجود في الوسط، والكائنات الأربعة حولهما، ثم هنالك الشيوخ الأربعة والعشرون، بالإضافة إلى ربوات وربوات من الملائكة. ثم يقول يوحنا إن كل خليقة في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض وفي البحر كلها ترنّم قائلة: “لِلْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَلِلْخَرُوفِ الْبَرَكَةُ وَالْكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ.” (الآية ١٣)
ثمّ نقرأ: ” وَكَانَتِ الْحَيَوَانَاتُ الأَرْبَعَةُ تَقُولُ: «آمِينَ». وَالشُّيُوخُ الأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ خَرُّوا وَسَجَدُوا لِلْحَيِّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ” (الآية ١٤).
نجد هنا في هذا المشهد العِبادي السماوي الرائع أن التركيز يقع بطبيعة الحال على الله الآب وابنه، وأن كل شيء آخر يدور حولهما، بينما العابدون بعيدون عن تلك النقطة المركزية. لكن التركيز بطبيعة الحال هو باتجاه الداخل، على المركز. ويتركز هتاف مجموعة العابدين على أن الله مستحق للبركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين.
والعبادة هي شغل السماء الشاغل، وهي ما تركّز عليه، وربما يمكننا القول إنه الأمر الذي يستحوذ على فكر السماء. إذ يركّز كل سكانها على الله وينادون بقيمته الأسمى واستحقاقه ومجده. فكل التركيز هو على العبادة. ويجب أن تكون هي نقطة تركيزنا نحن أيضاً، بصفتنا مواطنين سماويين.
كل التركيز هناك منصب على العبادة، ولا توجد نقطة تركيز أخرى. فلا توجد أحاديث جانبية، أو إعلانات، أمور من أي نوع تقطع سير العبادة. فكما يذكّرنا بايبر، لا توجد حتى إرساليات هناك. لا يوجد شيء غير العبادة. فكل الاهتمام منصب على الله، وكل المجد يعطى له. فهو وحده مستحق لتلك العبادة. فهو الخالق (كما تؤكد هذا رؤيا ٤: ١١). وكل شيء يجتمع حوله مخلوق من قِبله وهو العلّة التي لا علّة له، ذاك الواحد الذاتي الوجود؛ وكل شيء آخر معتمد عليه في وجودها ذاته. وهم يدركون استحقاقه الفريد وجلاله وبهائه، وهم لهذا يكيلون عليه، وعليه وحده، كل تسابيحهم. آمين!
يوحنا ٤:
والآن نعود دون رغبة منّا إلى الأرض لنضع عليها أقدامها، وننتقل إلى الإصحاح الرابع من الإنجيل حسب يوحنا حيث نرى يسوع في حوار مع المرأة السامرية عند البئر. ونحن نسمع من شفتي المسيح نفسه أكثر ما يريده الله من مخلوقاته: فالآب يطلب عابدين. يريد أشخاصاً يعبدونه بالروح والحق.
يظهر أنه كانت لدى السامريين درجة معيّنة من الحماسة والتكريس في عبادتهم على جبل جرزيم – لكن يسوع قال إنهم كانوا يعبدون ما لا يعرفون (الآية ٢٢). أمّا اليهود، فكانوا يعبدون وفق حق الله المعلن (يقول يسوع في الآية ٢٢ إن “الْخَلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ”)، لكن عبادتهم صارت في معظمها طقساً بارداً دون حياة. يقول يسوع للمرأة السامرية إنه “تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ” (الآية ٢١). ولكن “وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ” (الآية ٢٣). لن تعود العبادة الحقيقية مرتبطة بمكان معين، وإنما بموقف القلب وفهم الحق. ويجب أن يكون كلا هذين الجانبين حاضراً لكي تحدث العبادة الحقيقة. إذ يقول يسوع: “الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا” (الآية ٢٤). يتوجب أن تكون العبادة أصيلة ومن القلب (العبادة بالروح)، ويجب أن تكون منسجمة مع إعلان الله الذاتي النهائي وإعطائه لنا ذاته في المسيح يسوع (العبادة بالحق). هذه هي العبادة التي يطلبها الآب. وكما رأينا في الإصحاح الأول من الرسالة إلى رومية، فإن هؤلاء سيكون أولئك الذين تشرّبوا نعمة الله بعمق ويتجاوبون بقلوب ممتنّة بتعظيم اسمه ومجده.
لا يتحدث الكتاب المقدس في أي موضوع آخر عن طلب الله أي شيء من الإنسان. فهو يطلب عابدين. هذه فكرة مذهلة! ففي تنازل الله المجيد، صنعنا وسعى إلينا وافتدانا لكي نمجّده ونتلذذ به إلى الأبد – في العبادة.
هذه هي عبادة الساعين الحقيقيين، إذا صح هذا التعبير. فالآب يطلب عابدين، أشخاصاً مستعدين أن يعبدوه بالروح والحق. وكل عبادة هي استجابة لمبادرته المتسمة بالنعمة. هذه نقطة مهمة جدّاً: فالعبادة هي هبتنا لله – وهي الشيء الوحيد الذي يطلبه من أولئك الذين أعطاهم كل شيء. لكن يتوجب علينا أن ندرك دائماً أن فكرة العبادة، والميل إلى العبادة، والقدرة على العبادة لا تأتي إلى نتيجة لهبة الله لنا، ألا وهي مبادرته الخلاصية في حياتنا وعمل الروح المقدِّس في إعطائنا القوة على العبادة.
وهكذا نرى في الإصحاح الأول الاستجابة الملائمة للبشر المفتدين والمجدَّدين لعظمة الله ومجده، وبإكرامه وإعطاء الشكر له، بصفته الخالق.
وفي الإصحاح الخامس من سفر الرؤيا نرى الله في مجده بصفته نقطة التركيز المركزية لكل النظام المخلوق. ونحن نرى العبادة بصفتها المشغولية الملائمة لكل مواطني السماء.
ونرى في الإصحاح الرابع من الإنجيل حسب يوحنا ما يطلبه الله منّا نحن الذين خلقنا: عبادتنا.
إن الغاية العظمى لله هي تمجيده – أن يبيّن ويُتظهر كمالاته ومجده. والغاية العظمى للإنسان هي أيضاً تمجيد الله، من خلال العبادة. فالعبادة هي أسمى هدف وأزمع جهد بشري. فقد خُلق من أجل هذا القصد قبل أي شيء آخر.
الغاية العظمى للكنيسة:
هذا مشهد أخّاذ تضعه كلمة الله أمامنا. لكن علينا أن نأخذ نفساً عميقاً ونمضي للحديث عن الكنيسة.
فليست الغاية العظمى لله فقط هي تمجيده، وليست الغاية العظمى للإنسان فقط هي أن يمجدَ الله في العبادة – لكن الغاية العظمى للكنيسة أيضاً هي تمجيد الله من خلال العبادة.
المأمورية العظمى:
ترى كنائس كثيرة أن إرسالية الكنيسة موجودة في المأمورية العظمى، كما تسمَّى كلمات يسوع لتلاميذه كما هي مسجلة في متى ٢٨: ١٩-٢٠، حيث يقول، “فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ.” يرى مثل هذه الكنائس بحق أن المأمورية لا تشمل عمل تبشير الهالكين فحسب، لكن أيضاً تلمذة المؤمنين وتعليمهم أن يطيعوا وصايا المسيح. وينعكس هذا الفهم لقصد الكنيسة النهائي وسبب وجودِها في كثير من العبارات المتضمّنة في البيانات التي تعبّر عن فلسفة هذه الكنائس في الإرساليات. ومن هذه العبارات:
١- “إرساليتنا هي أن نقدّم لله فرحاً عظيماً بمشاركتنا محبته مع آخرين كما رأيناها في يسوع المسيح.”
٢- “إرساليتنا هي تطوير أتباع مكرسين بشكل كامل ليسوع المسيح.”
٣- نحن موجودون لكي نمجّد الرب الإله من خلال الوسائل التي رسّخها في كلمة: الكرازة (تعريف الناس بيسوع) والبناء (بناء المؤمنين إلى درجة النضج في يسوع المسيح.”
٤- “من أجل مجد الله، تكرس [الكنيسة] نفسها لتطوير تلاميذ في منطقتنا وعبر أنحاء العالم لكي يكون للمسيح مكانة الأولوية في كل شيء.”
٥- “المجد لله: أن نربح ونُعد تلاميذ للرب يسوع المسيح من خلال خدمة مُحِبّة متمحورة على الكتاب المقدّس في الوطن وفي خارج البلاد.”
يعبّر عدد من هذه العبارات فعلاً عن الرغبة في قيام الكنائس المعنية بكل ما تقوم به من أجل مجد الله. لكنها تقصر الوسائل لتحقيق هذا الأمر على الكرازة والبناء، وهما بطبيعتهما يركّزان على الإنسان. فهل تبشير العالم وبناء القديسين التعبيران النهائيان عن مقاصد الله في خلقنا وتخليصنا ودعوتنا إلى خدمته؟ هل تضم المأمورية العظمى كل ما يجب أن ننشغل به بصفتنا جسد المسيح أو جماعة المؤمنين؟ لا شك أن الجواب هو النفي في ضوء بعض الأفكار التي تناولنا.
الوصية العظمى:
وتأتي الوصية العظمى على شفتي يسوع المسيح. وهو يقول في المأمورية العظمى إن علينا أن نتعلم أن نطيع كل ما أمر به. ويوضح في موضع آخر بشكل جلّي ما هي أهم الوصايا. وهي تذكّرنا بأمور سبق أن تطرّقنا إليها:
فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَسَمِعَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ حَسَنًا، سَأَلَهُ: «أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ الْكُلِّ؟» فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى. (مرقس ١٢: ٢٨-٣٠)
تخبرنا الوصية العظمى أن علينا فوق كل شيء آخر أن نحب الله بكل كياننا. فليست مسؤوليتنا الرئيسية الخدمة أو حتى الطاعة. إذ يجب أن نكون أولاً وقبل كل شيء عُشّاقاً لله، أشخاصاً يمجدونه ويتمتعون به إلى الأبد ويعبّرون عن تلك المحبة من خلال حياة عبادة وأسلوب حياة عبادة. والصلة واضحة. فإن كان الله قد خلقنا لكي نعبده ونمجّده، وإن كان الشيء الرئيسي الذي يطلبه منا هو محبتنا، فإنه يتوجب علينا أن نتحدث عن نفس جوهر هذا الأمر. فالعبادة إذاً هي أن نحب الله بكل كياننا وأن نُعِز مجده.
يطلب الله في المقام الأول عابدين، لا مبشرين، أو متلمذين، أو مرسلين. يطلب عشّاقاً لله يبنون كل وجودهم على تمجيده في كل ما يفعلونه.
العلاقة بين الوصية العظمى والمأمورية العظمى:
لاحظ التركيز العمودي البحت للوصية العظمى: “تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ.” ولا تقول أظهر تكريسك لله بأن تفعل هذا الأمر أو ذاك. تتحدث الوصية العظمى عن العبادة من حيث إنها عمودية بشكل بحت في تركيزها. ويعكس تمركزها حول الله ما سبق أن رأيناه من أن كل ما نفعله يجب أن يشير إلى الله ومجده.
أمّا المأمورية العظمى، فتتضمّن وفق تعريفها أنشطة تأخذ طابعاً أكثر أفقيّةً وتركيزاً على الإنسان في طبيعتها (أي الكرازة والتلمذة). وحقيقة الأمر هي أن المأمورية العظمى تنبع من أساس الوصية العظمى والوصية العظمى الثانية وترتكز عليهما. ويشرح يسوع الوصية العظمى الثانية في مرقس ١٢: “تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ” (العدد ٣١).
تنبع المأمورية العظمى من تفاعل الوصيتين العظيمين: أن نحب الله وأن نحب قريبنا. فإن كنا نحب الله حقّاً، فسنُتْبِع محبتنا لله بمحبة القريب، وهو الأمر الذي يأمرنا به ويعطينا القدرة التي تمكننا من القيام به. وأعظم محبة يمكننا أن نقدمها لقريبنا هي أن نساعده في أن يصبح محبّاً وعاشقاً لله.
ونحن نجد حتى في الإصحاح الثامن والعشرين من متى الذي يتناول مسألة المأمورية العظمى أن العبادة تكمن وراءها فنحن نقرأ في الآيات ١٦-١٧: “وَأَمَّا الأَحَدَ عَشَرَ تِلْمِيذًا فَانْطَلَقُوا إِلَى الْجَلِيلِ إِلَى الْجَبَلِ، حَيْثُ أَمَرَهُمْ يَسُوعُ. وَلَمَّا رَأَوْهُ سَجَدُوا لَهُ، (عبدوه).” ثم تبدأ المأمورية العظمى نفسها بنقطة تركيز عمودية: “فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلاً: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ” (متى ٢٨: ١٨-١٩).
نرى أن سياق المأمورية العظمى هو العبادة (٢٨: ١٦)، وأساسها هو سلطة يسوع المسيح (٢٨: ١٨). يجب أن تنبع محاولاتنا للوصول إلى الآخرين بالبشارة وتلمذتهم من تقديرنا لمجد الله ومن قلب مليء بالعبادة، وإلا “فإنك لن تمتدح ما لا تعزّه” كما يقول بايبر.[9] وينبغي أن يؤدّي إيصالنا للبشارة إلى الآخرين وتلمذتهم في نهاية الأمر إلى مزيد من العبادة التي تقدم من أجل مسرة الله الخاصّة. (وينبغي أن يقال أيضاً إن الكنيسة التي تعبد الله حقاً ستحاول إيصال البشارة إلى الآخرين – لأنه إذا لم ينمُ شعبها بحيث يكون لهم نفس قلب الله تجاه الهالكين، فربما يكون لدينا سبب مشروع للشك في مدى اقترابهم إلى الله بالعبادة!)
توكيد وتوازن ملائمان:
مع أن العبارات التي اقتبست سابقاً من بيانات للكنائس حول فلسفتها في الإرساليات قوية فيما يتعلق بالمأمورية العظمى وتبدي اهتماماً بحق بمجد الله، إلاّ أنها ناقصة كثيراً فيما يتعلق بالعبادة بصفتها نقطة التركيز الرئيسية والنهائية للكنيسة. وفيما يلي بعض العبارات التي تقترب أكثر من إعطاء العبادة مكانتها اللائقة:
١- “كتعبير عن جسد المسيح الشمولي، نحن نرغب في أن نعبد الله بشكل جماعي بكل كياننا بعبادة الله ومحبة الآخرين من خلال خدمة ذات صلة محليّاً وحول العالم في نفس الوقت.”
٢- “نحن موجودون بقصد تعظيم يسوع المسيح من خلال العبادة والكلمة وجعل يسوع معروفاً لأقربائنا وللأمم، ودفع المؤمنين بالمسيح نحو النضج والخدمة.”
٣- “تنبع أولويات خدمة هذه الكنيسة من رؤية مجد الله المعلنة في يسوع المسيح. ونحن موجودون لكي نتذوق نكهة هذه الرؤية في عبادتنا (يوحنا ٤: ٢٣)، ونقوّي الرؤية في التغذية الروحية أو البنيان والتعليم (١ كورنثوس ١٤: ٢٦؛ ٢ بطرس ٣: ١٨) ونشر الرؤية في الكرازة والإرساليات والأعمال النابعة من المحبة (١ بطرس ٢: ٩؛ ٣: ١٥؛ ٥: ١٦؛ متى ٢٨: ١٨-٢٠).”
٤- “إرسالية كنيستنا هي أن نمجّد الله من خلال العبادة الفرِحة، وأن نُظهر محبة الله لكل الناس، وأن نقودهم إلى الإيمان بيسوع المسيح، وأن نجعل منهم تلاميذ له، وأن ندعوهم إلى خدمته.”
تضع هذه العبارات العبادة في مكانها الملائم، لأنها تضعها أولاً. وأعتقد أن الله بهذا يتمجّد ويُكرَّم لأن من الواضح أننا نضع العبادة أولاً، وبالتالي فإننا نضع الله نفسه أولاً.
تطبيقات لخدمة الكنيسة:
فما الذي يعنيه هذا المنظور لخدمة الكنيسة إذاً؟ وكيف تنسجم هذه الأمور كلها معاً؟
العبادة غاية في حد ذاتها:
نقتبس مرة أخرى ما قاله بايبر: “من بين كل أنشطة الكنيسة، يوجد نشاط واحد هو غاية في حد ذاته، ألا وهو العبادة.”[10] وكما سبق أن رأينا، لا يوجد نشاط أسمى للكائنات المخلوقة من العبادة. وليست العبادة وسيلة لأي شخص آخر. ونحن لا نعبد في الكنيسة لكي نزيد أعدادنا، أو لكي نجعل نظرة الأعضاء إلى أنفسهم تتحسن، أو حتى لكي نعلّم المؤمنين أو لكي نكرز للهالكين. لا يأتي أي من هذه الأسباب في المقام الرئيسي. فنحن نعبد لكي نُعز مجد الله ونتذوّقه، وعندما نفعل هذا، نكون قد وصلنا إلى القصد من وجودنا.
وإن كانت العبادة أسمى هدف، عندئذ يفترض أن تكون الأنشطة المسيحية الأخرى وسائل لذلك الهدف الذي يضمّ كل شيء آخر. وفي واقع الأمر يتوجب أن يكون هذا هو هدف الأنشطة الأخرى إذا أردنا أن نكرم الله ونكون منسجمين مع مقاصده.
وسائل للغاية:
فكما يقول بايبر: “الإرساليات موجودة لأن العبادة غير موجودة.”
وليس هذا فقط: فمدارس الأحد موجودة لأن العبادة غير موجودة بأكبر مدى ممكن.
واجتماعات الشبيبة موجودة لأن العبادة غير موجودة.
وفِرق الكرازة موجودة لأن العبادة غير موجودة.
والمجموعات الصغيرة موجودة لأن العبادة غير موجودة.
وبرامج التلمذة موجودة لأن العبادة غير موجودة.
والوعظ موجود لأن العبادة غير موجودة.
إن الهدف النهائي لكل هذه الأنشطة هي أن نبني عابدين أكثر وأفضل لمجد الله! فهدف الكرازة هو ربح المزيد من العابدين. وهدف أنشطة البناء هو أن نبني عابدين أفضل.
والعبادة وحدها هي وحدها عمودية في تركيزها. أمّا كل هذه الخدمات الأخرى فتركز على الناس. لكن هدفنا في العمل مع الناس هو أن نوجّههم نحو الله، نحو العبادة! كل الطرق تؤدّي إلى العبادة.
لكني أؤكد مرة أخرى أن هذا ليس مناداة بتفوُّق متأصل لدائرة العبادة في الكنيسة على غيرها من الدوائر. فعلى النقيض من ذلك، يعني هذا أن على كل راعٍ أن يجعل من العبادة هدف خدمته! وربما ينبغي أن يُطلق على راعي العبادة والموسيقى شيئاً شبيهاً “براعي التسبيح الجماعي” لئلاّ تخلط الأمور بعضها ببعض. فليس هدف هذا الشخص وحده هو عبادة شعب الله، لكنه أيضاً هدف كل عضو في هيئة العاملين في الكنيسة. ولراعي الأطفال ولراعي الشبيبة خدمة تطوير الشباب إلى عابدين. ويجب أن يسعى رعاة خدمات البالغين إلى تعليم الكبار أن يثمّنوا ويُعِزّوا الله ومجده فوق كل شيء، وأن يرغبوا في عبادته أكثر من أي نشاط آخر. وللرعاة المسؤولين عن الإرساليات والكرازة خدمة السعي إلى مضاعفة عابدي الله. أمّا رعاة الوعظ فلديهم مسؤولية إظهار معزتهم وتقديرهم لمجد الله بشكل جهاري والإسهاب في الحديث عنه، ودعوة الآخرين إلى المشاركة في العبادة القلبية التي تتخلّل الحياة كلها.
ينبغي أن يكون لكل راعٍ، وكل عضو في هيئة العاملين، ولكل من هو في الخدمة، قصد عمودي أبعد لخدمته، قصد لأن يسعى إلى أن يعكس ويبيّن ويُظهر مجد الله في حياة الشعب، قصد لأن يبني في حياة الآخرين (ويكون لهم أيضاً قصد أن يبنوا في حياتهم الخاصة) انشغالاً بالله، وهياماً به بكل نفوسهم وفكرهم وقوّتهم، وإعزازاً له ولمجده في حياة عبادتهم.
ينبغي أن يكون هذا النوع من القصد واعياً وصريحاً لكل من هو مشترك بالخدمة بغض النظر عمّا يمكن أن تبدو عليه تلك الخدمة في تفاصيلها. إذ يتوجب أن يكون لكل الخدمات، بالإضافة إلى كل الحياة، كما سبق أن رأينا، ذلك القصد المهيمن الواحد إذا أردنا أن نكون كما خلقنا الله وافتدانا لكي نكونه.
والخدمة هي عمل السعي إلى بناء عابدين أكثر وأفضل لله، بقوة الروح القدس.
تطبيقات عملية:
بعد أن سعينا إلى استيعاب شيء من الآفاق الأوسع في العبادة كما هي مرتبطة بمجد الله، دعونا نفكر ببعض التطبيقات العملية.
إعادة ترتيب الأولويات:
يرتبط التطبيق الأول بتفاهة الشجارات التي ندخلها حول أمور الذوق والأسلوب في العبادة. وإن ما يسمَّى “بحروب العبادة” هي فضيحة لجسد المسيح ومهزلة!
إن كان الله يبحث أولاً وقبل كل شيء عن وجوه ملتفتة إلى السماء نحوه في تمجيد وعبادة، فلا بد أن يحزن كثيراً عندما يرانا بدلاً من ذلك يتحدّى بعضنا بعضاً في عصبيتنا وجهلنا وانتماءاتنا الإقليمية وضيق فكرنا. فنحن نقر بأن العبادة هي بشكل أساسي لله، لكننا بعد هذا نفترض أن ذوقنا الخاص في الموسيقى هو الذي ينسجم تماماً مع ذوق الله في الموسيقى!
إن وحدة جسد المسيح أمر ثمين جداً (انظر أقسس ٤: ١-٦). غير أن قضيتي العبادة والموسيقى المستخدمة فيها تسبّبان انقساماً أكبر في جسد المسيح أكثر من أي شيء آخر! فإذا كان هنالك أي مجال يجب علينا فيه أن نحيا وحده حاجات الجسد في حياة الرعية المحلية، فإنه في العبادة الجماعية. فكيف يتعزز مجد الله في وجود عدم الانسجام بين أبنائه؟ كيف يمكننا أن نُحضر ذبيحة تسبيح لله وأيادينا منجّّسة بالطعن البذيء؟ وكيف نستطيع أن نحبه من كل القلب والنفس والفكر والقوة، وما زال حالنا مثل حال مرثا التي كانت منشغلة بأمور كثيرة بسيطة؟
إن كانت العبادة هي دعوتنا العليا واستجابتنا النهائية أو الأسمى لعمل الله في حياتنا، عندئذ يجب لأن تسمو كل اعتباراتنا الأرضية والبشرية ونحن “مستغرقون في العجيب والمحبة والتسبيح”، على حد تعبير تشارلز ويسلي. أمّا الأمور التافهة التي نصرف فيها قدراً هائلاً من طاقاتنا، فيفترض أن تبهت في أهميتها ونحن نستدفئ في بهاء الله وجماله.
يتوجب علينا أن نطلب الرب بجد في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء لكي نرى قوّته ومجده (مزمور ٦٣: ١-٢). ويتوجب علينا أيضاً أن ندعو جماعتنا إلى الانضمام إلينا في هذه الرحلة، أن يعطشوا ويتوقوا له أيضاً، وأن يشربوا بعمق من مجده ويرتووا. ولا يمكن إلاّ لرؤية أعظم عن الله أن تخلّصنا من قِصر نظرنا وتوقف “حروب العبادة” لتختفي إلى الأبد.
النمو كعابدين:
العبادة شرط مسبق للإرساليات ووقود لها، حسب ما يرى بايبر. وهو يقول إن السبب في ذلك هو “أنك لا تستطيع أن تمتدح ما لا تُعِزه.”[11] فإذا أردنا أن ننشغل بعمل الخدمة، الذي هو بناء عابدين أكثر وأفضل من أجل مجد المسيح، يتوجب علينا بطبيعة الحال أن نكون نحن أنفسنا أشخاصاً عابدين.
وإذا كان لرعايا الكنائس أن تجتمع معاً لقضاء أوقات عبادة جماعية ذات معنى، يجب أن يصبح رعايا كنيستنا أولاً هم أنفسهم عابدين ويجتمعون معاً في أيام الأحد بعد أسبوع من العبادة والسير مع الله – وهذا أمر ينبع بدوره من قلب يطلب الله بهذه الطريقة. كتب سي. أس. لويس عن شدة الرغبة في الله، أو حتى عن اشتهاء الله الذي يجده المرء في المزامير. تحدّث داود والمرنمون الآخرون عن تعطُّشهم لله، وجوعهم له، وتوقهم له، فقد قالوا أشياء مثل: “لأَنَّ يَوْمًا وَاحِدًا فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ (خارجها)” (مزمور ٨٤: ١٠). وقالوا أيضاً: “مَنْ لِي فِي السَّمَاءِ؟ (سواك)؟” (مزمور ٧٣: ٢٥) ينبغي علينا أن ننمّي هذا النوع من الشهوة لله وأن نطلب إلى الله أن يعطينا إياه.
ما أسهل أن نسمح لمشغوليتنا بخدمة الله بأن تحل محل سيرنا الحميم معه، ثم نقوم بحركات جهارية غير نابعة من مورد قوة داخلي. وكما عبّر إريك ألكزاندر عن هذه الفكرة: “إنها لعلامة على العقم الروحي في الكنيسة عندما يأتي المؤمنون بالمسيح إلى الكنيسة لكي يؤدّوا واجباً بدلاً من أن يشبعوا شهية.”[12]
يعلّم العهد الجديد أن الحياة بأكملها ينبغي أن تكون استجابة عبادة لله. كتب بولس في رومية ١٢: ١:
“فَأَطْلُب إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ (أو بمراحم الله التي تحدث عنها في الإصحاحات السابقة من ١-١١ والتي تتضمن حقائق عن الخلاص] أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ (أو خدمة عبادتكم الروحية).”
إن استجابتنا لتلقّي “مراحم الله” و “غنى نعمته” (أفسس ١: ٧) هو أن نقدم أنفسنا باستمرار له كعمل محبة وعبادة. فلا بدّ أن تكون النفس التي ذاقت الرب ورأت صلاحه، وتعلّمتْ أن تُعِز مجده، مستعدة نفسها إليه بهذه الطريقة.
العبادة معاً:
تتحدث إحدى قصص الأطفال، وهي بعنوان “حساء حجري”[13] عن ثلاثة جنود عائدين من الحرب. يقترب هؤلاء الجنود من قرية، لكن عندما رآهم أهل القرية، سارعوا إلى إخفاء كل طعامهم، لأن لديهم نقصاً في الطعام ولا يريدون أن يشاركوا غرباء طعامهم. فقالوا للجنود إنه ليس لديهم طعام يقدّمونه لهم.
كان الجنود أشخاصاً أذكياء، فقالوا لأهل القرية إنهم سيصنعون بعض حساء حجرياً، وطلبوا وعاء كبيراً مملوءاً بالماء. واختاروا حجارة كبيرة ووضعوها داخل الوعاء، بينما كان القرويّون الفضوليون ينظرون. ثمّ قال الجنود: “نتوقع أن يكون هذا الحساء ممتازاً، لكن لو كان لدينا حبتان من البطاطا، فسيكون الحساء أفضل. فقالت إحدى القرويات، “أعتقد أن لديّ عدداً من حبات البطاطا يمكنني الاستغناء عنه.” ثم مضت وأحضرت بعضاً منها. فوضعها الجنود في الوعاء وذاقوا الحساء، ثم قالوا: “رائع! لكن آه لو أن لدينا بعض حبات الجزر…” فركضت قروية أخرى وأحضرت بعض الجزر. وحدث نفس الأمر فيما يتعلق بالبصل والملفوف وما إلى ذلك، إلى أن أعدّوا حساء طيباً. ودعا الجنود القرويون إلى الانضمام إليهم في وليمتهم، فذهل القرويون من مثل هذا الحساء الذي يمكن أن يصنع بحجارة فقط!
وفي عبادتنا الجماعية، تكون طقوسنا وترانيمنا وموسيقانا وحتى عظاتنا مثل تلك الحجارة. فهي ليست شيئاً ذا بال مما يمكن أن يثير إعجاب الله: فهي مجرد إطار، مجرد هيكل عظمي.
وما يجعل العبادة متميزة، وما يجعلها عبادة في المقام الأول، هو عندما يأتي الأعضاء ليضيف كل واحد منهم مما خزنه في قلبه أثناء أسبوع من العبادة والمسير مع الله، أسبوع من محبته لله وإعزاز مجده وتذوُّقه – عندئذ نكون مستعدّين لأن نعبد الله معاً. وعندما يكون التمجيد الجماعي هو تدفُّق قلوب كثيرة تبتهج بصلاح الرب وعظمته، يمكن أن يشحنها الروح عندئذ ويحوّلها إلى شيء هو أكثر بكثير من مجرد مجموع أجزاء. عند ذلك يمكن أن تكون عبادتنا ضمن كنيستنا وليمة مغذية لشعب الله تمدّهم بالحيوية والنشاط، وتصبح أيضاً – وهذا أمر أكثر أهمية – رائحة زكية لإله المجد الذي يتلذذ بعبادة شعبه له.
[1] John Piper, Let the Nations Be Glad (Grand Rapids: Baker Book House, 1993), 11.
[2] المرجع السابق.
[3] المرجع السابق، الصفحة 15.
[4] Piper, Let the Nations Be Glad, 16.
[5] يقتبس بايبر معظم هذه الشواهد، المرجع السابق، 17-21.
[6] المرجع السابق، الصفحة 22.
[7] المرجع السابق، 22-23
[8] المرجع السابق، الصفحة 160.
[9] المرجع السابق، الصفحة 11.
[10] مأخوذ من نص عظة بعنوان “العبادة غاية في حد ذاتها”.
[11] Let the Nations Be Glad, 11
[12] من عظة مسجلة على شريط كاسيت حول المزمور 63 بعنوان “العطش لله”
(Philadelphia Conference on Reformed Theology, 1994).
[13] Maria Brown, Stone Soup (New York: Charles Scribner’s Son’s, 1947).