لماذا ندرس لاهوت أسفار العهد الجديد؟

YouTube player

 


المقدمة


 لو حدث يومًا أنك درست بتعمقٍ عملاً فنيّاً، أو قطعة أدبيّة، أو مسرحية، أو فيلمًا، فلا شك أنك تعرف أنه يوجد فرق كبير بين الاستمتاع بالشيء بصورة عابرة، وبين التحليل الدقيق له. فالتحليل المفصّل عمل يستهلك الكثير من الوقت، ويختلف تمامًا عن القيام بالأعمال العابرة التي تصادفنا بين حين وأخر. لكن في نهاية المطاف ندرك أنه لا شيء يُضاهي المعرفة الغنية التي تأتي من تحليل دقيق لموضوع ندرسه أو قطعة أدبية نحللها.

من عدة نواح، يشبه هذا الأَمر ما يختبره أتباع المسيح في كثير من الأحيان عندما يطالعون أسفار العهد الجديد. فنحن نختبر متعة قراءة هذه النصوص الكتابية بين الحين والآخر. لكن الأفكار العميقة التي نكتسبها من دراسة دقيقة للعهد الجديد ولاهوته يمكن حقاً أن تكون مصدر رضى وسرور غامر.

هذا هو الدرس الأول في سلسلتنا الملكوت والعهد في أسفار العهد الجديد. سنتبع في هذه السلسلة تعريفًا تقليديًا للاهوت وسنتحدّث عن لاهوت أسفار العهد الجديد باعتباره كل ما يعلّمه العهد الجديد عن الله نفسه وغيره من الموضوعات المتعلقة بالله. وقد وضعنا عنوانًا لهذا الدرس هو “لماذا ندرس لاهوت أسفار العهد الجديد؟” نتعلم في هذا الدرس أهمية أن نتجاوز المعرفة السطحيّة للعهد الجديد، ونكرّس نفوسنا لدراسة دقيقة متعمّقة للاهوت العهد الجديد.

في رسالة تيموثاوس الثانية 2: 15، يشير الرسول بولس إلى حقيقة أن فهم لاهوت أسفار العهد الجديد يتطلب عملاً شاقًا. أصغِ إلى ما يقوله بولس لتيموثاوس:

اجْتَهِدْ أَنْ تُقِيمَ نَفْسَكَ ِللهِ مُزَكُى، عَامِلاً لاَ يُخْزَى، مُفَصِّلاً كَلِمَةَ الْحَقِّ بِالاسْتِقَامَةِ. (2 تيموثاوس 2: 15)

بالطبع، هناك نواحٍ عديدة في لاهوت العهد الجديد بسيطة تمامًا. لكن بولس يلمّح هنا إلى أن فهم الكتاب المقدس ليس دائمًا سهلاً. كان على تيموثاوس أن يكون “عَامِلاً … مُفَصِّلاً كَلِمَةَ الْحَقِّ بِالاسْتِقَامَةِ”. والكلمة اليونانية المترجمة “عاملاً” هي “إرجاتيس” (ἐργάτης)، وهو مصطلح يشير غالبًا إلى العمل البدني. وقد أراد بولس من خلال هذه الاستعارة أن يبيّن أن لاهوت العهد الجديد يتطلب الاجتهاد في العمل. لكن إن كانت دراسة لاهوت العهد الجديد صعبة إلى هذا الحد، فلماذا علينا القيام بها؟

من الملفت للنظر، أن يعلن بولس في رسالته إلى تيموثاوس بكلمات قليلة أن أسفار الكتاب المقدس أُوحي بها من روح الله – فهي نَفَس الله الخارج من فمه– لكن بعد بضعة جمل يقول بولس لتيموثاوس، اجْتَهِدْ في درس الكلمة لتبرهن أنك حقًا مقبول كعامل جدير في حقل الله، إذ تقوم بدرس وتفصيل كَلِمَة الْحَقِّ بِالاسْتِقَامَةِ. ويعلن الكتاب المقدس علاقة العهد مع الله، ففيه تظهر مبادرة الله الكريمة للتواصل معنا. وهنا تبرز مسؤوليتنا باستجابتنا له من خلال كلمته. ولما كان الله قد أعطانا كلمته بلغة يمكننا أن نفهمها – مكيّفًا نفسه ليتحدث إلينا من خلال كُتّاب بشريين، مستخدمًا نوع الأدب واللغة والصِيَغ الأدبية التي كانت مألوفة عند الناس وفي بلدان تلك الأيام – ونحن يجب أن نبذل جهدنا في تعلُم لغات الكتاب المقدس، وفهم النوع الأدبي للكتابة، وكيف تلعب القصة التاريخية دورًا مختلفًا عن الشعر أو عن الرسائل الشخصية، لأن هذه الأنواع الأدبية مستخدمة كلها في الكتاب المقدس. كما يجب أن نقرأ الكتاب المقدس في سياقه التاريخي، ونفهم كيف استخدم كُتّاب العهد الجديد العهد القديم بطرق مختلفة كانت شائعة في زمنهم، وكيف طبّقت نصوص سابقة على ظروف معَيّنَة. يقول بولس لتيموثاوس أن الكتاب المقدس موحى به من الله بالروح القدس، ولكن يجب على تيموثاوس– ويجب علينا أيضًا مثله-أن نجتهد وندرس لنبرهن أننا دارسون جديرون لدى الله، وأننا نفسّر كلمة الحق بالاستقامة.

سوف نستعرض “لماذا ندرس لاهوت أسفار العهد الجديد؟” بطريقتَين. أولاً، سنقوم بدراسة أهمية فهم وحي وسلطان العهد الجديد. وثانيًا سوف ننظر إلى التحدي المتمثل في التعامل مع الاستمراريّة وعدم الاستمراريّة بين أزمنة العهد الجديد وزمننا. لننظر عن قرب إلى هاتَين المسألتَين بدءًا بوحي وسلطان العهد الجديد.

 


الوحي والسلطان


لكي نفحص وحي وسلطان العهد الجديد، نركّز على شهادات الكتاب المقدس لوحي العهد الجديد، وكذلك لسلطانه. ثم نقدّم بعض التوضيحات لما نعنيه “بالوحي” “والسلطان”. لنبدأ بـشهادات الكتاب المقدس لهاتَين العقيدتَين المسيحيتَين الجوهريتَين: الوحي والسلطان.

 

الشهادات


 عندما يـتأمل أتباع المسيح بوحي العهد الجديد وسلطانه، يستشهدون في كل مرة تقريبًا بتيموثاوس الثانية 3: 16 حيث يكتب الرسول بولس:

كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ. (2 تيموثاوس 3: 16)

هنا نجد أن بولس يشير إلى وحي الكتاب المقدس عندما يقول: “كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ”، أو كما يمكن ترجمة الكلمة اليونانية “ثيوﭘنوستوس” (θεόπνευστος) “خارج من نفَس الله”. كذلك أشار بولس إلى سلطان الكتاب المقدس عندما يقول إنه “نَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ”. وهذا المقطع مهم جدًا ويساعدنا أن نفهم ما يؤمن به أتباع المسيح من جهة العهد الجديد. لكن استمع الآن إلى رسالة تيموثاوس الثانية 3: 15، حيث يقول بولس لتيموثاوس:

وَأَنَّكَ مُنْذُ الطُّفُولِيَّةِ تَعْرِفُ الْكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ، الْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاَصِ، بِالإِيمَانِ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. (2 تيموثاوس 3: 15)

ولكي نكون مدقّقين في الكلام، فإن “الكتب المقدسة” التي يتحدّث عنها بولس هنا، وكان تيموثاوس قد عرفها منذ الطفولية، ليست أسفار العهد الجديد، بل أسفار العهد القديم. لماذا إذن يستشهد أتباع المسيح بكلمات بولس عن العهد القديم عندما يشيرون إلى العهد الجديد باعتبار أنه موحى به وذو سلطان؟

ننظر إلى ثلاث شهادات كتابية تساعدنا على فهم أن العهد الجديد موحى به وذو سلطان. أولاً، نفحص دعوة يسوع للتلاميذ الاثني عشر. وثانيًا، نستعرض الدور الأساسي للرسل والأنبياء. وثالثًا، نؤكّد وحي أسفار العهد الجديد نفسها وسلطانها. دعونا ننظر أولاً كيف أن دعوة يسوع للتلاميذ الاثني عشر تؤكّد على وحي العهد الجديد وسلطانه.

 

1. التلاميذ الاثني عشر

لما بدأ يسوع بتأسيس بقية جديدة من شعب الله لتتمّم مقاصد الله في إسرائيل، دعا إليه مجموعة خاصة من اثني عشر تلميذًا. وتُوضح الأناجيل أن يسوع أفرز هؤلاء التلاميذ عن الآخرين الذين تبعوه. وهذا التمييز جعلهم، باستثناء يهوذا، الأشخاص الذين أرسلهم لاحقًا إلى العالم كرسله ذوي السلطان. نقرأ في يوحنا 16: 13 كلام يسوع إلى تلاميذه الاثني عشر:

وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ. (يوحنا 16: 13)

يشير هذا المقطع إلى حاجة تلاميذ يسوع لأن يتعلموا الكثير. لذلك، سيأتي “روح الحق” و”يرشدهم إلى جميع الحق” حول “أمور آتية”. نرى هنا أن يسوع عيّن تلاميذه المختارين ليعلّموا بقيّة أتباعه بواسطة الروح القدس. وهذه المقاطع وغيرها تؤكد على إيماننا بوحي العهد الجديد.

أما الرسول بولس الذي كتب قسمًا كبيرًا من العهد الجديد، فلم يكن واحدًا من الاثني عشر. لكن الكتاب المقدس يوضح أن بولس كان رسولاً ذا سلطان، ويفي بالمتطلبات المعادلة لتلك التي وُضعت للاثني عشر في سفر أعمال الرسل 1: 21-22. وهذا أحد الأسباب وراء تدوين لوقا لقاء بولس بيسوع على طريق دمشق ثلاثة مرات: الأولى في أعمال الرسل 9: 1-19، ثم في 22: 6-11، ومرة أخرى في 26: 9-18. وتنقل إلينا رسالة غلاطية 1: 11-2: 10، أن بولس قضى ثلاث سنين مع المسيح في صحراء العربية. ويخبرنا هذا المقطع نفسه أن الرسل في أورشليم أقرّوا بسلطان بولس الرسولي.

ويخبرنا بولس في كورنثوس الأولى الفصل الخامس عشر والعددَين الثامن والتاسع أن يسوع ظهر لأكثر من خمسمئة مؤمن:

وَآخِرَ الْكُلِّ ­ -كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ- ­ظَهَرَ [يسوع] لِي أَنَا. لأَنِّي أَصْغَرُ الرُّسُلِ، أَنَا الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً لأَنْ أُدْعَى رَسُولاً، لأَنِّي اضْطَهَدْتُ كَنِيسَةَ اللهِ. (1 كورنثوس 15: 8-9)

كرسول، يدعو بولس نفسه هنا إنه “سقط” و”أَصْغَرُ الرُّسُلِ”. وهو الوحيد بين الرسل الذي كان له سلطان رسولي رغم أنه لم يرافق يسوع أثناء خدمته الأرضية. لكن بولس كان شاهدًا لقيامة يسوع وهذا ما أقرّ به الرسل الأولون في أورشليم.

فيما نفكّر بالشهادات التي تتعلق بدعوة يسوع التلاميذ الاثني عشر، يجب أن نشير إلى وحي رسل وأنبياء المسيح وسلطتهم التأسيسيّة في القرن الأول.

 

2. الرسل والأنبياء

استمع إلى الطريقة التي يشير بها بولس في أفسس 3: 4-5، إلى حقيقة أنه ليس وحده تسلّم إعلان الله الخاص، بل جميع رسل المسيح وأنبياؤه كذلك.

… دِرَايَتِي بِسِرِّ الْمَسِيحِ… كَمَا قَدْ أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ الْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِالرُّوحِ. (أفسس 3: 4-5)

هنا يشير بولس إلى تعاليم مسيحية مميّزة بقيت لغزًا أو “سرًا”، حتى “أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ الْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِالرُّوحِ”. فليس مفاجئًا إذن أن يشير بولس أيضًا في أفسس 2: 20-21 إلى رسل وأنبياء القرن الأول هكذا:

مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ، الَّذِي فِيهِ كُلُّ الْبِنَاءِ مُرَكَّبًا مَعًا، يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّسًا فِي الرَّبِّ. (أفسس 2: 20-21)

وكما يبيّن هذا المقطع، يبني الله الكنيسة “هَيْكَلاً مُقَدَّسًا فِي الرَّبِّ”، ويسوع المسيح نفسه هو “حَجَرُ الزَّاوِيَةِ”. لكن لاحظ أيضًا أن بولس يميّز “الرُّسُل وَالأَنْبِيَاءِ” كجزء من “أساس” الكنيسة. وهذا يشير إلى أن الله أسّس كنيسة المسيح على تعاليم الرسل والأنبياء ذات السلطان. وكما رأينا في عدد سابق، كان لتعاليم الرسل والأنبياء سلطان لأنها موحى بها من الروح القدس.

بالإضافة إلى شهادات تلاميذ يسوع الاثني عشر، والسلطان التأسيسي لرسل المسيح وأنبيائه، يجب أن نلاحظ أن الرسل أنفسهم يعتبرون كتب العهد الجديد مساوية لكتب العهد القديم. ويظهر هذا الرأي في عدد من الأماكن في العهد الجديد، لكننا سنقدم مثلَين فقط.

 

3. أسفار العهد الجديد

المثل الأول: في 1 تيموثاوس 5: 18، يكتب بولس:

لأَنَّ الْكِتَابَ يَقُولُ: “لاَ تَكُمَّ ثَوْرًا دَارِسًا”، “وَالْفَاعِلُ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ”. (1 تيموثاوس 5: 18)

قد يبدو هذا العدد في البداية غريبًا بالنسبة إلينا، لكنه مهم لبحثنا لأن بولس يستهله بقوله “لأن الكتاب يقول”. بعد ذلك يقتبس من مقطعَين مختلفَين. الاقتباس الأول “لاَ تَكُمَّ ثَوْرًا دَارِسًا”، وهو من التثنية 25: 4 في العهد القديم. أما الاقتباس الثاني “الْفَاعِلُ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ”، فهو من لوقا 10: 7 في العهد الجديد. وهذا الترابط بين سلطان العهد القديم وسلطان العهد الجديد يبيّن أن الرسول بولس يعتبر كتابات رسل المسيح وأنبيائه مساوية لكتابات العهد القديم. ونرى شيئًا مماثلاً في رسالة بطرس الثانية 3: 15-16 حيث يعلن الرسول بطرس:

… كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ أَخُونَا الْحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضًا بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَهُ، كَمَا فِي الرَّسَائِلِ كُلِّهَا أَيْضًا… الَّتِي فِيهَا أَشْيَاءُ عَسِرَةُ الْفَهْمِ، يُحَرِّفُهَا غَيْرُ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ الثَّابِتِينَ، كَبَاقِي الْكُتُبِ أَيْضًا. (2 بطرس 3: 15-16)

يقرّ بطرس في هذا المقطع بأن بولس يكتب “بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَهُ (من قِبَل الله)”. وهذا يبيّن أن كُتب بولس تحمل سلطان الله نفسه. لكن لاحظ أيضًا كيف يُشير بطرس إلى أن أعداء الإيمان المسيحي قد حرّفوا رسائل بولس “كَبَاقِي الْكُتُبِ أَيْضًا”. وفي القرينة الأوسع لرسائل بطرس “باقي الكتب” هي كتب العهد القديم. فهنا نرى بطرس يتعامل مع كتابات العهد الجديد ككتب لها نفس الوحي والسلطان اللذيْن للعهد القديم.

ويقرّ الكتاب المقدس بأن العهد الجديد هو كلمة الله الموحى بها ذات السلطان إلى كنيسته. وقد وعد يسوع نفسه بأن الروح القدس سيعلّم رسله، وقد ثبّت رسله وأنبياءه كالسلطة التأسيسية لكنيسته. علاوة على ذلك، كما استلم شعب الله كتب العهد القديم ككتب موحى بها، وككلمة الله ذات السلطان، هكذا أيضًا دُعيت الكنيسة لتستلم كتابات رسل المسيح والأنبياء ككتابات موحى بها وذات سلطان.

بعد أن رأينا كيف أن إيماننا بوحي وسلطان العهد الجديد تؤيده العديد من الشهادات في الكتاب المقدس دعونا الآن نقدّم بعض التوضيحات لما نعنيه بهذَين المصطلحَين.

 

التوضيحات


غالبًا ما يسيء المسيحيون فهم مُصطلحَي “الوحي” و”السلطانِ” فيما يتعلق بالعهد الجديد. لذلك بقدر ما هو مهم أن نقرّ بأن هذَين المفهوَمين صحيحان، يجب أن نتأكد أننا نفهمهما بشكل صحيح.

سننظر إلى توضيحات حول هذين المُصطلحَين في العهد الجديد بشكل منفصل. أولًا، سنوضح ما نعنيه بوحي العهد الجديد، ثم نبحث في سلطان العهد الجديد. لنبدأ بدراسة وحي العهد الجديد.

 

1. الوحي

على مرّ التاريخ، فهم الذين اعتبروا أنفسهم أتباعًا للمسيح فكرة كون العهد الجديد موحى به من الله أو “خارج من نفَس الله” بطرق مختلفة. ويساعدنا أن ننظر إلى وجهات النظر تلك كما لو أنها تقع على طول سلسلة ممتدة أو طيف قوس الغمام.

على أحد طرفَي السلسلة أو القوس، يتمسك بعض اللاهوتيين بوجهة النظر الرومانسية للوحي. فهم يؤمنون أن الروح القدس أوحى للذين دوَّنوا الكتاب المقدس بالطريقة ذاتها التي كان الإلهام يحرّك الشعراء أو الموسيقيين ليكتبوا أو يؤلفوا. وبالتالي، هم يعتبرون أن العهد الجديد يتألف فقط من تأملات لكتّاب بشريين وتسجيلًا لآرائهم الشخصية. وهم يقرّون بأن هؤلاء الكتّاب كانوا حكماء، وكان لديهم وصول إلى معلومات مفيدة لنا. لكنهم ينكرون أن العهد الجديد هو سجل يمكن الوثوق به بالكامل حول ما يريدنا الله أن نؤمن به، أَو نشعر به، أَو نقوم به.

على الطرف الآخر من القوس، يؤمن لاهوتيون آخرون بما يمكن أن ندعوه الوحي الميكانيكي أو الوحي الآلي. وبحسب وجهة النظر هذه، كان الكتّاب مستسلمين يحرّكهم روح الله أثناء كتابتهم للكتاب المقدس. والروح القدس هو من أملى النص في الأساس، والكتّاب البشريون دَوَنوا ما قاله دون أي تفاعل من قبلهم. ويقرّ هذا الرأي بحقيقة العهد الجديد وسلطانه، لكنه ينكر أي دور هام للكتّاب البشريين في عملية الكتابة.

أخيرًا، يؤمن معظم الإنجيليين المسيحيين فيما يُسمى بالوحي العضوي. ويشير هذا الوصف إلى استحالة الفصل بين عمل الروح القدس وعمل كُتّاب الأسفار البشريين. وبحسب هذا الرأي كان الروح القدس يُلهم الكتّاب البشريين ليكتبوا وكان يشرف على كلماتهم ويوجهها. ونتيجة لذلك، فإن كلمات الكتاب المقدس هي كلمات الله. في الوقت نفسه، استخدم الروح القدس شخصيات الكتّاب البشريين، واختباراتهم، ووجهات نظرهم، ومقاصدهم، بينما كان يوجّه كتاباتهم. لذلك فكلمات الكتاب المقدس هي أيضاً كلمات كتّابه البشريين إلى حدٍ كبير. وهذا الرأي الثالث، الوحي العضوي، هو أفضل تعبير عن شهادة الكتاب المقدس حول طبيعة الوحي.

 على سبيل المثال، استمع من جديد لما يكتبه الرسول بطرس في رسالته الثانية 3: 15-16:

…كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ أَخُونَا الْحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضًا بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَهُ، كَمَا فِي الرَّسَائِلِ كُلِّهَا أَيْضًا، … الَّتِي فِيهَا أَشْيَاءُ عَسِرَةُ الْفَهْمِ، يُحَرِّفُهَا غَيْرُ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ الثَّابِتِينَ كَبَاقِي الْكُتُبِ أَيْضًا. (2 بطرس 3: 15-16)

وكما ذكرنا سابقًا، يعترف بطرس أن روح الله أوحى برسائل بولس. لكن لاحظ كيف يشير أيضًا إلى أن هذا الوحي هو عضوي. وما جاء في قول بطرس عن رسائل بولس، “الرَّسَائِلِ … الَّتِي فِيهَا أَشْيَاءُ عَسِرَةُ الْفَهْمِ”، كان إقرارًا بخلفية بولس الثقافية وشخصيته وأسلوبه الكتابي. ويعكس هذا التصريح ثقافة بولس الرابينية العالية. ولا شك أن خبرة بولس اللاهوتية شكّلت تحديًّا لبطرس الصياد الجليلي غير المتعلم.

وتقدم لنا نظرة بطرس مثلًا يحتذى به في دراستنا للاهوت العهد الجديد. فيجب دائمًا أن نُبقي في أذهاننا أن وجهات نظر الكتاب المقدس اللاهوتية موحى بها من الله. فهي صحيحة وموثوق بها لأنها صادرة عن الله نفسه. مع ذلك من المهم أيضًا ونحن ندرس لاهوت العهد الجديد، أن نبذل الجهد المطلوب لنتعلم عن الكتّاب البشريين والغاية مما كتبوه.

في الواقع، إن أحد أبرز نتائج الوحي العضوي هو أهميته بالنسبة إلى دراستنا للاهوت العهد الجديد. فنحن إن اعتمدنا على رأي رومانسي تمامًا أو آلي حول الوحي، فسوف نستخف إما بسلطان النص أو نهمل إسهام الكاتب. لكن الوحي العضوي يُلزمنا أن ندرس لاهوت العهد الجديد على ثلاثة مستويات على الأقل.

الأول: المستوى الأبرز والأكثر وضوحًا هو النص نفسه. فهذه التأكيدات الواضحة يمكن أن تعلّمنا الكثير عن لاهوت العهد الجديد.

والثاني: على مستوى ما وراء النص، يجب أن نكون مستعدين أن نفحص العديد من الافتراضات اللاهوتية الضمنية أو غير المكتوبة لكتّاب العهد الجديد. كما يجب أن ندرس خلفيات الكتّاب ومعتقداتهم اللاهوتية، ونسعى جهدنا لنكتشف كيف أثّرت خلفياتهم ومعتقداتهم على كتاباتهم.

والثالث: على مستوى ما فوق النص، نحتاج أيضًا أن ندرس مقاصد الكاتب الضمنية. بكلمات أخرى، ما الذي قصد كُتّاب الكتاب المقدس أن يوصلوه إلى قرائهم؟ في بعض الأحيان، كان كتّاب العهد الجديد محدّدين في أنواع التأثيرات التي أملوا أن يتركوها على قرائهم. لكن في معظم الأوقات توقعوا من قرائهم أن يستنتجوا تلك التضمينات من نصوصهم.

وكما يمكنك أن تتصور، فإن إبقاء التأكيدات الواضحة، والافتراضات اللاهوتية، والمقاصد الضمنية في الذهن ونحن ندرس العهد الجديد ليس دائمًا سهلًا. فالأمر يتطلب الكثير من الدراسة الدقيقة. لكن طبيعة الوحي العضوي تجعل من الضروري بالنسبة إلينا أن ندرس المستويات الثلاثة للاهوت العهد الجديد كلها.

رأينا للتو بعض التوضيحات حول وحي العهد الجديد العضوي. لنوضح الآن ما هو المقصود بسلطان كتب العهد الجديد، وكيف يجب أن نتجاوب مع هذا السلطان اليوم.

 

2. السلطان

يؤمن جميع الإنجيليين بحق أن للعهد الجديد سلطانًا على حياتنا. لكن يجب أن نكون حذرين في فهمنا لهذا السلطان. مع الأسف، العديد من المسيحيين، وعن حسن نية، يغيب عن أذهانهم أن العهد الجديد لم يُكتب إليهم مباشرة. بعبارة أخرى، كُتب العهد الجديد من أجلنا، لكنه لم يُكتب مباشرة إلينا. وجميعنا يعلم أن العهد الجديد كُتب قبل ألفَي سنة وسُلِّم إلى أناس غيرنا عاشوا في ذلك الزمن. لكن عادة ما يكون لهذه الحقيقة تأثير بسيط على جوانب اعترافنا بسلطان العهد الجديد. وذلك يقودنا لنقول شيئًا مهمًا جدًا حول سلطان العهد الجديد هو أنَّ: للاهوت العهد الجديد سلطانًا كاملًا، لكن غير مباشر على حياة أتباع المسيح اليوم. وتعني هذه الحقيقة أنه يجب علينا أن نكون دائمًا مستعدين لندرس قدر الإمكان ما عنته نصوص العهد الجديد لقرائها الأولين.

عندما يبدأ أتباع المسيح بقراءة العهد الجديد، ينجذبون عادة إلى تعاليمه الأساسية نسبيّاً. يقرأون مثلاً أن “يسوع رب”، و”تُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيل”، و”أحبوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا”، وعددًا من التعاليم الأساسية الأخرى. فهم بغنى عن النظر كثيرًا إلى ظروف كتّاب العهد الجديد التاريخيّة، وشخصياتهم، وأهدافهم. فمن أجل أغراضهم العمليّة، يمكنهم أن يتعاملوا مع هذه التعاليم الجوهرية ببساطة كما لو أنها حقائق تصلح لكل زمان. وهم نادرًا ما يعطون اهتمامًا كبيرًا للمعاني المتضمنة للخضوع لسلطان العهد الجديد. لكن مع تعرّفنا أكثر على لاهوت العهد الجديد، يتضح لنا أكثر فأكثر أنه علينا أن ننظر إلى الخلفيات الأصلية لنصوص العهد الجديد لكي نقرّ بسلطانها اليوم كما ينبغي. فيجب أن نتعلم عن خلفيات الكتّاب، وظروفهم، ومقاصدهم. وعندها فقط يمكننا أن نخضع بشكل ملائم لسلطان العهد الجديد على حياتنا.

قد تساعدنا المقارنة التالية لتوضيح ما في ذهننا. الأهل الذين لديهم أكثر من طفل واحد يعرفون تمامًا كيف يمارسون سلطانًا كاملاً لكن غير مباشر على أولادهم. تصوّر والدًا يوبّخ ابنه بسبب سوء سلوكه ويقول له: “اذهب اجلس هناك وفكّر بما فعلت”. بالطبع، تكون أخته مسرورة أن تستمر باللعب. ففي النهاية، الوالد لم يكن يتحدّث إليها. لكن في حال عصت الأخت والدها بعد وقت قليل، يمكن للوالد أن يقول لها، “ألم تري ما حصل للتو لأخيك؟” في ظروف كهذه، يتوقع الوالدان من أولادهم أن يتعلموا من طريقة تعاملهم مع ولد واحد. وهذه السلطة غير المباشرة تعلّم كل الأولاد كيف يجب أن يتصرفوا حتى لو لم ينالوا التأديب الأصلي.

هذا ما نقصده عندما نقول إن الوحي العضوي للعهد الجديد يشمل السلطان الكامل لكن غير المباشر على أتباع المسيح العصريين. لقد تحدّثت نصوص العهد الجديد مباشرة بسلطان كامل إلى القرّاء الأولين. ويجب أن نعي أنها تتحدّث إلينا اليوم أيضًا بسلطان كامل. فالمسألة بالنسبة لأتباع المسيح الأمناء ليست إن كان علينا أن نخضع لتعليم في العهد الجديد، بل كيف يجب أن نخضع لسلطانه. من هنا، لكي نحدّد كيف نتجاوب مع هذا السلطان، يجب أن نكون مستعدين أن ننظر إلى الوراء إلى القصد والظروف الأصلية المتعلقة بزمن كتابة نص محدّد.

على سبيل المثال، أعطى يسوع في متى 19: 21 هذا التعليم المحدّد لرئيس شاب غني:

قَالَ لَهُ يَسُوعُ: “إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي”. (متى 19: 21)

كيف يجب علينا أن نطبّق هذا المقطع على حياتنا؟ هل على كل واحد منا في كل الظروف أن يبيع أملاكه ويعطيها للفقراء؟ الطريقة الوحيدة التي يمكن الإجابة بها عن هذا السؤال بطريقة مسؤولة هي بإدراك من هو هذا الرئيس الشاب الغني، ولماذا كلّمه يسوع بهذه الطريقة.

يمكن أن نستنتج من خلال لقب هذا الشاب وتفاعله مع يسوع أنه كان يهوديًا وكان له نفوذ مادي كبير في مجتمعه. كما يبدو أنه كان متمسكًا بأحكام الديانة اليهودية. فهو سأل يسوع في مستهل حديثه معه: “أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟” أجابه يسوع: “احفظ الوصايا!” فأجاب الغني بفخر بأنه قد فعل. عندها وضع يسوع إصبعه على ما بدا أنه الهمّ الرئيسي لهذا الشاب: الثروة والشهرة.

ويبيّن لنا الكتاب المقدس تكرارًا أن الممتلكات ليست بحد ذاتها شرًا، ولا تقف عائقًا أمامنا كي نصبح تلاميذ حقيقيين ليسوع. لكن، كأتباع ليسوع، يجب أن تكون قلوبنا دائمًا مهيأة للتخلي عن رغباتنا الخاصة لنخدم الله.

مثل آخر عن ذلك يرد في أعمال الرسل 5: 1-11 حيث ادّعى حنانيا وسفّيرة بأنهما أعطيا كل مالهما للكنيسة، لكنهما احتفظا بجزء منه في السر. فخطيتهما لم تكن أنهما لم يُعطيا كل ما امتلكاه – فلم يُطلَب منهما ذلك – بل لأنهما كذبا بشأن سخائهما لينالا استحسانًا شعبيًا.

وجواب يسوع للرئيس الشاب الغني أن يبيع ممتلكاته لم يتناول بالتحديد مسألة المال، بل بالحري تعلُّق هذا الشاب بما يجب أن يُضحّي به. فيسوع أصاب لب الموضوع بتوجهه إلى الشيء الوحيد الذي كان الشاب غير مستعد أن يتخلى عنه، ثروته.

ويساعدنا هذا المثل على أن نفهم أنه إن كان علينا الخضوع لسلطان الكتاب المقدس، يجب أن ندرس السياق والقصد الرئيسي من المقطع الكتابي. وعندها فقط يمكننا أن نحدّد كيف نطيع ما أمر بها يسوع.

حتى الآن في درسنا حول “لماذا ندرس لاهوت أسفار العهد الجديد؟”، رأينا أن وحي العهد الجديد وسلطانه يتطلبان أن نتعلّم بقدر ما نستطيع عن الخلفية التاريخيّة القديمة لكتاب العهد الجديد. والآن غدونا مستعدين أن نتناول مسألة الاستمراريّة وعدم الاستمراريّة بين زمننا هذا، وزمن العهد الجديد.

 


الاستمرارية وعدم الاستمرارية


 تصوّر أنك تتصفح كتابًا كُتب منذ خمسمئة سنة. ستكون اللغة على الأقل مختلفة نوعًا ما عن اللغة التي نتكلمها اليوم. وطريقة شرح الأفكار ستبدو غريبة. وكذلك العادات والتقاليد المذكورة في الكتاب ستبدو قديمة الطراز. لكن في الوقت نفسه، إن قمت بدراسته، فربما ستكتشف كيف أن ذلك الكتاب يرتبط بحياتك اليوم. فحتى الكتاب الذي كُتب منذ وقت طويل، لن يكون مختلفًا تمامًا عن العالم الذي نعيش فيه. فهو لن يكون غريباً لدرجة تحول دون فهمك له. قد يتطلب الأمر بعض الجهد، لكنك في النهاية ستتوصل إلى فهم الكثير مما يقوله ذلك الكتاب.

وهذا ما يواجهنا عندما نقرأ العهد الجديد. فهو كُتب منذ حوالي ألفي سنة. ولهذا السبب فإن لغته، وأفكاره، وعاداته، وتقاليده مختلفة عمّا نجده في عالمنا المعاصر. لكن في الوقت نفسه، إن بذلنا جهدًا في دراسة هذه المسائل سنجد أن العهد الجديد ما زال مرتبط بعالمنا في نواح عديدة.

لكي نفهم كيف يمكن للدراسة الدقيقة أن تساعدنا في مسألة الاستمراريّة وعدم الاستمراريّة بيننا وبين العهد الجديد، سنركِز على ثلاثة اعتبارات: الاعتبارات التاريخيّة، والاعتبارات الحضاريّة، والاعتبارات الشخصيّة. وهذه المواضيع الثلاثة مترابطة، لكن مع ذلك من المفيد التعامل معها كل موضوع على حدة. لننظر أولًا إلى بعض الاعتبارات التاريخيّة الهامة.

 

التاريخية


 عندما نتحدّث عن عصر من عصور تاريخ الكتاب المقدس، نعني به فترة زمنيّة تأسّست بإعلان إلهي يميّزها عن بقية العصور الزمنيّة. بالطبع، هناك عدة طرق لتقسيم التاريخ، ولا يوجد فترة زمنية مستقلة تمامًا عما يرد قبلها أو ما يرد بعدها. ومع ذلك، غالبًا ما نقسّم التاريخ الكتابي إلى عصر العهد الجديد وعصور العهد القديم. ونحن نعرّف زمن أسفار العهد الجديد بالفترة المرتبطة بتأسيس العهد الجديد. وهذا العصر بدأ بتجسد المسيح ويستمر إلى حين عودته. وعصر العهد الجديد فريد من حيث كونه مسيانيّ. إنه الوقت الذي يملك فيه يسوع، الابن الأعظم لداود، نيابة عن الله.

ولكي نفهم لماذا تجعل الاعتبارات التاريخيّة دراسة لاهوت أسفار العهد الجديد ضروريّة، سننظر إلى الاستمراريّة في التاريخ لأمور توحّد عصر العهد الجديد. ثم، سنتناول عدم الاستمراريّة الموجودة في التاريخ. لننظر أولًا إلى الاستمراريّة.

 

1. الاستمرارية

هناك العديد من أوجه الاستمرارية في التاريخ بين زمننا وأزمنة العهد الجديد. وأحد أفضل الطرق لنرى هذه الروابط هو أن ندرك أن المسيحيين اليوم يخدمون الإله ذاته الذي عبَده أتباع المسيح في القرن الأول. وكثيرا ما يشير علماء اللاهوت النظامي الأكاديميون إلى تعليم الكتاب المقدس بأن الله ثابت، أو غير قابل للتغيير. وهم يركّزون على صفاته غير القابلة للتغيير، وعلى خطته الأزليّة، وعلى أقسام عهوده في مقاطع مثل كتاب العدد 23: 19، وإشعياء 46: 10، ورسالة يعقوب 1: 17. ولأننا نخدم الإله ذاته الذي لا يتغير، يجب أن نتوقع أن يكون هناك العديد من أوجه الشبه فيما يتوقعه الله من شعبه في زمن العهد الجديد وما يتوقعه منا اليوم. استمع إلى ما جاء في العبرانيين 13: 7-8:

اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ. انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ. يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ. (العبرانيين 13: 7-8)

هنا يلّح كاتب العبرانيين على القرّاء أن “ينظروا إلى نهاية سيرة قادتهم فيتمثلوا بإيمانهم”. ويدعم هذا التشجيع عن طريق تذكيرهم بعدم تغيّر الله عندما قال: “يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ”. فيمكن لقرائه أن يكونوا واثقين بأنهم إن تمثّلوا بإيمان قادتهم في الماضي، يمكنهم أن يشهدوا نتائج مماثلة في يومهم الحاضر لأن يسوع لا يتغير.

تمامًا مثل القرّاء الأصليين للعهد الجديد، نحن نعيش في الزمن بعد أن صنع موت المسيح كفارةً نهائيّة عن خطايانا. ونحن قد قمنا مع المسيح بقيامته، تمامًا مثل مؤمنو القرن الأول. نحن نعيش في العصر الذي فيه انسكب روح الله على نطاق أوسع بكثير مما حدث في العهد القديم. نحن جزء من جسد المسيح نفسه، ولنا المأمورية ذاتها التي تقضي بنشر كل ما علّمه يسوع إلى أقاصي الأرض. وعلى الرغم من المسافة التاريخيّة التي تفصلنا عن أزمنة العهد الجديد، فالخالق الثابت الذي لا يتغير رسّخ هذه الأوجه من الاستمرارية بين العصور لكي نتمكّن من تطبيق العهد الجديد على يومنا.

والآن بعد أن نظرنا إلى بعض الاعتبارات التاريخيّة والاستمرارية الموجودة بين زمننا وأزمنة أسفار العهد الجديد، لننظر إلى بعض أوجه عدم الاستمرارية في عصر العهد الجديد التي تتطلب منا أن نكرّس نفوسنا للدارسة الدقيقة للاهوت أسفار العهد الجديد.

 

2. عدم الاستمرارية

لا شك أن أوجه عدم الاستمرارية في التاريخ بين أزمنة العهد الجديد وزمننا ليست كبيرة مثل أوجه عدم الاستمرارية في التاريخ بين العهد القديم وزمننا اليوم. لكن هناك بعض الفروق الهامة التي يجب أن نبقيها في ذهننا في كل مرة ندرس العهد الجديد.

يشير الرسول بولس في أفسس 2: 20 إلى إحدى أهم عدم الاستمرارية في التاريخ بقوله، وكان يقصد الكنيسة:

مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ. (أفسس 2: 20)

هنا يميّز بولس بين تأسيس الكنيسة على أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ، وبين الكنيسة ذاتها في سيرها عبر التاريخ.

وكما سبق وأشرنا في هذا الدرس، أقرّت الكنيسة على مدى ألفَي عام بالسلطان التأسيسي الذي للمسيح ورسله وأنبيائه علينا. لكن يجب أن ندرك أيضًا أنهم لم يعودوا موجودين معنا بالجسد. وهذه الحقيقة تخلق عددًا من أوجه عدم الاستمرارية بين أزمنة العهد الجديد وزمننا اليوم.

أولاً، يحتوي العهد الجديد على أمثلة عديدة عن معجزات مُصادِقة أجراها يسوع، ورسلُه، وأنبياؤه. والقدرة على إجراء هذه المعجزات أفرزت يسوع ورسله كأصحاب السلطة وكالقادة التأسيسيين في الكنيسة. ولا يزال الله يعمل في الكنيسة بصورة خارقة، لكننا لا نبحث اليوم عن المعجزات كوسيلة للتعرف على سلطان قادة جدد للكنائس. بدلًا من ذلك، يتثبت السلطان في الكنيسة اليوم من خلال المعيار الذي وضعه العهد الجديد. لهذا السبب، يجب أن ندرس بحرص كيف نطبّق هذا المعيار على زمننا اليوم.

ثانيًا، كان من الممكن في أزمنة العهد الجديد طلب المشورة مباشرة من رسل يسوع وأنبيائه. كان بإمكان المسيحيين أن يستشيروا الرسل والأنبياء لإرشادهم أو للإجابة عن أسئلتهم. ونجد ذلك على سبيل المثال في الطرق التي تجاوب فيها بولس مع مناشدات أتباع المسيح في رسالتَي كورنثوس الأولى والثانية وفليمون. علاوة على ذلك، في أزمنة العهد الجديد كان يتمّ التداول بالقضايا التي تعني الكنيسة ككل بين قادة الكنيسة التأسيسيين، كما حدث في مجمع أورشليم في أعمال الرسل الفصل الخامس عشر. لكن في زمننا الحاضر، لم تعد تلك السلطات التأسيسية قائمة بيننا. من هنا لا بد أن نعتمد على دراستنا للعهد الجديد ونفحص كيف ينطبق علينا اليوم.

ثالثًا، غالبًا ما تواجهنا، ونحن ندرس لاهوت العهد الجديد، حقيقة أن كتّاب العهد الجديد لديهم تركيزات لاهوتية كانت مهمة بصورة خاصة في الفترة التأسيسيّة للكنيسة، لكنها لم تعد تعنينا الآن.

كُتب العهد الجديد في زمن كان شعب الله فيه في مرحلة انتقالية من إيمان العهد القديم إلى إيمان العهد الجديد. لهذا السبب، نجد الكثير من القضايا التي يتناولها العهد الجديد تعالج مسألة علاقة أتباع المسيح بممارسات العهد القديم والتقاليد اليهودية. هل كان على المسيحيين الرجال أن يُختتنوا؟ هل كان عليهم أن يحفظوا شرائع نظام الأطعمة اليهوديّة؟ كيف كان على المسيحيين أن يفهموا استمرارية الذبائح الحيوانية في الهيكل بعد كفارة المسيح النهائية؟ كيف كانت للطقوس والأعياد اليهودية أن تندمج في حياة الكنيسة؟ طبعًا، العديد من هذه القضايا اللاهوتية الأساسية قد تمّ البت فيها منذ زمن طويل. وما إن تمّت الفترة التأسيسية للعهد الجديد، انتقلت الكنيسة المسيحية لمواجهة تحديات أخرى.

حين نقرأ العهد الجديد، قد يكون من الصعب التغلب على أوجه عدم الاستمرارية في التاريخ. لكن إن أردنا أن نطبّق إجابات العهد الجديد على هذه الاختلافات اللاهوتية القديمة اليوم، علينا أن نعمل بجهد وندرس هذه النصوص بحرص شديد.

بعد أن نظرنا في الاستمرارية وعدم الاستمرارية في إطار الاعتبارات التاريخيّة، لنستعرض الآن بعض الاعتبارات الحضاريّة.

 

الحضارية


عندما نتحدّث عن الحضارة، نعني بذلك أنماط المجتمعات البشرية التي نشأت من المفاهيم، والسلوكيات والعواطف المشتركة بينها. والحضارة يعبَّر عنها بأمور مثل الفن، والأزياء، والتكنولوجيا، والبُنى السياسية وأعراف أخرى من التفاعل البشري اليومي. وعندما نأتي إلى لاهوت العهد الجديد، يجب أن ننتبه إلى هذه الأبعاد الحضارية في الحياة البشرية في القرن الأول وفي يومنا هذا.

في كل مرة نتناول الاعتبارات الحضارية، يجب أن ننظر في الاستمرارية في الحضارة وكذلك في عدم الاستمرارية. أحيانًا، هذه ليست مهمة سهلة. من هنا، يجب أن نكون مستعدين أن نكرّس نفوسنا للتفكير الحريص. لنلقِ نظرة كيف يصحّ الأمر بالنسبة إلى الاستمرارية في الحضارة.

 

1. الاستمرارية

نعلم جميعًا أن كل حضارة تختلف عن الأخرى. وهذه الاختلافات تزداد مع المسافات الزمنية والجغرافية. ولكن مع اعترافنا بهذه الاختلافات، فإن كل الحضارات البشرية موجودة في العالم ذاته. وهذه الحقيقة تخلق الكثير من الاستمرارية الحضارية حتى عبر الزمن والمسافات الجغرافية. فكل حضارة على هذه الأرض تشكّلها طبيعة البشر والمحيط الطبيعي المادي. وبقدر ما يكون هذان العاملان متشابهين، بقدر ما تتشابه أنماط الحضارة أيضًا. وكما يقول سفر الجامعة 1: 9:

مَا كَانَ فَهُوَ مَا يَكُونُ، وَالَّذِي صُنِعَ فَهُوَ الَّذِي يُصْنَعُ، فَلَيْسَ تَحْتَ الشَّمْسِ جَدِيدٌ. (جامعة 1: 9)

من هذا المنطلق، يجب ألا يفاجئنا أنه عندما ننظر إلى ما هو أعمق من الفروق السطحية، نجد الكثير من السمات الحضارية تتشابه بين أزمنة العهد الجديد وزمننا. فنحن ما زلنا نلبس الثياب، ونتمتع بالفن، ولدينا عائلات، ونؤسس حكومات، ونعاقب الجرائم إلى حد بعيد كما كان الناس يفعلون في أزمنة العهد الجديد. لهذا السبب، من السهل جدًا أن نرى أوجه شبَه بين الحضارات في القرن الأول وأيامنا.

خذ على سبيل المثال المشهد في يوحنا 4: 6-7 الذي يمهّد لحديث يسوع مع المرأة السامرية.

وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً، فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: “أَعْطِينِي لأَشْرَبَ”. (يوحنا 4: 6-7)

لقد سمع العديد منا تفسيرات حول الأبعاد الحضارية لهذا المشهد. التقى يسوع وتحدث مع امرأة سامرية، على الرغم من أن اليهود في زمن المسيح اعتبروا السامريين “نجسين” ورفضوا التعامل معهم.

نحن كقرّاء معاصرين ليس لنا مشاعر سواء إيجابية أو سلبية نحو السامريين. ولا نفكر حتى إن كان الناس طاهرين طقسيًا أو لا. لكن مع ذلك، ليس من الصعب أن نرى أوجه شبه بين هذا المشهد الكتابي والإجحافات الاجتماعية في أيامنا. مع الأسف، الناس في أيامنا ليسوا مختلفين كليّا عن الناس في القرن الأول في هذا الصدد. ولأننا نعيش في العالم ذاته الذي عاش فيه الناس في زمن العهد الجديد، فبمقدورنا أحياناً كثيرة أن نجد بسهولة أوجه التشابه مع اختباراتنا الحضارية المعاصرة، على الرغم من الاختلافات.

في حين أنه من المهم أن ندرك أن الاعتبارات الحضارية تشتمل على الاستمرارية الحضارية بيننا وبين العهد الجديد، يجب أن ننتبه أيضًا إلى تأثير عدم الاستمرارية الحضارية في فهمنا للاهوت العهد الجديد.

 

2. عدم الاستمرارية

في الحقيقة، إن العديد من وجهات النظر الحضارية في أيامنا وفي أزمنة العهد الجديد مختلفة إلى حد بعيد. وعلينا أن نعمل بجد لنتغلب على العوائق التي تمثّلها وجهات النظر تلك في تفسير لاهوت العهد الجديد وتطبيقه.

أحد أوضح الأمثلة لهذا النوع من عدم الاستمرارية الحضارية هو اللغة المستخدمة في كتابة العهد الجديد. فعدد قليل نسبيًا من أتباع المسيح اليوم يمكنه قراءة العهد الجديد في لغته اليونانية الأصلية.

علاوة على ذلك، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار المصطلحات اللغوية والأدبية في القرن الأول، وتأثير النسخ العبرية واليونانية للعهد القديم التي استخدمها كتّاب العهد الجديد. يجب أيضًا أن نتغلب على جهلنا بالممارسات السياسية والاقتصادية والممارسات الاجتماعية الأشمل في ذلك العصر. وفقط حين نكرّس نفوسنا لهذه المهام سنكون قادرين على تناول العديد من أوجه عدم الاستمرارية الحضارية بين العهد الجديد وزمننا.

مع إبقاء الاستمرارية وعدم الاستمرارية لتلك الاعتبارات التاريخية والاعتبارات الحضارية في ذهننا– لننظر لماذا تتطلب منا الاعتبارات الشخصية أيضًا أن ندرس لاهوت العهد الجديد بانتباه.

 

الشخصية


 نعرف جميعًا من اختبارنا المشترك أن الناس ليسوا متشابهين تمامًا. حتى الناس الذين يعيشون في حضارة متشابهة هم مختلفون. أحيانًا كثيرة، عندما نلتقي أناسًا من أماكن بعيدة، أو نقرأ عن أناس من الماضي، نلاحظ أن الفروق النفسية، والعاطفية، والروحية يمكن أن تكون هائلة. فلدينا جميعًا خبرات، ونقاط القوة، ومخاوف، ومواهب، وميول روحية مختلفة؛ فقائمة الفروق بين الناس طويلة جدًا. لذلك، عندما ندرس لاهوت العهد الجديد يجب أن نُعطي انتباهًا جيدًا لأوجه الشبه والاختلاف بين الناس في زمننا وفي زمن العهد الجديد.

سننظر إلى الاعتبارات الشخصية كما فعلنا في نقاشاتنا السابقة. أولاً، ما هي أوجه الاستمرارية الشخصية بين شعب العهد الجديد والشعب في عصرنا؟ وثانيًا، ما هي أوجه عدم الاستمرارية بينهما؟ لنبدأ بأوجه الاستمرارية.

 

1. الاستمرارية

من وجهة نظر الكتاب المقدس، توجد أوجه شبه كافية بين الناس بحيث يمكننا أن نكون واثقين أنه باستطاعتنا تعلّم وتطبيق لاهوت العهد الجديد كما ينبغي. في الواقع، يعلّم الكتاب المقدس أن كل البشر في أزمنة العهد الجديد، وفي يومنا هذا، هم من النوع ذاته من البشر. والكتّاب، والقرّاء، والشخصيات البشرية الأخرى في العهد الجديد، كانوا صورة الله، مثلنا تمامًا اليوم. وقد كانوا عقلانيين ويفكرون مثلنا. وتفاعلوا مع الفرح والحزن، مثلما نفعل اليوم إلى حد كبير. ومثلنا هم أيضًا كانوا صورًا لله ساقطة في الخطية واحتاجت إلى فداء المسيح. وهم تصارعوا مع الخطية، واحتملوا الألم والمشقات في هذا العالم الساقط. ومن آمنوا بالمسيح في أزمنة العهد الجديد، اختبروا نعمة غفران الله وبركة الروح القدس في حياتهم الشخصية، تمامًا مثلنا نحن اليوم. وبسبب أوجه الاستمرارية الشخصية هذه والعديد غيرها، عندما نقرأ العهد الجديد غالبًا ما نشعر بوجود رابط يربطنا بسهولة مع الناس في ذلك الزمان.

على سبيل المثال، في رومية 9: 2-4 عبّر بولس عن مشاعره العميقة نحو أخوته اليهود بهذه الطريقة:

إِنَّ لِي حُزْنًا عَظِيمًا وَوَجَعًا فِي قَلْبِي لاَ يَنْقَطِعُ. فَإِنِّي كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ أَكُونُ أَنَا نَفْسِي مَحْرُومًا مِنَ الْمَسِيحِ لأَجْلِ إِخْوَتِي أَنْسِبَائِي حَسَبَ الْجَسَدِ، الَّذِينَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ. (رومية 9: 2-4)

تكشف هذه الأعداد اختبار بولس الشخصي، والعاطفي جدًا. والشخصية البشرية لم تتغير كثيرًا من أيام بولس إلى يومنا هذا بحيث تحول دون تعاطفنا مع مشاعره. فأوجه الاستمرارية الشخصية مثل هذه غالبًا ما تجعل من السهل علينا نسبيًا أن ندرك ما اختبره كُتّاب العهد الجديد وقراؤه وشخصياته. ويمكننا أن نطبّق تلك الاختبارات على يومنا هذا.

في الوقت نفسه، بينما تتضمّن الاعتبارات الشخصية في العهد الجديد عددًا من أوجه الاستمرارية الشخصية، هناك أيضأ الكثير من أوجه عدم الاستمرارية الشخصية، التي تجعل من الصعب علينا أن نفهم لاهوت العهد الجديد ونطبّقه على حياتنا.

 

2. عدم الاستمرارية

وغالبًا ما يتناول العهد الجديد فئات محدّدة من الناس تختلف كثيرًا عما نعرفهم اليوم بحيث نجد صعوبة بالغة أحيانًا في تحديد الروابط الصحيحة. ويمكن للميول الشخصية والعاطفية، حتى أمور مثل العمر والجنس أن تشكّل عقبات يجب التغلب عليها من خلال الدراسة الدقيقة.

 على سبيل المثال، في أفسس 6: 5 و9، أعطى بولس تعليمات إلى نوعين من الناس. قائلاً:

أَيُّهَا الْعَبِيدُ، أَطِيعُوا سَادَتَكُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، فِي بَسَاطَةِ قُلُوبِكُمْ كَمَا لِلْمَسِيحِ… وَأَنْتُمْ أَيُّهَا السَّادَةُ، افْعَلُوا لَهُمْ هذِهِ الأُمُورَ. (أفسس 6: 5 و9)

عندما يقرأ معظمنا هذه الكلمات، نكوّن فكرة سطحية عمّا قاله بولس للعبيد وسادتهم في كنيسة أفسس. لكن إدراكنا للصراعات التي واجهها هؤلاء الأخوة والأخوات لنا في المسيح محدود إلى حد بعيد بسبب أن معظمنا لم يكن يومًا عبدًا أو سيدًا.

كانت هذه فئات من الناس مختلفة تمامًا عمّا نحن عليه اليوم. ولهذا السبب، يجب أن نعمل بجهد لنفهم ما الذي اختبره هؤلاء الناس في القرن الأول في أماكن مثل أفسس. عندها فقط يمكننا أن نبدأ باستخلاص أوجه التشابه المناسبة مع زمننا وأن نفهم وجهات النظر اللاهوتية التي يقدّمها بولس في هذا المقطع.

كان على المعافى والمريض، صاحب الإعاقة، القوي والضعيف، الغني والفقير، الشاب والشيخ، الآباء والأمهات، الأخوات والأخوة، في زمن العهد الجديد، أن يقبلوا لاهوت العهد الجديد بطرق تتناسب مع شخصياتهم في زمنهم. وإلى حد ما، هذه العوامل الشخصية ستؤثر دائمًا في طريقة تطبيقنا للاهوت للعهد الجديد في أيامنا أيضًا. وهذه الاعتبارات الشخصية تدفعنا جميعًا لندرس العهد الجديد باجتهاد.

 


الخاتمة


في هذا الدرس، تعلمنا لماذا يجب على أتباع المسيح أن يدرسوا لاهوت أسفار العهد الجديد. وقد نظرنا إلى وحي العهد الجديد وسلطانه ورأينا أنه يجب أن نكرّس نفوسنا للدراسة لأن العهد الجديد موحى به من الله. كما أننا درسنا كيف أن الاستمرارية وعدم الاستمرارية التاريخية والحضارية والشخصية بين أزمنة العهد الجديد وزمننا تتطلب منا أن نكرّس نفوسنا لفهم وتطبيق لاهوت العهد الجديد.

تستحق أسفر العهد الجديد أكثر بكثير من مجرد نظرة عابرة. فككلمة الله لكنيسته، يجب أن نكون مستعدين أن نبذل كل جهد لنفهمه بقدر الإمكان. وفي الدروس القادمة سنركّز على عدة طرق هامة تساعدنا في سعينا لتحقيق هذا الهدف. وبينما نقوم بذلك، سنكتشف الكثير من الفوائد التي تنتج عن التأمل الدقيق في هذا الجزء من الكتاب المقدس. وسنرى مرة تلو المرة، لماذا يجب أن نكرّس نفوسنا لدراسة لاهوت العهد الجديد.

 

شارك مع أصدقائك