مع دخول كنيسة يسوع المسيح قرناً جديداً والفية جديدة، مع بقية العالم نجد أن عبادتها تتصف بتناقضات عميقة.
الخبر السار:
شهدت السنوات الثلاثون الأخيرة انفجاراً في الاهتمام بالعبادة في الكنائس والتركيز عليها. ولا شك أن أ. و. توزر الذي أسِف لحالة العبادة في عصره مسمّياً إياها “الجوهرة المفقودة في الكنيسة الإنجيلية”،[1] سيُدهش للإصلاح (أو الثورة) في العبادة الذي ظهر منذ دعوته ذات السمة النبوية في الخمسينات من القرن الماضي – والذي كان له على الأرجح أثر في هذا الأمر (أو بالأحرى استخدمه الله من أجل إحداث هذا الأمر). صارت العبادة موضع اهتمام واعتبار رئيسيين أكبر في معظم الدوائر الإنجيلية اليوم. وما أكثر المؤتمرات والكتب التي تدور حول هذا الموضوع! لقد شهدنا موجات هائلة من مواد العبادة المسجّلة والمطبوعة. وصار هنالك ميل للابتعاد عن “قادة التسبيح” إلى “رعاة التسبيح”. وأهم من هذا كله هو أنه توجد عودة إلى تكريم الله في العبادة بالروح والحق في كنائس كثيرة.
الخبر غير السار:
ومن ناحية أخرى، انطلقت العبادة من حالة الإهمال المعتدل السابق لها لتصبح الموضوع الساخن ومركز الجدل في الكنيسة اليوم. وقد انقسمت الكنائس وأعضاء هيئة العاملين فيها حول هذه المسألة؛ في حين أنه يوجد في أوضاع أخرى نوع من الهدنة القلقة. وبالكاد خلت أية كنيسة من مناقشات حول الأذواق الفردية، وأساليب الموسيقى، والأدوات الموسيقية، وديناميكيات الموسيقى، والوسائل السمعية البصرية، وما إلى ذلك. وبغض النظر عن القرار الذي اتخذه قادة الكنيسة (إذا كانوا قد اتخذوا أي قرار أصلاً) حول نواحي الخلاف هذه، فقد نتج عنها ترك شخص ما للكنيسة بسبب عدم رضاه (أو بقاؤه في الكنيسة، محتفظاً بروح ضغينة، وهذا أسوأ بكثير).
ما الذي على المحك:
إنه لأمر محزن أنه لا توجد علامة على أن العاصفة آخذة في الهدوء. وإنه لأمر صحيح وفاضح أن العبادة المفترضة لله القدوس العلي هي مصدر رئيسي للخلاف والانقسام في الكنائس. وإنه لأمر مأساوي أن النشاط الذي يفترض أن يعبّر على أقوى نحو عن وحدة جسد المسيح تحت رأسها غالباً ما يكون حوض بذار للانقسام والنزاع وعدم الثقة. ويأتي هذا على نقيض صلاة الرسول بولس، “وَلْيُعْطِكُمْ إِلهُ الصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ أَنْ تَهْتَمُّوا اهْتِمَامًا وَاحِدًا فِيمَا بَيْنَكُمْ، بِحَسَبِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِكَيْ تُمَجِّدُوا اللهَ أَبَا رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَفَمٍ وَاحِدٍ” (رومية ١٥: ٥–٦). وتوجد عدة مواضع مهمة جداً تستخدم فيها تعابير مثل “بفكر واحد” أو “رأي واحد” أو “نفس واحدة” أو “صوت واحد” تصف إمّا المناظرة حول العبادة أو حول تطبيقاتها. وبدون هذه الأمور كيف يمكننا أن نأمل (وفق كلمات بولس) أن نمجّد الله أبا ربنا المسيح؟
ليس ضرورياً أن يحدث هذا، أيها الإخوة! بل لا يجب أن يحدث! وأنا أعتقد أنه في دوّامة الخلاف والجدل، لا نعود نرى بعض الحقائق الأساسية التي يتوجب أن تقوّي ونعزّز ممارسات العبادة، بغض النظر عن الاتجاه الذي يمكن أن تأخذه هذه الممارسات. يتوجب علينا أن نتفق حول هذه الفرضيات الأساسية المختصة بالعبادة، لكي نتحرك إلى الأمام معاً على هذه الأرضية المشتركة. فإذا كانت لدينا الإرادة للسعي الحثيث إلى الوحدة، حتى في تنوُّعنا، فسنتصرف كجسد المسيح الشمولي، وسنرضيه في عبادتنا.
حقائق أساسية:
١- يجب أن نركّز على مجد الله.
“لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ” (رومية ١١: ٣٦). إن كانت “كُلَّ الأَشْيَاءِ” من أجله ولمجده، فمن المؤكد أن هذا سينطبق على العبادة بشكل جلي من بين كل الأنشطة البشرية. ففي العبادة نردد صدى التسبيحة التي رفعها بولس. ونعترف بعظمة الله وجلاله الكلي وقدْره الفائق. ونحن نكرمه ونشكره بصفته الله (رومية ١: ٢١). وننهمك في تحديد النشاط المركزي الذي خلق البشر من أجله، ونعيد إليه ما لا يقبل أن يوجَّه إلى أية وجهة أخرى.
“مَجْدِي لاَ أُعْطِيهِ آخَرَ” (إشعياء ٤٢: ٨). هل نحن منشغلون في عبادتنا لله وبمجده البديع؟ هل نمعن النظر في قداسته المطلقة، حيث يقف فوق كل شيء مخلوق متميزاً عنه بلا حد، لأنه هو الذي خلق كل شيء آخر؟ هل نحن من منتشون بعجب محبته ورحمته وتنازُله نحونا في الرب يسوع المسيح إلى أن “تبهت كل الأمور الأرضية في ضوء مجده ونعمته” كما تقول الترنيمة؟
أي جانب من جوانب المناظرات المحتدة الحالية حول العبادة لها هذا الوزن الكبير حقاً بحيث أن الله الذي نثر بلايين البلايين من النجوم في الفضاء، والذي يدعو كل واحدة منها باسم (إشعياء ٤٠: ٢٦)، والذي يحفظ كل واحدة منها في مسارها، مهتم جداً إن كنا نرتّل له ترنيمة أم قراراً في تسبيحة، أو إن كان النص موجوداً في كتاب أو في نشرة أو معروضاً على شاشة؟ إن كانت الأمم “كغبار الميزان تُحسَب” عند إلهنا العظيم (إشعياء ٤٠: ١٥)، فكم بالأقل تبدو مثل هذه المسائل (التي تبدو عظيمة في عيوننا)؟
هل نصرف أفضل طاقاتنا في العبادة بطرق جديرة بذاك الذي يستحق عبادتنا؟ لا شك أنه يتلذذ بتسابيح شعبه، لكنه أيضاً “يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْبِ” (١ صموئيل ١٦: ٧)، ومن ينظر إلى قلب العابدين غير مهتم بالمظاهر الخارجية لمجريات العبادة.
إذا كان بمقدورنا أن نستوعب حقاً شيئاً من مجد الله ونكرّس أنفسنا لإظهاره والاحتفال به في العبادة الجمالية، فسرعان ما تخبو أهمية خلافاتنا.
٢- يتوجب أن نتذكر أن العبادة هي أولاً وقبل كل شيء لله.
يبدو أن العهد الجديد يسمح بحرية لا بأس بها من حيث الأشكال الفعلية للعبادة، وأن هذه الحرية قد وجدت تعبيرها في تنوع هائل من الممارسات العبادية في كنيسة يسوع المسيح، على مدى التاريخ وفي جميع أنحاء العالم، ناهيك عن الولايات المتحدة! غير أن الحرية في العبادة لا تكون قابلة للحياة أو النمو، ولا تكون عبادة حقيقية، إلا إذا تأسست على حق ثابت لا مساومة عليه. وحقيقة الأمر هي أن العبادة هي لله، بشكل رئيسي وأساسي، وكل القرارات المتعلقة بالشكل أو الأسلوب أو الذوق، مع أنها ضرورية ولا مفر منها، لا يجب أن تبعد أنظارنا عن الحاجة إلى أن تكون العبادة متمحورة على الله بشكل مطلق. إذ يتوجب أن يكون الله موضوع عبادتنا ومادّته، وكل الاعتبارات الأخرى هي ثانوية. ومن هنا ينبغي أن تأخذ كل الأحاديث عن الأذواق الشخصية وعن “جاذبية” هذا أو ذاك النوع من الموسيقى، وعن الأساليب المفضّلة، وعن “الصلة”، مكانة ثانوية جداً لدى تركيزنا على موضوع عبادتنا، أي الله نفسه. فبدلاً من الانشغال بهذه القضايا المتمركزة حول الإنسان، يجب أن ينصب اهتمامنا الرئيسي على أن تكون عبادتنا مقبولة لله وتعطيه الكرامة والتوقير اللذين يستحقهما. فالله يطلب عبادتنا (يوحنا ٤: ٢٣). ويتوجب أن نكرّس أنفسنا لمرضاته، بدلاً من أن نجعل أنفسنا أصحاب الشأن.
ولا ينبغي أيضاً أن نفترض أن معرفتنا معصومة (بالنسبة لكنيستنا أو للآخرين) حول نوع أو أسلوب الموسيقى المقبول وغير المقبول لله. فإذا نظر المرء إلى تعابير العبادة المسيحية المنتشرة في جميع أنحاء العالم، يمكنه أن يخلُص إلى أن الله نفسه أكثر تسامحاً منّا حول التقدمة الموسيقية التي نضعه عند قدميه! أمّا الإصرار على تطبيق مقاييس للتمييز والقيمة تتجاوز ما وصفه الله نفسه، فهو بمثابة الوقوف على أرض غير ثابتة فعلاً.
العبادة هي لله، ومهما كانت العوامل التي نأخذها في الاعتبار في وضع بُنية وأسلوب تعبيرنا الجماعي، فإننا نصلّي أن يكون الهم الأول والرئيسي لنا هو أن نعكس حقاً ونعظّم مجد الله بصحبة شعبه.
٣. يتوجب ان نطيع حث بولس لنا: “حاسبين بعضَكُم البعض أفضَل من أنفُسُهمْ” – فيلبي٢: ٣
من المؤكّد أن هذه الوصية تأتي ضد غرائزنا الطبيعية التي أسفر عنها السقوط. ولهذا يتوجب علينا أن نحارب طوال حياتنا (بمساعدة الروح القدس) هذا الميل إلى وضع أنفسنا في المقام الأول في كل ناحية من نواحي حياتنا، بسبب كبريائنا.
لكن هل فكرنا حتى مجرد تفكير في تطبيق مبدأ بولس في ممارسة العبادة في كنائسنا؟ كم مرة ارتفعنا لدى اعتباراتنا فيما يتعلق بالعبادة فوق التفكير بما أنا أحبه، وما أعتقد أنا لأنه حسن، وما أعتقد أنا أنه يمجّد الله وجدير بأن يقدَّم إليه؟ إننا ميّالون جداً إلى الافتراض أن ذوق الله في الموسيقى متوافق تماماً بالصدفة مع أذواقنا!
يتوجب أن يبدأ تطبيق حث بولس، بالإضافة إلى تطبيق تعليمه حول وجود شيء مهم جداً لدى كل عضو في جسد المسيح ليقدّمه (١ كورنثوس ١٢: ١٢–١٨). في هذه الناحية، مع الإدراك أن ما لا أتبارك منه ربما يتبارك منه الشخص الآخر (“يعبّر سي. أس. لويس بشكل رائع عن هذه الفكرة في كتاباته[2])، لكن علينا أن ندرك أن حصولنا على البركة أمر ذو أهمية ثانويّة بالنسبة لتمجيد الله وتعظيمه. وقد يعتبر الله أنه تمجد من مساهمة جاري الروحية، حتى لو اعتبرتها أنا تافهة أو مُعَدَّة لفئة قليلة من أو مملّة – إن كان قلبه منشغلاً وراغباً بصدق في تقديم ذبيحة روحية من قلبه وصوته. وحتى لو كان “الحصول على بركة” قضية، فإن التطبيق المباشر لمبدأ بولس هو أن حصول جاري على البركة أهم من حصولي أنا عليها!
هذه منطقة يصعب الخوض فيها وأرض يصعب قطعها. فنحن في واقع الأمر نفضّل أن يذعن لنا الآخرون (في كل المجالات، حتى في المجالات الموسيقية) أكثر من أن نذعن نحن لهم. لكن الحقيقة هي أنه عندما نتساءل لماذا لا يذعن لنا الأشخاص الآخرون، نكون قد كسرنا وصية بولس روحاً وحرفاً حول اعتبار الشخص الآخر أكثر أهميّة منّا.
دعنا لا نعتبر راحة الشخص الموجود في المقصورة (سواء كان مؤمناً أم غير مؤمن) ا ذات أهمية أو أولوية أولى، لكن ليكن همّنا هو أن نكرم الله ونرضيه إذا سعينا بإخلاص إلى أن يتنازل أحدنا للآخر في محبة متصفة بالتضحية بالذات في الجسد الواحد، حتى في مجال العبادة! ويا لها من ممارسة روحية صحية سليمة أن نجتث التحزُّب (أو الأنانية) والعُجْب (أو الغرور الباطل) حسب فيلبي ٢: ٣ في هذه الناحية حيث يمكن أن تهيمن الذات بسهولة. ويا لها من عطية تقدّم لله – ذبيحة تسبيح جماعية مرفقة بتواضع متبادل ولهمس الذات!
٤- يتوجب علينا أن نفهم تعليم العهد الجديد حول العبادة التي تتخلّل الحياة كلها.
كانت إحدى النقاط الرئيسية التي طرحها يسوع في محادثته مع المرأة السامرية في الإصحاح الرابع من الإنجيل حسب يوحنا (ولا شك أنه نص محوري حول العبادة في العهد الجديد، حيث يرِد التعبير نفسه حوالي عشر مرّات) هو أن مجيئه إلى هذا العالم هو وراء تغيير العبادة إلى شيء لم يعد مقصوراً على مكان معين أو موجَّه إلى حدث معيَّن “لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ” (الآية ٢١)، وإنما “بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ” (الآية ٢٣).
نميل في أحيان كثيرة إلى العودة إلى نموذج العهد القديم المتمركز حول مكان معين، وعبادة موجَّهة نحو حدث واحد، وهو الأمر الذي من الواضح أن يسوع أبطله في الإصحاح الرابع من الإنجيل حسب يوحنا! فما أسرع ما ننسى أنه، مع أن العبادة قد تصل ذروتها في التجمُّع معاً (وهذا هو الأمر المفترض في واقع الأمر)، إلاّ أنها لا تبدأ هناك، ولا يجب أن تبدأ هناك، ولا يمكن أن تبدأ هناك. وكم ستكون مدى ضحالتنا وسوء تغذيتنا كمؤمنين بالمسيح إذا كنا نأتي صباح يوم الأحد لكي نأخذ جرعة “عبادة أسبوعية”!
يعطينا بولس في رومية ١٢: ١ منظوراً أكثر توازناً، منظوراً ينسجم تماماً مع تعليم يسوع في الإصحاح الرابع من الإنجيل حسب يوحنا. إذ يحث بولس قرّاءه على أن يتجاوبوا مع مراحم الله (“فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ”) التي سبق أن شرحها بالتفصيل في الإصحاحات السابقة ١–١١ بتقديم أجسادهم (أي كل كيانهم) ذبيحة حيّة مقدَّسة. وهو يقول إن هذه ستكون عبادة “مرْضية” أي مقبولة لدى الله، وستكون خدمة عبادة لائقة أو معقولة أو روحية. وبعبارة أخرى فإن الاستجابة الملائمة في العبادة لله وعمله الخلاصي من خلال يسوع المسيح هو أن نحيا حياة عبادة وأن يكون أسلوب حياتنا أسلوب عبادة، فنقدّم أنفسنا لحظة فلحظة طوال الأسبوع له من أجل لذّته ومجده. “وَكُلُّ مَا عَمِلْتُمْ بِقَوْل أَوْ فِعْل، فَاعْمَلُوا الْكُلَّ بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ، شَاكِرِينَ اللهَ وَالآبَ بِهِ” (كولوسي ٣: ١٧). “فَإِذَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَوْ تَشْرَبُونَ أَوْ تَفْعَلُونَ شَيْئًا، فَافْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ لِمَجْدِ اللهِ” (١ كورنثوس ١٠: ٣١)
إن ما يشكّل العبادة الجماعية هو أن يجتمع المؤمنون معاً بعد أسبوع مع السير مع الله وعبادته (في عبادتهم الفردية المركّزة، وفي نظرة العرفان والصلاة التي تتخلّل الحياة كلها) يستطيع الروح القدس أن يأخذ جماعة معدَّة على هذا النحو ويصنع تعبير عبادة جماعية قويّة رائعة. غير أن “العبادة الجماعية أمر غير ذي صلة، مهما كان النظام المتبع فيها، ومهما كانت أسرارها مغذّية، ما لم تشارك في حياة عبادة كاملة مستمرة، وما لم يُنظر إليها كعَرض من أعراض الكيفية التي نحيا بها طوال الأسبوع.”[3]
يتوجب أن يعترف رعاة العبادة بتواضع أن مثل هذا اللقب هو في واقع الأمر تسمية مغلوطة حسب فهم العهد الجديد. إذ يكون بمقدور عضو واحد في هيئة العاملين في الكنيسة أن يشرف على كل حياة عبادة أعضاء الكنيسة ويحفزها؟ لكن (وكما ذكرت في القسم السابق) ينبغي أن ينظر كل أولئك الأشخاص المشتركين في خدمات محلية (سواء كان من هيئة العاملين الرسميين أم من الأشخاص العلمانيين) إلى أنفسهم كأشخاص محفّزين لشعب الله على العبادة طوال الأسبوع، وكأفراد يسعون إلى إيصال ثمار العبادة في الأنشطة الجماعية المركَّزة.
٥- يتوجَّب أن تنظر إلى خدمة الكنيسة الكلية بصفتها موجَّهة في نهاية الأمر إلى العبادة.
يشرح جون بايبر كيف أن العبادة هي الاستجابة النهائية والأبدية للكنيسة في حين أن الإرساليّات هي مجرد “ضرورة مؤقتة”. وهو يبيّن أيضاً كيف أن الإرساليات تنبع من العبادة “لا يمكنك أن توصي بما لا تُعِزّه”. ويجب أن تُفضي في نهاية الأمر إلى أن ترفع العبادة لله كل “قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ” (رؤيا ٥: ٩). فكما يقول: “لهذا فإن العبادة هي وقود الإرساليات وهدفها.”[4]
يمكن أن ينطبق ما يقوله بايبر عن الإرساليات على الخدمة ككل وعلى كل خدمات الكنيسة. “العبادة هي النشاط المسيحي الوحيد الذي هو غاية في حد ذاته”، كما يقول بايبر.[5] وبعبارة أخرى، فإن العبادة فريدة في تركيزها العمودي المحْض. أمّا كل الخدمات والأنشطة المسيحية الأخرى فتتضمّن بالضرورة جانباً أُفقيّاً يركّز على الناس، إن كان ذلك في الكرازة أو التلمذة، أو خدمة الأطفال أو الشباب. لكن الهدف النهائي أو الأبعد لهذه الأنشطة هو بالفعل توجيه أنظار الناس نحو السماء، والوصول بهم إلى نقطة التركيز العمودية_ “أن تحوّل المتمردين إلى عابدين”[6]، وأن تجذب المؤمنين إلى مسيرة أكثر قرباً من العبادة الممجدة لله. وباختصار، فإن هدف كل خدمة مسيحية هو أن تصنع عابدين لله أكثر عدداً وأفضل نوعاً (وبطبيعة الحال، فإن الله هو الذي يقوم بهذا الأمر).
لهذا دعونا نأخذ نظرة أكثر شمولية وتوحيداً لخدمة الكنيسة، وننظر إلى هدفها الفريد في كل وظائفها المتنوّعة- لا في خدمة العبادة فقط- على أنه تعزيز عبادة الناس، من أجل مجد الله. “لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ” (رومية ١١: ٣٦.
الخاتمة:
ما أسهل أن تفوتنا الغابة ككل فننتبه إلى أشجار مفردة، أي أن نركز على جزئيات معزولة بدلاً من النظر إلى الصورة ككل! لا شك أنه يتوجب اتخاذ قرارات فيما يتعلق باختيار الموسيقى والشكل والأدوات وما إلى ذلك. لكن من المؤكد أن هذه أمور ثانوية تبهت أهميتها بالمقارنة مع الاعتبارات الكتابية ذات الوزن الأكبر، ألا وهي أوّلية مجد الله، وكون العبادة له وحده، والحاجة إلى ممارسة التواضع والخضوع المتبادل في ممارستنا للعبادة، وتخلُّل العبادة لحياة الكنيسة والفرد المؤمن ومركزيّتها.
يتوجب أن نسعى إلى تحقيق هذه الاعتبارات أو الأهداف الكتابية، وإلاّ فإن عبادتنا لن تكون مُرْضية لله، مهما كان حجم الجمهور. ويتوجب أن يعبد في وحدة، وإلاّ فإننا سنعبد باطلاً وعبثاً. لنتذكّر، كما يقول جيمس تورانس، أن “هنالك طريقة واحدة فقط نأتي بها إلى الآب، ألا وهي من خلال يسوع المسيح بشركة الروح القدس، في شركة القديسيين، بغض النظر عن الشكل الخارجي الذي يمكن للعبادة أن تتخذه.”[7]
“لَهُ الْمَجْدُ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ.” (أفسس ٣: ٢١
[1] يأتي المسيح نفسه لكي يسكننا من خلال روحه القدوس، رابطاً نفسه بنا كعابدين لله، في نفس الوقت الذي يبقى فيه وسيطنا، ومحامينا، وكاهننا الأعلى في المقدس السماوي، رابطاً إيّانا بنفسه في تمثُّل صلاتنا ودمجها في صلاته التي سبق أن صعدت إلى الآب لكي تكون ذات فائدة لنا في محضر الله.
[2] “في بداية إيماني بالمسيح، قبل حوالي أربعة عشر عاماً، اعتقدت أني أستطيع أن أقوم بكل شيء وحدي، بأن ألجأ إلى غرفتي وأقرأ كتب اللاهوت، فلا أذهب إلى الكنائس واجتماعات الخدمة…. لم أحبب في البداية ترانيمها التي كنت أعتبرها قصائد من الدرجة الخامسة، واعتبرت موسيقاها من موسيقى الدرجة السادسة. لكن مع الوقت لمست قيمتها وجدارتها. وقفت في البداية ضد أشخاص مختلفين لهم نظرات مختلفة إلى الأمور وتعليم مختلف، ثم بدأ غروري ينقشع تدريجياً. وأدركتُ أن الترانيم (التي كنت أعتبر موسيقاها من الدرجة السادسة) كانت ترنّم بإخلاص وتكريس وتعبُّد وتفيد قديساً شيخاً في المقصورة المقابلة يلبس حذاء بلاستيكياً، ثم أدركت أني لا أستحق أن أنظف حذاءه. ولا شك أن خبرات كهذه تخرجك من غرورك الذي يفرض عليك عزلة.
(C.S. Lewis, “Answers to Questions on Christianity,” God in the Dock: Es says on Theology and Ethics [Grand Rapids, Michigan: Eerdmans, 1970], pp. 61-62).
انظر أيضاً
“On our Music,” Christian Reflections (Grand Rapids, Michigan: Eerdmans, 1994), pp. 96-97.
[3] Harold Best, “Authentic Worship and Faithful Music Making,”
http: WWW.Acdaonline.Org/ncmw/authentic worship: htm/
[4] John Piper, Let the Nations Be glad: The Supremacy of God in Missions (Grand Rapids, Michigan: Baker Book House, 1993) p. 11.
[5] John Piper, “Worship is an end in itself,” Sermon transcript (http://WWW.Worshipmap.Com /sermons/piper-worship.html).
[6] A.W. Tozer, Whatever Happened to Worship? (Camp Hill, Pennsylvania: Christian Publications, 1985), p. 11.
[7] James F. Torrance, Worship, Community and the Triune God of Grace (Downers Grove, Illinois, 1996), p. 143.