ما هو الإنجيل؟

لم تكن الأحداث التي أدت إلى إلقاء القبض على دافيد مفاجئة، بل كانت تتطور تدريجيًا لسنوات عدة. فحين ابتدأ يكبر، كانت العبارة المهذّبة التي استخدمتها عائلتنا لوصف قدرات أخي العقليّة هي: “هو يواجه صعوبة أكثر من الآخرين في التعلّم”. وعلى الرغم من أن عقله ظل في حالة عدم نمو، إلا أنه ازداد في القوة الجسديّة والإرادة بينما شاخ والداي. وقد أدّت الضغوط التي عانوا منها في التعامل معه، وفي التعامل مع مشكلاتهم الخاصة، إلى انفصالهما، وإلى زيادة وطأة الصعوبات مع أخي. وكشخص بالغ، ظلّت رغبة دافيد في الاستقلال بالإضافة إلى إعاقته في النمو مصدر قلق مستمر. أما بالنسبة للصداقات والإثارة في حياة دافيد، فقد استطاع تكوين علاقات كانت تُنبئ بأزمة وشيكة. وقد كان هذا ما حدث بالفعل.

وقد كان إلقاء القبض على دافيد وإيداعه بالسجن يفوق قدرة عقله على الاستيعاب. ولم يكن ما اختبره سوى الخوف الغامر الذي قد يختبره شخص ما له قدرات عقليّة لطفل صغير داخل زنزانة سجن. فقد انكمش وتقوقع مرتجفًا في ركن من الزنزانة.

وقد أيقظ خوف أخي الواضح شيئًا في صدر رجل آخر في تلك الزنزانة. وعلى الرغم من مشكلات هذا الرجل الخاصة، إلا أنه قدّم لدافيد رسالة رحمة الله، قائلاً له: “يسوع يمكنه أن يساعدك. ثق به”.

وفي تلك اللحظة، تدفّقت حقائق دروس مدارس الأحد التي حضرها دافيد وهو طفل في فصول ذوي الاحتياجات الخاصة إلى ذهنه. فصلى طالبًا غفران الله وآمن بيسوع مخلصًا له.

كان لابد لدافيد أن يظل في السجن لفترة كبيرة. ولكنه أيضًا كان سيظل مع يسوع إلى الأبد —مغفور الخطايا، ومستردًا، ومحفوظًا، ومتغيرًا. هذا هو الإنجيل بالنسبة لأخي وبالنسبة لجميع من يؤمنون بيسوع.

فإن كلمة الإنجيل تعني ببساطة “الخبر السار”. ويستخدم الكتاب المقدس هذا المصطلح للإشارة إلى الرسالة القائلة بأن الله قد أوفى بوعده بأن يرسل مخلصًا لينجّي المنكسرين، ويستعيد مجد الخليقة، ويملك على الكل برأفة وعدل. ولهذا السبب فإن موجزًا جيدًا للإنجيل يمكن أن يكون: “أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ” (١ تيموثاوس ١: ١٥).

إن إنقاذ الله، واسترداده، وملكه هي أمور تخص حالتنا الروحيّة، لكنها لا تقتصر على الوقائع الروحيّة فحسب. فإن إلهنا يخلّص شعبه من خلال يسوع المسيح من العواقب الأبديّة لخطية الإنسان التي وصل تأثيرها إلى كل شيء. فإن خلاصنا يشملنا نحن، لكنه أيضًا أكبر وأوسع منّا.

وقبل أن نستكشف المزيد من هذه الحقائق الرائعة، يلزمنا أن ندرك أن الكتاب المقدس لا يبوق بهذه الحقائق فقط لإبهارنا. فالله يعلن هذه الحقائق حتى يتسنّى للخطاة أمثال دافيد ومثلك ومثلي أن يتحرروا إلى الأبد من ذنب الخطية وسلطانها، بالإيمان بالخبر السار القائل بأن يسوع هو الرب الذي يأتي ليخلصنا. وسنستعرض فيما يلي بعض الجوانب الرئيسيّة لذلك الخبر السار.

الله يدبر ما يطالب به:[1]

ربما لا تعجبنا فكرة أن يصنّفنا أحدهم على أننا “خطاة”، وخاصة إن كنا نستخدم ذلك المصطلح للإشارة فقط إلى القتلة ومغتصبي الأطفال. لكن الكتاب المقدس يقول إن الله قدوس قداسة مطلقة، وإن جميع من لا يستوفون هذا الكمال هم “خطاة”، وهذا اللفظ يعني ببساطة العجز عن الوصول إلى مقياس الله. فإننا إن أخطأنا بأي درجة، نصير شيئًا على خلاف قصد الله لنا (رومية ٣: ٢٣؛ يعقوب ٢: ١٠). فهو قد خلقنا كي نعكس طبيعته المقدسة (١ بطرس ١: ١٦). وهكذا فإن سقطاتنا لا تسبب الضرر لنا نحن فحسب، بل هي أيضًا تشّوه علاقتنا بالله وتفسدها (أفسس ٤: ٣٠).

صورة الله:

لقد بدأت أزماتنا في علاقتنا بالله حين فسدت طبيعتنا البشريّة بخطية أبوينا الأولين (رومية ٥: ١٢). ومنذ آدم وحواء، صار كل إنسان يعلم جيدًا معنى أن تخذل أحباءك، وتؤذي آخرين، وتتخلى عن مثالياتك. جميعنا نعلم جيدًا معنى الخزي والندم. فإن هذا فعليًا يعكس واقعًا روحيًا ربما لا ندركه جيدًا: فإننا نشعر بالذنب لأننا قد خلقنا لنكون مشابهين لله، لكننا نخفق في أن نحيا بمقتضى هذا (رومية ٣: ١٠).

لقد خُلقنا على صورة الله (تكوين ١: ٢٦-٢٧). وهو قد خطّط أن نكون مثله حتى نتمكن من أن نحبه ونحب الآخرين المخلوقين على صورته. لكن حين نُخطئ، فإننا نسير في الاتجاه المخالف لطبيعتنا الأصليّة، ولذا فإن شيئًا ما في داخلنا يصدر صريرًا. فإن الذنب الذي نشعر به هو صدى للألم الذي تجتاز فيه قلوبنا في أي وقت تبعدنا الخطية عن العلاقة التي قد خُلقنا لنتمتع بها مع إلهنا.

فإن الله يطالبنا بالقداسة كي يتسنى لنا أن نكون في علاقة وثيقة معه، إلا أن كلاً من طبيعتنا وأفعالنا تبعدنا وتقصينا عنه. كيف يمكننا إصلاح هذا؟ هذا ليس في وسعنا. فإننا مخلوقات غير كاملة، ولا يمكننا أن نجعل من أنفسنا مقدَّسين، تمامًا كما لا يمكن ليد ملوثة بالوحل أن تنظف قميصًا أبيض اللون.

لكن الله هو الوحيد الذي يمكنه إصلاح علاقتنا به، وهو يقوم بهذا من خلال إمدادنا بالقداسة التي يطالب هو نفسه بها. فهو يأخذ زمام المبادرة (١ يوحنا ٤: ١٩). ومن خلال يسوع، ينقذنا إلهنا من عواقب خطايانا. فهو يعطينا ما ليس في إمكاننا أن ندبّره بأنفسنا، ولهذا فإننا أحيانًا ما نشير إلى هذا بأنه “إنجيل النعمة”. فإن النعمة تعني “الهبة”، أي شيئًا قد أعطي لمن لا يمكنهم تدبير حاجاتهم بأنفسهم، كأن يُعطَى قميص جديد لمن لوّثوا قمصانهم بالوحل.

قداسة الله:

يقدم لنا اسم يسوع المسيح قدرًا كبيرًا من المعلومات عن الكيفيّة التي بها نصير قديسين. فإن اسم يسوع يعني “مخلص”، أي أن مهمة يسوع وإرساليته كانت أن يحرّرنا (أو يخلصنا) من عواقب خطايانا. أما كلمة “المسيح” التي تُضاف إليها، فهي وصف لهدف مجيء يسوع أكثر من كونها اسمًا بحد ذاتها. لكنها لقب يعني “الممسوح”. فإن الله الآب قد مسح يسوع ليكون مبعوثه الخاص لإمداد البشريّة بقداسته. وقد وعد الله لقرون عديدة، من خلال أنبيائه، أنه سيرسل مسيحه كي يخلّص شعبه (أعمال ٣: ١٨-٢٠). ومع ذلك، فقد أصاب أغلب الناس الدهشة والذهول حين تبيّن أن هذا الممسوح كان هو ابن الله.

لقد جاء يسوع باعتباره حاملاً لصورة الله الكامل. وعلى الرغم من لاهوته، إلا أنه حمل الصفات والخصائص البشريّة (غلاطية ٤: ٤-٥؛ فيلبي ٢: ٦-١١). فقد صار هو الله المُتجسّد (كلمة مُتجسّد تعني “في الجسد”). شابهنا المسيح في كل شيء ما خلا شيء واحد: أنه كان بلا خطية (عبرانيين ٤: ١٥). فليس فقط إن يسوع لم يفعل خطية، لكنه أيضًا إذ حُبل به بالروح القدس في رحم العذراء مريم، فهو لم يكن لديه أي فساد طبيعيّ، ذلك الفساد الذي يشترك فيه البشر الآخرون (متى ٢: ٢٠-٢٣).

وهكذا فإن قداسة المسيح لها فائدتان بالنسبة لنا. أولاً، هي تظهر لنا الكيفية التي نحيا بها لأجل الله. فإن امتلأت حياة ما من المحبة وخلت من الأنانية، فهي حينئذ تشبه حياة يسوع (١ يوحنا ٣: ١٦). ومن خلال يسوع نتعلم كيف نحيا الحياة الأفضل، لنكون كما قصد الله لنا حين خلقنا — بشريين تمامًا ومع ذلك في شركة تامة وكاملة مع الله. وماذا إن أعوزنا مثل هذا السلوك ومثل هذه الشركة ولم نستطع الثبات فيها؟ ماذا إذًن؟ حينئذ نكون في حاجة إلى الإمداد الثاني الذي تدبره قداسة يسوع. ذلك الإمداد يتجاوز تعليمنا كيفية الحياة لأجل الله، ويمكِّننا فعليًا من أن نحيا مع الله باستيفاء مقاييسه.

عدل الله:

إن قداسة يسوع قد جعلت منه الذبيحة الكاملة عن خطايانا. وهذا يبدو غريبًا على آذان العصر الحديث، لكن هذه هي الرسالة التي يقدّمها الكتاب المقدس من البداية وحتى النهاية. فإن خطايانا لا تشكل مجرد إزعاجًا ومضايقة لله. بل قد نتج عن خطايا البشرية معاناة وألمًا لا يمكننا التكهّن به. فإن الله لا يتغاضى عن الغضب الذي نطلق العنان له، والإساءة التي نلحقها، والألم الذي نستخف به، والظلم الذي نتجاهله. فإن إلهًا قدوسًا لا يمكنه ببساطة أن يغمض عينيه أو يغلق أذنيه عن هذه الخطايا. إذ يصرخ ضحاياها مطالبين بتحقيق العدالة، ولهذا فإن رأفة الله تدبّر ما يطالب به برّه من خلال ذبيحة يسوع.

بما أن ابن الله كان بلا خطية، فإن استعداده لاجتياز الألم فوق الصليب، وقبوله العقوبة التي نستحقّها كان تعويضًا يفوق تمامًا أي تعويض آخر يمكن للبشريّة أن تقدمه. فهكذا يفوق بر المسيح إثمنا حتى أن ذبيحته كافية للتعويض عن خطايا العالم بأكمله في كل العصور والأزمنة (رومية ٥: ١٥-١٩؛ عبرانيين ٩: ٢٦-٢٨؛ ١ بطرس ٣: ١٨؛ ١ يوحنا ٢: ٢). وقد قبل الله ذبيحة يسوع كبديل عن تحمّلنا نحن العقوبة (١ بطرس ٢: ٢٤). فهو قد سدّد ديننا الذي لم نستطع تسديده للعدالة (مزمور ٤٧: ٧-٩؛ تيطس ٢: ١١-١٤). وهكذا فإن آلامه تكفّر عن أخطائنا (أي تغطيها) (١ يوحنا ٤: ١٠). وموته ينجّينا من الجحيم الذي نستحقه (غلاطية ٣: ١٣-١٤).

وهكذا يعد إمداد المسيح هذا بشارة مفرحة رائعة لمن يصارعون منا مع الخطية والشعور بالذنب. فلم يكن بإمكان أخي دافيد في السجن تسديد دين الجرائم التي ارتكبها، كما أننا نحن المذنبون بالخطايا لا يمكننا محو الدين الذي ندين به لإله قدوس من أجل كسرنا لشريعته. ولكن لأن يسوع قد جاء ليسدّد ديننا الروحيّ على الرغم من فقرنا الروحي المُدقع، فإن دافيد وأنت وأنا يمكننا أن نحيا بقلوب خالية من الخزي والعار.

بر المسيح:

إن ذبيحة المسيح قد أرضت عدل الله (رومية ٣: ٢٠-٢٦). وهكذا أصير روحيًا وكأني لم أخطئ قط (إشعياء ١: ١٨). ويشير اللاهوتيون إلى الإعلان الذي يصرّح به الله عن هذه الحالة المقدّسة الجديدة باسم “التبرير”. فإن التبرير ينشأ من عملية تبادل رائعة وقعت فوق صليب المسيح. فهو قد حمل خطايانا في جسده، وبالتالي أعطانا بره (٢ كورنثوس ٥: ٢١؛ ١ بطرس ٣: ١٨). وهو قد شابهنا (صار خاطئًا)، حتى نشابهه نحن (نصير مقدّسين).

فإن تدبير المسيح العظيم الذي قام به لأجل الخطية يسمح لي بالإقرار بعظم خطية أخي، وخطيتي، وخطيتك. فبغض النظر عن بشاعة وحجم الشر في حياة جميع البشر، لكن يمكن التكفير عن خطاياهم هم أيضًا من خلال ذبيحة يسوع.

وأحد براهين هذا الخبر السار هو الجزء الثاني من الآية التي قمت باقتباسها في بداية هذا الفصل. فقد كتب الرسول بولس: “الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا” (١ تيموثاوس ١: ١٥). فقد جدّف بولس على يسوع سابقًا، وقتل أتباعه. لكنه الآن يستطيع التباهي بأن كفّارة المسيح قد عوّضت تمامًا عن هذه الأخطاء، ليس بسبب تفاهة خطية بولس، بل بسبب عِظَم الصليب. فقد كانت ذبيحة يسوع كافية للتكفير عن أعظم الخطايا وعن أعظم الخطاة.

محبة الله:

لكن كيف لنا أن نتأكد من أن تدبيرات المسيح هذه هي لنا؟ فإن يسوع نفسه تحدث بأن البعض سيكون مصيرهم الجحيم (يوحنا ٣: ١٨؛ متى ٢٣: ٣٣)، وهكذا فإننا نعلم أن كفارة المسيح — على الرغم من كفايتها للجميع — لكنها ليست للجميع. أي يقين لنا إذن بأنها لنا؟ تكمن الإجابة في تذكيرنا بأن الله يدبّر ما يطالب به.

فإن الله لا يطالبنا بأن نسعى لنوال صفحه. فهو لا يخبرنا أن نؤدّي بعض المهام الروحيّة العظمى، أو أن نشعر بندم شديد خاص للتعويض عن خطايانا. لكن في المقابل، الخبر السار هو أن الله يمدّنا بصفحه بالنعمة وحدها (رومية ٣: ٢٣-٢٤). فهو يهبنا محبته بدلاً من أن يطالبنا بالسعي لنوالها.

فإن كان لابد لنا أن نربح محبة الله، حينئذ سيكون من الصعب للغاية أن نطيع وصيته العظمى: “تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ” (متى ٢٢: ٣٧). فحينما يجعل الناس محبتهم لنا مشروطة بخدمتنا لهم، فإننا يمكننا أن نخدمهم، لكن لا يمكن أن نحبهم. فإن قال أب لطفله: “سوف أحبك فقط إن حصلت على درجة ممتاز في الرياضيات، وقمت بجز العشب، وإطعام القطة”. في هذه الحالة ربما يطيعه الطفل بالفعل، لكنه في النهاية لن يحب ذلك الشخص الذي كانت محبته له مناورة.

ولهذا فإن الرب، الذي يطالبنا بأن نحبه، يمدّنا بما يمكِّننا من فعل هذا بجعل محبته هبة غير مشروطة. يقول الكتاب المقدس: “نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً” (١ يوحنا ٤: ١٩). فإن الله هو الذي يبادر كي يُبيّن محبته غير المشروطة.

الأمانة العهديّة:

يعلمنا الكتاب المقدس قدرًا أكبر عن الله الذي أخذ زمام المبادرة من خلال المكتوب عن العهود التي قطعها مع شعبه. فمن خلال هذه العهود يعد الله بأن يحب شعبه محبة غير مشروطة. لم تكن هذه العهود عقودًا. فإن العقد يمكن فسخه حين لا يتم استيفاء شروط التعاقد، إلا أن الإخفاق لا يبطل عهد الله. ولهذا يمكن لشعب الله أن يقولوا: “إِنْ كُنَّا غَيْرَ أُمَنَاءَ فَهُوَ يَبْقَى أَمِينًا” (٢ تيموثاوس ٢: ١٢).

يعد خروج شعب إسرائيل من العبوديّة واحدًا من أفضل الأمثلة عن هذه المحبة العهديّة. فقبل بضعة قرون، وعد الله بأن يحب إبراهيم ونسله. ومع ذلك فقد خذله هذا النسل مرارًا وتكرارًا. ثم صاروا عبيدًا في مصر حتى أرسل الله موسى ليخرجهم من العبوديّة. لكن لم يعطهم الله الوصايا التي كان من المفترض أن تمكّن بني إسرائيل من أن يحيوا حياة مقدسة إلا بعد أن نالوا حريتهم.

ويعد ترتيب هذه الأحداث محوريًا لأجل فهمنا لمحبة الله العهديّة. فقد أنقذ الله الشعب من العبوديّة قبل أن يعطيهم الناموس. فهو لم ينتظر حتى يطيعوه كي يخلصهم (انظر تثنية ٥: ٦)، فهو لم يقل لهم: “أطيعوني فأحبكم”. بل في أمانته العهديّة، قال: “أنا قد أحببتكم بالفعل قبلاً وخلّصتكم، ولهذا لابد أن تتبعوا هذه الشرائع التي من شأنها أن تبارك حياتكم”.

إن نعمة الله من نحونا — في محبته لنا حتى قبل أن نحبه أو نطيعه — هي جزء رئيسيّ من خبر الإنجيل السار (رومية ٥: ٨). فإن كان الله ينتظرنا حتى نصلح حياتنا كي يحبنا، فحينئذ يكون الأمل معدومًا لشخص مثل أخي الذي كان يقبع في تلك الزنزانة. لقد كانت حياة دافيد خرابًا وفوضى. ولم يكن من سبيلٍ يمكنه به إصلاح الخطأ الذي فعله. فهو لم يكن يمتلك الحريّة الجسديّة ولا القدرة العقليّة لإصلاح هذا الضرر الذي تسبب به لآخرين. لكنه حين أقرّ بالحق القائل بأن يسوع قد أحبّه وسيعينه، حينئذ صارت نعمة المسيح لدافيد بالرغم من أعوام طوال من الخطية، وحياة كاملة من العجز.

لم يعتد دافيد طوال حياته أن يتحدث إلى عائلته سوى بعبارات بسيطة وهمهمات. لكنه حين وضع ثقته في محبة يسوع له، بدأ في إرسال خطابات لنا. لم نكن نعلم حتى أنه يستطيع الكتابة. صحيح أن التهجئة والقواعد اللغويّة كانت طفوليّة، لكنها تحسّنت مع الوقت، مثلما تحسّنت قدرة دافيد على وصف إيمانه. فقد كتب الآتي من السجن: “يستطيع الله أن يصنع معجزات لكل من يؤمن به. أنا أؤمن بالله. فهو قد أرسل ابنه يسوع ليموت عن خطايانا. فهكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد. وكل من يؤمن به لن يهلك بل تكون له حياة أبدية”.

ومن خلال اقتباس دافيد لكلمات يوحنا ٣: ١٦، أخبر جميع من يعرفهم عن إنجيل يسوع المسيح: فإن هذا الإنجيل عظيم بما يكفي لكل العالم، ولجميع خطايانا، وهو متاح لجميع من يؤمنون به.

الإيمان بالمسيح:

إن الإنجيل متاح لجميع من يؤمنون بيسوع. فإن الله لا يقول إنه سيخلّص من يتسلقون الجبال، أو يتغلّبون على إدمانهم، أو يخفّفون من حدّة الفقر، أو يصلون إلى مستوى منشود من الصلاح. لكنّه يخلّص من ببساطة يؤمنون بيسوع مخلصًا لهم (يوحنا ٣: ١٦).

تساعدنا حالة دافيد على فهم طبيعة هذا الإيمان. فلا ينبغي أن تضلّلنا المفاهيم المغلوطة القائلة بأن الإيمان بيسوع هو عبارة عن شيء صالح بداخلنا يجعله يحبنا. فوفقًا لهذا التفكير، هذا الإيمان يجعلنا أفضل من الآخرين. إلا أن مثل هذه التعريفات للإيمان ليست منطقيّة على الإطلاق. فكيف يمكن لعمل تافه كالاعتراف بموت يسوع عن الخطايا التعويض عن تجديف الرسول بولس وارتكابه لجرائم القتل؟ كيف يمكن لإيمان أخي البسيط بذبيحة المسيح أن يعوّض عن جرائمه السالفة؟ إن كان الله يضع إيماننا وعدله في كفتي الميزان معًا، فهذا لن يكون عدلاً. فلابد أن ندرك أن ذبيحة المسيح، وليس إيماننا، هي العمل الذي يمكن أن يوضع في الميزان ليكافئ موازين العدل الإلهي.

فإن كان إيماننا هو الذي ربح نعمة الله، حينئذ نكون نحن المسئولين عن خلاصنا. ويُنسَب لنا الفضل في هذا. لكن الكتاب المقدس صريح للغاية في قوله: يسوع يخلّص. فإن إيماننا لا يربح محبة الله أو يستحق نعمته. فكّر في مدى غرابة أن يتباهى رجل ما قد أُنقذ من الغرق في فخر قائلاً: “أنا حي الآن لأني استطعت أن أنادي المنقذ كي يأتي وينقذني”. فإن الجميع سيقرّون بأن هذا الشخص الذي أُنقذ ليس لديه أي سبب يدعوه للافتخار. فقد كان إنقاذه نتيجة لاتكاله على حسن إرادة المنقذ وإمكانياته.

هذا الاتكال الكامل على شخص آخر هو نقيض المفهوم المغلوط الثاني الشائع بخصوص إيمان الخلاص: وهو أن هذا الإيمان يصير كافيًا بسبب قوته في ذاته. فإن الناس يعتقدون أنهم يمكنهم بدرجة كافية من الجهد النفسيّ أو الدراسة اللاهوتيّة ضخ كمية كافية من الإيمان داخل قلوبهم لكي يضمنوا بها محبة الله لهم. لكن الاعتقاد بأن الخلاص يعتمد على امتلاكنا لإيمان فائق هو مجرد وسيلة أخرى نجعل بها الإيمان عملاً نحتاج أن نقوم به بشكل أفضل من الآخرين. وهذا يشبه تباهي الرجل الذي تم إنقاذه قائلاً: “أنا نجوت لأني تمسّكت بالمنقذ بقوة أكثر مما فعل الآخرون”.

لكن كي نفهم الإيمان الكتابيّ، لابد أن نرى أنفسنا منهكين تمامًا من جهة أي محاولة للنجاة روحيًا، ومعتمدين بالكامل على قوة المنقذ (يسوع) كي يخلصنا. فإن رجاءنا لا يمكن أن يتأسس على قوة إيماننا — إذ أن أمواج الضعف والشك أقوى منه بكثير — بل على هبات يسوع وحدها.

فحين أتصور أخي منكمشًا في زنزانة سجن بإمكانياته العقليّة المحدودة، ومشاعره المُنهَكة، وإحساسه العظيم بالذنب، لا أرغب أن يكون أساس رجائه هو قوة إيمانه. بل أريد أن يكون أساس رجائه هو قوة محبة يسوع. فإن دافيد لا يملك قوة الذهن أو العزيمة لفعل أي شيء آخر. بل لابد أن يكون رجاؤه هو ذات رجاء الرسول بولس، الذي علم ما الذي كان يعنيه أن يستنزف كل حكمته، وغيرته، وقوته، كأساس لقبول الله له. فقد كتب: “لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَال كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ” (أفسس ٢: ٨-٩).

وهكذا، ليس الإيمان عملاً، أو تدريبًا عقليًا، أو اختبارًا عاطفيًا. فلا يمكننا أن نفتخر بأن لدينا إيمان كافٍ كي نستحق محبة الله. بل إن الإيمان الخلاصيّ يعبّر عن الاستسلام البشريّ، ويقرّ بأنه لا شيء فينا يجبر الله على أن يحبنا. فإننا نتّكل على يسوع وحده كي يخلّصنا من خطايانا. ولا نثق في كفاية أي شيء نفعله كي نجعل الله يحبنا به — ليس أعمالنا الصالحة، ولا أفكارنا الحكيمة، ولا حتى قوة إيماننا. لكننا نؤمن ببساطة بأن يسوع يخلّص.

إن الإيمان بالمسيح وحده — أي رفض كون الذات أساسًا للرضا الإلهي — هو التأثير الذي يجريه الله في قلوبنا باستخدامه لجميع إحباطاتنا ويأسنا كي يقودنا إلى اتكال كامل عليه. حين لا يكون لدينا أي أساس للرجاء سوى يسوع، فإننا نتحوّل عن كل شيء آخر إليه. هذا هو أحد الأسباب التي لأجلها يقول بولس أن الإيمان نفسه هو عطية من الله (أفسس 2: 8-9). فإن الإيمان الخلاصيّ لا يمكن أن يكون شيئًا نستحضره بجهدنا الشخصيّ. فإن لم يكن الله هو من جعل قلوبنا تنبض بحبه، لكنّا جميعًا الآن أموات روحيًا (حزقيال ٣٦: ٢٦؛ أفسس ٢: ١).

الاتّكال على المسيح:

ليس الإيمان الكتابيّ هو الثقة في درجة معرفتنا، أو حماسنا، أو توبيخنا لأنفسنا، بقدر ما هو ببساطة الاتّكال على عمل المسيح. فإننا لسنا نتّكل على قوة إيماننا التي تعيننا على التشبث به، بل على قوة محبته التي ترفعنا إليه. فكما يدخل رجل قوي البنية إلى مصعد غير مستند على عضلاته بل على الكابلات والأسلاك الموجودة فوقه كي ترفعه، هكذا أيضًا الإيمان الكتابيّ لا يتعلّق بالجهد الروحيّ الذي نبذله بل بالاتكال الروحيّ الذي نبديه. فإننا لسنا نتّكل على إيماننا العظيم بيسوع بقدر ما نتّكل على محبته العظيمة لنا (إشعياء ٣٠: ١٥؛ عبرانيين ٤: ٩-١١). فإننا نثق في الرحمة غير المحدودة والثابتة لإله كليّ القدرة وليس في جهود بشريتنا التافهة والمشوبة.

وفيما نفتح قلوبنا لحقيقة محبة الله غير المشروطة، نكتشف سلامًا رائعًا ومدهشًا (رومية ٥: ١-٢). فبدلاً من القلق الذي لا ينتهي حيال إرضاء توقعات الله، أو استرضاء غضبه، نجد قبولاً إلهيًا لا ينضب (أفسس ٢: ١٧-١٩). كما أننا نكتشف أيضًا أن إيداعنا لأنفسنا لدى يسوع ليس هو الحياة في فزع يومي من غضب الله وعبوسه. ولأن إيماننا هذا هو إيمان بعمل المسيح الخلاصيّ وحده، فإن الحياة المسيحيّة لم تعد بهذا حلقة مفرغة من محاولة البقاء في صف الله. لكننا نتّكل على النعمة التي تغطّي خطايانا، وتتغلّب على إخفاقاتنا، وتمنحنا بر يسوع.

فإننا لم نعد نجاهد ونصارع كي نجعل الله يحبنا. بل إنه يحبنا بالفعل! وإن كان ملك السماء يبتسم لنا، فحينها لا يلزمنا أن نيأس من أن بعض مخلوقاته ليسوا كذلك، أو من أن ظروفنا تبدو محبطة. سواء كانت خطايانا بشعة أو عادية، وسواء كنا نعتقد بأن حياتنا غير ذي جدوى أو حافلة بشكل زائد عن الحد، وسواء كنا نحيا في منزل فخم أو في زنزانة سجن، فإن نعمة الله تجعلنا أبرارًا تمامًا كيسوع أمام وجه الله. فهو يحبنا بنفس قدر محبته ليسوع. وأقول لجميع من ناحوا على ذنبهم، وندموا على إخفاقاتهم، وخافوا من المستقبل، إن هذه المحبة هي مصدر رائع للتعزية نتّكل عليه. لكن هناك أيضًا المزيد من الأخبار السارة في الإنجيل.

الله يكمِّل ما يدبره:[2]

إن تبريرنا بالنعمة لهو أمر رائع، لكن هذا ليس كل ما تحويه خطة الله. فإن يسوع المسيح لا ينجّينا من الخطايا الماضية فحسب، لكنّه أيضًا يضمن أبديتنا معه. ولهذا السبب قال يسوع إن كل من يؤمن به “لاَ يَهْلِكَ … بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ” (يوحنا ٣: ١٦). فإن خلاص الله ليس كأنك تنجو من هجوم نمر في يوم، ثم تطرَح في الغابة في اليوم التالي. بل يشمل الإنجيل أيضًا الوسائل التي بها يحفظنا الله آمنين روحيًا إلى الأبد.

الاتحاد بالمسيح:

لا يقتصر الأمر على أن الله يحبنا بقدر محبته ليسوع، لكن نعمة الله تجعلنا فعليًا أولادًا له. فقد كتب الرسول يوحنا: “اُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ اللهِ! الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ!” (١ يوحنا ٣: ١). لكن كيف لأي منا أن يصير ابنًا لله في حين أننا ولدنا من أبوين بالجسد؟ تحوي إجابتنا على العديد من تطبيقات النعمة الواسعة: لقد تبنّانا أبونا السماوي (أفسس ١: ٥-٦).

وكيف تجري عملية التبنّي هذه؟ لقد قمنا بالفعل بوصف جوهر هذه العملية فيما سبق: فإننا نتّكل على المسيح من جهة حياتنا الروحيّة مع الله. وهذا من خلال إقرارنا بحاجتنا ليسوع كي يجعلنا مقدسين، مُقرّين بخطايانا وبعدم كفاية أفكارنا، أو كلماتنا، أو أعمالنا في أن تجعلنا ابرارًا أمام الله. حينئذ يبرّرنا الله بنعمته وحدها، فنصير أبرارًا ومحبوبين كالمسيح تمامًا.

لكننا لم نناقش بعد التطبيقات الكاملة لمثل هذا الاتّكال الروحيّ التام. فإن كان كل جهادنا ليس هو ما ينتج حياة روحيّة مع الله، فإننا بالتالي بمقاييس الإنجاز البشريّ على الأغلب أمواتًا. وبقدر ما يبدو هذا غريبًا، إلا أن الإنجيل يقول إن هذا الاستنتاج صحيح تمامًا. وهذا الموت هو فعليًا الباب الذي يؤدي إلى حياة جديدة في عائلة الله.

متّحدين بالمسيح في موته. بعد أن وصل الرسول بولس إلى استنتاج أن لا شيء من العمل الصالح يمكنه تبرير شخص ما أمام إله قدوس، يضيف: “مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا” (غلاطية ٢: ٢٠). وبقدر ما تبدو هذه الكلمات رهيبة ومخيفة، إلا أنها هي الاستنتاج الواضح والصريح لما يعنيه أن تقف أمام الله على أساس ذبيحة المسيح وليس على أساس قداستك. فإن رجاءنا لا يكمن فيما فعلناه نحن بل فيما فعله هو. ومكانتنا ووضعنا الروحي — أي هويّتنا — مغلّف داخل هويّته.

قد يبدو اتّحادنا بالمسيح في موته أمرًا بشعًا، لكنه فعليًا أمر حسن. فإن كان كل ما هو حق بشأننا قد تسمّر فوق الصليب، فهذا يعني بالتالي أن جميع خطايانا، وقصورنا، وإخفاقاتنا هي أيضًا فوق ذلك الصليب. وإذ صار كل ما يمكن أن يفصلنا روحيًا عن الله فوق الصليب، فهو بهذا يمكنه أن يجتذبنا إليه. لكن أي نفع يعود علينا من هذه الحميميّة وهذا القرب إن كنّا أموات روحيًا؟ يجيب بولس عن هذا بتذكيرنا بأن حياتنا الروحيّة — أي هويّتنا أمام الله — تنبع الآن من مصدر مختلف.

متّحدين مع المسيح في حياته. لسنا متّحدين مع المسيح في موته فحسب، بل إننا متّحدون معه أيضًا في حياته. يقول بولس: “َمعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ” (غلاطية ٢: ٢٠). هذه الكلمات لا تعطينا يقينًا في حياة جديدة مع المسيح فحسب، بل هي أيضًا تمسّ جانبًا مفتاحيًا من الإنجيل بالكاد ذكرناه حتى الآن: القيامة.

حين تألّم يسوع فوق الصليب لأجل خطايانا، أبطل العقوبة التي وقعت أولاً حين تركت البشرية طرق الله. وقد أخبر الله آدم بأنه إن عصى، فهو حتمًا سيموت (تكوين ٢: ١٧). وهكذا كسرت خطية آدم رابطة الحياة الوثيقة التي كانت تربط بين إله قدوس وبين قلب الإنسان. وكان رد الله على هذا أن أقام يسوع من الأموات بقوة الروح القدس كي يبيّن لنا أن تأثيرات ونتائج هذه الخطيّة الأصليّة قد أُبطلت حقًا بذبيحة المسيح (رومية ٨: ١١؛ 1 كورنثوس ١٥: ١٥-٢٠).

وتبرهن حياة يسوع فيما بعد الموت على صحة وعد الله لنا بإبطال الخطية وصحة وعده بالحياة الأبدية. فإن خطيتنا لا تنهي علاقتنا مع الله، كما أن نهاية حياتنا على الأرض لا تنهي هذه العلاقة. فحين تخور أجسادنا الفانية، تستمر أرواحنا في شركة مع الرب إلى الأبد. وسيأتي وقت أيضًا حين يُقيم الله فيه أجسادنا، كما أقام يسوع، حتى نتّحد مرة ثانية جسدًا وروحًا مع يسوع، لكنا سنتحدث عن هذا الجانب من الخبر السار لاحقًا.

أما بالنسبة للوقت الحالي، فمن الهام أن ندرك جيدًا أن روح كل مؤمن، كنتيجة لقيامة يسوع، صارت متّحدة بالفعل بالمسيح. فبالرغم من موته، إلا أنه يحيا ثانية، وهو يحيا بداخلنا — في اتّحاد روحيّ مع أرواحنا. تذكّر قول الرسول بولس: “المسيح يحيا في”. فإن كنا بالحقيقة أمواتًا (لأن لا شيء نفعله يدعم موقفنا الروحيّ أمام الله)، وإن كان يسوع حيًا فينا (لأن روحه متّحدة بأرواحنا)، فإننا بالتالي قد حصلنا على هويّة يسوع. وبهذا كل ما هو حق بشأنه — أي حكمته، وقداسته، وبره — يستبدل غباءنا، وخطيتنا، وتمرّدنا (١ كورنثوس ١: ٣١). وحقًا يبتهج الرسول بكون المسيح هو حياتنا (كولوسي ٣: ٤)، قائلاً: “لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ” (فيلبي ١: ٢١). وهكذا فمن خلال اتّحادنا الروحيّ بالمسيح، يصير كل ما يُخزينا ويوصمنا بالعار في عداد الأموات، ويصير كل ما يُكرمه لنا.

امتيازات أهل البيت:

وإذ قد تشاركنا في هويّة المسيح، صرنا أعضاء في عائلة الله (عبرانيين ٢: ١١). لا توجد أهمية لخلفياتنا الشريرة والبشعة. فالأشياء العتيقة قد مضت، ولنا الآن حياة جديدة في المسيح (٢ كورنثوس ٥: ١٧). وكل من يتّحد بالمسيح هو ابن الله كالمسيح نفسه. ومن خلال هذا “التّبني”، يمنحنا الله ضمانات خاصة كي يعيننا على أن نُكرم المسيح الذي نشترك الآن في هويّته.

وضع غير متغير. الضمان الأول الذي لنا هو ضمان عدم تغير وضعنا. فحين صدر الحكم على أخي لأجل جريمته، تم السماح لعائلتي بالاجتماع معه في زنزانة احتياطيّة قبل اصطحابه إلى السجن. وفي أثناء هذا الاجتماع رنّم أبي عبر دموعه ترنيمة قديمة لأخي الذي كان قد صار مؤمنًا حديثًا، لكنه لا يستطيع الخروج من السجن:

تصير السجون لي قصورًا،

إن سكن يسوع معي هناك.[3]

وبهذا التعبير الحنون لهذه الكلمات، أكّد أبي لدافيد على محبته له، وعلى تعزيات محبة الرب لدافيد. وعلى الرغم من وصم دافيد لأبي بالعار وخيانته له بصورة بشعة، إلا أنه كان لم يزل ابنًا له. فلا شيء فعله دافيد كان يمكنه أن يغير من طبيعة تلك العلاقة.

هكذا أيضًا، لا تغيّر أفعالنا من طبيعة علاقتنا بالله (عبرانيين ١٠: ١٤). فحتى حين نخطئ ونخون محبته، فإننا لا نتوقف عن كوننا أبناءه. فإن وضعنا الروحيّ لا يتحدّد بما نفعله بل بما فعله المسيح. وبما أن المسيح يسكن بداخلنا، فإن الله يحبنا. وهذا الضمان في لطفه غير المحدود يعطينا الرغبة في إكرامه والاستعداد للرجوع إليه حين نخطئ (رومية ٢: ٤).

ربما يؤدّبنا الله كي يبعدنا عن عواقب أكثر ضررًا من التأديب تنتج عن تمردنا، إلا أن هذا التقويم الروحيّ ليس لأنه يحبنا بقدر أقل. بل الغرض من تأديب أبينا السماوي لنا هو أن يعيننا وليس أن يؤذينا على الإطلاق. حتى حين نجتاز في مخاض أسوأ التأديبات التي يوقعها الله بنا، فإننا نظل محبوبين بشكل غير محدود ومحفوظين روحيًا (عبرانيين ١٢: ٥-١١). إذن كأبناء لله، فإن وضعنا لا يتغيّر قط.

حماية دائمة وثابتة. بسبب عدم تغيّر وضعنا، فإن لنا أيضًا ضمان من الله بحمايته الثابتة والدائمة لنا. على الرغم من أن هذا الوعد بالحماية الدائمة والثابتة قد يجعل أولئك الذين يعلمون قصص الشهداء المسيحيين أو المؤمنين العاديين الذين اختبروا الألم والمآسي يقهقهون، لكن حماية الله حقيقيّة وجديرة بالثقة.

وكيف يمكن لمن يجتازون باستمرار في تجارب الحياة أن يؤمنوا بحماية الله الثابتة والدائمة؟ الإجابة تكمن في تذكّر أن هذه الحياة ليست هي نهاية وجودنا، بل وليست هي الجزء الأهم منه. فقد قال يسوع: “وَلاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ” (متى ١٠: ٢٨).

إن اهتمام الله الأكبر هو أن يُؤمِّن وضعنا الأبديّ وليس أن يسهّل من وجودنا الوقتيّ. ولهذا السبب يسيّج الله بسياج روحيّ حول حياتنا حتى لا يدخلها أي شيء يمكنه أن يدمّر وضعنا الأبديّ معه. ففي النهاية، كيف يمكن لله أن يحبنا بقدر محبته لابنه، ثم يسمح لنا أن نفعل شيئًا أو نجوز في شيء ما يمكن أن تنتج عنه أبديّة في الجحيم؟ نعم سنواجه الكثير من الصعوبات والمشقات في هذا العالم الساقط (تكوين ٣: ١٧-١٩)، لكن الله لن يسمح قط بأي شيء قد يمزّق علاقتنا به ويفسدها (رومية ٨: ٣٥-٣٩).

ليس من المحتمل أن نعلم الأسباب المحدّدة لأي تجربة معيّنة حتى يفسّرها الله لنا في السماء، لكننا نعلم بالفعل أهداف الله العامة ومقاصده. فقد قال الرسول بولس: “وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ” (رومية ٨: ٢٨). هذا وعد مذهل ورائع: فإن أحداث الكون ليست عشوائيّة. لكن الله يعمل كل شيء لخير شعبه. ثم يستكمل بولس حديثه لوصف ماهيّة ذلك “الخير”. فيقول إن كل الأشياء تعمل معًا للخير لنكون مشابهين صورة ابن الله “لِيَكُونَ هُوَ بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ” (رومية ٨: ٢٩).

فإن عمل الله اليوميّ هو تكميل وتوسيع عائلته حتى تأهل السماء بأعداد كبيرة من أبناء مشابهين صورة يسوع. فإن إلهنا، كي يبني فينا (ويظهر للآخرين) شخصيات مشابهة لصورة المسيح، يسمح بأن نجتاز في تجارب هذا العالم. هذه التجارب تفطمنا عن المحبة الزائدة عن الحد للأرضيات، وتساعدنا على فهم القيمة الأكبر لأولويات الله الأبديّة، والحياة لأجل هذه القيمة (٢ كورنثوس ٤: ١٧). ومع ذلك فهو لا يسمح لنا قط بما يفوق قدرة احتمالنا (١ كورنثوس ١٠: ١٣)، ولا يبعد عنا قط حضوره المحب (عبرانيين ١٣: ٥)، وفي وسط التجارب التي تزيد من إيماننا، كثيرًا ما يمنحنا بركات لتعزيز إيماننا (مراثي إرميا ٣: ٢٣).

فإن الله يقيس بدقة كلاً من الدموع والضحكات اللازمة لوضعها في وصفة طعام خيرنا الأبدي (وخير الآخرين). ولهذا السبب لم يكن من السذاجة أن يكتب أخي دافيد من داخل السجن في ليلة ما: “أحزن كثيرًا حين أفكر في أمي وأبي [في ألمهما]، وسأبكي لبعض الوقت قبل أن أصلي، ثم أذهب للنوم”. قد يقهقه شخص سفسطائيّ بصوت عالٍ على صلاة تصلى لإله هو نفسه من سمح بأسباب هذه الدموع. ولكن لم تكن دموع دافيد إنكارًا ليد الله العاملة في حياته، بل كانت هي السبب ذاته الذي لأجله احتاج أن يصلي. فقد آمن دافيد بأن الله يمكنه أن يعمل بشكل يفوق ألمه وتمرده لكي يحقق خيرًا أعظم. في ذلك الوقت، لم يكن بإمكان دافيد معرفة الخير الأعظم الذي كان الله يجريه، لكنه كان على وشك أن يعلمه قريبًا جدًا إذ أعلن الله أيضًا عن قوة مثل هذه الصلوات.

القوة الشخصية. الضمان الثالث الذي نناله في التبنّي هو القوة الشخصيّة. فإن الوسائل التي يستخدمها الله ليجعل كل الأشياء تعمل معًا للخير لهي أروع بكثير من الوعد نفسه. على سبيل المثال، يأتي وعد الله بجعل كل الأشياء تعمل معًا للخير في سياق حديث عن الصلاة. فإن الرسول بولس يقرّ أولاً بالآتي: “لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي” (في تناقض صارخ مع بعض المعاصرين الذي يدّعون أنهم يعلمون بالتأكيد). ثم يضيف: “وَلكِنَّ الرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا. … لأَنَّهُ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يَشْفَعُ فِي الْقِدِّيسِينَ” (رومية ٨: ٢٦-٢٧). يا للروعة! فحتى إن كنا لا نستطيع أن نعرف القدر الكافي كي نوجه الله لفعل الأفضل، فإن الروح القدس يترجم صلواتنا إلى التماسات كاملة كي تتحقّق مشيئة الله.

وحين نقدم التماساتنا لله في ظل رغبة أعظم في أن تتمّ مشيئته (قارن متى ٦: ١٠)، فهو يستجيب بأن يجعل كل الأشياء تعمل معًا لخيرنا. فإن الله يعيد تشكيل العالم وفقًا لنا حتى يتحقق الأفضل لنا من الناحية الروحيّة. ومن خلال صلواتنا، نشترك مع الله في خلق واقع جديد. فإن كل شيء يتغير لأننا نصلي، ليس لقوة صلواتنا أو جودتها، بل لأجل قوة وروعة الإله الذي نصلي له.

فقد كان التصريح الذي كرّره كتبة العهد الجديد في رسالة الإنجيل هو أن يسوع رب. لم يكن هذا التصريح مجرد حديثًا أدبيًا فصيحًا، بل كان هو التصريح الفعليّ بأن من خلق كل شيء قد جاء كما وعد الله كي يخلص شعبه بسلطان إلهيّ (مرقس ١: ١٥؛ أعمال الرسل ٢: ٣٦؛ ١٠: ٣٦). هذا السلطان سيصل إلى ذروته عند نهاية كل شيء، لكنه اليوم أيضًا يغيّر كل واقع من خلال صلواتنا.

وقد اكتشفت عائلتي أن مثل هذه الوعود الإنجيليّة ليست باطلة (إشعياء ٦٥: ٢٤؛ أفسس ٣: ٢٠). فقد كانت أحد الأسباب التي بكى أخي دافيد لأجلها هو انفصال أمي وأبي. فقد أبعدت بينهما عقود من الضغوط، وجعلت تجربة أخي أصعب احتمالاً بكثير. وهكذا، وبعد رجوع دافيد إلى الله، بدأ في الصلاة لأجل أبوي الشيخين، واللذين كانا قد انفصلا منذ ما يقرب من خمسة عشر عامًا، كي يصيرا معًا مرة أخرى. وأشفقت عليه للغاية من أن أقول له ما اعتقدته بعدم جدوى صلاته. لكني كنت على موعد مع تذكر بعض الحقائق الكتابيّة التي كان قلبي في حاجة لتذكرها مرة أخرى.

فقبل بضعة أسابيع من حفل زفاف ابنتي الكبرى، اتصلت بي والدتي قائلة بأنها قد رتّبت للمجيء مع أبي. وأضافت: “سنمكث في الفندق ذاته، وفي الحجرة ذاتها.” وفي ظل صمتي المصدوم، همست قائلة: “تذكّر، هذا ليس أمرًا مخزيًا، فنحن لازلنا زوجين”.

فسألتها: “أمي، هل سارت الأمور بينك وبين أبي إلى حال أفضل؟”

أجابتني وسط دموعها: “لقد تعلمنا أنا ووالدك من خلال تعاملنا مع صعوبات أخيك، أن نستند على بعضنا البعض مرة أخرى”. حينها أجهشت بالبكاء، وتعجّبت من هذا الإله الذي يجعل كل الأشياء تعمل معًا للخير، ويستخدم أبسط أمور العالم ليخزي بها الحكماء (١ كورنثوس ١: ٢٧). كان ينبغي أن أتوقّع من الرب أكثر بكثير مما كنت أتوقعه. إلا أن أخي الصغير المحدود عقليًا، والمُدان، وحبيس السجن، قد صدق كلمة الله ببساطة وصلّى طالبًا المعونة منه، فاستجاب الله بحسب مشيئته.

والآن حين يزور أبواي، ذوي التسع وسبعين والاثنين وثمانين عامًا، أخي في السجن، يسيران معًا عبر أبواب مغلقة بالأسلاك الشائكة ممسكين بأيدي بعضهما البعض. وأقول الآن لجميع من يتجرأون على أن يصدقوا هذا معي: “هذا الإنجيل حقيقيّ، فهو يغيّر العالم”. لن أعدكم بأن الله سيستجيب لما نطلبه بالتحديد، أو أننا دائمًا ما سنعاين نتائج صلواتنا في أثناء فترة حياتنا، لكني أعدكم بهذا — لأن كلمة الله أيضًا تعد به — بأن الله سيجعل كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبونه.

النمو الروحيّ. إن القوة الشخصيّة التي يضمنها لنا التبنّي لا تطبّق على العالم الخارجيّ فحسب، بل على كياننا الداخليّ أيضًا. فالمؤمنين لا يصلّون بإخلاص شديد لشيء أكثر من أن تمجّد حياتهم مخلصهم. ولكننا نظلّ محاصرين بالتجارب، بل ونُهزَم في أحيان كثيرة جدًا من ضعفنا الروحيّ. ولأجل هذه الصراعات يقدّم الإنجيل ضمانًا رابعًا لأولاد الله: فإن الله يمنحنا الموارد الداخليّة اللازمة لمحاربة الخطية.

يطلق على العمليّة التي ننمو من خلالها لنشابه صورة المسيح: “التقديس”. وهناك بعض الوسائل العمليّة الي بها تساعدنا كلمة الله على أن ننضج هكذا. أولاً، يخبرنا الكتاب المقدس بما ينتظره الله منا. فهو لا يتركنا فريسة للتخمينات. بل يعطينا الله تعليمات تبقينا آمنين روحيًا، وتتمّم رغبتنا في تمجيده. وفي حين يعتبر العالم شرائع الله وقوانينه هادمة للذّات، يدرك المؤمنون جيدًا أن وصايا الله تقودنا فعليًا في مسالك تسرّه وتشبعنا نحن أيضًا.

وكي لا ننجرف في خداع هذا العالم، يخبرنا الله أيضًا بأن نتعلّم من كلمته، ونظل في شركة معه في الصلاة، ونعبده مع شعبه، ونطلب المشورة من أولئك الكاملين في طرقه. وعن طريق الاستخدام المنتظم لهذه التي تدعى “وسائط النعمة”، ننمو في التقوى. إن وسائط النعمة هذه تصير إلى حد ما فعّالة فقط لأننا كائنات طبيعيّة تستجيب للعمليّات الطبيعيّة من التعلم والسلوك. فإن كنّا عطشى، فإن رشفة من الماء ستؤدّي الغرض، وإن كنّا نصارع مع تجربة ما، فإن المشورة الكتابيّة تعيننا على الابتعاد عنها.

إلا أن تقديسنا ليس مجرد عملية طبيعيّة. بل يقول الكتاب المقدس إن مصارعتنا الروحيّة ليست مع دم ولحم بل مع أجناد الشر الروحية، بداخلنا وخارجنا (أفسس ٦: ١٢). هذه المصارعات تحتاج لمقاومة أكبر مما يمكن للعزيمة البشريّة الإمداد بها. ولهذا يستخدم الرب أيضًا وسائط النعمة كي يمدّنا بقوة فائقة تلزمنا للانتصارات الروحيّة التي نحتاجها.

هذه القوة الروحيّة تدخل إلى حياتنا برفقة إيماننا بأننا صرنا كما تقول كلمة الله عنّا: خليقة جديدة في المسيح يسوع. فقبيل حلول المسيح في قلوبنا، كنا غير قادرين على ألا نخطئ. لكن يسوع قد غيّرنا. فهو يمد قلوبنا بروحه القدوس ليبكّتنا على الخطيّة (أي لإقناعنا بأنها حقًا خاطئة)، وكي يشدّد من مقاومتنا. نحن لسنا عاجزين أمام إبليس (كولوسي ١: ١٣). فقد قال الرسول يوحنا: “الَّذِي فِيكُمْ [الروح القدس] أَعْظَمُ مِنَ الَّذِي فِي الْعَالَمِ [إبليس]” (١ يوحنا ٤: ٤). فإن الروح نفسه الذي أقام يسوع من الأموات يسكن فينا ويمدّنا بقوة تغلب الخطية وتهزمها.

سيحاول إبليس أن يقنعنا بأن الفشل أمر طبيعي، وأننا لسنا بقادرين على مقاومة الخطية. ولكن كلمة الله تقول إننا نستطيع أن نقاوم لأننا لم نعد متكلين على قوتنا الطبيعيّة وحدها (رومية ٨: ١١). بالتأكيد إن لم نؤمن بإمكانيّة النصرة، فحينئذ نكون قد خسرنا المعركة بالفعل. ولهذا فإن الإيمان البسيط بحق كلمة الله هو بداية النصرة الروحيّة. فإن الاستخدام المنتظم لوسائط النعمة يدعم الإيمان الذي به يمكننا التصرف بناء على واقع وحقيقة قوتنا.

الضمان الروحيّ. ومن أغراض وسائط النعمة أيضًا أن تغرس في أعماقنا القناعة الراسخة بأننا حتى إن لم نربح كل معركة، إلا أننا نظل محبوبين بالقدر نفسه. وقد كتب صديق بحكمة عظيمة قائلاً: “إن من يعلمون أنهم إن لم يصيروا بحال أفضل قط، يظلون محبوبين بالقدر ذاته، هم وحدهم من يصيرون في حال روحيّة أفضل”. يبدو هذا مستحيلاً ومناقضًا للترتيب المنطقيّ. فإن علم الناس أن إخفاقهم لا ينقص من محبة الله، ألن يبقوا حينئذ في خطاياهم؟ نعم، فإن بعض النفوس المتمرّدة أو الفاقدة للحس تستغل النعمة استغلالاً سيئًا، لكن هذا لن يحدث مع أولئك الذين أسلموا أنفسهم لروح الله.

قبل أن نفهم معًا كيف أن محبة الله الثابتة تعزز القداسة بالفعل، نحتاج إلى تناول سؤال مفتاحيّ: “ما الذي يمنح الخطية سلطانًا في حياتك؟” الإجابة هي: “الخطية لها سلطان في حياتك لأنك تحبها”. إن لم تكن الخطية تجذبك، فهي لن تملك أي سلطان لإغوائك. الآن لدي سؤال آخر: “ما هي الوسيلة الوحيدة لاقتلاع محبة الخطية؟” الإجابة هي: “محبة أكبر”. فحين نحب يسوع أكثر من محبتنا للخطية، نرغب في إرضائه أكثر من رغبتنا في التساهل مع الخطأ (يوحنا ١٤: ١٥). فإن محبتنا ليسوع تطرد محبة الشر التي تعطي الخطية سلطانها وقوتها، وتطرحها خارج حياتنا.

والآن لدي سؤال أخير: “ما الذي يجعلك تحب يسوع؟” مرة أخرى يجيب الكتاب المقدس بوضوح: “نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً” (١ يوحنا ٤: ١٩). الآن صرنا أخيرًا نفهم أنه ليس صحيحًا أنه إن “أحبنا الله بالرغم من خطايانا، حينئذ سننغمس فيها حتى الثمالة”. لكننا حين نحبه بالحقيقة، نرغب في إرضائه. وما يجعلنا أكثر رغبة في إرضائه هو معرفة أن محبة الرب الثابتة لا تتوقف ولا تنتهي أبدًا (مراثي إرميا ٣: ٢٢-٢٣). فإن نعمته المثابرة تجاه أولاده هي القوة الدافعة والمحفزة نحو القداسة في قلوبنا (رومية ١٢: ١-٣).

بعد أن قضى دافيد في السجن وقتًا ليس بكثير، بدأ يرسل لنا بالبريد أوراق مكتوبة في عجالة من آيات كتابيّة، وكلمات من ترنيمات العبادة التي كانت مجموعة الصلاة التي يشترك فيها ترنم بها. كما بدأ في التوقيع على كل خطاباته هكذا: “ليبارككم الرب”. فعلى الرغم من أنه كان في السجن، مواجهًا إغواءات وتجارب تفوق ما يمكننا تخيله، لكنه كان يرى نفسه أداة لإعلان مجد الله. فهو كان يريد أن تعكس حياته النعمة التي اختبرها. لا أحد يجبره على كتابة هذه الكلمات، ولا أحد يستطيع. إلا أن محبته ليسوع قد صارت قوة دافعة في حياته، وهذا ينطبق دائمًا على من يعرفون محبة المسيح غير المشروطة ونعمته التي لا تنضب.

الميراث الأبديّ. الضمان الخامس لأولاد الله يكمن في ميراثهم (أفسس ١: ١٤؛ ٢: ٧). يقول الكتاب المقدس إن أولاد الله بالتبني وارثون مع المسيح (رومية ٨: ١٧). لا يسعنا في هذه المساحة الصغيرة سوى أن نذكر قدرًا ضئيلاً من العناصر الرئيسيّة لهذا الخبر السار. العنصر الأول هو الحياة الأبديّة، والذي هو ليس بمثابة أعوام لا تنتهي من عزف القيثارات على السحب. فحين يموت المؤمنون، تدخل نفوسهم على الفور إلى محضر أبينا السماويّ المجيد (1 كورنثوس ٥: ٨؛ فيلبي ١: ٢١-٢٤). هناك يصير القبول الكامل، والفرح الكامل، والسلام الكامل لنا في الحال، لكن هذه ليست نهاية القصة (لوقا ٢٣: ٤٣). ففي يوم ما سيأتي المسيح ويجدّد الأرض التي خلقها في الأصل حسنة جدًا (إشعياء ٦٥: ١٧-١٩؛ رومية ٨: ٢١-٢٣). وستُرَد جميع الامتيازات والفوائد التي تمتّعت بها البشريّة في الأصل في جنة عدن — أي عالم ممتلئ بتدبير الله وعنايته، خالٍ من الألم (رؤيا ٢١: ٤).

سيتم استرداد الخليقة، وسنتجدّد نحن روحًا وجسدًا وذهنًا (١ كورنثوس ١٥: ٥٢-٥٤). فإن أخي المسجون لن يختبر فحسب غفران الله التام، لكن جسده سيصير نقيًا وطاهرًا مرة أخرى، وسيصير ذهنه صحيحًا وكاملاً للمرة الأولى. سيصير أخي ممجدًا أكثر من الملائكة (١ يوحنا ٣: ٢-٣). وسيتجوّل بحريّة في الخليقة الجديدة مرفوع الرأس، لامع العينين، قلبه مبتهج بالجمال المحيط به. أما عائلتي، أولئك الذين قد رحلوا بالفعل عنّا، بالإضافة إلى العتيدين أن يدخلوا إلى السماء، فسيجتمعون معه مرة أخرى، ومع جميع من يحبون يسوع (١ تسالونيكي ٤: ١٤-١٨). سنحتفل ونبتهج على مائدة ربنا، ونتلذذ بصلاحه، ونتمتع إلى الأبد بعالم قد صار كاملاً بنعمة إلهنا. فإن من جاء كي يخلّص الخطاة يعطي خلاصًا هذا مقداره، حتى أنه يرد الأرض بأكملها، ويشمل كياننا بالكامل، ويدوم إلى الأبد (رؤيا ٢١: ١).

من يكمّله الله يستخدمه:[4]

قصد فرديّ:

إن محبة المسيح الممتدة تجاه شعبه وتجاه عالمهم — والتي ظهرت في فدائه لكليهما — لها تأثير قوي على جميع من يحبونه. فإننا إذ نحبه، نحب أيضًا الأشياء والأشخاص الذين يحبهم. فبعد وقت قصير من تكريس أخي دافيد حياته للمسيح، كتب ذلك الأخ — الذي كان فيما سبق دنسًا بالقول والفعل — الآتي: “أحب يسوع حبًا شديدًا [حتى أنني الآن] لا أتحمل أن يستخدم الناس اسمه باطلاً. أريدهم أن يعلموا مقدار صلاحه”. حين يسكن يسوع في قلوبنا، فإن قلبه يصير لنا (رومية ٦: ٤-١١).

إن من يحبون المسيح يرغبون في إرضائه بأن يحبوا أولئك الذين يحبهم. فإننا نتلذذ بكوننا سفراء عنه لغير المؤمنين، ويديه للمحتاجين، وصوته للمقهورين، ووكلاء على الخليقة التي خلقها في عناية منه بالجميع. كما أننا نبتهج بامتداد عائلة المسيح فوق الحدود البشريّة للعرق، والمكان، والفئة، والثقافة، ونتلذذ بأن نحب الجميع بمقتضى هذا. وفيما نعبر عن محبة المسيح في داخلنا ونظهرها، فإننا نحن الذين كنا قبلاً أنفسنا معوزين نكتشف في نهاية الأمر جانبًا أخيرًا من خلاص المسيح: القصد الإلهي.

لقد نجونا بالفعل من حياة باطلة وبلا قيمة، وأيضًا من حياة مليئة بالخطيّة (١ بطرس ١: ١٨). فإن يسوع يجعل من المنكسرين أناسًا نافعين. فهو لم يكن قد انتهى بعد من عمله في ذلك الرجل الذي طرحته إخفاقاته في زنزانة بالسجن مع أخي. فحين شارك ذلك الرجل إيمانه مع أخي — الذي كان من عرق آخر — اختبر كلاهما محبة المسيح، وصارا أخوين روحيًا إلى الأبد.

ومرارًا وتكرارًا تلقّى أخي المعاق مساعدة في السجن من رجال كان من المفترض أن يفرّقهم عرقهم أو خلفياتهم في المجتمع الطبيعيّ. وفيما تعلّم دافيد محبة أعظم من تعصّبه وتحيّزه، صار أداة لمحبة المسيح. فإن ثقته البسيطة فيمن يختلفون عنه وصداقته معهم قد دشّنت بداخل حوائط السجن مجد العلاقة الأخويّة الأبديّة في السماء.

قصد جماعيّ:

إننا نشترك في مقاصد المسيح المُغيّرة كأفراد لكن أيضًا كجماعة. فإننا من خلال الكنيسة ننادي بخبر المسيح السار بالكلمة والفعل حتى ينتشر ملكه وحكمه من قلب لآخر عبر كل الأمم (كولوسي ١: ٢٢-٢٤). فإن ملكوته التام هو القصة التي تكشف عنها كلمة الله تدريجيًا منذ صفحاتها الأولى. فإن إلهنا لن يترك خليقة متألّمة في ألمها. وعلى الرغم من الخيانة التي أدّت إلى انهيار العالم والساكنين فيه، لم يتخلّ الله عن ذلك العالم أو عن أولئك الساكنين فيه. فهو يفتدي الشعب حتى يعرفوا نعمته ويساهموا في امتدادها. وهكذا، فإن الخلاص الذي يأتي به الله هو لأجل الخطاة وهو أيضًا من خلالهم. ونحن في الكنيسة نجتمع معًا كي نسبّحه لأجل هذا الصلاح، وكي نشجّع أحدنا الآخر كي نحيا له، وكي نساعد الآخرين على إدراك محبته المُغيّرة واختبارها.

إن قصة الخلاص القديمة والتي تم إعلانها هي لأجلنا، وهي تشملنا، وهي أيضًا تجمعنا في حضن أكبر. فهناك قصد يفوقنا، وفي تتميمنا لهذا القصد مع الآخرين، نحتفل مع جسد المسيح بهويتنا الجماعيّة. فإن المسيح يمنحنا كجماعة تتميمًا لامتداد ملكوته واشتراكًا فيه، ذلك الملكوت الذي يغير كل شيء لمجده (أفسس ١: ٢١). وفيما نعيش في جماعة مؤمنين، مشجّعين، ومرشدين، ومشدّدين، ومسامحين بعضنا بعضًا، نصير نورًا وملحًا مغيّرًا للعالم الذي نحيا فيه (متى ٥: ١٣-١٦؛ أفسس ٣: ١٠-٢١).

قصد فدائيّ:

لقد خلصنا لأجل هذا الامتياز العظيم أن نشترك في عمل المسيح المغيّر، ونحن لأجل هذا القصد العظيم، نكرم ملكنا ونعكس نعمته في جميع أبعاد حياتنا — أي في علاقاتنا، وأعمالنا، وتسلياتنا، وعبادتنا. فإننا لا نحجب أي جانب من حياتنا ونمنعه أن يعكس مجد المسيح حيث ينشر ملكه في كل أنحاء وأبعاد الحياة.

لا يمكن للاختلافات الطقسيّة واللا دينيّة أن تستخدم لعزل أمور المسيح عن أي جانب من جوانب الحياة. فهو الرب الذي جاء وسيأتي كي يسود بملكه الرحيم والمنعم على الكل. فهو يخلّصنا كي نكون له. وإذ نجد أكبر قدر من الاكتفاء والشبع في تكريس كل جانب من جوانب حياتنا له، هو أيضًا يتلذّذ باستخدامنا لأجل مقاصده الأبديّة وكي يفتدي العالم من خلال جهودنا الفرديّة والجماعيّة.

حين أعلن كتبة الأناجيل عن إنجيل يسوع المسيح، كان هذا الإعلان عادة مصحوبًا بإعلان أن رب الكل قد جاء. ولا يوجد فرح يمكن أن يصاحب مثل هذا التصريح إن كان يشير فحسب إلى بداية حكم طغياني مستبد. ولكن إن أتى الملك ليخلص الخطاة، وكان خلاصهم هذا يتضمّن قلبًا متجددًا، وحياة تتميز بالقوة، وعالمًا متغيرًا، حينئذ يكون هذا هو حقًا الخبر السار. فإن هذا الخبر سار حتى أن الملائكة أنفسهم يشتهونه، ونحن أيضًا من نحب مانح هذا الإنجيل أيضًا نعتز بالمناداة به (١ بطرس 1: ١٠-١٢). وسواء اختبرنا سجنًا للجسد، أو الذهن، أو العادات، أو الذنب، أو العلاقات، أو الظروف، فإن يسوع المسيح يأتي كي يخلصنا أبديًا من كل هذا. هذا هو الخبر السار، وهذا هو الإنجيل!

[1] هذا الجزء من القصة مرتبط بمواضيع “خلق البشريّة”، و”السقوط”، و”خطة الله”، و”فداء المسيح”، و”تبرير الخطاة”، الموجودة بإقرار إيمان هيئة ائتلاف الإنجيل.

[2] هذا الجزء من القصة مرتبط بمواضيع “قوة الروح القدس”، و”ملكوت الله”، و”شعب الله الجديد”، و”المعمودية وعشاء الرب [أي وسائط النعمة]، و”رد كل شيء”، الموجودة في إقرار إيمان هيئة ائتلاف الإنجيل.

[3] “How Tedious and Tasteless the Hour,” John Newton (1779).

[4] هذا الجزء من القصة مرتبط بمواضيع: “ماذا ينبغي أن تكون علاقتنا بالمجتمع المحيط بنا؟”، و”ما هي الخدمة التي مركزها الإنجيل؟”، الموجودة في الرؤية اللاهوتية لهيئة ائتلاف الإنجيل للخدمة.

 

شارك مع أصدقائك