الموقف المسيحيّ من الحروب

تُعَدُّ الحرب من الشرور الضرورية التي نشأت عن سقوط الإنسان في الخطية. فهي شر في ذاتها! وكما قال صموئيل شومايكر: «ليست الحرب هي الوقت المناسب للتفكير في مشكلة الشر؛ بل الحرب هي صورة مكبّرة لمشكلة الشر ذاتها». وقد صدق المثل القائل: «الحرب حلوة لمن لم يجرّبها». فلا جدال في قبح الحرب. وكما أشار أحدهم: «هناك شرور عديدة أشد من الحرب، غير أن الحرب تجلب معها كل تلك الشرور». وهناك شبه إجماع عام يؤيد الدعوة إلى السلام. فتعاليم يسوع تحضّ على السلم، وشعوب الأرض تتعطش إليه. إلا أنه، كما في جوانب كثيرة من الحياة، هناك تناقض غريب بين طبيعة الحرب ووسائل تحقيق السلام. فلا أحد يبتغي الحرب، ومع ذلك تبدو الحرب تعبيراً حتمياً في العلاقات الإنسانية. وهكذا يجد الإنسان عامة، والمسيحي بخاصة، نفسه في مواجهة التوترات الملازمة والغموض الأخلاقي الكامن في قضية الحرب، إذ أن الحرب شر من جهة، لكنها من جهة أخرى — أو في بعض الحالات — قد تحقق بعض الخير من خلال إحلال السلام، وترسيخ العدل، وصيانة حياة الأبرياء.

إذن، كيف ينبغي لنا أن نجيب على معضلة الحرب؟ وكيف للمسيحي أن يواجه الإشكال الأخلاقي المرتبط بمقاومة الشر؟ قدّم روبرت كلاوس في كتابه، في إطار سعيه لمعالجة هذه القضية، أربعة آراء مسيحية متباينة لأربعة كُتّاب حول موضوع الحرب، هم: هيرمان هوُيِت (مبدأ عدم المقاومة)، مايرون أوجسبورجر (مبدأ اللاعُنف)، آرثر هولمز (مبدأ الحرب العادلة)، و هارولد براون (مبدأ الحروب الوقائية). ويهدف كلاوس من هذا الكتاب تزويد القارئ بالمعلومات الضرورية لاتخاذ قرار عقلانيّ بشأن الموقف المسيحي الصحيح من الحرب.

مبدأ عدم المقاومة (Non-Resistance)

يدافع هيرمان هوُيِت عن هذا الموقف بوصفه موقفاً إيجابياً فاعلاً وليس انسحابياً سلبياً كما يُفهم في كثير من الأحيان. ويؤكد أن استخدام القوة وخوض الحرب أمر قد يكون مشروعاً بالنسبة للحكومة من جهة وظيفتها الزمنية، لكنه لا يليق بالمؤمن المسيحي الذي ينتمي إلى جماعة الكنيسة المنفصلة عن الدولة من حيث الجوهر والغاية. فبما أن العنف الجسدي وسيلة جسدية زمنية، فإنه يناقض طبيعة الخدمة الروحية التي دُعي إليها المؤمنون. فيقول هوُيِت:

إن كان محرماً على المؤمنين استخدام القوة لتحقيق مقاصد روحية، فهو أيضاً محرّم عليهم أن يشاركوا العالم في استخدام القوة لتحقيق أهداف زمنية.

فبحسب هذا المنظور، فإن عدم المقاومة ليس سياسة مرحلية أو خياراً اجتماعياً، بل مبدأ لاهوتي ينسجم مع تعاليم الكتاب المقدس عبر عصوره. وأما عن حروب العهد القديم، فيؤكد هوُيِت على انتقال مركز الثقل بين تدبير الناموس في حقبة إسرائيل، وتدبير النعمة في حقبة الكنيسة من العدل إلى المحبة، وأعلنت مشيئة الله بعدم المقاومة لجميع أبنائه.

أما علاقة المؤمن بالسلطة الحاكمة، فيرى هوُيِت أن ولاء المسيحي الأول لله، ثم للحكومة طالما أنها لا تخالف وصايا الله. وبما أن الحرب شر ومناهضة لمشيئة الله، فعلى المسيحي أن يمتنع عن المشاركة فيها، وإن كان بإمكانه أداء مهام غير قتالية إن لزم الأمر.

مبدأ اللاعُنف (Pacifism)

في دفاعه عن هذا المبدأ، يتساءل مايرون أوجسبورجر عن مدى المشروعية الأخلاقية في قتل إنسان قد مات المسيح لأجله. فبسبب موت المسيح، أصبحت كل حياة بشرية ذات قيمة لا نهائية. ويؤمن أوجسبورجر أن طريق اللاعُنف هو أكثر من مجرد امتناع سلبي عن العنف؛ بل هو ممارسة بناءة وفاعلة في العالم. فالحياة السلمية تعني أكثر من غياب الحروب؛ إذ تشكل منهجاً وجودياً يمس قيم الإنسان في جميع جوانبها. فالمسيحي، على خلاف غير المؤمن، مسلّح بالمحبة التي إن أُتيح لها المجال، ستخترق المجتمع بشكل فاعل وفدائي ومخلص. فالمحبة وحدها قادرة على مواجهة العنف الشرير في هذا العالم.

ويذهب أوجسبورجر إلى ما هو أبعد من هوُيِت بدعوته إلى سلمية شاملة كاملة، حيث يتعين على المسيحي أن ينفصل انفصالاً تاماً عن كل ارتباط بالأنظمة العسكرية، حتى في الوظائف غير القتالية. بل إن دعوته وإرساليته هي أن يُنادي المجتمع كله إلى التخلي عن السلاح ونبذ العنف. ويتفق مع هوُيِت في الفصل بين الكنيسة والدولة، لكنه يرى مع ذلك أن تعاليم العهد الجديد يجب أن تُطبّق على البشرية جمعاء، ولذلك فالسلمية ومبدأ اللاعُنف واجبة على كل المجتمع الإنساني.

مبدأ الحرب العادلة

يعرض آرثر هولمز رؤية مغايرة تماماً لمسألة الحرب، فهو يؤمن بأن على المسيحيين واجباً أخلاقياً للمشاركة في الحروب العادلة. وهو يرفض الفصل القاطع بين العهدين القديم والجديد، مؤكداً أن المحبة لا تنسخ شريعة العدل، بل تحقق مقاصدها. فتعاليم المسيح، كما يرى، تجسد حقيقة الناموس وروحه: «العدالة المشفوعة بالمحبة». فالمحبة لا تكتفي ببذل النفس، بل تطالب أيضاً بحماية الأبرياء من الظلم.

ونظراً لسقوط الإنسان، يستحيل استئصال كل الشرور؛ فكل فعل بشري، مهما سمت مقاصده، ينطوي على نتائج سلبية ما. ومن ثمّ، يتطلب التقييم الأخلاقي الصحيح الجمع بين الواجب الأخلاقي) بالإضافة إلى نتائجه. لهذا السبب يستند الرسول بولس في رومية 13 إلى مبدأ العدالة مانحاً الدولة الحق في معاقبة فاعلي الشر باستخدام السيف. ويرى هولمز أن هذا المبدأ التشريعي ملزم عالميًا لجميع البشر (رومية 1-3).

وعند إسقاط ذلك على قضية الحرب، يُطبّق المبدأ ذاته: فالدافع العادل الوحيد لدخول الحرب هو الدفاع ضد العدوان. ويقول هولمز: «لو التزم جميع الأطراف بهذا المعيار لما وُجد معتدٍ أصلاً، ولما نشبت الحروب». ووفقاً لرومية 13، فإن سلطة استخدام القوة محصورة بالحكومات الشرعية وحدها. وبما أن العدالة المشفوعة بالمحبة تستلزم حماية الأبرياء، يعارض هولمز بشدة استخدام الأسلحة النووية غير الاستراتيجية التي تهدد المدنيين بشكل جماعي.

ويعترف هولمز بأن تطبيق نظرية الحرب العادلة في السياق المعاصر بالغ التعقيد، إلا أنه يرى أن المسيحي يظل ملزماً بالمشاركة في الدفاع العادل عن السلام والحق ما دام ذلك ممكناً. وإن تعذر عليه المشاركة وفق معايير العدالة، فإن الاعتراض الضميري الانتقائي يصبح البديل المشروع له.

مبدأ الحروب الوقائية

يمثل هذا الموقف تطوراً يتجاوز نظرية الحرب العادلة إلى صيغة الحرب الوقائية، ويمثله هارولد براون. يدعو براون إلى المشاركة في الحروب الهادفة إلى منع أو تصحيح المظالم الشنيعة. فكما أن الدفاع عن النفس مشروع ــ بحسب براون ــ فإن الضربة الاستباقية تصبح مشروعة في بعض الظروف؛ إذ إن التهديد الشديد بالعدوان يُعد في جوهره نوعاً من العدوان الفعلي.

وبالتالي قد يُقال: إن أفضل سبيل لمنع الحرب هو أن تكون مستعداً لها استعداداً تاماً. وإن توافرت الغيرة الحقيقية لتحقيق العدالة، فإن المبادرة إلى شن حملة عسكرية تصبح مبررة متى أمكن بذلك وقف شر أو عنف أكبر.

إلا أن هذا الموقف يطرح إشكاليات جوهرية، من أبرزها: كيف يمكن للإنسان أن يعلم متى يجب أن يحارب إذا لم تتوفر لديه كل المعلومات الضرورية؟ وكيف يُحاسب إن أخطأ؟ ويجيب براون بأن عبء القرار الأخلاقي النهائي يقع على عاتق قادة الدولة. لذا من الأفضل أن يتولى المسيحيون المسؤوليات العامة، إذ هم الأقدر على ممارسة السلطة باتزان واتخاذ القرارات الصائبة لمصلحة الأمة.

تعليق ختاميّ

لقد قدّم كلاوس خدمة قيمة لجمهوره المسيحي بجمع طروحات متعددة تتناول قضية أخلاقية ولاهوتية معقدة وحساسة كقضية الحرب. وتتمثل قوة الكتاب أساساً في بنيته المنهجية؛ إذ إن التفاعلات النقدية بين الكتّاب تسلط الضوء على الإشكالات اللاهوتية والفلسفية والمعيارية المتداخلة في قضايا الحرب.

غير أن الكتاب لا يتجاوز كونه مدخلاً تمهيدياً إلى هذه القضايا، إذ أجد ــ باستثناء هولمز ــ أن معظم المواقف المعروضة تفتقر إلى التوازن، والدقة اللاهوتية، والعمق التفسيري. فكل من هوُيِت وأوجسبورجر فشلا في التمييز المنهجي بين العنف والقوة المشروعة، وبين القتل والاغتيال. كما أخفق كل من هوُيِت وأوجسبورجر وبراون في إبراز التكامل الضروري بين المحبة والعدالة؛ إذ رفع هوُيِت وأوجسبورجر قيمة المحبة فوق العدل إلى حد تهميش العدل، بينما ضخّم براون مبدأ العدل حتى ألغى فاعلية المحبة إلا لفئة محدودة من الأتقياء.

إلى جانب ذلك، تظل موضوعات مركزية أخرى بحاجة إلى مزيد من البحث المعمق، كالعلاقة بين الوحيين الخاص والعام، والتمييز بين الكنيسة والدولة، والعلاقة بين العهدين القديم والجديد. وهذا دور القارئ الكريم في السعي نحو المزيد من البحث والتفتيش حتى تكوّن صورة تراها كتابيّة ومتزنة.

شارك مع أصدقائك