التعريف
يدعيّ أرباب الخلاص الكونيّ أن مصير الفرد ليس مؤكّدًا بشكلٍ نهائيّ عند الموت، وأن في النهاية، كل شخصٍ سوف يَخلُص بواسطة المسيح.
المُلخَّص
على الرغم من ازدياد شعبية الخلاص الكونيّ داخل المسيحيّة، إلا أنه لم يَكُن أبدًا جزءًا من المسيحيّة التاريخيّة القويمة. يتناول هذا المقال الأسس التفسيريّة التي يستخدمها المنادون بالخلاص الكونيّ (Universalism) والتي تجعل من عقيدة محبة الله الأمر المحوريّ الوحيد. ثم سنطرح الاعتراضات ضد هذا الفِكر مؤكّدين على الإطار الكتابيّ الواضح لوجود حالتين نهائيتين في الأبديّة. ثم في نهايّة المقال، سنعود لعقيدة محبة الله لنؤكِّد أنه لا تعارُض بين محبة الله والعذاب الأبديّ في الجحيم.
الخلاص الكونيّ: تعريفه وجاذبيته
يُركّز الخلاص الكونيّ على روعة عالميّة إنجيل يسوع المسيح. هذا الاتساع الرحِب يشهد عنه الرسول يوحنا الذي رأى “جَمْعٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ، مِنْ كُلِّ الأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ وَالشُّعُوبِ وَالأَلْسِنَةِ، وَاقِفُونَ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الْخَرُوفِ” (الرؤيا ٩:٧). ويتحدث بولس عن الابن الذي صَالَح “بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ: مَا عَلَى الأَرْضِ، أَمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ” (كولوسي 20:1). ولكن من ناحية أخرى، فإن الخلاص الكونيّ–والاعتقاد بأن جميع البشر سَيخلُصون في نهاية المطاف، لم يكن أبدًا جُزءًا من المسيحيّة التاريخية القويمة والتي أكّدت في جميع تقاليدها الرئيسيّة على وجود حالتين نهائيتين لا رجعة فيهما: السماء والجحيم.
وعلى الرغم من أن الخلاص الكونيّ كان يُعتَبَر في أغلب الأحيان خارجًا عن الإيمان القويم بل وهرطَقَة، إلا أنه حافظ دائمًا على وجوده على هامش الايمان المسيحيّ. هذا الفِكر يأتي في جميع الأشكال والأحجام اللاهوتيّة من حيث المُعتَقدات المُصاحبة التي يقوم عليها. ولكن بالتأكيد على مدار القرون القليلة الماضية، اكتسب هذا التيّار داخل المسيحيّة على المستويين الأكاديميّ والشعبيّ بعض المُدافعين البارزين والصريحين، الذين لا يعتقدون فقط أنه صحيح وضروريّ، ولكنهم يجادلون أيضا بأنه خيار معقول ومشروع للإيمان المسيحيّ؛ وبالتالي يُطالبِون بقبوله أو على الأقل التسامح معه ضمن الإطار المسيحيّ. ومن المؤكد حتى لو تمّ رفض الخلاص الكونيّ بحزم، سيكون من الصعب إنكار أن الإعتقاد السطحيّ بأن كل شخص سيخلُص له قوة وجاذبيّة رعويّة مُعيّنة، ولا سيّما لقلوبنا وعقولنا الحداثيّة وما بعد الحداثيّة. ومع ذلك، كما هو الحال مع كافة العقائد اللاهوتية، لابد إخضاع هذه الأفكار لسُلطة الله كما أعلن عن نفسِه في الكتاب المقدس. إن الإعلان الكتابيّ يتكلّم الحَق لجميع الثقافات وعبر التاريخ كله، لضبط أذواقنا الثقافية، ورغباتنا الشخصيّة.
تأويلات المنادون بالخلاص الكونيّ
يعتبر هذا الافتراض المُسبَق المتعلق بسلطان الكتاب المُقدّس أمرًا حاسما في استبعاد العديد من صيغ الخلاص الكونيّ التي لا تؤمن بالسلطة العُليا للكتاب المقدس، ولكنها كما تُصرّح هي عن نفسها “ليبرالية” في منهاجها اللاهوتيّ. لذا، “فأقوى” أشكال الخلاص الكونيّ التي يجب أن ننتبه إليها هي المتمثلة في أولئك الدعاة الذين يدّعون تمسكهم بالمنهج الإنجيليّ حول السُلطة العُليا للكتاب المقدس ككل (بما في ذلك النصوص التي تتحدث عن الدينونة والجحيم). عادةً ما ستجدهم يُقرّون بأغلب العقائد الأساسية والكتابيّة القويمة باستثناء أن مصير الفرد ليس مُقررًا عند الموت (بمعنى أن من هم في الجحيم اليوم لديهم فرصة ليؤمنوا بالمسيح ويخلصوا)، وبأن جميع البشر سيفعلون ذات الشيء في النهاية.
هذا النمط من الخلاص الكونيّ لا يقوم ببساطة على تجاهل النصوص التي تتحدث عن العقاب والجحيم أو تصفيتها (فلترتها)، وإعطاء الأولوّيّة للمقاطع التي تدعّم ذلك. وإنما ما يتبنوه هو نمط التأويل أو التفسير الكونيّ (universalist hermeneutic) الذي يعتقدون بأنه يمكن استنتاج الخلاص الكونيّ بشكلٍ منطقيّ من الكتاب المقدس (من التكوين إلى الرؤيا) ومن الرواية الكتابيّة.
يزعم المنادون بالخلاص الكونيّ أنهم يستطيعون تقديم عناصر التعاليم المسيحيّة بشكلٍ أفضل من الناحية اللاهوتيّة، والفلسفيّة، والرعويّة من تلك الموجودة في الصياغات العقائديّة التاريخيّة.
من الناحية العقائديّة، فإن الكثير من القضايا المُتعلّقة بمحبة الله هي مركزيّة في هذا المضمار. إذ يدّعي أرباب الخلاص الكونيّ أنه إذا كان الله محبة وإذا كان الرجاء المسيحيّ هو انتصار الله النهائيّ، فيجب أن تتوافق جميع أفعاله مع محبته -بما في ذلك قداسته وغضبه وعدله. وبالتالي، يجب أن يكون تناول موضوع الجحيم اظهارًا لمحبة الله ورحمته. فالتركيز الأساسي لهذا التيّار هو أن الهدف من الدينونة والعقاب ليس انتقامًا حصريًا، وإنما غايته هو التصحيح والتنقيّة والإصلاح. ويجب قراءة الرواية الكتابيّة ككل (وليس فقط كل مقطع كتابيّ على حِدا) من خلال هذه العدسة.
مُشكِلَة الخَلاص الكَونيّ
على الرغم من كون هذا المذهب جذاب ظاهريًا، إلا أن هناك العديد من الأسباب التي تحول دون قبوله. وبالتالي على نطاق أوسع علينا أن نسأل لماذا يجب الحِفاظ على الإيمان التاريخيّ القويم للكنيسة؟
أولًا، يفصل الكتاب المُقدس بشكلٍ مباشر بين البشر عبر سلسلة من التناقضات: أولئك الذين هم في المسيح، والذين في آدم، الخِراف والجِداء، الخ. والمصطلحات المُستخدمة لوصف العلاقة بين هاتين المجموعتين هي العداوة والخصومة. ويُمكننا وصف علاقة الله مع “الذين هم في المسيح” و”الخراف” بمصطلحات التأديب الأبوي، والمحبة الأبويّة. أما بالنسبة للجِداء، فسيظلون في النهاية خارج المسيح، فالكتاب المقدس يتحدث عن عذاب أبديّ ودينونة لا رجعة فيها بعد الموت. وصف المسيح هذه الحقيقة بأن الشخص يَخسَر نفسه (مرقس 38:8)، وبأنه [أي المسيح] سينكره ويستحي به (38:8)، وأن الأبواب ستُغلَق (متى 10:25–11). كما يُشدّد العهد الجديد على ضرورة اتخاذ القرار في هذه الحياة بينما لا يزال ذلك ممكناً، وإلا سيتم إقصاءه في الدهر الآتي. فأمثال مثل الحِنطة والزوان، والعذارى الحكيمات والجاهلات، الخِراف والجِداء تنطق بعباراتٍ صارخة. ولا يوجد أي دليل على إمكانيّة تغيير المصير “فِي انْقِضَاءِ هذَا الْعَالَمِ” (متى 40:13).
ثانيًا، أن هذه اللغة الكتابيّة ليست مُجرّد “تحذيرات” قد لا تحدُث في نهاية المطاف؛ بل أن سيكون هناك أُناس من هذه الفئة:
إِذْ هُوَ عَادِلٌ عِنْدَ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ يُضَايِقُونَكُمْ يُجَازِيهِمْ ضِيقًا، وَإِيَّاكُمُ الَّذِينَ تَتَضَايَقُونَ رَاحَةً مَعَنَا، عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ الرَّبِّ يَسُوعَ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ، فِي نَارِ لَهِيبٍ، مُعْطِيًا نَقْمَةً لِلَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ اللهَ، وَالَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ إِنْجِيلَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِينَ سَيُعَاقَبُونَ بِهَلاَكٍ أَبَدِيٍّ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ وَمِنْ مَجْدِ قُوَّتِهِ، مَتَى جَاءَ لِيَتَمَجَّدَ فِي قِدِّيسِيهِ وَيُتَعَجَّبَ مِنْهُ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ. لأَنَّ شَهَادَتَنَا عِنْدَكُمْ صُدِّقَتْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ. (تسالونيكي الثانية 6:1–10)
كما أن المقطعين الرؤيويين في سفر الرؤيا 9:14–11 و10:20–15 يؤكدان على هذا.
ثالثًا، إن محاولة إيجاد أدلة على وجود شكل من أشكال الكِرازة أو فرصة لتغيير القرار بعد الموت هي محاولة بائسة والأدلة متضاربة. فالحافز الأساسي للإرساليّة المسيحيّة هو ضرورة سماع الإنجيل بواسطة الكارزين من البشر في هذه الحياة (رومية 14:10).
لهذه الاسباب وغيرها الكثير، يبدو من الصعب جدًا أن تنتصر استنتاجات أرباب الخلاص الكونيّ على نصوص الكتاب المقدس الواضحة.
استعادة محبة الله من هرطقة الخلاص الكونيّ
من الناحية اللاهوتيّة، ماذا عن محبة الله وتوافقها مع قداسته وغضبه وعدله؟ هل يستلزم ذلك التسليم باستنتاجات تيار الخلاص الكونيّ؟ الإجابة هي لا! إذا تذكرنا أنه في حين أن محبة الله التي أعلنها لنا هي محبة حقيقية وصادقة (بل هي بالحقيقة التعريف الصحيح للمحبة الحقيقية والصادقة)، فإن محبة الله تختلف كمًا ونوعًا عن الحب البشرى. إذ أن الله هو الله، والبشر هم البشر.
في الكتاب المقدس نرى محبه الله تُعلَن وتصل إلينا بطريقة يمكنا فهمها. ولا يُمكننا أن نفترض أننا أكثر عدلًا أو رحمة من الله نفسه. وهذه ليست دعوة للغموض والسرائرية، إنما إقرار بأن الكتاب المقدس يُعلن عن ابعاد مختلفة لمحبة الله التي يجب تميزها.
فهناك الاكتفاء الذاتي وفيض محبة الله الكامل بين أقانيم الثالوث. ثم هناك محبة الله العامة في خلقه للعالم وكل ما فيه، وعنايته المستمرة بخليقته ونعمته العامة. وأخيرًا، هناك محبة الله الخلاصيّة والعهديّة نحو خاصته.
إن الله لا يُناقض نفسه أبدًا، وصفاته غير مُجزّئة وبالتالي فإن محبة الله الكاملة لا تتعارض مع قداسته، وعدله، وغضبه. على سبيل المثال، نرى الارتباط بين العبارة المُكررة في كل آية من مزمور 136: “لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [مَحبتهُ]” مع قوله عن الله “الَّذِي ضَرَبَ مِصْرَ مَعَ أَبْكَارِهَا” (10:136)، و”الَّذِي ضَرَبَ مُلُوكًا عُظَمَاءَ” (17:136).
إن محبة الله لا تتعارض مع بقاء الجحيم مأهولًا إلى الابد بالمخلوقات التي تمادت في تمردها ورفضها لخالقها. وفي صليب المسيح نرى غصب الله وعقابه ودينونته، وكذلك رحمته ومحبته ونعمته تتقابلان بحيث تتحقق عدالة الله. هذا هو لُبّ وأساس الإنجيل الذي يجب أن نعلنه للجميع.