رسالة يعقوب (2): طريقان للحكمة

YouTube player

 


المقدمة


 

لقد وَاجَهْنَا جَمِيعًا في وقت ما أَوْضَاعًا اشْتَمَلَتْ عَلَى تَحدِّيَّات كانت مُربِكة ومُحبِطة لنا. وَفِي هَذِهِ الظُّرُوف، كَثِيرًا كنا نتمنى أن نَجِد صَدِيقًا يَفْهَم مَا كَان يحدث مَعَنَا فِعْلا، وَيُمْكِنْهُ أَنْ يُعْطِينَا بَعْض النصائح العَمَلِيِّة لنتبعها. ويكون مِثْل هَذا الصَّدِيق مَصْدَر حِكْمَة يقدم لنا فرحًا عَظِيمًا.

مِنْ نَوَاحٍ عَدِيدَةْ، كان هذا هو حال المؤمنين الأَوَائِل الذين استلموا رِسَالَة يَعْقُوب. فقد واجهوا ظُرُوفًا بتَحَدِّيَات عَظِيمَة، سَبَّبَتْ الْحِيرَة وَالإِحْبَاط لكثيرٍ منهم. وَكَتَب يَعْقُوب لِيُعْطِيَهُمْ حِكْمَة. فكتَب لِيُذَكِّرَهُمْ بِمَقَاصِدِ اللهِ الصَّالِحَة مِنْ وَرَاء ظُرُوفِهِمْ. وعرّفَهُم بأن الله قدّم إرشادًا جديرًا بالثقة ينبغي عليهم اتّباعَه. وأكّد لهم بِأَنَّهُمْ إِنْ قَبِلُوا حِكْمَة الله، فَإِنَّهُمْ سَيَخْتَبِرُون فَرَحًا عَظِيمًا.

هَذا هُوَ الدَّرْسُ الثَّانِي فِي سِلْسِلَتِنَا عن رِسَالَةُ يَعْقُوبَ، وَهُوَ يركّز على أَحَدِ الموضوعات الرَّئِيسِيَّةِ الّتِي تَرْبِطُ كَامِلَ الرِّسَالَةِ. وَقَدْ أَعْطَيْنَا هَذَا الدَّرْسَ العِنْوَانَ “طَرِيقَان للحِكْمَةِ”، لِأَنَّنَا سَنَسْتَكْشِفُ كَيْفَ قَدَّمَت هَذَه الرسالة نَوْعَيْنِ مِنَ الْحِكْمَةِ مقدَّمَين مِنَ اللهِ لِلْكَنِيسَةِ الأُولَى. وَسَنَرَى كَيْفَ تقدّم تَوْجِيهَاتٍ شَبِيهَةً لَنَا نَحْنُ أَتْبَاعَ المَسِيحِ الْيَوْمَ.

رَأَيْنَا فِي دَرْسِنا السَّابِقِ أَنَّ بُنْيَةَ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ وَمُحْتَوَاهَا كليهما يَعْكِسَانِ نوعًا من أدب الحِكْمَةِ اليَهُودِيَّ الشهير وَالْذي كَانَ مُنْتَشِرًا فِي الْقَرْنِ الأول الْمِيلَادِيِّ. وَقَدْ لَخَّصْنَا الغرض الْأَصْلِيَّ لِلرِّسَالَةِ بِمَا يَلِي:

دَعَا يَعْقُوبُ قُرَّاءَهُ أن يطلبوا الحِكْمَةَ مِنَ اللهِ ليكون لهم الفَرَح فِي تَجَارِبِهِمْ.

 اسْتَخْدَمَ يَعْقُوبُ فعليًا الكلمات “الحِكْمَة”، وَفِي الْيُونَانِيَّةِ صُوفِيَّا [σοφία]، و”حَكِيم” وَفِي الْيُونَانِيَّةِ سُوفُوس [σοφός]، فِي مقطعين فَقَطْ مِنْ رِسَالَتِهِ. فَنَجِدُ هَذَيْنِ التَّعْبِيرَيْنِ فِي 1: 2-18، وأيضًا فِي 3: 13-18. لِهَذَيْنِ المَقْطَعَيْنِ أَهَمِّيّةٌ خَاصَّةٌ لِأَنّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُشِيرُ إِلَى طَرِيقَي الْحِكْمَةِ اللّذَيْنِ دَعَا يعقوب قُرَّاءَهُ لِأَنْ يَتْبَعُوهُمَا.

وَالْآنَ، يَنْبَغِي أَنْ نُلَاحِظَ أَنَّهُ حِينَ يُفَكِّرُ البعض في الْحِكْمَةِ فِي رِسَالَةِ يَعْقُوبَ فَإِنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ في تمييز يَعْقُوبَ بَيْنَ الحِكْمَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ السَّمَاوِيَّةِ. وسوف نتناول كِلا هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي وَقْتٍ لاحِقٍ مِنْ هَذا الدَّرْسِ. وَلَكِنْ لِأَجْلِ أغراض هذا الدرس، سَنُرَكِّزُ عَلَى طَرِيقَي الْحِكْمَةِ الرَّئِيسِيَّيْنِ اللَّذِينِ يَتِمُّ التعرف عليهما عادة في تَقَالِيدِ الْحِكْمَةِ اليَهُودِيَّةِ. الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ هُوَ مَا نَدْعُوهُ “بالحِكْمَةِ التَّأَمُّليُّةِ”، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي هُوَ مَا نَدْعُوهُ “بالْحِكْمَةِ العَمَلِيَّةِ”.

تَظَهَرُ الحِكْمَةُ التَّأَمُّليُّةِ بوضوحٍ فِي أَسْفَارٍ مِثْلِ سفري أَيُّوبَ وَالْجَامِعَةِ. فَهَذِهِ الْأَسْفَارُ تَبْحَثُ عَنْ فهمٍ لمَقَاصِدِ اللهِ الْكَامِنَةِ وَرَاءَ التَّجَارِبِ والضيقات. وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الْعَمَلِيَّةُ فَتَظْهَرُ بِأَبْرَزِ صُورَةْ فِي سِفْرِ الْأَمْثَالِ. هذا السِّفْرُ مُخَصَّصٌ بِشَكْلٍ رَئِيسِيٍّ لِتَقْدِيمِ النُّصْحِ وَالْإرْشَادِ فِي شُؤُونِ الْحَياةِ اليَوْمِيَّةِ.

فِي دراستنا عن طَرِيقَي الْحِكْمَةِ اللَّذِينِ نجدهما في رِسَالَةُ يَعْقُوبَ، سنتناول أَوَّلًا طَرِيقِ الْحِكْمَةِ التَّأَمُّليُّةِ. وثانياً، سَنَنْظُرُ إِلَى طَرِيقِ الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ. وَلْنَبْدَأْ بِمَا اهْتَمَّ يَعْقُوبُ بِتَعْلِيمِهِ عَن الْحِكْمَةِ التَّأَمُّليُّةِ.

 


الحكمة التأمليّة


 

وَاجَهْنا جَمِيعًا ظروفًا اعتقدنا أَنَّنَا نَفْهَمهَا، واكتشفنا لاحِقًا أَنَّنَا كُنَّا مُخْطِئِين. فغالباً مَا يجب أن نَنْظُر إِلَى مَا وَرَاء الْمَظَاهِر، ثُمَّ نعيد النظر بتركيز لندرك مَا يَحْدُث فِعْلا. وَمِنْ نَوَاحٍ عَدِيدَة، هكذا بَدَأَ يَعْقُوب كِتَابَة الجزء الرَّئِيسِي مِنْ رِسَالَتِهِ. فهو دَعَا قُرَّاءَهُ لِلنَّظَر إِلَى مَا وَرَاء مَظَاهِر الظُّرُوف الْمُحْبِطَة، لإِدْرَاك مَا كَانَ يَحْدُث فِعْلا فِي حَيَاتِهِمْ.

سنبحث في كَيْفية تناول يَعْقُوبُ لهَذَا النَّوْعَ مِنَ الْحِكْمَةِ التَّأَمُّليُّةِ بِثَلاثِ طُرُقٍ. أَوْلًا، سَنَنْظُرُ إِلَى احْتِيَاجِ قُرَّائِهِ. ثَانِيًا، سَنَرَى الْإِرْشَادَ الَّذِي قَدَّمَهُ يَعْقُوبُ لَهُمْ. وَثَالِثًا، سَنُلاحِظُ الرَّابِطَ بَيْنَ الْحِكْمَةِ التَّأَمُّليُّةِ وَالإِيمانِ. وَلْنَبْدَأْ أَوَّلًا بِاحْتِيَاجِ قُرَّاءِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ لِلْحِكْمَةِ التَّأَمُّليُّةِ.

 

الاحتياج

 تَعَلَّمْنَا فِي دَرْسِنَا السَّابِقِ أَنَّ القُرَّاءَ الأَصْلِيِّينَ لِهَذِهِ الرِّسَالَةِ يَتَأَلَّفُونَ بِشَكْلٍ أَسَاسِيٍّ مِنْ مَسِيحِيِّينَ مِنْ أُصُولٍ يَهُودِيَّةٍ. وفِي الْغَالِبِ أُجْبِرُ هَؤُلَاءِ عَلَى ترك أَورْشَلِيمَ فِي مَوْجَاتِ الاضْطَهَادَاتِ الّتِي تَلَتْ اسْتِشْهَادَ اسْتِفَانُوسَ. وَوَاضِحٌ مِمَّا كتبه يَعْقُوبُ أَنَّ كَثِيرِينَ مِنْ هَؤُلاءِ كَانُوا بِحَاجَةٍ لِلْمُسَاعَدَةِ فِي حَالَةِ الْإِحْبَاطِ وَالْحِيرَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا وهم يُوَاجِهُونَ تَجَارِبَ قَاسِيَةً فِي البلاد الّتِي تشتتوا فِيهَا.

فِي رِسَالَةِ يَعْقُوبَ 1: 2، نَرَى أَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ مُنْشَغِلًا بِاحْتِيَاجَاتِهِمْ هَذِهِ. فبَعَدَ الآيَةِ الافْتِتاحِيَّةِ الأُولَى مباشرة فِي رِسَالَتِهِ، كَتَبَ قَائِلًا:

 اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ. (يعقوب 1: 2)

وَلِفَهْمِ احْتِيَاجِ قُرَّاءِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ، سيفيدنا أَنْ نَنْظُرَ إِلَى بُعْدَيْنِ يَشْتَمِلُ هَذا النص عَلَيْهِمَا. وَلِذَا، سَنَنْظُرُ أَوَّلًا إِلَى تَحدِّي التَّجَارِبِ. وثانياً، سنبحث في التَّجَارِبَ المُتَنَوِّعَةَ الَّتِي كَانَ قُرَّاءُ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ يُوَاجِهُونَها. وَلْنَبْدَأْ بِتَحَدِّي التَّجارِبِ.

تحدي التجارب

الْكَلِمَةُ “تَجَارِب”، فِي رسالة يَعْقُوبَ 1: 2، هي تَرْجَمةٌ للْاسْمِ اليُونَانِيِّ بِيراسْمُوس [πειρασμός]. ويُمْكِنُ تَرْجَمَة هذه الكلمة إِلَى “محنة” وَ”غواية” وَ”امْتِحَانٍ”. وَهكذا أيضًا الفِعْل من هَذا الْاسِمِ هو بِيرَازُو [πειράζω]، ويُمْكِنُ تَرْجَمَتُهُ أَيْضًا إِلَى “يجيز في محنة”، و”يغوي”، وَ”يَمْتَحِنُ”. وسيساعدنا فَهْمُنا لنطاق التَّرْجَمَاتِ المُمْكِنَةِ هَذِهِ فِي فَهْمِ الظُّرُوفِ الَّتِي كَانَ قُرَّاءُ هَذِهِ الرِّسَالَةِ الْأَصْلِيُّونَ يُوَاجِهُونَها. وَهَكَذا، يُمْكِنُ الْقَوْلُ إِنَّهُمْ وَاجَهُوا اختبارات صَعْبَةً، وَإِنَّ هَذِهِ الاختبارات عَرَّضَتْهُمْ لِتَجَارِبَ بِهَدَفِ امْتِحَانِهِمْ.

من المُؤْسِف أَنَّ المؤمنين في العصر الحديث كَثِيرًا مَا يُقَلّلونَ مِنْ أهمية مَا كَانَ يَعْقُوبُ يُفَكِّرُ بِهِ، لِأَنَّنا نعتبر “المحن” وَ”الإغواءات” وَ”الْامْتِحَانَاتِ” وَكَأَنَّهَا أَفْكَارٌ مُخْتَلِفَةٌ وَمُنْفَصِلَةٌ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ. وَلَكِنَّ الْكِتابَ الْمُقَدَّسَ، خَاصَّةً أدب الحِكْمَةِ، مِثْلَ سفر أَيُّوبَ، يقَدِّمُ هَذِهِ الْمَفَاهِيمَ باعتبارها أوجهًا مختلفة لِكُلِّ ظَرْفٍ يشكل تحديًا يُواجِهُهُ شَعْبُ الله.

فالظُّرُوفُ التي تشكل تحديًا هِيَ محن لِأَنّها صَعْبَةٌ وَتَتَطَلَّبُ الْاحْتِمَالَ. وَلَكِنَّ هَذِهِ الظُّرُوفَ لَيْسَتْ مُحَايِدَةً مِنَ النَّاحِيَةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ. إِذْ هِيَ إغواءات تغوي الْإِنْسانَ لِلِاسْتِجَابَةِ بِطُرُقٍ خَاطِئَةْ أَوْ أَثِيمَةٍ. كَمَا أَنَّ الظُّرُوفَ التي تشكل تَحَدِّيَاتٍ هِي أيضاً امْتِحَانَاتٌ مِنَ اللهِ. فهي وسيلة يَسْتَخْدِمُها الله لِامْتِحَانِ حَالَةِ قُلُوبِنَا وَإِظْهَارِ حَقِيقَتِهَا.

وَإِذْ نضع في اعتبارنا الْاحْتِيَاجَ النَّاتِجَ عَنْ تَحَدِّي التجارب، عَلَيْنا أَيْضًا أَنْ نَنْتَبِهَ إِلَى أَنَّ يَعْقُوبَ يَذْكُرُ فِي 2: 2 التَّجَارِبَ الْمُتَنَوِّعَةِ.

التجارب المتنوعة

حين تحدّث يَعْقُوبَ عَنْ التجارب المتنوعة أشار إِلَى عَدَدٍ مِنَ الصُّعُوبَاتِ الْتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى حالات الْاضِطَرابِ والنزاعات بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الْفُقَرَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ الْأَثْرِيَاءِ فِي الْكَنِيسَةِ الْأُولَى.

فَمِنْ نَاحِيَةٍ، كَتَبَ يَعْقُوبُ كَثِيرًا عَنِ التَّحَدِّيَاتِ الْتِي كَانَتْ تُوَاجِهُ الْمُؤْمِنِينَ الْفُقَرَاءَ. فَبِحَسَبِ الْأَصْحَاحَاتِ 2 إِلَى 6 مِنْ سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ، كان كَثِيرُونَ مِنْ مُؤْمِنِي الْكَنِيسَةِ الْأُولَى فِي أُورْشَلِيمَ فُقَرَاءَ. وَلِأَنَّ يَعْقُوبَ كَتَبَ إِلَى مُؤْمِنِينَ كَانُوا قَدْ تَشَتَّتُوا عن أُورْشَلِيمَ بِسَبَبِ الْاضْطِهادِ، فَالْاحْتِمالُ الرَّاجِحُ هو أَنَّ عَدَدَ الفُقَرَاءِ قد ازْدَادَ.

فِي 1: 9، وَفِي 4: 6 من الرسالة، يَدْعُو يَعْقُوبُ هَؤُلاءِ المؤمنين “الْمُتَضِعِينَ” أَوْ “الْمُتَوَاضِعِينَ”، وَهُمَا تَرْجَمَتانِ للْكَلِمَةِ الْيُونَانِيَّةِ تَابِينُوس [ταπεινός]، التي تَعْنِي “ذوي الْمَكَانَةِ الْاجْتِمَاعِيَّةِ الوضيعة”. وَفِي 2: 2، 3، 5، 6، يُدْعُوهُمْ أيضا “الْفُقَرَاءِ”، أو بُتُوخُوس [πτωχός]. يَعْنِي هذا المصطلح “المَحْرُومِينَ اقْتِصَادِيًّا”. كماَ يُشِيرُ فِي 1: 27 إِلَى “الْيَتامَى وَالْأَرَامِلِ”. وَكَثِيرًا مَا يُشِيرُ الْكِتابُ الْمُقدَّسُ إِلَى هَذِهِ الْفِئَةِ بِاعْتِبَارِهِمْ فِئَةً ضَعِيفَةً وَمُعَرَّضَةْ بِشَكْلٍ خَاصٍّ لِلْفَقْرِ وَإِسَاءَةِ المُعَامَلَةِ. وَيُشِيرُ يَعْقُوبُ فِي 2: 2 إِلَى أَنَّ بَعْضَ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ الفقراء كَانُوا يَرْتَدُونَ “لِبَاسًا وَسِخًا”. وَبِحَسَبِ 2: 15، فَإِنَّ بَعْضَ هَؤُلاءِ عَلَى الْأَقَلِّ كَانُوا محرومين لِدَرَجَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا “عُرْيَانِينَ وَمُعْتازِينَ لِلْقُوتِ الْيَوْمِيِّ”.

يسلط يَعْقُوبُ الكثير من الضوء عَلَى الفُقَرَاءِ. ويَسْهُلُ أَنْ نختصر الطريق إلى فهم ما يُحَاوِلُ يَعْقُوبُ أَنْ يَقُولَهُ لَنَا بِافْتِرَاضِ أَنَّهُ كان يِقْصِدُ الْفُقَرَاءَ أَوْ الْمَسَاكِينَ بِالرُّوحِ. وهو يِقِينًا يَقْصِدُ أَنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ مُتَوَاضِعِينَ وَمَسَاكِينَ وَفُقَرَاءَ فِي الرُّوحِ. وَلَكِنَّهُ يُخَاطِبُ احْتِيَاجَاتِ وَظُرُوفَ الْفُقَرَاءِ مَادّيًّا. وَهُوَ كَلامٌ شَبِيهٌ لِمَا نَرَاهُ فِي طرح لُوقَا لِلتَّطْوِيباتِ، حَيْثُ يَقُولُ: “طُوبَاكُم أَيُّها الْمَسَاكِينُ”. فَمَا يِقْصِدُهُ يَعْقُوبُ هُوَ عَلَى الْأَقَلِّ الفُقَرَاءُ مَادّيًّا. فَلِمَاذَا يكون هَؤُلَاءِ مطوّبين بشكل خَاص؟ إِنَّ الْأَمْرَ يَتَعَلَّقُ بِطَبِيعَةِ مَلْكُوتِ اللهِ. فَالمَلَكُوتُ يَهْتَمُّ في مجمله بِرَفْعِ الضُّعَفَاءِ وَوَضْعِ الْأَقْوِيَاءِ. يُمْكِنُكَ أَنْ تَعْمَلَ هَذَا فِي هَذِهِ الحَياةِ. فَيُمْكِنُكَ أَنْ تَتَوَاضَعَ إِنْ كُنْتَ غَنِيًّا، وإِنْ كُنْتَ قَوِيًّا، وَإِنْ كُنْتَ ذا نُفُوذٍ. فالْهَدَفُ الَّذِي يُرِيدُ يَعْقُوبُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ هُوَ زرع شُعُورِ بالتَّوَاضِعِ، والْفَقْرِ، أي أن تكون مسكينًا بالرُّوحِ. لَكِن كان لَدَيْهِ أَيْضًا الْكَثِيرُ لِيَقُولَهُ عَنْ الَّذِينَ هُمْ فُقَرَاءُ فعليًا، فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ كُنوزَكُمْ فِي السَّمَاءِ، وَمَلَكُوتَكُمْ فِي السَّمَاءِ، وَمُكَافَآتَكُمْ وَمَوَارِدَكُمْ سَمَاوِيَّةُ في طبيعتها. وَهَكَذَا، سيحدث انقلاب أُخْرَوِيّ عَظِيم، سَيَجْعَلُ الضُّعَفَاءَ أَقْوِيَاءَ – فسَيَجْمَعُ اللهُ الْبَقِيَّةَ، وسَيَجْمَعُ الْمَرْضَى، والْفُقَرَاءَ وَيَرْفَعُهُمْ فِي مَلَكُوتِهِ – وسيضع قوة الْمُستَكَبِّرِينَ.

د. توماس كين

ذَكَرَ يَعْقُوبُ بعض التَّحَدِّيَاتِ المُحَدَّدَةِ الّتِي تُواجِهُ المُتَوَاضِعِينَ وَالْفُقَراءَ فِي الْكَنِيسَةِ. على سبيل المثال، في 1: 9 أَشَارَ إِلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ أغووا بأن يُحقّروا من ذواتهم، فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ “الْافْتِخَارِ بارتفاعهم” بِصِفَتِهِمْ شَعْبًا مُخْتَارًا مِنَ اللهِ لِأَجْلِ مَجْدِ الْخَلاصِ الْأَبَدِيِّ. وَبِحَسِبِ 3: 9، يُرَى أَنَّ ظُرُوفَهُمْ كَثِيرًا مَا أغوتهم أن يَلْعَنُوا الناس، بَيْنَمَا هُمْ يدعون أنهم يباركون الله ويكرمونه. وَفِي 3: 14، يُحَذِّرُ يَعْقُوبُ مِنْ أَنَّ الْبَعْضَ أغووا بِأَنْ “يكنّوا مَشَاعِرُ غَيْرَةٌ مُرَّةٌ” تِجاهَ الْآخَرِينَ، وَبِأَنْ يُبتلَعوا مَنَ “التَّحَزُّبِ”. وَنَتِيجَةً لِهَذا، يتناول يَعْقُوبُ فِي 4: 1 تَجْرِبَةِ الدُّخُولِ فِي “الْحُرُوبُ وَالْخُصُومَاتُ” دَاخِلَ الْكَنِيسَةِ. وَفِي 5: 7، يَحُثُّ يَعْقُوبُ الْفُقَرَاءَ عَلَى تَجَنُّبِ عَدَمِ التأني بِدَعْوَتِهِمْ لِانْتِظَارِ مجيء الرَّبِّ بِتَأَنٍّ.

وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرى، واجه الْمُؤْمِنُونَ الْأَثْرِيَاءُ تجارباً أَيْضًا. فَبِحَسَبِ سفر أَعْمَالِ الرُّسُلِ 2 إِلَى 6، كَانَ لَدَى البَعْضِ في الكَنِيسَةِ الْأُولَى في أُوْرْشَليم مَا يَكْفِي مَنْ ثروة لِلْاهْتِمَامِ بِالْفُقَرَاءِ مِنْ إِخْوَتِهِمْ وَأَخَوَاتِهِمْ فِي الْمَسِيحِ. وَوَاضِحٌ أَنَّهُ بِرُغْمِ تَشَتُّتِ الْمُؤْمِنِينَ نَتِيجَةَ الْاضْطِهَادِ، كان لا يزال كثيرون فِي الْكَنِيسَةِ فِي وَضْعٍ مَادّيٍّ جَيِّدٍ.

وَصَفَ يَعْقُوبُ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ الْأَثْرِيَاءَ بِطُرُقٍ عِدَّةٍ. فَفِي 1: 10، و2: 6، و5: 1، يُشِيرُ إِلَيْهِمْ يَعْقُوبُ بِبَسَاطَةٍ بِالتَّعْبيرِ “الغَنِيِّ” أَوْ “الْأَغْنِيَاءِ”، وَهِيَ تَرْجَمَةٌ لِلْكَلِمَةِ الْيُونَانِيَّةِ بُلُوسيُوس [πλούσιος]. كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مُصْطَلَحًا شَائِعَ الْاِسْتِخْدَامِ فِي الْإشَارَةِ إلَى الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا فِي الْمُجْتَمَعِ. وَبِحَسَبِ 2: 6، كَانَتْ المَكَانَةُ الْاِجْتِمَاعِيِّةُ لهَؤلاءَ بارزة بِمَا يَكْفِي حَتَّى أنَّهُمْ كَثِيرًا مَا كَانُوا يجرّون الْآخَرِينَ إلَى الْمَحَاكِمِ. وَيُخْبِرُنَا 4: 13 أنَّهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ لِلْاِتِّجَارِ وَالربح. وَيُشِيرُ 5: 2-3 إلَى أنَّهُمْ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِثِيَابِهِمْ وَذَهَبِهِمْ وَفِضَّتِهِمْ. وَفِي 5: 5، يُمْكِنُ وَصْفُ بَعْضِهُمْ عَلَى الْأَقَلِّ بِأنَّهُمْ كَانُوا يَعِيشُونَ فِي حَالَةِ “ترفهٍ وَتَنَعُّمٍ”.

عَرَفَ يَعْقُوبُ أنَّ لِلْغِنَى وَالثَّرَاءُ تَحَدِيَاتِهِمَا. فَبِحَسَبِ 1: 10، كَانَ الْأغْنِيَاءُ يغوون بالْافْتِخَارِ بِأنْفُسِهِمْ بنِسْيَانِ التَّوَاضُعِ الَّذِي تَسَيَّدَ عَلَيْهِمْ كخطاةٍ تائبين. وَيُخْبِرُنَا يَعْقُوبُ فِي 1: 27 أنَّ ثَرْوَتَهُمْ أغوتهم بأن “يَتَدَنَّسُوا مِنَ الْعَالَمِ”. وَيُشِيرُ 2: 7 إلَى أنَّهُمَ أغووا بِأنْ يُجَدِّفُوا بِتَقْدِيمِهِمْ شَهَادَةَ زُورٍ فِي الْمَحْكَمَةِ. وَفِي 2: 16، يَقُولَ يَعْقُوبُ إنَّهُمْ كَانُوا يَمِيلُونَ لَعَدَمِ فعل شَيءٍ لِلْفُقَرَاءِ. وبِحَسَبِ 3: 9، اشترك هؤلاء مع الفقراء فِي لَعْنِ الناس بَيْنَمَا كَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِأنَّهُمْ يباركون اللهَ. وَمِنَ 3: 14، نَعْرِفُ أنَّهُمْ كَانُوا يكنّون فِي قُلُوبِهِمْ أنْوَاعهم الخاصة من “الْغَيْرَةِ الْمُرَّةِ” وَ”التَّحَزُّبِ”. وَبِحَسَبِ 1: 4، تورّطوا فِي الْحُرُوبِ وَالْخُصُومَاتِ. وَفِي 4: 13-16، يُخْبِرُنَا يَعْقُوبُ بأنَّهُمْ أغووا بِأنْ يسلكوا كَمَا لَوْ كَانُوا مُسْتَقِلِّينَ عَنْ اللهِ. وَيَذْكُرُ 5: 3 أنَّهُمْ كَانُوا يكنزون.

يتضح إذن أنَّ الْمُؤمِنِينَ الْأغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ مِنْ قُرَّاءِ رِسَالَةَ يَعْقُوبَ على حدٍ سواء كَانُوا يُوَاجِهُونَ تَحَدِيَّاتٍ عَدِيدَةٍ. وَكَانَتْ كِلْتَا الْمَجْمُوعَتَيْنِ بِحَاجَةٍ لِلْحِكْمَةِ الَّتِي يُقَدِّمُهَا يَعْقُوبُ فِي رِسَالَتِهِ.

والآنَ، بَعْدَ أَنْ رَأَيْنَا كيف ينبعُ اهتمام يَعْقُوبَ بالحِكْمَةِ التَّأَمُّليُّةِ مِنَ الاحتياج الذي خلّفته التجارب الَّتِي وَاجَهَهَا قُرَّاءُ رِسِالَتِهِ، عَلَيْنَا أَنْ نَنْتَقِلَ إِلَى مَوْضُوعٍ آخَرَ وَهُوَ: كَيْفَ قدَّم يَعْقُوبُ الإِرْشَادَ بِشَأْنِ تِلْكَ التَّجَارِبِ.

 

الإرشاد

نَسْتَطِيع أَنْ نَفْهَم بِبَسَاطَة أبعاداً كَثِيرَة للاهُوت المَسِيحِي من خِلال خبراتِنا اليَوْمِيَّة كأتباع للمَسِيح. ولكنَّ هناك تعَالِيم مَسِيحِيَّة أخْرَى لَيْسَتْ بِهذَه السُهُولة. فإِنْ أَرَدْنَا أَنْ نرى مَا يكمن وَرَاء ستار خبراتِنا، من أجل إِدْرَاكٍ أَعْمَق لِمَقَاصِدِ اللهِ المستَتِرة، فَإِنَّنَا نَحْتَاج لِلإِرْشَاد. لذلك قَدَّم يَعْقُوب أَفْكَارًا عميقة لِمُسَاعَدَتنَا فِي اكْتِسَاب الْحِكْمَة التَّأَمُّليُّة-أَي الْقُدْرَة عَلَى تَمْيِيز مَقَاصِدِ اللهِ الْكَامِنَة وَرَاء الصِّرَاعَات وَالتَّجَارِب فِي حَيَاتِنا.

اسْتَمِع إِلَى ما يَقُولُهُ يَعْقُوبُ فِي 1: 3-4، وَإلى الكيفية الَّتِي بِهَا يَصِفُ يَعْقُوبُ الْأفْكَارَ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَنِقَها قُرَّاؤُهُ:

عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْرًا. وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ. (يعقوب 1: 3-4)

ثَمَّةَ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ لِتَلْخِيصِ الْإرْشَادِ الَّذِي يُقَدِّمُهُ يَعْقُوبُ فِي هَذَا الْمَقْطَعِ، وَلَكِنْ لِأهْدَافِنَا فِي هَذَا الدَّرْسِ، نُرِيدُ أنْ نَلْفِتَ النَّظَرَ إلَى أرْبَعَةِ عَنَاصِرَ. أوَّلًا، قَالَ يَعْقُوبُ إنَّ ظُرُوفَهُمْ الصَّعْبَةَ كَانَتْ اِمْتِحَانًا لإيمَانِهِمْ.

الامتحان

حين وَصَفَ يَعْقُوبُ التَّحَدِّيَاتِ الَّتِي كَانَ قُرَّاؤُهُ يُوَاجِهُونَهَا بِالتَّعْبِيرِ “اِمْتِحَانِ إيمَانِكُمْ”، اِسْتَخْدَمَ الْكَلِمَةَ اليونانيّة دُوكِيمُونْ [δοκίμιον]. تُترجم هذه الكلمة “اِمْتِحَانَ” بمعنى تحديد أوْ إثْبَاتِ أصالة شيء ما. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ، كَانَ يَعْقُوبُ يَقْصِدُ إثْبَاتَ أصَالَةِ وَصِحَّةِ إيمَانِهِمْ.

في الواقع، أوْضَحَ يَعْقُوبُ أنَّ قَصْدَ اللهُ مِنْ وَرَاءِ الْكَثَيرِ مِنْ التَّجَارِبِ الَّتِي كَانَ قُرَّاؤُهُ يقاسونها هُوَ تَحْدِيدُ الْحَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِقُلُوبِهِمْ. وَقَدْ أكَّدَ امتحانهم أصالة إيمَانِهِمْ من عدمها. لَمْ يكُنْ هَذِا المنظور عن قَصْدِ اللهِ من التجارب أمراً جَدِيدَاً بالنسبة ليَعْقُوب، بل ظَهَرَ مَرَّاتٍ عَدِيدَةٍ فِي كِلا الْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ.

فَمَثَلًا، قَالَ مُوسَى فِي سفر التَثْنِيَةِ 8: 2 لِشَعْبِ إسْرَائِيلَ:

 وَتَتَذَكَّرُ كُلَّ الطَّرِيقِ الَّتِي فِيهَا سَارَ بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ هذِهِ الأَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الْقَفْرِ، لِكَيْ يُذِلَّكَ وَيُجَرِّبَكَ لِيَعْرِفَ مَا فِي قَلْبِكَ: أَتَحْفَظُ وَصَايَاهُ أَمْ لاَ؟ (التَثْنِيَةِ 8: 2)

ويتضح مِنْ بَقِيَّةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ أنَّ اللهَ يَعْرِفُ كُلَّ شَيءٍ، بِمَا فِي ذَلِكَ قُلُوبَ كُلِّ البشر. وَلَكِن يوضح هذا النص ونصوص أخرى شَبِيهَةً الْحَقَّ الْكِتَابِيَّ بِأنَّهُ فِي تَفَاعُلِ اللهِ مَعَ شَعْبِهِ فِي التَّارِيخِ، كَثِيرًا مَا يَسْتَخْدِمُ الصُّعُوبَاتِ لاختبار مَا فِي قُلُوبِنَا أوْ لإظهاره.

وَفِي تَقْدِيمِ يَعْقُوبَ الْإرْشَادَ، لَمْ يُؤكِّدْ فَقَطْ عَلَى أنَّ التَّحَدِّيَّاتِ الَّتِي كَانَ قُرَّاؤُهُ يُوَاجِهُونَهَا كَانَتْ اِمْتِحَانًا لإيمَانِهِمْ، بَلْ أشَارَ أيْضًا إلَى أنَّ تجاربهم كَانَتْ تَهْدِفُ لإنْشَاءِ الصَّبْرِ فيهم.

 الصبر

يَكْتُبُ يَعْقُوبُ بِأنَّ الْاِمْتِحَانَ ‎ يُنْشِئُ الصَّبْرَ، مستخدمًاِ الْكَلِمَةِ الْيُونَانِيَّةِ هُوبُومُونِيه [ὑπομονή]. تُشِيرُ الْكَلِمَةُ “صَبْرُ”، هُوبُومُونِيه، إلَى التحمّلِ تَحْتَ ثقلِ الضِّيقِات. وَبِهَذَا نَرَى يَعْقُوبَ يُوَضِّحُ أنَّ التجارب أثبتت صدق الْإيمَانِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلالِ تَمْكِينِ شَعْبِ اللهِ بِأنْ يَحْتَمِلُوا وَيثابروا فِي تَكْرِيسٍ أمينٍ لِلْمَسِيحِ.

بِشَكَلٍ عَامٍّ، يتألّف تَعْلِيمُ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ عن الصَّبْرِ الْمَسِيحِيِّ من شِقَّيْنِ. فَمِنْ نَاحِيَةٍ، الصَّبْرُ هو هِبَةٌ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ. وَثَمَّةُ مَقَاطِعٌ، مِثْلَ رسالة رُومِيَةَ 6: 1-14، تُعَلِّمُ بأنَّ أتْبَاعَ الْمَسِيحُ قَادِرُونَ عَلَى الْاِحْتِمَالِ أوْ الصَّبْرِ وَالْمُثَابَرَةِ فِي إيمَانِهِمْ بِسَبَبِ أن الرُّوحِ الْقُدُسِ، الَّذِي أقَامَ يَسُوعَ إلَى حَياةٍ جَدِيدَةٍ، يُقَوِّينَا لنسلك فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ وَالطَّاعَةِ الْأمِينَةِ. وَهَكَذَا، فَإنَّهُ بِرَغَمِ كَوْنِ الصَّبْرِ يَتَطَلَّبُ جُهْدًا بَشَرِيًّا، لكن عَلَيْنَا أنْ نَتَذَكَّرَ أنَّنَا نَصْبِرُ ونثابر فَقَطْ بِالْعَمَلِ الْمُسْتَمِرِّ لِنِعْمَةِ اللهِ فِينَا.

وَلَكِنْ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، يُوَضِّحُ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ أيْضَاً أنَّ الصَّبْرَ أو المثابرة مطلبٌ ضَرُورِيٌّ لِلْخَلاصِ الْأبَدِيِّ. وَبِكَلِمَاتٍ أُخْرَى، من آمَنُوا بِالْمَسِيحِ لِلْخَلاصِ يَنْبَغِي بِالضَّرُورَةِ أنْ يَثْبُتُوا ويثابروا فِي إيمَانِهِمْ.

اِسْتَمِعْ إلَى كَلِمَاتِ بُولُس فِي رسالة كُولُوسِي 1: 21-23:

قَدْ صَالَحَكُمْ [الله] الآن فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ [أي جسم بشرية المسيح] بِالْمَوْتِ، لِيُحْضِرَكُمْ قِدِّيسِينَ … أَمَامَهُ، إِنْ ثَبَتُّمْ عَلَى الإِيمَانِ، مُتَأَسِّسِينَ وَرَاسِخِينَ وَغَيْرَ مُنْتَقِلِينَ عَنْ رَجَاءِ الإِنْجِيلِ. (كولوسي 1: 21-23)

يُؤَكِّدُ بُولُسُ هُنَا عَلَى أنَّ المؤمنين في كولوسي قد تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ. ولكن يمكنهم أن يتيقّنوا من صحة الأمر فقط إنْ ثَبَتُوا على إيمَانِهِمْ. لم يكن مُتَطَلَّبُ الثَّبَاتِ هَذَا يَتَعَارَضُ مَعَ رِسَالَةِ الْخَلاصِ بِنِعْمَةِ اللهِ، بَلْ كَانَ هو رجاءَ الْإنْجِيلُ.

فِي الْإرْشَادِ الَّذِي يُقَدِّمُهُ يَعْقُوبُ، لم يناقش فقط موضوع اِمْتِحَانِ الْإيمَانِ الَّذِي يُنْشِئُ صَبْرًا. بَلْ يستكمل حَدِيثَهُ بالكلام عَنْ الكمالِ الَّذِي يَنْتُجُ عَنْ الصبر.

الكمال

تتعلّق رِسَالَةُ يَعْقُوبَ ككل بِمَوْضُوعِ النُّضْجِ أو الكمال الْمَسِيحِيِّ. يَأتِي الْبَعْضُ إلى الرسالة ظانين بأنها تدور حول النَّامُوسِيَّةِ، أَيْ أَنَّها تتعلق برمتها بقوانين وَتَوْصِيَاتٌ بشأن مَا يَنْبَغِي لِي أنْ أعْمَلَهُ. وَلَكِنَّها فِي الْحَقِيقَةِ رسالة تهدف لِمُسَاعَدَةِ المُؤْمِنِ عَلَى النُّمُوِّ كمؤمن، وَخَاصَّةً كمؤمن يحيا في ضجة الظروف الْاِجْتِمَاعِيَّةِ الصَّعْبَةِ الَّتِي نَحْيَا فِيهَا. يُمْكِنُ لَلْكَنِيسَةِ أنْ تَكُونَ مَكَانًا يصعب التواجد فيه، وَيَعْقُوبُ يُدْرِكُ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ. مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ للصمود فِي هَذَا الْعَالِمِ، وفِي الْكَنِيسَةِ، وكي تزدهر فِي هَذَا الْعَالَمِ وفي الْكَنِيسَةِ، هُوَ النُّضُوجُ. تَحْتَاجُ أنْ تَصِيرَ تامًا وكَامِلًا. وَيُخْبِرُنَا يَعْقُوبُ عَنْ كَيْفِيَّةِ تحقيق هذا، وكيفية بلوغ النُّضُوجَ، مستعدين لِمُوَاجَهَةِ كل مَا يُحَاوِلُ الْعَالَمُ وَإبْلِيسُ وَالْجَسَدُ أنْ يلقوا به فِي طَرِيقِنَا. والمدهش فِي تَعْلِيمِ رِسَالَةِ يَعْقُوب هُوَ أنَّهَا تُشِيرُ إلَى أنَّ هَذَا يَبْدَأُ بِالْألَمِ. الْألَمُ هُوَ البوتقة، وهُوَ الإطار، وهُوَ النَّادِي الرِّيَاضِيُّ الَّذِي فِيْهِ يَحْصُلُ النُّضُوجَ الْمَسِيحِيُّ. فيه تُزرَع بذار إيمَانُكَ فينمو ويستعد لِمَا سَيُوَاجِهَهُ. وحين تَحْتَمِلُ الْألَمَ وَالتَّجَارِبَ وَالْمِحَنَ، وتنجو منها، فَإنَّ إيمَانَك سَيَزْدَادُ ويتقوى ويتحضر للتجارب الآتية بالرُّوحِ الْقُدَسِ العامل في الكلمة، بواسطة ِالْمَسِيحِ وناموسه وَحِكْمَتِهِ.

د. توماس كين

 اِسْتَمِع ثَانِيَةً إلَى مَا كَتَبَهُ يَعْقُوبُ فِي 1: 3-4:

عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْرًا. وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ. (يعقوب 1: 3-4)

لِأنَّ التَّجَارِبَ وَالصَّبْرَ تُنْشِئُ نُضُوجًا وَكَمَالًا، قال يَعْقُوبُ لِقُرَّائِهَ: “دَعُوا الصَّبْرَ يَعْمَلُ عَمَلَهُ الْكَامِلَ”. فَالصَّبْرُ كان من شأنه أن يَجْعَلَهُمْ تامين وكَامِلِينَ، وغَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ.

وَيَنْبَغِي أنْ نَكُونَ حَذِرِينَ هُنَا. فَيَعْقُوبُ لَمْ يَقْصِدْ الْكَمَالَ أوْ عَدَمَ النَّقْصِ فِي شَيءٍ بِمَعْنَى أنَّهُ يُمْكِنُنَا الْوُصُولَ إلَى الْكَمَالِ الْأخْلاقِيِّ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ. فَنَحْنُ نَعْرِفُ مِنْ مَقَاطِعٍ مِثْلَ رسالة 1 يُوحَنّا 1: 8 الآتي:

إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِينَا. (1 يوحنا 1: 8)

وَلَكِنّ يَعْقُوبُ كَانَ يَقْصِدُ أنْ نَسْتَمِرّ فِي نُمُوِّنَا فِي طَاعَةِ اللهِ، حَتّى حِينَ يَأتِي وَقْتُ الْقَضَاءِ بمجيء الْمَسِيحِ، لَنْ تَكُونَ حَيَاتَنَا ناقصة لِشَيءٍ يجعلنا غَيْر مُؤهَّلِينَ.

بَعْدَ تَقْدِيمِ يَعْقُوب الْإرْشَادَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْاِمْتِحَانِ وَالصَّبْرِ وَالكمالِ، يُشِيرُ فِي نِهَايَةِ هَذِهِ الْعَمَلِيَّةِ إلَى أنَّهُ سَتَكُونُ هُنَاكَ مُكَافَأةٌ عَظِيمَةٌ.

المكافأة

يَذْكُرُ يَعْقُوبُ هَذِهِ الْمُكَافَأةَ فِي 1: 12، حَيْثُ يَقُولُ:

طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ «إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ. (يعقوب 1: 12)

كَمَا يُوَضِّحُ يَعْقُوبُ هُنَا، فَإنَّ كَلَّ الَّذِينَ يحتملون التجارب سيتزكون. وَهَؤلاءِ سَيَنَالُونَ إكْلِيلَ الْحَيَاةِ، إكْلِيلَ الْحَيَاةِ الْأبَدِيَّةِ فِي مَلَكُوتِ اللهِ الْمَجِيدِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ. فِي جَمْعِ يَعْقُوبُ لِكُلِّ هَذِهِ الأبعاد مَعًا، قَدَّمَ لِقُرَّائِهِ حِكْمَةً تَأمُّلِيَّةً عَمِيقَةً. فَقَدْ قَدَّمْ لَهُمْ الْإرْشَادَ لِفَهْمِ التَّجِارِبِ الَّتِي كَانُوا يُوَاجِهُونَهَا. وَفِي الْوَاقِعِ، كُلُّ تَجْرِبَةٍ هِيَ هِبَةٌ مِنْ اللهِ تَهْدِفُ لِخَيْرِهم الْأبَدِيِّ.

أحَدَ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ يَعْقُوبُ عَنْهَا مِنْ بِدَايَةِ الرِّسَالَةِ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ الرِّسَالَةِ، هُوَ أهَمِيَّةُ الاِحْتِمَالَ في الْألَمِ. وَهُوَ يَقُولُ إنَّ هَذَا يَقُودُ إلَى النُّضْجِ فِي الْحَيَاةِ الْمَسِيحِيَّةِ. ففِي بِدَايَةِ الْأصْحَاحِ الْأوَّلِ يَقُولُ: “اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ”، ثُمَّ يَتَكَلَّمُ عَنْ السّبَبِ فَيَقُولُ: “عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْرًا”. ثُمّ يُكْمِلُ حَدِيْثَهُ فَيَقُولُ: “وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ”. وَهَكَذَا، قَدْ نَظِنُّ أنَّ الْألَمَ عَلامَةٌ عَلَى أنَّ اللهَ لَيْسَ مَعَنَا، وَلَكِنَّ يَعْقُوبُ يعتبر الْألَمِ عَلامَةً عَلَى أنَّ اللهَ سيَعْمَلُ، ليس فقط بِالرُّغْمِ مِنْ ألَمِنَا، بَلْ مِنْ خِلالِ ألَمِنَا، كي يجعلنا كمَا يُرِيدُ. وفي هَذِهِ الظُّرُوف نَنْضُجُ حقًا. وَبَعْدَ ذَلِكَ، يَقُولُ يعقوب فِي الْعَدَدِ الثَّانِي عَشْرَ مِنْ الْأصْحَاحِ الأوَّلِ: “ذلك الشخص يَنَالُ «إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ”. وبهذا، يقدم لنا نموذجًا مُخْتَلِفًا لِلتَّفْكِيرِ في الْألَمِ. فهو أمْرٌ لا يَنْبَغِي تجنبه، كذلك لا ينبغي ملاحقته. ولكن فِي ثَقَافَتِنَا السَّائِدَةِ فِي هَذِهِ الْأيّامِ نَرَى النَّجَاحَ فِي تَجَنُّبِ الْألَمِ. وَلَكِنَّ يَعْقُوبَ يَصِفُ الْألَمَ هُنَا بِاعْتِبَارِهِ فُرْصَةً لِلنُّمُوِّ. إنَّهُ بوتقة لِأجْلِ تَحْقِيقِ النُّضْجِ الْمَسِيحِيِّ.

— ق. د. ثرمان وليامز

تناول تركيز يَعْقُوبَ عَلَى الْحِكْمَةُ التأمُّلِيَّةِ اِحْتِيَاجِ قُرَّاءِ رِسَالَتِهِ فِي ظُرُوفِهِمْ الصَّعْبَةِ. كَمَا قَدَّمَ لَهُمْ هَذَا التركيز الْإرْشَادَ الْلازِمَ. وَلِنَنْتَقِلَ الْآن لِلْحَدِيثِ عَنْ ضرورة الإيمان في طَرِيقِ الْحِكْمَةِ التَّأمُّلِيَّةِ.

 

الإيمان

عندما تُفَكِّر بالأمر، ستكتشف أن النصائح الَّتِي قدّمَها يَعْقُوب لِقُرَّائِه حول تجاربِهم كانت تَعَالِيماً مَسِيحِيَّة عادية. وَلَكِنَنَا نعلم جَمِيْعًا أنَّهُ عندما تَأتِي الضيقات إلَى حَيَاتِنَا، فَإنَّنَا نُسحَق تَحْتَها بِحَيْثُ نَجِد صُعُوبَة فيِ التَّمَسُّك حَتّى بِأبْسَط الْمُعْتَقَدَات الْمَسِيحِيَّة الأساسية. وَوَاضِح أنَّ يَعْقُوب خاف أنْ يَكُون هَذَا هُوَ حَال قُرَّائِهِ. وَلِذَلك، أشَارَ بصورة مباشرة إلَى أنَّ قُبُول النصائح الَّتِي قَدَّمَهَا لَهُمْ لِتَوِّهِ، يتَطَلَّب مِنْهُمْ الالتفات بِإيمَان إلى اللهِ.

نَقْرَأُ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ فِي رِسَالَةِ يَعْقُوب 1: 5:

وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ، فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ. (يَعْقُوب 1: 5)

عَلِمَ يَعْقُوبُ أنَّنَا إنْ أرَدْنَا حِكْمَةً لِفَهْمِ مَقَاصِدَ اللهِ مِنْ وَرَاءِ التجارب، الَّتِي عَادَةً مَا تَكُونُ مستترة، فَإنَّ عَلَيْنَا أنْ نَطْلُبَهَا مِنَ اللهِ.

وَلَكِنْ بَعْدَ هذا، نَرَى يعقوب فِي 1: 6-8 يَرْبِطُ بين الصَّلاةَ لطلب الْحِكْمَةِ والْإيمَانِ، حَيْثُ يَقُولُ:

وَلكِنْ لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ غَيْرَ مُرْتَابٍ الْبَتَّةَ، لأَنَّ الْمُرْتَابَ … فَلاَ يَظُنَّ ذلِكَ الإِنْسَانُ أَنَّهُ يَنَالُ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ. رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ. (يعقوب 1: 6-8)

فَكَمَا نَرَى هُنَا، ألح يَعْقُوبُ على أنْ تُقَدَّمَ الصَّلَوَاتُ لطلب الْحِكْمَةِ بإيمان. وَإلَّا فَإنَّنَا نَكُونُ أُنَاسًا ذَوِي رَأيَيْنِ.

من المُؤسِفِ أنَّ كَثِيرِينَ مِنَ المؤمنين بحسنِ النية قد أسَاءُوا فَهْمَ تَعْلِيمَ يَعْقُوب بِشَأنِ الطَّلَبِ بِالإيمَانِ وَبِألا يَكُونُوا ذَوِي رَأيَيْنِ. فهم يعتقدون أن يعقوب قد أشار إلى ضرورة الثقة في استجابة طلبات صلاة محددة نرفعها. كَثِيرًا مَا يظن أتْبَاعَ الْمَسِيحِ بأننا ببساطة إنْ كَانَ لَدَيْنَا مَا يَكْفِي مِنَ الْإيمَانِ، فَإنَّ اللهَ سَيَسْتَجِيبُ صَلَوَاتَنَا بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي نَرْغَبُهَا. وَلَكِنْ لم يكن ذلك ما قصده يعقوب. فبِالنِّسْبَةِ له، مَعْنَى الطَّلَبِ بِإيمَانٍ هُوَ “الْأمَانَةُ تجاه اللهِ”. وَنَحْنُ ندرك ذلك لأنَّ يَعْقُوبَ وَصَفَ نقيض الطّلَبِ بِإيمَانٍ بِأَنَّهُ الْاِزْدِوَاجِيَّةُ فِي الرَّأيِ. وَبِالنِّسْبَةِ لِيَعْقُوبٍ، أن تكون ذوي رأيين هو بمثابة تَمَرُّدٌ حقيقي عَلَى اللهِ.

اِسْتَمِعْ إلَى مَا يَقُولُهُ يَعْقُوبُ عَنْ ذوي الرأيين في 4: 8-9:

 نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا الْخُطَاةُ، وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي الرَّأْيَيْنِ. اكْتَئِبُوا وَنُوحُوا وَابْكُوا. لِيَتَحَوَّلْ ضَحِكُكُمْ إِلَى نَوْحٍ، وَفَرَحُكُمْ إِلَى غَمٍّ. (يعقوب 4: 8-9)

لاحِظْ هُنَا أنَّ ذَوِي الرَّأيَيْنِ لَيْسُوا فَقَطْ هم من يخفقون في امتلاك الثقة حين يصلون، لكنهم خُطَاةٌ ينبغي أنْ يطهروا قُلُوبَهُمْ. إنَّ عَدَمَ أمانتهم أمْرٌ خَطِيرٌ جِدًا، حَتّى أنَّ النَّوْحَ وَالاكتئاب هما ما يليق بهما.

وهَكَذَا، وضِمْنَ سِيَاقِ الرِّسَالَةِ، نَرَى أنَّ يَعْقُوبَ لا يَقْصِدُ شَخْصًا كَانْتْ تَعْوِزَهُ الثِّقَةُ في استجابة الله لصَلاتَهُ، بَلْ قصد الْإنْكَارِ التَّامِّ لِصَلاحِ اللهِ. فَوَاضِحٌ أنَّ بَعَضَ قُرَّاءُ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ كَانُوا يَلُومُونَ اللهَ عَلَى إخفاقاتهم. وَكَانَ مَنْطِقُهُمْ هُوَ أنَّ اللهَ قد أرْسَلَ التجارب التي تعرضوا لها، وَلِذَا فَلا بُدَّ أنَّ اللهَ شِرِّيرٌ لِأنَّهُ كَانَ يجربهم لِلْوُقُوعِ فِي الْخَطِيَّةِ. كان هَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّمَرُّدِ الْفَاضِحِ وَالشَّنِيعِ عَلَى اللهِ هو مَا أشَارَ إلَيْهِ يَعْقُوبُ بِكَوْنِ الْإنْسَانَ “ذَي رَأيَيْنِ”.

اِسْتَمِعْ إلَى مَا يَقُولَهُ يَعْقُوبُ فِي 1: 13-14، حَيْثُ يتناول سوء الْفَهْمِ الخَطِيرِ هذا:

 لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: «إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ»، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا. وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ. (يعقوب 1: 13-14)

من الجدير بالأهمية أنْ نُلاحِظَ أنَّ الْكَلِمَةَ الْيُونَانِيَّةُ الْمُتَرْجَمَةُ “جُرِّبَ” هِيَ الفعل بِيرَازُو [πειράζω]، وَهِيَ الكَلِمَةٌ المترجمة “تَجَارِبَ” فِي الأصحاح 1 و2. وَلَكِنَّ يَعْقُوبَ أصَّرَّ عَلَى أنَّ اللهَ … نفسه لا يُجَرِّبُ أحَدًا. تعكس هذه التَّرْجَمَةُ على نحو صحيح الاستخدام الكثيف للضمير الْيُونَانِيِّ أَوْتُوس [αὐτός]، أيْ نَفْسَهُ. فالنص لا يقول ببساطة إن الله “لا يُجَرِّبُ” أو يمتحن “أحَدًا”، لكنه يقول حرفيّاً إن “الله نفسه لا يُجَرِّبُ أحَدًا”.

فَكَمَا نتعلّم مِنَ الأصحاحات الخمسة الأولى مِنْ سِفْرِ أيُّوبَ، اللهُ مُمْسِكٌ بِزِمَامِ كُلِّ الْمِحَنِ وَالْاِمْتِحَانَاتِ والإغواءات. وَلَكِنْ فِي دْرَامَا البلاط السَّمَاوِي، يتضح أنَّ قَصْدَ اللهُ مِنْ وَرَاءِ محنة أَيُّوبَ هُوَ خَيْرُ أَيُّوبَ، لا ضَرَرَهُ. فالشَّيْطَانُ، وليس اللهُ، هُوَ مَنْ اِسْتَخْدَمَ محنة أيُّوب كي يغويه أن يخطئ.

وَهَكَذَا، فَإنَّ الصَّلاةَ بِالْإيمَانِ طَلَبًا لِلْحِكْمَةِ، وعدم كون الْإنْسَانُ ذي رأيين، يعني التَأكِيد عَلَى أحَدِ التَّعَالِيمِ الْكِتَابِيَّةِ الأساسية: صَلاحِ اللهِ. عَلَيْنَا ألَّا نَشُّكُ في صَلاحِ اللهِ بَيْنَمَا نَطْلُبُ مِنْهُ الْحِكْمَةَ فِي الظُّرُوفِ الصَّعْبَةِ. وَإلَّا لن يَكُونُ لَدَيْنَا ما يدعونا أن نؤمن بِأنَّ اللهَ سَيُعْطِينَا الحكمة.

يُعَبِّرُ يَعْقُوبُ عَنْ هَذَا فِي 1: 17:

كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ. (يعقوب 1: 17)

اللهُ هُوَ “أبُو الْأنْوَارِ”. إنَّهُ لا يُعْطِي سِوَى العطايا “الصَّالِحَةِ” وَالمواهب “التَّامَّةِ”. وَهَكَذَا، فَإنَّ قَصْدَهُ من وراء تجاربنا دائماً صَالِحٌ وتام. يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ مَوْقِفَنا الإيماني الراسخ بَيْنَمَا نتبع طَرِيقِ الْحِكْمَةِ التَّأمُّلِيَّةِ.

فِي دِرَاسَتِنَا لِطَرِيْقَي الْحِكْمَةِ الموجودين في رِسَالَةُ يَعْقُوبُ، تناولنا تَرْكِيزِ يَعْقُوبَ عَلَى الْحِكْمَةِ التَّأمُّلِيَّةِ. وَهَكَذَا نَسْتَطِيعُ الْآنَ أنْ نَنْتَقِلَ إلَى مَوْضُوعِنَا الرَّئِيسِيِّ الثَّانِي: الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ. مَاذَا تقول هذه الرسالة الموجودة في الْعَهْدِ الَجَدِيدِ عَنْ وَضْعِ الْحِكْمَةِ في حيز الْمُمَارَسَةِ العملية؟

 


الحكمة العمليّة


 

من المؤكد أنَّنَا تقابلنا جَمِيعَنَا في وقت ما مع أشْخَاص عندهم مَعْرِفَة عَظِيمَة. وهم يُبهِرون الْجَمِيعَ بِمِقْدَار مَا لديهم من معرفة ليست عند الآخرين. وَلَكِنْ فِي بَعْضِ الأحْيَان، لا يَعْرِف هَؤلاء الأشْخَاص أنْفُسَهُمْ، الْكَثِير عَنْ الْحَيَاة الْعَمَلِيَّة. فَلا يدركون كَيْف يطبّقوا أفكارَهم العميقة في صورة أفعال وَمَوَاقِف سليمة. تناول يَعْقُوب هَذِه الْمُشْكِلَة بِطُرُق عديدة فِي رسالتِه. وكما رَأيْنَا، بَدَأ يَعْقُوب رِسَالَتَهُ بِالتَّشْدِيد عَلَى الْحِكْمَة التَّأمُّلِيَّة. فهو أدرك أهَمِيَّة أنْ يفهم الإنْسَان مَقَاصِد الله المستَتِرة مِنْ وَرَاء التجارب الَّتِي نَتَعرَّض لَهَا. وَلَكِنَّهُ شَدَّد أيْضًا عَلَى الْحِكْمَة الْعَمَلِيَّة، أيْ الْقُدْرَة عَلَى تطبيق هَذِهِ الْمَعْرِفَة في صورة أعْمَال وَمَوَاقِف تُسر الله.

ولتبسيط الأمر، سنتناول مَوْضُوعَ الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ بِطُرُقٍ توازي التناول السَّابِقُ. فَسَنَنْظُرُ أوَّلًا إلَى الاحتياج لِلْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ. وَثَانِيًا، سنرى كيف قدّم يَعْقُوبُ لقُرَّائهُ إرْشَادًا. وَثَالِثًا، سنبحث في الْعَلاقَةِ بَيْنَ الْإيمَانِ والممارسة العملية. لِنَنْظُر أوَّلًا إلَى تركيز يَعْقُوبُ عَلَى احتياج قُرَّائِهِ لِلْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ.

 

الاحتياج

 كَمَا رَأيْنَا سَابِقًا، استخدم يَعْقُوبُ مُصْطَلَحَيْ “حِكْمَةٌ” وَ”حَكِيمٌ” فقط ضِمْنَ سِيَاقَيْنِ. السِّيَاقُ الْأوَّلُ هُوَ 1: 2-18، حَيْثُ سلّط يَعْقُوبُ الضوء عَلَى الْحِكْمَةِ التَّأمُّلِيَّةِ. أمَّا السِّيَاقُ الثاني فَهُوَ 3: 13-18، حَيْثُ شَدَّدَ يَعْقُوبُ عَلَى الْحَاجَةِ لِوَضْعِ الْحِكْمَةِ في حيز التَّطْبِيقِ وَالْمُمَارَسَةِ.

إن رِسَالَةُ يَعْقُوبُ رِسَالَةٌ عَمَلِيَّةٌ للغاية، فَالْكَاتِبُ يريد حقًا أن يطبّق النَّاسُ مَا يُؤمِنُونَ بِهِ. وهَذِهِ الْفِكْرَةِ أتَتْهُ مِنْ يَسُوعَ. فيَسُوعَ نفسه عَلَّمَ بأمثالٍ عَنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ عَلَى الرَّمْلِ أوْ الصَّخْرِ، وَكَانَ الْعَامِلُ الحاسم هو: “هَلْ تَعْمَلُونَ مَا أمَرْتُكُمْ بِهِ؟ هَلْ تَضَعُونَ مَا أُعَلِّمَّهُ في حيز الْمُمَارَسَةِ العملية؟” كَانَ يَسُوعُ يَبْحَثَ عَنْ أُنَاسٍ يطبقون مَا يُؤمِنُونَ بِهِ، وَقَدْ حَذَّرَ يسوع أيضاً مِنْ الْفِرِّيسِيِّينَ قَائِلًا: “فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ، وَلكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا، لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ”. وَهَكَذَا نَرَى أنَّ يَسُوعَ كَانَ جَادًّا جِدًّا فِي قَضِيَّةِ تَطْبِيقِ التَّعْلِيمِ، وَلِذَا أعْتَقِدُ أن يَعْقُوبَ فقط كَانَ يَقْتَدِيَ بِأخِيهِ يَسُوعَ فِي تَعْلِيمِهِ عَنْ أهَمِّيَّةِ هَذَا الْأمْرِ. وَرُبَّمَا كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ آخَرٌ يُمْكِنُنَا أنْ نَسْتَنْتِجَهُ بِالْاِطِّلاعِ عَلَى تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ الْأولَى، وَهُوَ أنَّ يَعْقُوبَ ربما كَانَ قَدْ بَدَأ يَرَى مَدَى التَّأثِيرِ الضَّارِّ عَلَى الشَّهَادَةِ الْمَسِيحِيَّةِ لعدم إظهار بَعْض الْمَسِيحِيِّينَ مِنْ أُصُولٍ يَهُودِيَّةٍ فِي كَنِيسَتِهِ لِحَيَاة يَسُوعَ. فَقَدْ كَانَتْ لَدَيْهِمْ هذه العقائد العظيمة عَنْ يَسُوعِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يسلكون حقًا بمقتضاها. وَرُبَّمَا كَانَ هَذَا يَتَسَبَّبُ في انْتِقَادَاتٍ مِنَ الْآخَرِينَ: “أنْتُمْ لا تمارسون مَا تُنَادُونَ بِهِ”، وَكَانَ مِنْ شَأنِه أن يجلب التجديف على الرِّسَالَةِ الْمَسِيحِيَّةِ. فقد قَالَ يَسُوعُ نفسه: “كُونُوا كَامِلِينَ”، ويُكَرِّرُ يَعْقُوبُ هَذَا التَّعْلِيمُ. فَهُوَ يُرِيدُ أنْ يَضَعَ النَّاسُ التَّعْلِيمَ حيز التَّطْبِيقِ وَالْعَمَلِ.

—د. پيتر واكر

اِسْتَمِعْ إلَى 3: 13، حَيْثُ يُقَدِّمُ يَعْقُوبُ الْمَبَادِئ الْأسَاسِيَّةَ لِلْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ:

مَنْ هُوَ حَكِيمٌ وَعَالِمٌ بَيْنَكُمْ، فَلْيُرِ أَعْمَالَهُ بِالتَّصَرُّفِ الْحَسَنِ فِي وَدَاعَةِ الْحِكْمَةِ. (يعقوب 3: 13)

حِينَ نَتَذَكَّرُ أنَّ كَثِيرِينَ مِنْ قُرَّاءِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ كَانُوا مُؤمِنِينَ مِنْ أُصُولٍ يَهُودِيَّةٍ، وَلِذَا كَانُوا على دراية جَيِّدَةٍ بِالَعَهْدِ الْقَدِيمِ، فَإنَّهُ ليس من الصعب فَهْمَ سَبَبِ اِدِّعَاءَ بَعْضِهِمْ على الأقل بِأنَّهُمْ “حُكَمَاءٌ وَعَالِمُونَ”. لكن يُصِرُّ يَعْقُوبُ عَلَى أنَّهُ إنْ كَانَ هَذَا الْاِدِّعَاءُ حَقِيقِيًّا، فَإنَّهُمْ سَيُرُونَ أعمالهم بالتصرف الحسن. وَبِكَلِمَاتٍ أُخْرَى، كَانَ هَؤلاءُ بِحَاجَةٍ لِلْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ. فمن خلال تَأثِيرِ تَعْلِيمِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، خَاصَّةً سِفْرِ الْأمْثَالِ، عَرَفَ يَعْقُوبُ أنَّ الْحِكْمَةَ تفوق الْأفْكَارِ اللاهُوتِيَّةِ الْعَمِيقَةِ.

فمن قَبِلُوا بِكُلِّ إخلاص فَهْمًا مِنَ اللهِ سيسلكون بتصرف حسن نابع مِنْ الْحِكْمَةِ. وَلَكِنَّ يَعْقُوبَ أشَارَ أيْضًا إلَى أنَّ هذا التصرف الحسن يشْتَمِلُ عَلَى “أعْمَالٍ”. وينتج عنه مَوَاقِفَ مُعَيَّنَةٍ مِثْلَ “الوداعة”. وكَمَا سَنَرَى، فَإنَّ الْأعْمَالَ وَالْمَوَاقِفَ السليمة أمْرَانِ أسَاسِيَّانِ لِلْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ.

وَلِمَزِيدٍ مِنْ شَرْحِ الاحتياج لِلْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ، قَابَلَ يَعْقُوبُ مَا بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي بِدَايَةِ هَذَا الدَّرْسِ. فَأشَارَ أوَّلًا إلَى الْحِكْمَةِ الْأرْضِيَّةِ. ثُمَّ تَكَلَّمَ عَنْ الْحِكْمَةِ السَّمَاوِيَّةِ. لِنَنْظُر أوَّلًا إلَى الْحِكْمَةِ الْأرْضِيِّةِ.

الحكمة الأرضيّة

 نَجِدُ الْوَصْفَ لِلْحِكْمَةِ الْأرْضِيَّةِ فِي 3: 14-16:

وَلكِنْ إِنْ كَانَ لَكُمْ غَيْرَةٌ مُرَّةٌ وَتَحَزُّبٌ فِي قُلُوبِكُمْ، فَلاَ تَفْتَخِرُوا وَتَكْذِبُوا عَلَى الْحَقِّ. لَيْسَتْ هذِهِ الْحِكْمَةُ نَازِلَةً مِنْ فَوْقُ، بَلْ هِيَ أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ. لأَنَّهُ حَيْثُ الْغَيْرَةُ وَالتَّحَزُّبُ، هُنَاكَ التَّشْوِيشُ وَكُلُّ أَمْرٍ رَدِيءٍ. (يعقوب 3: 14-16)

كَمَا رَأيْنَا فِي النِّصْفِ الأوَّلِ مِنْ هَذَا الدَّرْسِ، كَانَ يَعْقُوبُ مُهْتَمًّا بشدة بِالْاِضْطِرَابِ الَّذِي كَانَ حَاصِلًا مَا بَيْنَ الْمُؤمِنِينَ الْفُقَرَاءِ وَالْمُؤمِنِينَ الْأغْنِيَاءِ فِي الْكَنِيسَةِ. وَفِي 3: 14 أبْرَزَ يَعْقُوبُ حَقِيقَةَ أنَّ كَثِيرِينَ فِي الْكَنِيسَةِ كَانَتْ لهم غيرة مرة وتحزب في قلوبهم. وَبِحَسَبِ الْعَدَدِ الْخَامِسِ عَشْرَ، كَانَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْأقَّلِ يُبَرِّرُونَ مُمَارَسَاتِهِمْ بِدَعْوَتِهَا “حِكْمَةً”. وَلَكِنَّ يَعْقُوبَ حذرهم من الافتخار بِشَأنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ، ومن الكذب على الْحَقَّ الَّذِي كَانَ يُوشِكُ أنْ يقدّمه لَهُمْ.

يجد العديد من المؤمنين في العصرِ الحديث، صُعُوبَة فِي فَهْم سبب اهتمام يَعْقُوب الشديد، بالنِّزَاع بَيْنَ الْفُقَرَاء وَالأغْنِيَاء فِي الْكَنِيسَة الأُولَى. ويستمر وجود مؤمنين فقراء وأغنياء فِي الْكَنِيسِة الْيَوْم، خَاصَّة حِينَ نقارن بين المؤمنين فِي الدول الْمَخْتَلِفَة. وَلَكِنْ فِي الْعَالَم المعاصر، تَمِيل الْكَنَائِس الْمحَلِّيَّة لِأنْ تَكُون مُتَجَانِسَة اِجْتِمَاعِيًّا أكْثَر مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْقَرْن الأوَّل الْمِيلادِي. يفضّل المؤمنون الأغْنِيَاء الذهاب لكَنيِسَة شَعْبُهَا أغْنِيَاء، وَيَمِيل المؤمنون الْفُقَرَاء لِلذَّهَاب إلَى كَنِيسَة شَعْبُهَا فُقَرَاء. وَلَكِنْ تَخَيَّل أن تحتوي كَنِيستْكَ الْمَحَلِيَّة على فَقْرٍ شديد وَغِنَى فَاحِش. كم من الخلاف سينشأ عن هَذَا الْوَضْع؟ سيأتي بَعْض الْمُؤمِنِين للْكَنِيسَة بِثِياب بالية، ولا يعلموا مِنْ أيْنَ سَيَأتِي طَعَام وَجْبَتِهِمْ التَّالِيَة، بَيْنَمَا يَجْلِس آخَرُون فِي نفس الْمَكَان مُرَتَدُين أفخر الثِّيَاب، وَجُيُوبِهُمْ تَمْتَلِئ بالأموال. لو كَانَ ذلك هُوَ وَضْع كَنِيسَتْك الْمَحَلِيَّة، فَسَتَكُون فِي حَالَة اِضْطِراب.

كَانَتْ النزاعات بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأغْنِيَاءِ فِي زَمَنِ يَعْقُوبَ تَتَسَبَّبُ بِضَرَرٍ شديد فِي الْكَنَائِسِ الَّتِي وَجَّهَ إلَيْهَا رِسَالَتَهُ. فَوَاضِحُ أنَّ الْفُقَرَاءَ كَانُوا يَشْعُرَونَ بِأنَّ لهم العذر الكامل، بَلْ وَأنهم حُكَمَاءُ، فِي غيرتهم من ِالْأثْرِيَاءِ. فَقَدْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أمْثَالَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ الَّتِي تُعَلِّمُ الْأغْنِيَاءَ بِأنْ يَكُونُوا أسْخِيَاءَ مَعَ الْفُقَرَاءِ. وَهَكَذَا، علموا أنَّهُ يَنْبَغِي لإخْوَتِهِمْ وَأخَوَاتِهِمْ المؤمنين أنْ يُشَارِكُوهُمْ بِمَا لَدَيْهِمْ. كَمَا شَعَرَ الْأثْرِيَاءُ بِأنَّ لهم العذر أيضًا، بَلْ وَأنهم حُكَمَاءُ، فِي تحزّبهم. فَقَدْ كَانُوا يَقْتَبِسُونَ أمْثَالًا مِنَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ تَعْزو الْفَقْرَ للتراخي، وَتُقَدِّمُ الْغِنَى عَلَى أنَّهُ مُكَافَأةٌ لِلْعَمَلِ الشاق.

وَلَكِنَّ يَعْقُوبَ أشَارَ إلَى أنَّ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْحِكْمَةِ كَانَ أسْوأ بكثير مِنْ كونه ارتكاب خطأ أو سوء الحكم على الأمور. فَهَذِهِ حِكْمَةٌ أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ، أو طَبِيعِيَّةٌ، وَهي أيضًا شَيْطَانِيّةٌ. وكان برهان أصْلِهَا الشَّيْطَانِيِّ جَلِيًا تَمَامًا. فَقَدْ قَادَتْ إلَى التَّشْوِيشِ وكُلِّ أمْرٍ رَدِيءٍ فِي الْكَنِيسَةِ.

أظُنُّ أنَّ الْجَمِيعَ يَعْرِفُونَ أُنَاسًا يرون أنْفُسَهُمْ حُكَمَاءَ في أعين أنفسهم، وَكَثِيرًا مَا تميّزت هذه الحِكْمَةَ بالغرور، أي بطبيعة عدائية، ورغبة في مُخَالَفَةِ الْآخَرِينَ. وَيقول يَعْقُوبُ إنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ حِكْمَةَ اللهِ. وَالْحَقِيقَةُ هِيَ أنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْحِكْمَةِ، الْحِكْمَةِ الْعَالَمِيَّةِ، أوْ كَمَا يَدْعُوهَا “حِكْمَةٌ أرضية”، لَيْسَ خَطِيراً أوْ غَيْرَ نَافِعٍ فَحَسْبُ، بَلْ يَدْعُوهَا “بالشَّيْطَانِيَّةِ” أيْضاً. في حين أن الحكمة التي من الله هي حكمة تَنْبُعُ مِنْ مَخَافَةِ الرَّبِ، ونتيجة لذلك فهي تَتَّسِمُ بِالتَّوَاضُعِ وَالتَّرَفُّقِ وَالْأمَانَةِ تجاه الرَّبِ، حيث يُدْرِكُ الْإنْسَانُ أن هذه الحكمة ليست منه، بل هي من اللهِ نَفْسِهِ الَّذِي أعْطَاهم إياها بِسَخَاءً، كَمَا يَقُوُل يَعْقُوبُ. هَذَا هُوَ نَوْعُ الْحِكْمَةِ الَّتِي يُفْتَرَضُ أن يظهرها المؤمنون، أتْبَاعِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الْحَكِيمِ الْعَظِيمِ، الْأعْظَمِ مِنْ سُلَيْمَانٍ في حكمته، فِي حَيَاتِهِمْ.

د. سكَت رد

وَفِي النِّهَايَةِ، بَدَلًا مِنْ أنْ يُسَاعَدَ جَسَدُ الْمَسِيحِ فِي اِمْتِدَادِ عَمَلِ اللهِ، نَرَاهُ صَارَ مُنْقَسِمًا وَفِي حَالَةِ حَرْبٍ مَعَ ذَاتِهِ. فَالْكَنَائِسُ الَّتِي يَكْتُبُ لَهَا يَعُقُوبُ وَقَعَتْ فَرِيسَةَ الشَّيَاطِينَ الَّتِي كَانَ أهَّمُ مَسْعَىً لَهَا على الإطلاق هو تخريب عَمَلَ اللهِ. وَكَانَ هَذَا الخراب هُوَ الَّذِي دَفَعَ يَعْقُوبُ إلَى الْإصْرَارِ عَلَى كَوْنِ قُرَّائَهُ بِحَاجَةٍ لِلْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ.

بَعْدَ تناول يَعْقُوبُ لمَوْضُوعِ الاحتياج لِلْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ بِرَفْضِ الْحِكْمَةِ الْأرْضِيَّةِ الْمُدَمِّرَةِ، اِنْتَقَلَ مُبَاشَرَةً إلَى الْبَدِيلِ الَّذِي يَدْعُوهُ الْحِكْمَةَ السَّمَاوِيَّةَ.

الحكمة السماويّة

فِي 3: 17، يَصِفُ يَعْقُوبُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ السَّمَاوِيَّةَ الْإيْجَابِيَّةَ كَمَا يَلِي:

وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلًا طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَارًا صَالِحَةً، عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ. (يعقوب 3: 17)

نَرَى هُنَا أنَّ يَعْقُوبَ كَانَ يُفَكِّرُ بِالْحِكْمَةِ الَّتِي مِنَ فوق، أيْ الْحِكْمَةُ الَّتِي تَأتِي مِنَ اللهِ. هَذِهِ الْحِكْمَةُ مُسَالِمَةٌ، وَمُتَرَفِّقَةٌ، وَمُذْعِنَةٌ، ومَمْلُوءَةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَارًا صَالِحَةً، وَعَدِيمَةُ الرَّيْبِ، وعَدِيمَةُ الرِّيَاءِ. وَبِكَلِمَاتٍ أُخْرَى، الْحِكْمَةُ التي من فوق لا تُخْطِئُ بِتَبْرِيرِ الغيرة والتحزب، سواء لدى الْفُقَرَاءِ أو الْأغْنِيَاءِ. فالْحِكْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الْآتِيَةُ مِنَ اللهِ تعزز محبة السلام. ويُظْهِرُ شَعْبُ الله هَذَا السَّلامَ بِتَرَفُّقِهِ بِالْآخَرِينَ، وإذعانه لهم، وإبداء الرحمة تجاههم. كما أنهم يُثْمِرُونَ أثمارًا صَالِحًا، وَلا يظهرون الريب لِجَمَاعَةٍ أوْ لِأُخْرَى. وجميع هَذِهِ الْأعْمَالِ وَالْمَوَاقِفِ تَنْبُعُ مِنْ تَكْرِيسٍ عديم الرياء لِلْمَسِيحِ.

هَذِهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ، الَّتِي تَأتِي مِنَ اللهِ، فهي، لِكَوْنِهَا مِنْ فَوْقُ، اِنْعِكَاسٌ لِصِفَاتِ اللهِ. يَقُولُ يَعْقُوبُ إنَّهَا طَاهِرَةٌ، وَمسَالِمَةٌ، وَمُتَرَفِّقَةٌ، وَمَمْلُوءَةٌ بِالْأثْمَارِ الصَّالِحَةِ، وَرَحِيمَةٌ، وَعَدِيمَةُ الرَّيْبِ، وَصَادِقَةٌ، أوْ بِكَلِمَاتٍ أخْرَى عَدِيمَةُ الرِّيَاءِ، والتي هي صِفَاتٌ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. اتصف يَسُوعُ بكُلَّ هَذِهِ الْأُمُور. ويقول يَعْقُوبُ إنَّ هَذِهِ هي الْأُمُورَ – التي لَنْ تُؤدِّيَ إلَى تقدمك فِي حَيَاتِكَ، وَلَنْ تَجْعَلَكَ نَاجِحًا، وَلَنْ تَعْنِي أَنَّكَ سَتَسْكُنُ فِي بَيْتٍ أَكْبَرَ، وَلَكِنَّهَا سَتُؤدِّي إلَى الْبِرِّ وَالسَّلامِ، حَسَبَ قَوْلِ يَعْقُوبَ؛ وبكلمات أخرى، “الشالوم” الحقيقي، أو السلام الحقيقي. ومن اللافت أنَّ الْجَمِيعَ يُرِيدُونَ فِي الَحَقِيقَةِ “الشالُومْ”، والْكَمَالَ، وَالْمِلءَ، وَالسَّلامَ. هم يُرِيدُونَ هَذِهِ الْأُمُورَ، وَيَظُنُّون أنَّ الْحِكْمَةَ الْأرْضِيَّةَ هي وسيلة حصولهم عليها، وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ أنَّ هذا النوع من السَّلامَ الناتج لا يَأتِي سوى مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي مِنْ فَوْقُ، الَّتِي لا تَسَعَى إلَى تَقَدُّمِ صاحبها، بَلْ، كَمَا يَقُولُ يَعْقُوبُ فِي الْعَدَدِ الثَّالِثِ عَشْر مِنَ الْأصْحَاحِ الثَّالِثِ، إنَّهَا حِكْمَةٌ تَتَّصِفُ بِالْوَدَاعَةِ وَالتَّوَاضُعِ وَعَدَمِ طَلبِ مَا للنفس، بَلْ بطلب خَيْرَ الْآخَرِينَ.

د. دان مَكارتني

فِي 3: 18، لَفَتَ يَعْقُوبُ اِنْتِبَاهَ قُرَّائَهُ إلَى مَا كَانَ فِي اِلْغَالِبِ مَثَلًا شهيرًا:

وَثَمَرُ الْبِرِّ يُزْرَعُ فِي السَّلاَمِ مِنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ السَّلاَمَ. (يعقوب 3: 18)

وكما طوَّب يَسُوعُ صَانِعِي السَّلامِ فِي إنجيل مَتَّى 5: 9، أوْضَحَ يَعْقُوبُ أنَّ الْفُقَرَاءَ وَالْأغْنِيَاءَ فِي الْكَنِيسَةِ سَيَنَالُونَ مُكَافَأةً عَظِيمَةً لأجل بِرِّهِمْ – إنْ كَانُوا مِمَّنْ يَصْنَعُونَ السَّلامَ فِي الْكَنِيسَةِ.

نَظَرْنَا الآنَ إلَى الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَرَأيْنَا الْاِحْتِيَاجَ الَّذِي دَفَعَ يَعْقُوبَ لِتَخْصِيصِ جُزْءٍ كَبِيرٍ مِنْ رِسَالَتِهِ لِهَذَا الْمَوْضُوعِ، وَالْآن عَلَيْنَا أنْ نَنْتَقِلَ إلَى الْإرْشَادِ الَّذِي قدمه لِقُرَّائِهِ بِشَأنِ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي عَلَيْهِمْ أنْ يمارسوا بِهَا حِكْمَةَ اللهِ عمليًا.

 

الإرشاد

من الشَائِع أنْ يتحدث أتْبَاع الْمَسِيح كثيراً عَنْ الاحتياج لِلاهُوت الْعَمَلِي. فإننا نريد عِظَات عَمَلِيَّة. ونرغب في دروس تعرّفنا كَيْفَ نسلُك في الحياة. وَفِي أجْزَاء عديدة مِنَ الْعَالَم، توجد مَوَاد مُتَاحَة وجديرة بالثقة تُعْطِينَا الْإرْشَاد حول كُل جانب مِنْ جوانب الْحَيَاة. وَلَكِن تذكّرُنَا رسالة يَعْقُوب بِالْمَعَايِير وَالْأوْلَوِيَّات الَّتِي غَالِبًا مَا ننساها ونحن نسعى وَرَاء الْحِكْمَة في حَيَاتْنَا الْيَوْمِيَّة.

تحوي رِسَالَةِ يَعْقُوبَ الْكَثِيرُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحَدَّدَةِ عَنْ الْإرْشَادِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْحَيَاةِ الْعَمَلِيَّةِ. وَلَكِنَّنَا سَنَحْصُرُ أنْفُسَنَا في اعتبارين فَقَطْ. أوَّلًا سَنَنْظُرُ كيف أيّدت رِسَالَةُ يَعْقُوبَ ِمِعْيَار نَامُوسِ اللهِ. وَثَانِيًا، سَنَرَى أنَّ يَعْقُوبَ نادى ببعض الأوْلَوِيَّاتٍ في نَامُوسِ اللهِ. وَلِنَنْظُرْ أوَّلًا إلَى مِعْيَارِ نَامُوسِ اللهِ.

معيار ناموس الله

يَعِي مُعْظَمُ المؤمنين الْمُعَاصِرِينَ التَّحْذِيرَاتِ الَّتِي يُقَدِّمُهَا الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِشَأنِ نَامُوسِ اللهِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ. فمن ناحية، نعلم أن الْخَلاصَ هو بِالنِّعْمَةِ، بِواسطة الْإيمَانِ، وليس بِالْأعْمَالِ. ونحن نتبع بحق تركيز الرَّسُولُ بُولُسَ فِي رسائل، مِثْلَ رسالة غَلاطِيَّة، عَلَى مقاومة كُلَّ مُحَاوَلَةٍ لنوال الْخَلاصِ مِنْ خِلالِ طاعة الناموس.

بِالْإضَافَةِ إلَى هَذَا، نَعْرِفُ أنَّه عَلَيْنَا ألَّا نُطَبِّقَ نَامُوس اللهِ كَمَا لَوْ كُنّا فِي زَمَنِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ. كما أننا نتبع بحق مَا تُشَدِّدُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأسْفَارُ، مِثْلَ رسالة الْعِبْرَانِيِّين، فَنُطَبِّقُ ناموس اللهِ كما عَلَّمَنَا الْمَسِيحُ وَالرُّسُلُ وَالْأنْبِيَاءُ أنْ نُطَبِّقَه فِي عَصْرِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ.

وَالْآن، بِرَغْمِ أهَّمِيَّةِ هَذِهِ التَّحْذِيرَات، لكننا لا نَجِدَهَا فِي رِسَالَةِ يَعْقُوب. وَبَدَلًا مِنْ ذَلِك، يُشِيرُ يَعْقُوبُ إلَى ناموس اللهِ بِلُغَةٍ إيْجَابِيَّةٍ تَمَامًا. فَقَدْ شَدَّدَ عَلَى مَا دُعِيَ قديمًا “الْاِسْتِخْدَامَ الثَّالِثَ للناموس”. فنحن نَتْبَعُ الناموس كَتَعْبِيرٍ عَنْ اِمْتِنَانِنَا للهِ لأجل مراحمه الَّتِي أبْدَاهَا لَنَا فِي الْمَسِيحِ.

ناموس الحريّة. تُقَدِّمُ رِسَالَةُ يَعْقُوب وَصْفَيْنِ لناموس اللهِ تنفرد بِهِمَا رسالته. فَيَدْعُوهَا أوَّلًا نَامُوسَ الْحُرِّيَّةِ.

تَكَلَّمَ يَعْقُوبُ عَنْ ناموس الْحُرِّيَّةَ فِي 1: 25، و2: 12، يَقُولُ يَعْقُوبُ إنَّ النَّامْوسَ يُحَرِّرَنَا مِنْ الْعُبُودِيَّةِ لِلْخَطِيَّةِ وَتَأثِيرَاتِهَا الْمُدَمِّرَةِ. فَحِينَ نَتْبَعُ النَامُوسَ مِنْ مُنْطَلَقِ الشُّعُورِ بِالْاِمْتِنَانِ للهِ، فَإنَّ هذا الناموس فِي الْحَقِيقَةِ يُعْطِينَا الْحُرِّيَّةَ.

أشَارَ يَسُوعُ إلَى هَذِهِ الفكرة نَفْسِهَا فِي إنْجِيلِ يُوحَنَّا 8: 32، حَيْثُ قَالَ:

وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ. (يوحنا 8: 32)

وَفِي رسالة رُومِيَّةَ 7: 7-13، وَصَفَ بُولُسُ النَّامُوسَ بِاعْتِبَارِهِ شَيْئًا تستغله الْخَطِيَّةُ لإنشاء كل شهوة فِينَا لِجَعْلِنَا عَبِيدًا لِلْخَطِيَّةِ. وَلَكِنَّ حين دعا يَعْقُوبَ النَّامُوسَ “نَامُوسَ الْحُرِّيَّةِ”، كان يَصِفُ كيف يستخدم رُوح اللهِ النَّامُوسِ بِطَرِيقَةٍ إيْجَابِيَّةٍ بِاعْتِبَارِهِ مُرْشِدَنَا الرسمي للحصول على الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ.

وَكَمَا رَأيْنَا، فَإنَّ كَثِيرِينَ مِنْ قُرَّاءِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ كَانُوا عَالِقَينَ فِي شِبَاكِ الْخَطِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تُؤذِي الْكَنِيسَةَ، تاركة إياهم فِي حَالَةِ إحْبَاطٍ. وَطَالَمَا استمروا فِي اِتِّبَاعِ أفْكَارَهُمْ عَنْ الْحِكْمَةِ، كَانُوا عَاجِزِينَ عَنْ النَّجَاةِ مِنْ الْإحْبَاطَاتِ، وَالضِّيقَاتِ، والضرر الذي تحدثه الْخَطِيَّةُ في حَيَاتِهِمْ. وَلَكِنْ كَمَا حَرَّرَتْهُمْ كَلِمَةُ اللهُ مِنْ عُقُوبَةِ الْخَطِيَّةِ وطغيانها في البداية، رسمت كَلِمَةُ اللهُ أَيْضَاً مَسَارًا لِلْحَيَاةِ الْيَوْمِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ سَيُحَرِّرَهُمْ مِنْ اِضْطِرَابَاتِ وَإحْبَاطَاتِ الْخَطِّيَّةَ.

مُؤكَّدٌ أنَّ النَّامُوسَ يرشد وَيُؤدِّبُ ويقوّم حَيَاةَ الْمُؤمِنِ، وَيُحَاوِلُ أنْ يُعِيدَهَا إلَى حَالَةِ الْاِنْسِجَامِ مَعَ مشيئة اللهِ. ولذا أظُّنُّ أنَّ هَذَا هُوَ السَّبَبَ الَّذِي لِأجْلِهِ دَعَاهُ يَعْقُوبُ بِنَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ، وَلِأجْلِهِ قَالَ إنَّنَا سَنُحَاكَمُ بِنَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ. وَأفْهَمَ هَذَا بِمَعْنَى الحرية التي أعطانا إياها المسيح. وَلِذَا فَإنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَحْيَا وَنَتَعَامَلَ بَعْضُنَا مَعَ بَعْضٍ. يَنْبَغِي أنْ نُحَاكَمَ بِالنَّامُوسِ الَّذِي بِحَسَبِهِ لا يُحَابِي الله أحدًا، بَلْ يُعْطِي نعمته مَجَّانًا، وَلِذَا عَلَيْنَا أنَ نُبْدِي النِّعْمَةَ نَفَسَهَا وَعَدَمَ الْمُحَابَاةِ نَفْسَهَا فِي تَعَامُلِنَا بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، أغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ، شيوخًا وأحداث، عَبِيدًا وَأحْرَارًا، ذُكُورًا وَإنَاثًا، وَهُوَ مَا يَقُولُهُ بُولُسُ بالفعل.

د. جفري چيبز

لِهَذَا أصَّرَّ يَعْقُوبُ فِي 1: 22-25 على الآتي:

وَلكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ. … وَلكِنْ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى النَّامُوسِ الْكَامِلِ ­ نَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ ­ وَثَبَتَ، وَصَارَ لَيْسَ سَامِعًا نَاسِيًا بَلْ عَامِلًا بِالْكَلِمَةِ، فَهذَا يَكُونُ مَغْبُوطًا فِي عَمَلِهِ. (يعقوب 1: 22-25)

الناموس الملوكي. بِالْإضَافَةِ إلَى الحديث عَنْ نَامُوسِ اللهِ بِصِفَتِهِ نَامُوسَ الْحُرِّيَّةِ، فَإنَّ يَعْقُوبَ يُشِيرُ إلَيْهِ بِإيجَابِيَّةٍ أيْضَاً باعتباره “النَّامُوسِ الْمُلُوكِيّ”.

أطلق يَعْقُوبُ على النَّامُوسَ اسم “النَّامُوسِ الْمُلُوكِيّ” فِي 2: 8. وَقَدْ لَفَتَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ الْاِنْتِبَاهَ إلَى وِجْهَةِ نَظَرٍ بِشَأنِ وَصَايَا اللهِ تَظْهَرُ فِي جميع أنحاء الْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ. كَانَ نَامُوسُ اللهَ هو مَرْسُومَهُ الْمَلَكِيِّ. فقَدْ صَدَرَ مِنْ القائد الْأعْلَى لِشَعْبِهِ بِصِفَتِهِمْ مُوَاطِنِي مَمْلَكَتَهُ.

فِي عَالَمِنَا الْمُعَاصِرِ، كَثِيرًا مَا نُوَاجِهُ صُعُوبَةً فِي فَهْمِ مَغْزَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْمَلَكِيَّةِ. فَقَلِيلُونَ مِنَّا يَعِيشُونَ فِي دُوَلٍ يَحْكُمُهَا مُلُوكٌ أقْوِيَاءٌ. وَلَكِنَّ قُرَّاءَ رِسَالَةَ يَعْقُوب كَانُوا يَعِيشُونَ تَحْتَ سُلْطَةِ الْإمْبَرَاطُورِ الرُّوَمَانِيِّ. وَلِذَا عَرَفُوا مَعْنَى أنْ يُدْعَى نَامُوسُ اللهِ بِـ”النَّامُوسِ الْمُلُوكِيّ”. فَبِبَسَاطَةٍ، كَانُوا يَعْرِفُونَ أنَّهُ لا يُمْكِنُ التَّعَامُلُ مَعَ نَامُوسِ اللهِ بِاسْتِخْفَافٍ. فَهُوَ لَيْسَ شَيْئًا يُمْكِنُنَا أنْ نَقْبَلَهُ أوْ نرفضه كَمَا نَرْغَب. بل هو صادر عن الْمَلِكِ الْإلَهِيِّ لِلْكَوْنِ. وَلِذَا، فَإنَّ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ سُلْطَةً مطلقة عَلَيْنَا.

اِسْتَمِعْ إلَى مَا يَقُولُهُ يَعْقُوبُ فِي 2: 8-10، حَيْثُ يَتَوَسَّعُ يَعْقُوبُ فِي شَرْحِ سُلْطَةِ نَامُوسِ اللهِ الْمُلُوكِيّ:

فَإِنْ كُنْتُمْ تُكَمِّلُونَ النَّامُوسَ الْمُلُوكِيَّ حَسَبَ الْكِتَابِ … فَحَسَنًا تَفْعَلُونَ. … لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِمًا فِي الْكُلِّ. (يعقوب 2: 8-10)

كَثِيرُونَ مِنْ قُرَّاءِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ المؤمنين مِنْ أصْلٍ يَهُودِيٍّ، إن لم يكن معظمهم، كَانُوا يُدْرِكُونَ أهمية نَامُوسَ اللهُ. وَلَكِنَّهُمْ، كَمَا نَرَى هُنَا، كَانُوا يَخْضَعُونَ للناموس بِانْتِقَائِيَّةٍ. فَقَدْ كَانُوا يَحْفَظُونَ أجْزَاءً مِنْه بَيْنَمَا يَتَجَاهَلُونَ أجْزَاءً أُخْرَى. وَلِذَا ذَكَّرَهُمْ يَعْقُوبُ بِأنَّ النَّامُوسَ هُوَ “النَّامُوسَ الْمُلُوكِيَّ حَسَبَ الْكِتَابِ”. فقد صدر هَذَا النَّامُوس عن مَلِكِهِمْ الْإلَهِيِّ. وَلِذَا فَإنَّ “مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِمًا فِي الْكُلِّ”.

لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا لدى الْمُلُوكِ القدامى من البشر أنْ يُطِيعَ مُوَاطِنُوهُمْ فَقَطْ قَوَانِينَ البلد الَّتِي كَانُوا يَرُونَهَا مُنَاسِبَةً أوْ مُسِرَّةً. وهكذا أيضًا، لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا أنَ تَقْتَصِرَ طَاعَةُ أتْبَاعَ الْمَسِيحِ عَلَى شرائع مَلَكُوتِ اللهِ الَّتِي يَجِدُونَهَا مُنَاسِبَةً أوْ مُسِرَّةً. كَانَ الْمُلُوكُ القدامى من البشر يعتبرون هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْاِنْتِقَائِيَّةِ تَمَرُّدًا عَلَى سُلْطَتِهِمْ الْمَلَكِيَّةِ. هكذا يعتبر اللهُ أيْضَاً هَذِهِ الْاِنْتِقَائِيَّةِ تَمَرُّدًا عَلَى سُلْطَتِهِ الْمَلَكِيَّةِ. فنَامُوسُ اللهُ هُوَ مِعْيَارَ الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَهُوَ يَأتِي بِالْحُرِيَّةِ لِكُلِّ من يَسْعَونَ مُخْلِصِين إلَى إطَاعَةِ جميع أحْكَامِهِ الْمَلَكِيَّةِ.

بعد أن نَظَرْنَا إلَى مدى إصْرَارِ يَعْقُوبَ عَلَى أنَّ الْإرْشَادَ اللازم لنوال الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ مَوْجُودٌ فِي مِعْيَارِ نَامُوسِ اللهِ، نَتَحوَّلُ الْآنَ إلَى الطرق الَّتِي بِهَا ركّز عَلَى بعض الأوْلَوِيَّات فِي ناموس اللهِ.

الأولويّات في ناموس الله

دعونا نواجه الأمْر، كُلَّمَا تَكَلَّم المؤمنون عَنْ حِفْظ جميع الْوَصَايَا الَّتِي أعْطَاهَا الله لنا، نُوَاجِه مُشْكِلَة عَمَلِيَّة للغاية. فَهُنَاك عَدَد كَبِير جِدًا مِنْ الْوَصَايَا حَتَّى أنه يَصْعُب تَذَكُّرُهَا جَمِيعًا، فكم بالحري طاعتها كلها. وَلِذَلك، بسبب قيود مَحْدَودِيَاتِنَا، نكون مُجْبَرين عَلَى التَّرْكِيز عَلَى وَصِيَّة ما أوْ غيرها. وبالتأكيد يسهل وقوعُنا فِي فَخِّ تجاهل سلطان كَلِمَة الله بِتَرْكِيزِنَا فَقَط عَلَى مَقَاطِع الْكِتَاب الْمُقَدَّس الَّتِي نرغب في طاعتها. لِتَجَنُّب هَذِه الْمُشْكِلَة، نَحْتَاج أن نُدْرِك الأوْلَوِيَّات الَّتِي يضعُها لَنَا النَّامُوس نفسَه. وَعَلَيْنَا دَوْمًا أنْ نُعْطِي الأوْلَوِيَّة لِلأبْعَاد الأكْثَر أهَمِّيَّة فِي ناموسِ اللهِ.

ربما تتَذَكَّرْ أنَّ يسوع تناول مَوْضُوعِ الأوْلَوِيَّاتِ في ناموس اللهِ فِي إنجيل مَتَّى 22: 34-40. فِي هَذِهِ الْأعْدَادِ، حدّد يَسُوعُ أعظم وصيتين. فَقَدْ قال بِكَلِمَاتٍ لا تقبل الجدل إن وَصِيَّةَ مَحَبَّةِ اللهِ، الْوَارِدَةِ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ 6: 5، هِيَ أهَمُّ مَبْدَأ يَنْبَغِي أنْ يضعه الْإنْسَانُ فِي اعتباره. كَمَا أشَارَ إلَى أنَّ وصية مَحَبَّةَ قَرِيبِنَا، الْوَارِدَةُ فِي سفر اللاوِيِّينَ 19: 18، هِيَ الْمَبْدَأُ الثَّانِي الأكثر أهَّمِّيَة.

لقد فهم الرَّسُولَ بُولُسَ بِوُضُوحٍ أنَّ مَحَبَتَنَا للهِ هِيَ أعْظَمُ الْوَصَايَا. لكن في رسالة غَلَاطِيَّةِ 5: 14، يَقُولُ أيْضًا إنَّ كل النَّامُوس يُكمَلُ فِي وصية مَحَبَةِ قَرِيبِنَا كَأَنْفُسِنَا. وَمن اللافِتٌ لِلنَّظَرِ أنَّ يَعْقُوبَ عَلَّمَ الْأمْرَ نَفْسَهُ.

اِسْتَمِعْ إلَى بَقِيَّةِ مَا يَقُولُه 2: 8-10، حَيْثُ نجد تركيز يَعْقُوبَ الْخَاصُّ عَلَى ثَانِي أعْظَمِ الْوَصَايَا:

فَإِنْ كُنْتُمْ تُكَمِّلُونَ النَّامُوسَ الْمُلُوكِيَّ حَسَبَ الْكِتَابِ: «تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». فَحَسَنًا تَفْعَلُونَ. وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ تُحَابُونَ، تَفْعَلُونَ خَطِيَّةً، مُوَبَّخِينَ مِنَ النَّامُوسِ كَمُتَعَدِّينَ. لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِمًا فِي الْكُلِّ. (يعقوب 2: 8-10)

لاحِظْ هُنَا كيفية تَلْخِيصُ يَعْقُوبُ لِأوْلَوِيَّاتِ النَّامُوسِ الْمُلُوكِيَّ بكَلِمَاتِ سِفْرِ اللّاوَيِّيِنَ، الْأصْحَاحِ التَّاسِعِ عَشْرَ وَالْعَدَدِ الثَّامِنِ عشر: “تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ”.

ليس سَبَبُ قيام يَعْقُوب بهذا لغزاً. فَالْاِضْطِرَابُ الَّذِي كَانَ حَاصِلًا بَيْنَ الْمُؤمِنِينَ الْفُقَرَاءِ وَالْمُؤمِنِينَ الْأغْنِيَاءِ فِي الْكَنِيسَةِ كَانَ نَتِيجَةُ تَجَاهُلِهُمْ لِثَانِي أعْظَمِ الْوَصَايَا.

وَكَمَا يشُيِرُ يَعْقُوبُ هُنَا، فَإنَّ من “يُحَابُونَ” لصالح الْأغْنِيَاءِ هم “مُوَبَّخِينَ مِنَ النَّامُوسِ كَمُتَعَدِّينَ” ولَيْسَ هَذَا أمْرًا بَسِيطًا. فَكُلُّ مَنْ يَتَجَاهَل هذه الوَصِيَّة الوَاحِدَة بَيْنَمَا يَحْفَظُ بَقِيَّةَ الْوَصَايَا الأخرى هُوَ “مُجْرِمٌ فِي الكُلِّ [كل النَّامُوسِ]”. وَهَكَذَا، يُعْطِي نَامُوسُ اللهِ، الَّذِي هُوَ الْمُرْشِدُ الرسمي بِشَأنِ الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ، أوْلَوِيَّةً عظمى لِمَحَبَّتِنَا بَعْضِنَا لِبَعْضٍ، كوصية في المرتبة الثانية مباشرةً بَعْدَ وَصِيَّةِ مَحَبَةَ اللهِ من كُلِّ قلوبنا.

وَبِهَذَا الشَّأنِ ذَكَّرَ يَعْقُوبُ الْأغْنِيَاءَ فِي 1: 27 قَائِلاً:

اَلدِّيَانَةُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللهِ الآبِ هِيَ هذِهِ: افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ. (يعقوب 1: 27)

مَا هُوَ اِمْتِحَانُ الدِّيَانَةَ الْحَقِيقِيَّةَ؟ لَيْسَ هو عَمَلَ أُمُورٍ صَالِحَةٍ وَأخْلاقِيَّةٍ، تجعلك تَظْهَرَ بِشَكْلٍ جَيِّدٍ أمام الْمُجْتَمَعِ، بَلْ الْاِمْتِحَانُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ اِتِّبَاعَ طُرِقِ اللهِ -فهو يَهْتَّمُ بِالْيَتَامَى وَالْأرَامِلِ – في الخفاء، وَحِينَ لا تَحْصُلُ عَلَى شَيءٍ بِالْمُقَابِلِ. مَنْ هُوَ الْيَتِيمُ؟ ومَنْ هِيَ الْأرْمَلَةُ؟ هو الشَّخْصُ الَّذِي لا يَسْتَطِيعُ أنْ يَرُدَّ لَكَ مُقَابِلَ مَا تُعْطِيِه. وَلِذَا، فَإنَّ عمل إحْسَانَكَ تجاه جارك أوْ رئيسك في العمل لا يُحْسَبُ دَلِيلًا عَلَى الدِّيَانَةِ الْحَقِيقِيَّةِ. وَلَكِنْ اللهَ يُحِّبُ الْفُقَرَاءَ، وَيَهَتَمُ بِأضْعَفِ الضُّعَفَاءِ، وَلا يَأخْذُ مُقَابِلَ ذَاكَ أيُّ شَيءٍ مَادِّيٍّ. بالطبع ينال تَسْبِيحَنَا، ويتلذذ ويسر بِالْخَيْرِ الَّذِي نعْمَلَهُ. وَلَكِنَّ الْاِهْتِمَامَ بمن ليس لديهم ما يعطونه بالمقابل، هَذَا اِمْتِحَانٌ ضخم.

د. دان دورياني

ركّز يَعْقُوبُ عَلَى حَاجَةِ الأغنياء إلى اتباع أوْلَوِيَاتِ نَامُوسِ اللهِ بمحبتهم لأقربائهم الْفُقَرَاءَ. وَلَكِنَّ مَحَبَّةَ الْقَرِيبِ كَانَتْ أمْرًا بَالِغَ الْأهَّمِّيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ حَتَّى أنَّ يَعْقُوبَ ركّز عَلَى كَوْنِهَا تَخُصُّ الْفُقَرَاءَ وَالْأغْنِيَاءَ عَلَى حد سواء. ومن الأمثلة على هذا أن يعقوب أوْضَحَ طوال رسالته أنَّ مَحَبَّةَ أقْرِبَائِنَا تَعْنِي اِسْتِخْدَامَ ألْسِنَتَنَا كأدَوَاتٍ لِلْبَرَكَةِ.

فِي 1: 19، دَعَا يَعْقُوبُ كَلَّ إنسانٍ أنْ يَكُونَ “مُسْرِعًا فِي الْاِسْتِمَاعِ، مُبْطِئًا فِي التَّكَلُّمِ، مُبْطِئًا فِي الْغَضَبِ” مع بَعَضِهِمْ البَعْض. وَفِي 4: 1-3، أصر يَعْقُوبُ عَلَى ضرورة ألَّا تُوْجَدُ الحروب، والْخُصُومَاتُ، وَالذم وَسَطَ شَعْبِ اللهِ. وَفِي 4: 11، أدَانَ يَعْقُوبُ “الذَّمَّ”. وَفِي 5: 9، أمَرَ قَائِلًا: “لا يئنُّ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ”. وَبَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، بِحَسَبِ 5: 16، كان عَلَيْهِمْ أنْ “يَعْتَرِفُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِالزَّلّاتِ [أي زلاتهم] ويصلوا بعضهم لأجل بعض”.

إنْ أراد الْمُؤمِنُونَ مِنْ قُرَّاءِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ أنْ يُظْهِرُوا أنَّ لَدَيْهِمْ الحِكْمَةً التي من فوق، فعليهم أن يكرّسوا أنْفُسَهُمْ لِمِعْيَارِ نَامُوسِ اللهِ. وَيَعْمَلُوا هَذَا وَهُمْ مُدْرِكُونَ تَمَامًا لِلْأوْلَويَّةِ الَّتِي أعْطَاهَا نَامُوسُ اللهِ لِمَحَبَّتِهِمْ بَعْضِهِمْ نحو بعضٍ.

وَالْآن، بَعْدَ أنْ رَأيْنَا كيف خاطب تركيز يَعْقُوبُ عَلَى الْحِكْمَةِ الْعَمَليِةِّ احتياج قُرَّائِهُ وقَدَّمَ لهم الْإرْشَادَ، لِنَنْظُرَ إلَى مَوْضُوعٍ رَئِيسِيٍّ ثَالِثٍ أثَارَهُ يعقوب، وَهُوَ الْعَلاقَةُ بَيْنَ الْإيمَانِ وَالْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ.

 

الإيمان

لو أن هُنَاك أمْر وَاحِد يُمَثِّل مِحْوَر الْمَسِيحِيَة فبالتأكيد هذا الأمر هو الإيمَان. فنحن نتحدث عَنْ الْمَسِيحِيَّة بِاعْتِبَارِهَا “إيمَانُنَا”. كما نتحدث عَنْ الْمَسِيح بِاعْتِبَارِه مَوْضُوعُ إيمَانِنَا. وَنُؤكِّد عَلَى الْعَقِيدَة الْبرُوتُسْتَانْتِيَّة سُولا فِيدِي، أيْ أن التَّبْرِير هو بِالإيمَان وحدَه. وترجع أهَّمِّيَّة الإيمَان الذي نعترف به الْيَوْم إلى مَرْكَزِيَّة الإيمَان فِي الْعَهْد الْجَدِيد نَفْسهِ. كذلك كَان الإيمَان مِحْوَر الْمَسِيحِيَّة فِي الْقَرْن الأول الْمِيلادِي. ولذلك، أثَار يَعْقُوب قَضِيَّة الْإيمَان للتأكيد على أهَّمِّيّة الْحِكْمَة الْعَمَلِيَّة لِقُرَّائِهِ.

لا يتيح لَنَا الْوَقْتُ سوى بأنْ نَذْكُرَ طريقتين رَبَطَ بِهِمَا يَعْقُوبُ بَيْنَ الْحِكْمَةِ الَعَمَلِيَّةِ وَالْإيمَانِ. أوَّلًا، يَشْرَحُ يَعْقُوبُ الْعَلاقَةَ بَيْنَ الْإيمَانَ وَالْأعْمَال، وَثَانِيًا يَشْرَحُ الْعَلاقَةَ بَيْنَ الْإيمَانِ وَالتَّبْرِيرِ. وَلِنَنْظُرْ أوَّلًا لكيفيّة تناوله لِمَوْضُوعِ الْإيمَانِ وَالْأعْمَالِ.

الإيمان والأعمال

بَدَأ يَعْقُوبُ حديثه فِي 2: 14 بِسُؤالٍ مُبَاشِرٍ:

مَا الْمَنْفَعَةُ يَا إِخْوَتِي إِنْ قَالَ أَحَدٌ إِنَّ لَهُ إِيمَانًا وَلكِنْ لَيْسَ لَهُ أَعْمَالٌ، هَلْ يَقْدِرُ الإِيمَانُ أَنْ يُخَلِّصَهُ؟ (يعقوب 2: 14)

وَطَبْعًا، الْجَوَابُ عَنْ سُؤالِ يَعْقُوبُ هُوَ “لا”. فَالْإيمَانُ غَيْرَ الْمَصْحُوبِ بِالْأعْمَالِ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُخَلِّصَ.

كَلِمَةُ “الْإيمَانْ” أو “يؤمن” هي تَرْجَمَةٌ لِلْاِسِمِ الْيُونَانِي بِيسْتِيس [πίστις]، والفعل بِيسْتوُو[πιστεύω]. تَظْهَرُ حصيلة الكلمات هذه مِئاتِ الْمَرَّاتِ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. وَهِيَ تُشِيرُ إلَى عَدَدٍ مِنَ الْمَفَاهِيمِ الْمُخْتَلِفَةِ.

على سبيل المثال لا الحصر، فِي بَعْضِ الْأحْيَانِ يُشِيرُ الْإيمَانُ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ إلَى مُجَرَّدِ الموافقة الْعَقْلِيَّةِ عَلَى صحة شيء ما. وَفِي بَعْضِ الأحيان، تُشِيرُ الكَلِمَةُ إلَى الْمُصَادَقَةِ الْمُؤقَّتَةِ. وَفِي أحيان أُخْرَى تُشِيرُ إلَى مَا يَدْعُوهُ اللاهُوتِيُّونَ عَادَةً “الْإيمَانِ الْخَلاصِيِّ”. والإيمان الخلاصي هُوَ الثِّقَةُ الْقَلْبِيَّةُ لمدى الْحَيَاةِ، وَالْاِتِّكَالِ عَلَى الْمَسِيحِ بِصِفَتِهِ الطَرِيقَ للْخَلاصِ. وقد أدْرَكَ يَعْقُوبُ أنَّ “الْإيمَانَ” يُمْكِنُ أنْ يَعْنِي أشْيَاءَ كَثِيرةً، وَلِذَا دَعَا قُرَّاءَهُ إلى فحص نَوْعِ الْإيمَانِ الَّذِي كَانَ لَدَيْهِمْ.

فَمَثَلًا، فِي 2: 19، تَحَدَّى يَعْقُوبُ قُرَّاءَهُ الْمَسِيحِيِّينَ مِنْ أصْلٍ يَهُودِيٍّ بِالْكَلِمَاتِ التَّالِيَةِ:

أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ. حَسَنًا تَفْعَلُ. وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ! (يعقوب 2: 19)

فَحِينَ سَلَّمَ يَعْقُوبُ بِحَقِيقَةِ أنَّ قُرَّاءَهُ كَانُوا يُؤمِنُونَ، وَهِيَ تَرْجَمَةٌ لِلْفِعْلِ الْيُونَانِي بِيسْتُوو [πιστεύω]، بِأنَّ اللهَ وَاحِدٌ، كَانَ يُشِيرُ إلَى مَا يُدْعَى الشِّمَاع.

يَقُولُ لَنَا إقرار الإيمان القديم هذا الموجود في الْعَهْدِ الْقَدِيمِ فِي سفر التَثْنِيَةٍ 6: 4: “اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ”. ومِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ يَعْقُوب، كانت مُصَادَقَةَ قُرَّائَهُ العقلية عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ أمْرٌ حسن. وَلَكِنْ بِرُغْمِ ذلك، فَإنَّ هَذَا النَّوعَ مِنَ الْإيمَانِ لَيْسَ كَافِيًّا، إذْ “الشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ” بِهَذَا. وَفِي الْحَقِيقَةِ، يقشعرّ الشَّيَاطِين خَوْفًا حِينَ يُفَكِّرُونَ فيها. وَلَكِنَّ هَذَا لا يجديهم نفعًا. فَمجرد الْمُصَادَقَةُ العقلية مِنْ دُونِ الطَّاعَةِ لَيْسَتْ إيمَانًا خَلاصِيًّا.

أوْ كَمَا عَبَّرَ يَعْقُوبُ عَنْ هَذِهِ الْفِكْرَةِ ببلاغة فِي 2: 26:

لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ بِدُونَ رُوحٍ مَيِّتٌ، هكَذَا الإِيمَانُ أَيْضًا بِدُونِ أَعْمَال مَيِّتٌ. (يعقوب 2: 26)

بَعْدَ نَظَرنِا إلَى هذا المَفْهُومِ الأساسي عن الْإيمَانِ وَالْأعْمَالِ، عَلَيْنَا أيْضًا أنْ نَذْكُرَ تناول يَعْقُوبَ لِمَوْضُوعِ الْإيمَانِ وَالتَّبْرِيرِ.

الإيمان والتبرير

كَانَتْ مَسْألَةُ هوية مَنْ يَتَبَرَّرُ، أو يَصِيرُ بَارًّا أمَامَ اللهِ، مَحَلَّ جَدَلٍ وَسَطَ الْمُعَلِّمِينَ الْيَهودِ في زَمَن يَعْقُوب. وَقَدْ اِسْتَمَرَّ هَذَا الأمر مَوْضُوعًا مَرْكَزِيًّا فِي الْكَنِيسَةِ الْمَسِيحِيَّةِ في الْقَرْنِ الْأوَّلِ. فمَنْ هو الَّذِي يُحْسَبُ بَارًّا؟ مَنْ يُعْتَبَرُ بَارًّا؟

يُجِيبُ يَعْقُوبُ عَنْ هَذِهِ الْأسْئِلَةِ فِي 2: 21-24 كَمَا يَلِي:

أَلَمْ يَتَبَرَّرْ إِبْرَاهِيمُ أَبُونَا بِالأَعْمَالِ، إِذْ قَدَّمَ إِسْحَاقَ ابْنَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ؟ … تَرَوْنَ إِذًا أَنَّهُ بِالأَعْمَالِ يَتَبَرَّرُ الإِنْسَانُ، لاَ بِالإِيمَانِ وَحْدَهُ. (يعقوب 2: 21-24)

يَتَكَلَّمُ يَعْقُوبُ هُنَا عَنْ التَّبَرُّرِ مُسْتَخْدِماً الْفِعْلُ الْيُونَانِي دِيكَايُوُو [δικαιόω]، الَّذِي يَعْنِي “يُعْلِنُ بَارًّا” أوْ “يُبَرِّرُ” أوْ “يُبْرِّئُ”. وَهُوَ يُؤكِّدُ هُنَا عَلَى أنّ إبْرَاهِيِمَ قد تَبَرَّرَ أوْ تَبَرَّأ كبارٍ بِالْأعْمَالِ، أي بِعَمَلِ تَقْدِيمِهِ اِبْنَهُ إسْحَاقَ للهِ كما جاء فِي سفر التكوين 22. وَعَلَى هَذَا الْأسَاس، اِسْتَنْتَجَ أنَّ لا أحدَ يَتَبَرَّرُ أوْ يَتَبَرَّأ بِالْإيمَانِ وحده. فَكُلُّ مَنْ يَقْبَلَهُ اللهُ بِصِفَتِهِ بَارًّا يَتَبَرَّرُ بِالْأعْمَالِ.

أثَارَ تصريح يَعْقُوب هَذَا شَتَّى أنْوَاعِ الْجدَالِ عَبْرَ الْقَرُونِ، وَيَعُودُ هَذَا بِشَكلٍ خَاصٍّ إلَى كونه يَبْدُو مُنَاقِضًا لِمَا عَلَّمَهُ الرَّسُولُ بُولُسُ عَنْ التَّبْرِيرِ.

يَقُولُ يَعْقُوبُ فِي 2: 24:

تَرَوْنَ إِذًا أَنَّهُ بِالأَعْمَالِ يَتَبَرَّرُ الإِنْسَانُ، لاَ بِالإِيمَانِ وَحْدَهُ. (يعقوب 2: 24)

وَفي الْمُقَابِلِ كَتَبَ بَولُسُ الرَّسُولِ فِي رسالة غَلاطِية 2: 16:

إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. (غَلاطِية 2: 16)

وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةُ هِيَ أنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَنَاقُضٍ هُنَا. بل قد استخدم يَعْقُوبُ وَبُولسُ اللفظ نَفْسَهُ دِيْكَايُوو [δικαιόω]، أو “يتَبَرَّرَ” بِطَرِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ. فَفِي معجم بُولُسَ التِّقَنِيِّ لِلْمُصْطَلَحَاتِ اللاهُوتِيَّةِ، كَانَ يفرد اِسْتِخْدَامَ الْكَلِمَةُ “يتَبَرَّرَ” لأْمرٍ وَاحِدٍ فقط. فَبِالنِّسْبَةِ لِبُولُسَ، يُشِيرُ “التَّبْرِيرُ” إلَى الْإعْلانِ الْأوَّلِي لبر كُلّ من لَدَيْهِمْ إيمَانٌ خَلاصِيٌّ بِالْمَسِيحِ مِنْ خِلالِ احتساب بِرَّ الْمَسِيحِ لهم.

أمّا يَعْقُوبُ فَقَدْ تحدث عَنْ التَّبْرِيرِ بِطَرِيقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَقَدْ اِسْتَخْدَمَ المصطلح دِيكَايُوو [δικαιόω] بِمَعْنَى “تبرهن” أوْ “تبرأ”. لَمْ يُنْكِرْ يَعْقُوبُ الحسبان الأولي لِبِرِّ الْمَسِيحِ حِينَ يُؤمِنُ الْإنْسَانُ إيمَانًا خَلاصِيًّا. وَلَكِنَّ مُصْطَلَحُ دِيكَايُوو بِالنِّسْبَةِ لِيَعْقُوبَ يَتَعَلَّقُ بِالْإنْسَانِ الَّذِي أعْلَنَ إيمَانَهُ بِالرب يَسُوعِ، وَهَذَا الْإيمَانُ “يتبرهن” أوْ “يتبرأ” بِعَمَلِ الرُّوحِ الْقُدُسِ فِي حَيَاةِ هَذَا الْإنْسَانُ. فَمِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ يَعْقُوب، تَقُودُ قوة وتمكين الرُّوحِ الْقُدُسِ إلَى تَكْرِيسٍ أمِينٍ لِلْمَسِيحِ. فَبِغَضِّ النَّظَرِ عَمَّا يَدَّعِيِهِ الْإنْسَانُ، إنْ لم يُظْهرُ إيمَانَهُ ويبرهن عليه بِالْأعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَإنَّ هذا الشخص في النهاية لن يتبرأ. وَهَكَذَا، تحدّث يَعْقُوبُ عَنْ الْعَلاقَةِ بَيْنَ الْإيمَانِ وَالتَّبَرِيرِ كَطَرِيقَةٍ يؤكد بها على أهَمِّيَّةَ الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ لِقُرَّائِهِ.

إن مَا يَبْدُو تَنَاقُضًا بَيْنَ بُولُس وَيَعْقُوب حَوْلَ قضية التَّبْرِيرُ بِالْإيمَانِ وحده هُوَ في الحقيقة الْقَضِيَّةُ الرَّئِيسِيَّةُ فِي رِسَالَةِ يَعْقُوب، حَسَبَ اعْتِقَادِي. فهي تظهر فيه. وَرُبَّمَا لَيْسَ مِنْ قَضِيَّةٍ فِي هَذِهِ الرَّسِالَةِ تم الكتابة عنها أكثر من أي موضوع آخر بِقَدْرِ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ المحددة. أُرِيدُ أوَّلًا أنْ أقُولَ إنَّ الْكَلِمَةَ الْيُونَانِيَّةُ دِيكَايُوو تَعْنِي أحياناَ “فعل التَّبْرِيرِ”. وَلِتَبْسِيطِ هَذَا أقُولُ إنَّ التَّبْرِيرَ هُوَ بِمَثَابِةِ وَجْهَيْنِ لِعُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ. فَمِنْ نَاحِيَةٍ، تجد الغُفْرَان، أي أن اللهِ يغفر لنا، وَهَذِهِ هِيَ نَاحِيَةُ الاقتطاع. وَمِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى نجد الْإضَافَةِ، الَّتِي هِيَ حُسْبَانُ الْبِرِّ. ومن هذا يأتي ذلك الْإعْلانَ: “أنْتَ مُبَرَّرٌ أمَامِي”. وَهَكَذَا، نَحْنُ مُتبَرّرُونَ بِالْإيمَانِ، وهَذِهِ إحْدَى استخدامات كلمة “التَّبْرِيرْ”. وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، يُمْكِنُنَا أنْ نَسْتَخْدِمَ الْكَلِمَةُ “تَبْرِيرْ” بِمَعْنَى “التبرئة” أو “اظهار البر”. وَهَكَذَا، يَسْتَخْدِمُ بُولُسُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِالْمَعْنَى الْقَضَائِيِّ، بَيْنَمَا يَسْتَخْدِمُهَا يَعْقُوبُ بِمَعْنَى قدوة بالْأعْمَالِ، أيْ بِمَعْنَى إظْهَارِ الْإنْسَانِ لِحَقِيقَةِ كَوْنِهِ بَارًّا. وَبإختصار، نَقُولُ إنَّ اسْتِخْدَامَ بُولُسُ لِلتَّبْرِيرِ هُوَ لِلْإشَارَةِ إلَى أَولِويَّةِ الْإيمَانِ، بَيْنَمَا يَعْقُوبُ يَنْظُرُ إلَى التَّبْرِيرِ باعتباره أمرًا يلي التَّجْدِيدِ، أو بِصِفَتِهِ برهانًا لِلْإيمَانِ. وَلِذَا فَإنَّ سُؤالَ يَعْقُوبُ هُوَ: “مَنْ الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُعْتَبَرَ بَارًّا؟ هَلْ هُوَ من يَقُولُ إنَّهُ يُؤمِنُ بِاللهِ، أمْ من يَحْيَا حَيَاةً مَبْنِيَّةً عَلَى أسَاسِ اعْتِرَافِهِ وَإيمَانِهِ بِاللهِ؟” وَبِالنِّسْبَةِ لِبُولُسَ وَيَعْقُوبَ، يَنْبَغِي لِلْإيمَانِ أنْ يَعْمَلَ. هَلْ أقُولَهَا ثَانِيَةً: يَنْبَغِي لِلْإيمَانِ أنْ يَعْمَلَ. يَنْبَغِي أنْ يُثْمِرَ. يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مَرْئيًّا. الْإيمَانُ الشفهي لَيْسَ كَافِيًا، وَالْإيمَانُ العقلي لَيْسَ كَافِيًا. فَيَنْبَغِي أنْ يَتَحرَّكَ الْإيمَانُ وَيَعْمَلَ. فهو يَحْتَمِلُ التجارب، وَيُطِيعُ كَلِمَةُ اللهِ، وَيُثْمِرُ أناسًا عامِلِينَ بِالكلِمَةِ، وَلا يحابي، ويلجم اللِسَانِ، ويتصرف بِحِكْمَةٍ، ويمد بالقُوَّةً لِمُقَاوَمَةِ إبْلِيسَ، وَالْأهَّمُ أنَّهُ يَنْتَظَرُ بأناة مَجِيءَ الرب. وَقَدْ عَلَّمَ كُلٌّ مِنْ بُولُسَ وَيَعْقُوبَ الْأمْرَ ذاته تَمَامًا.

لاري واترز

اِسْتَمِعْ إلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي بِهَا طَبَّقَ يَعْقُوبُ هَذَا الْمَبْدَأ فِي 2: 15-17:

إِنْ كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ عُرْيَانَيْنِ وَمُعْتَازَيْنِ لِلْقُوتِ الْيَوْمِيِّ، فَقَالَ لَهُمَا أَحَدُكُمُ: «امْضِيَا بِسَلاَمٍ، اسْتَدْفِئَا وَاشْبَعَا» وَلكِنْ لَمْ تُعْطُوهُمَا حَاجَاتِ الْجَسَدِ، فَمَا الْمَنْفَعَةُ؟ هكَذَا الإِيمَانُ أَيْضًا، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَالٌ، مَيِّتٌ فِي ذَاتِهِ. (يعقوب 2: 15-17)

يَصْعُبُ تَخَيُّلَ أنْ يَكُونَ هُنَاكَ تَشْدِيدٌ عَلَى هَذِهِ النُّقْطَةِ أكْثَرَ مِمَّا فعل يَعْقُوب. فقد كَانَ قُرَّاءُ رِسَالَتَهُ بِحَاجَةٍ لِمُعَالَجَةِ الْاِضْطِرَابِات فِي كَنَائِسِهِمْ بِالطَّاعَةِ الْعَمَلِيَّةِ لِنَامُوسِ اللهِ، خَاصَّةً لوصية أن يحبوا بَعْضِهِمْ الِبَعْض. ومَهْمَا كَانَ مَا يدَّعونه بشأن إيمَانِهِمْ، فَإنَّهُمْ لا يَظْهَرُونَ أبْرَارًا فِي عَيْنَي اللهِ مِنْ دُونِ أعْمَالِ الْمَحَبَّةِ الصَّالِحَةِ وَالْعَمَلِيَّةِ.

 


الخاتمة


 

نَظَرْنا فِي هَذَا الدَّرْسِ إلَى طَرِيقَي الْحِكْمَةِ فِي رِسَالَةِ يَعْقُوب. فَرَأيْنَا كَيْفَ وَجَّهَ يَعْقُوبُ قُرَّاءَهُ نَحْوَ الْحِكْمَةَ التَّأمُّلِيَّةِ بِإبْرَازِ احتياجهم لِلْحِكْمَةِ التَّأمُّلِيَّةِ وَتَقْدِيمِ الْإرْشَادِ لهم، وَالرَّبْطِ بَيْنَ الْحِكْمَةِ التَّأمُّلِيَّةِ وَالْإيمَانِ. وَنَظَرْنَا أيْضًا إلَى كيفية تَوْجِيهِ يَعْقُوبَ قُرَّاءَهُ لْلسَّعِي إِلَى امتلاك الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ بِإظْهَارِهِ لَهُمْ اِحْتِياجَهُمْ، وارشادهم أن يُطَبِّقُوا حَقَّ اللهُ في خدمة أمينة ومتضعة للهِ وَلشَعْبِهِ.

دَعَا يَعْقُوب المؤمنين في القرن الأول، الذين كَانُوا مِنْ أصْل يَهُودِي، لاتِّبَاع طَرِيقَيّ الْحِكْمَة. وَهَذِه الدَّعْوَة هي لي ولك أيْضَاً اليوم. فَنَحن نَحْتَاج أيْضًا لِلْحِكْمَة التَّأمُّلِيَّة وَالْحِكْمَة الْعَمَلِيَّة. وللحصول على هذه العَطَايَا من الله، يَنْبَغِي أنْ نَخْضَع لِلإرْشَاد الَّذِي قَدَّمَهُ يَعْقُوب. وَعَلَيْنَا أنْ نحرص على أنْ نَعْمَل هَذَا بِإيمَان وَتَكْرِيس كامل للهِ. وفي الوقت الذي نَتْبَع فيه الْحِكْمَة الأرْضِيَّة بِسُهُولَة، يجب أنْ نأخذ رِسَالَة يَعْقُوب على مَحمل الجَد، وَنَسْلُك في طريقيّ الْحِكْمَة اللذَيِن هما مِنْ اللهِ.

شارك مع أصدقائك