التعريف
يُولي الكتاب المقدَّس أهمِّيَّة قصوى للحقِّ والمعرفة، لأنَّهما يرتبطان بطبيعة الله وعلاقتنا به.
الموجَز
يُولي الكتاب المقدَّس أهمِّيَّة قصوى للحقِّ، لأنَّ الحقَّ والأمانة صفات جوهريَّة في الله وكلمته. وهذا الارتباط القويُّ بين الحقِّ والله الثالوث، له تأثير أخلاقي كبير جدًّا على جماعة العهد. قدَّم الفلاسفة العديد من النظريَّات عن الحقِّ، وبعض هذه الآراء يمكن أن تتوافق مع الفكر اللاَّهوتيِّ المسيحيِّ للحقِّ. فبما أنَّ الخطأ هو الانحراف بعيدًا عن كلِّ ما هو حقٌّ وصحيح، فلا يمكن أن يخطئ الله أو تخطئ كلمته. ويجب على المؤمنين أن يسعوا إلى تجنُّب الأخطاء اللاَّهوتيَّة والتأكيد على العقيدة القويمة. فلدى الكتاب المقدَّس الكثير من الأمور الهامة التي يمكنه أن يقولها عن المعرفة الإلهيَّة والبشريَّة. وبحسب إعلان الله، والقدرات المعرفيَّة التي منحنا إياها، يمكننا أن ننال أنواعًا مختلفة من المعرفة، كمعرفة الحقِّ والخالق والخليقة وأنفسنا. لكن أعظم معرفة يمكن أن ننالها هي المعرفة الشخصيّة الخلاصيّة من خلال يسوع المسيح.
“مَا هُوَ ٱلْحَقُّ؟” طرح بيلاطس هذا السؤال على ذاك الذي أتى إلى العالم ليشهد للحقِّ (يوحنَّا 18: 37، 38). لم يتلقَّ الحاكم الرومانيُّ أيَّ جواب عن سؤاله؛ لأنَّ سؤاله الساخر عكس حالةً من الشكِّ والإنهاك تجاه فكرة الحقِّ، ولم يكن سؤالاً وجوديًا فلسفيًّا يسعى من خلاله المرء وراء معرفة الحقيقة. لكن يبقى السؤال نفسه مهمًّا، ويتطلَّب منَّا الكثير من التفكير بحرص. في هذه المقالة، سوف نتناول بعض الأشياء التي أكَّدها الكتاب المقدَّس أو أشار إليها عن الحقِّ، وأيضًا الخطأ والمعرفة، لأنَّها جميعًا موضوعات متصلة بعضها ببعض.
الحقُّ
لننتبه أولًا للمكانة التي أولاها الكتاب المقدس للحق. ففي كلا العهدين القديم والجديد، نجد شعب الله يبتهج بالتكلُّم بالحقِّ (مزمور 15: 2؛ أمثال 12: 17؛ زكريَّا 8: 16؛ أفسس 4: 15-25). كما أن الوصيَّة التاسعة من الوصايا العشر تتعلّق بقول الحق (خروج 20: 16)، ليس فقط عند الإدلاء بالشهادة وقت المحاكمات (لاويين 19: 15-21)، بل أيضًا في كلِّ مناحي الحياة. وهذا ما يؤكِّده بقيَّة الكتاب المقدَّس، إذ يوضِّح أنَّ التكلُّم بالصدق هو واجب أخلاقيٌّ، والأمانة فضيلة أخلاقيَّة. والسعيّ نحو العدالة يعتمد في الأساس على الأمانة والصدق، ومن ثمَّ فإنَّ الأبرار هم من “يحبُّون الحقَّ” (زكريَّا 8: 16-19؛ انظر أيضًا عاموس 5: 10). واهتمامنا الصادق بالحقِّ لا يجب أن يتوقف عند كلامنا وحسب، بل أن يتخلَّل حتَّى أفكارنا (فيلبِّي 4: 8).
الكلمتان الأصليَّتان لكلمة “حق” في الكتاب المقدَّس هما “إيميت” (emet) العبريَّة، و”أليثيا” (alētheia) اليونانيَّة. والكلمتان يتضمَّنان المعنى الحرفيَّ الدقيق لتمثيل الحقائق (مثل “قُل الحق”)، بالإضافة إلى معانٍ أشمل مثل المصداقيَّة، والجدارة بالثقة، والإخلاص، والصدق.
من الجيِّد هنا أن نميِّز بين المعاني الافتراضيَّة وغير الافتراضيَّة لكلمة “الحقُّ”. يتناسب استخدام المعاني الافتراضيَّة مع المعتقدات أو اعترافات الإيمان؛ فالمُعتقد يكون صحيحًا ويعبِّر عن الحق، فقط إذا كان يصوِّر الأمور بدقَّة وأصالة. وهذا المعنى الافتراضيُّ نراه خاصَّةً عند الشهادة عن أمر ما، سواء كانت شهادة إلهيَّة أو بشريَّة (يوحنَّا 5: 31، 32؛ 21: 24؛ أعمال الرسل 10: 42؛ 18: 5؛ 20: 23، 26؛ 26: 25؛ 1 يوحنَّا 4: 14؛ 5: 6-12). أمَّا في المعنى غير الافتراضيِّ، فإنَّ الأشخاص والأشياء “حقيقيُّون” إذا كان الشيء أو الشخص أصيلاً وجديرًا بالثقة وله مصداقيَّة (مثل لوقا 16: 11؛ عبرانيِّين 9: 24).
كان الرسول يوحنَّا على وجه الخصوص مولعًا باستخدام كلمة “حق” أو “حقيقي” بهذا المعنى (مثل “النور الحقيقيُّ”، “العبادة الحقيقيَّة”، “الخبز الحقيقيُّ”، “الطعام الحقيقيُّ”، “الماء الحقيقيُّ”، “الكرمة الحقيقيَّة”، “الإله الحقيقيُّ”). وفي هذا الاستخدام غير الافتراضيِّ لكلمة “حقٌّ” أو “حقيقيٌّ” كان يذهب أبعد من المعنى المادِّيِّ للأشياء، ليبلغ المعنى الروحيَّ الحقيقيَّ من ورائها (مثل يوحنَّا 6: 32؛ عبرانيِّين 8: 2).
من المنظور المسيحي، “الحقِّ” هو أكثر من مجرِّد مفهوم فلسفيِّ. فهو منظور لاهوتيٌّ؛ لأنَّه يرتبط بقوَّة بطبيعة الله وبإعلانه عن نفسه. فيهوه هو “الله الحقيقيُّ” (إرميا 10: 10؛ يوحنَّا 17: 3؛ 1 تسالونيكي 1: 9)، وهو أيضًا “إله الحقِّ” (مزمور 31: 5؛ إشعياء 65: 16)، الذي لا يكذب (عدد 23: 19؛ تيطس 1: 2). يسوع المسيح هو “الابن الوحيد الذي للآب”، ومن ثمَّ فيه “ملء النعمة والحقِّ” (يوحنَّا 1: 14)، بل وأعلن أنَّه هو “الحقُّ” (يوحنَّا 14: 6). والروح القدس الذي أرسله الابن مِن عند الآب، هو “روح الحقُّ” (يوحنَّا 14: 17؛ 15: 26؛ 16: 13؛ 1 يوحنَّا 5: 6). أمَّا إبليس، في تناقضه التامِّ مع الله الثالوث، فهو “الكذَّاب وأبو الكذَّاب” (يوحنَّا 8: 44، 45).
علاوةً على ذلك، طالما أنَّ إعلان الله عن نفسه يعكس شخصه وصفاته، فكذلك يجب أن تكون كلمته أيضًا (يوحنَّا 17: 17؛ انظر أيضًا مزمور 119: 160؛ 2 تيموثاوس 2: 15؛ يعقوب 1: 18). ترتبط مصداقيَّة كلمة الله بكمالها وموثوقيَّتها (2 صموئيل 22: 31؛ مزمور 12: 6؛ 18: 30؛ أمثال 30: 5؛ رؤيا 21: 5؛ 22: 6).
هذا الارتباط الوثيق بين الله والحقِّ له تأثيرات أخلاقيَّة كبيرة جدًّا على هؤلاء الذين يعلنون أنَّهم جماعة العهد. إلهنا هو إله الحقِّ، وكلمته حقٌّ، ومن ثمَّ، يجب أن نثق بالله، ونصدِّق ونطيع كلمته، ونسعى إلى أن نتكلَّم بالحقِّ.
لكن ما هو الحقُّ؟ لقد جادل الفلاسفة بشأن ما إذا كان يجب أن نفهم الحقَّ من خلال تعابير أو كلمات ذات صلة بالواقع. بالنسبة لمذهب الواقعيَّة، فإنَّ الفرضيَّة هي “حقٌّ” إذا كانت تصف أو تقدِّم الواقع بدقَّة (أي تعكس الواقع كما هو بالفعل). لقد قدَّم الفيلسوف أرسطو تعريفًا كلاسيكيًّا للحقِّ:
الباطل هو أن تقول بأنَّ ما هو موجود، ليس موجودًا؛ أو أن ما ليس موجودًا، موجودٌ. أمَّا القول بأن ما هو موجود، موجودٌ؛ وأنَّ ما ليس موجودًا، ليس موجودًا، فهذا هو الحقّ (Metaphysics 1011b).
لقد ساد هذا المنطق حتَّى مطلع القرن العشرين، حين بدأت الكثير من الحجج المناهضة للواقعيَّة في الظهور (في الوقت ذاته الذي ظهرت فيه فكرة “موت الله”). ويقترب مذهب اللاواقعية بشكل كبير من الحركات البراجماتيَّة وما بعد الحداثة في مفهومها عن “الحقِّ”، إذ يرونه نظامًا اجتماعيًّا يمكن تصميمه على هوى الأشخاص، وليس اكتشافه.
لذا، يمكننا القول بأنَّ الكتاب المقدَّس يفترض ضمنيًّا وجهة نظر واقعيَّة للحقِّ، وأنَّ كلَّ المبادئ وإقرارات الإيمان العظيمة التي صاغها المسيحيُّون، ما كانوا ليفعلوها، بل وكانوا سيقعون في حيرة إذا تبنُّوا وجهة نظر مغايرة لمفهوم الحق.
ظهرت العديد من النظريَّات الفلسفيَّة إلى جانب النظرية الواقعيَّة واللاواقعيَّة، منها نظريَّة مُطابقة الحقيقة، وانسجام الحقيقة، والبرجماتيَّة. تتبنَّى نظريَّة مُطابقة الحقيقة فكرة أنَّ الحقَّ هو العلاقة بين المعتقد والأمور الواقعية؛ أي إنَّ المعتقد يكون حق (true) إذا توافق مع المور الواقعية (facts). أمَّا نظريَّة انسجام الحقيقة فتتبنَّى فكرة أنَّ الحقَّ أكثر من مجرَّد المبادئ المكوِّنة لمعتقد ما؛ أي إنَّ المعتقد يكون “حقًّا” إذا توافق بصفة دائمة مع المعتقدات والأفكار الأخرى. وبالنسبة للنظريَّة البرجماتيَّة، فهي تفترض أنَّ المعتقد حقٌّ بناءً على تبعات هذا المعتقد؛ أي إنَّ المعتقد يكون حقًّا من خلال ما يصنعه من فرق، وإذا أتى بنتائج نافعة ومرغوبة في المجتمع.
يتَّفق أصحاب المذهب الواقعيّ مع نظريَّة مُطابقة الحقيقة، بينما يميل اللاواقعيُّون إلى الاتِّفاق أكثر مع نظريتيّ الانسجام والبراجماتيَّة. ورغم إنَّه من الواضح ميل المسيحيِّين نحو نظرية مطابقة الحقيقة، إلا أننا يجب ألا نُسقِط التوجُّهين الآخَرَين من الحسبان. اتَّبع بعض الفلاسفة المسيحيِّين منطق أوغسطينوس، وافترضوا أنَّ كلَّ الحقائق في النهاية نابعة من فكر إلهيٍّ. ليس فقط أنَّ ما يوافق عليه الله يكون حقًّا، بل إنَّ الحقَّ هو فقط كلُّ ما يوافق عليه الله ويوافقه؟ بناءً على هذا المبدأ العقائديِّ، لن يكون من الصعب أن نرى تجسُّد الحقِّ ليس فقط في نظريَّة مطابقة الحقيقة، بل وحتَّى في نظريتيّ الانسجام والبراجماتيَّة أيضًا. إذا صحَّ هذا الفكر، فهذا يعني أنَّنا عندما ندرك الحقَّ، ستكون أفكارنا مثل فكر الله في أعمق معانيه. فبما أنَّ الحقَّ يتوافق مع الواقع، وأنَّه مرتبط داخليًّا، وأنَّه يُحدِث فرقًا عمليًّا في العالم، فعلينا مسؤوليَّة قويَّة في الربط لبن اللاَّهوت النظاميِّ واللاَّهوت العمليِّ.
الخطأ
في اللغة الإنجليزيَّة، تعني كلمة error خطأ أو زَلَّة، أو انحراف عمَّا هو صحيح وحقٌّ. ويمكن التمييز بين الخطأ الفكريِّ والخطأ الأخلاقيِّ. يتمثَّل الخطأ الفكريُّ في الاعتقاد أو الاعتراف بشيء غير حقيقيٍّ. فإذا أخطأت في معرفة عدد قطع الحلوى الموجودة داخل صندوق، وقلت إنَّهم أربع وعشرون وهم في الحقيقة خمس وعشرون، أكون هنا ارتكبت خطأً فكريًّا. أمَّا الخطأ الأخلاقيُّ، فهو ما يسمِّيه الكتاب المقدَّس خطيَّة؛ أي الانحراف بعيدًا عن البرِّ، والتعدِّي على ناموس الله (1 يوحنَّا 3: 4).
ليست كلُّ الأخطاء الفكريَّة بالضرورة أخطاءً أخلاقيَّة. على سبيل المثال، إذا حصل طالب، في امتحان، على درجة ثماني وعشرين من واقع ثلاثين، يكون قد ارتكب خطأً فكريًّا، لكنَّه ربَّما لم يقترف أيَّ خطأ أخلاقيٍّ. لكنَّ حصوله على هذه الدرجة، قد يقف خلفها فشل أخلاقيٌّ مثل: الكسل.
وعلى الرغم من أنَّ الأخطاء الفكريَّة عادةً ليست عن قصد أو سوء نيَّة، فإنَّ غياب القصد لا يعني بالضرورة تبرئة المخطئ؛ لأنَّه حتَّى الأخطاء غير المقصودة يمكن أن تكون راجعة إلى الإهمال. افترض مثلاً أنَّك أعطيتني قائمة بأدوية لأعطيها لمريض، وأنا أهملت، وانتهى الأمر بأنَّني أعطيته جرعات خاطئة. هنا ربَّما يكون خطئي عن غير قصد، لكنَّه لا يبرئني على الإطلاق.
يعلِّمنا الكتاب المقدَّس بوضوح أنَّ الله لا يمكن أن يخطئ على الإطلاق، سواء فكريًّا أو أخلاقيًّا. لكن ماذا عن الكتاب المقدَّس نفسه؟ إنَّ الموقف السائد في المسيحيَّة منذ نشأتها يؤكِّد عصمة الكتاب المقدَّس، وأنَّه لا يخطئ. وهذا يعني أنَّ كلَّ ما يذكره الكتاب المقدَّس هو صحيح وحقٌّ. لكنَّ العصمة تُنسب عادةً إلى النصوص الأصليَّة للكتاب المقدَّس، نظرًا لوجود بعض الأخطاء أو الاختلافات التي عادةً تكون تافهة ولا تُذكَر بين بعض النسخ الموجودة بين أيدينا حاليًّا.
إنَّ عصمة الكتاب لها أساس لاهوتيٌّ راسخ، رغم التشكيك المتزايد في يومنا هذا. إذا كان الكتاب المقدَّس هو بالفعل كلمة الله، فكلُّ ما يقوله الكتاب المقدَّس هو بالفعل ما يقوله الله. وبما أنَّ الله لا يكذب، ولا يقول شيئًا باطلاً، إذًا فالكتاب المقدَّس لا يقول شيئًا باطلاً سواء عن قصد أو غير قصد، لأنَّ المسيح نفسه يشهد أنَّ كلمة الله ليست فقط حقيقيَّة، بل هي الحقُّ (يوحنَّا 17: 17). لهذا السبب، فالكتاب المقدَّس وحده هو “الحاكم الأعلى الذي بواسطته يُفصل في كل الخلافات الدينيَّة” (إقرار إيمان وستمنستر، 1.10).
وبما أنَّ كلَّ الحقائق عن الله تمثِّل أهمِّيَّة بالغة، فإنَّ الأخطاء اللاَّهوتيَّة تمثِّل خطورة كبيرة. فلا عجب إذًا أن نجد العهد الجديد يؤكِّد ضرورة “التعليم الصحيح” (1 تيموثاوس 1: 10؛ 2 تيموثاوس 4: 3؛ تيطس 1: 9؛ 2: 1).
اللاَّهوت السليم مسألة شديدة الأهمِّيَّة، بل إنَّ الإيمان القويم هو حدٌّ فاصلٌّ بين الحياة والموت (يوحنَّا 5: 24؛ 8: 24؛ 20: 31)، ومن ثمَّ، فإنَّ الكنائس المسيحيَّة تهتمُّ دائمًا بتقوية وحفظ الإيمان القويم. لأنَّنا جميعًا، نتيجة لضعفنا وفساد طبيعتنا البشريَّة، لدينا بعض الأفكار الخاطئة أو غير الدقيقة عن الله. وأي خلاف عقائديٍّ سيكون معناه أنَّ شخصًا ما قد أخطأ. لكنَّ هناك بعض الأخطاء اللاَّهوتيَّة تكون أشدَّ خطورة من غيرها. فالهرطقات تنحرف بعيدًا عن الإيمان القويم، وخاصَّة تلك الأخطاء التي تتعارض مع التعاليم الكتابيَّة الواضحة، واعترافات وإقرارات الكنيسة التاريخيَّة. لذا، دائمًا ما نستخدم كلمة “هرطقة” عند الإشارة إلى تلك الأخطاء المدمِّرة، التي تضرب الكنيسة بالانقسام وتطعن في هويَّة الله ورسالة الإنجيل، مثل تلك التعاليم التي تنكر ألوهيَّة المسيح، أو الخلاص بالنعمة وحدها. هذه الهرطقات تتجسَّد في مزيج سام من الأخطاء الفكريَّة والأخلاقيَّة.
المعرفة
منذ عصور الإغريق القدماء، انشغل الفلاسفة بمسألة ما إذا كان بإمكان المرء أن يعرف الكثير عن أيِّ شيء. على العكس من ذلك، نجد الإنجيل يؤكِّد بلا استحياء أنَّ الإنسان يمتلك الكثير من المعرفة، على حساب ما أعلنه الله لنا، وهبة الإدراك التي وهبها لنا. دعونا نتحدَّث بإيجاز عن خمسة أنواع من المعرفة، ونوضِّح كلَّ واحدة منها بحسب مفهوم الكتاب المقدَّس.
أوَّلاً، المعرفة الافتراضيَّة: أي معرفة أنَّ شيئًا ما حقيقيٌّ أو واقعيٌّ. هذا النوع من المعرفة غالبًا ما يسمَّى بـ “معرفة أنَّ”. لأنَّ الافتراضات تُسبق باستخدام كلمة “أنَّ”. على سبيل المثال، عندما نقول: “أنا أعرف أنَّه يوجد مفرقعات في المخزن”. تتشابه هذه الصيغة أيضًا في بعض اللغات الأخرى (على سبيل المثال، في اللغة اليونانيَّة يستخدم العهد الجديد اسم الإشارة hoti قبل الجُمَل الافتراضيَّة). لذلك، فإنَّ التأكيد بالجمل الافتراضيَّة شائع الاستخدام في الكتاب المقدَّس. على سبيل المثال، نحن نعرف أنَّ الله موجود، ونعرف أنَّ يسوع هو مخلِّص العالم، ونعرف أنَّنا مبرَّرون بالإيمان وليس بالأعمال، ونعرف أنَّ لنا الحياة الأبديَّة (رومية 1: 19، 20؛ يوحنَّا 4: 42؛ غلاطيَّة 2: 16؛ 1 يوحنَّا 5: 13). يؤكِّد الكتاب المقدَّس أهمِّيَّة المعرفة الافتراضيَّة، بسبب المكانة المهمَّة التي تُضفيها على الحقِّ.
ثانيًا، الشهادة: وهي حالة خاصَّة من المعرفة الافتراضيَّة. نحن نعرف بعض الحقائق من خلال الآخرين، الذين يعرفونها بالفعل. والكتاب المقدَّس، الذي هو كلمة الله الموحى بها من الروح القدس، هو شهادة إلهيَّة يعلن الله لنا عن نفسه ومقاصده من خلالها (يوحنَّا 10: 35؛ 2 تيموثاوس 3: 16؛ 2 بطرس 1: 21). تعاليم المسيح (التي هي أيضًا شهادة إلهيَّة)، وبالمثل، تعاليم الرسل في العهد الجديد، هي مصدر مهمٌّ للمعرفة (يوحنَّا 8: 14؛ 19: 35؛ 21: 24؛ أعمال الرسل 4: 33؛ 20: 21، 24). لا شكَّ أنَّ معظمنا اكتسب المعرفة المُخلِّصة عن الله، من المعرفة الثانويَّة (أي الشهادة)، ومن خلال المؤمنين العاديِّين، مثل الآباء، والرعاة، والأصدقاء، وما إلى ذلك. وهؤلاء جميعًا اكتسبوا هذه المعرفة من معرفة الأسفار الإلهيَّة.
ثالثًا، المعرفة التجريبيَّة: أي المعرفة من خلال الخبرة الشخصيَّة. على سبيل المثال، لو كنت أعرف الكثير من المعلومات عن التفاح، فإنَّ الطريقة الوحيدة التي من خلالها أستطيع معرفة مذاق التفاح هي أن أجرِّبه بنفسي، بأكل واحدة من ثمر التفاح. ولا شكَّ أنَّ الكتاب يتضمَّن مثل هذه المعرفة، عندما يدعونا: “ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ!” (مزمور 34: 8). وبالمثل، عندما يتحدَّث بولس عن رغبته في معرفة قوَّة قيامة المسيح وشركة آلامه، نرى المعرفة التجريبيَّة بوضوح (فيلبِّي 3: 10).
رابعًا، المعرفة الشخصيّة: وهي معرفة تُشبه إلى حدٍ كبير المعرفة التجريبيَّة. على سبيل المثال، يمكنني أن أعرف كمًّا هائلاً من المعلومات عن شخصيّة تاريخيّة ما، لكن لا يمكنني أن أقول إنَّني أعرفه معرفة شخصيَّة، لأنَّني لم أقابله على الإطلاق. على النقيض من ذلك، أنا لديَّ معرفة شخصيَّة بزوجتي أكثر من مجرَّد المعلومات التي أعرفها عنها. الكتاب المقدَّس أيضًا يتضمَّن هذا النوع من المعرفة، عندما يتحدَّث عن العلاقة القريبة والحميمة بين الأشخاص. فإن معرفة الله ومعرفة يسوع المسيح (يوحنَّا 17: 3؛ فيلبِّي 3: 8)، بحسب الكتاب المقدَّس، هي الأهم، وليس أن تعرف معلومات عنه (يعقوب 2: 19). ومن الجدير بالذكر أنَّ الكتاب المقدَّس لا يستخدم فعل “عرف” فقط للتعبير عن الاتِّحاد الجنسيِّ بين الرجل والمرأة (تكوين 4: 1؛ 4: 17؛ 4: 25؛ 1 صموئيل 1: 19)، بل أيضًا للتعبير عن التعيين الإلهيِّ المسبَق (إرميا 1: 5؛ عاموس 3: 2؛ رومية 8: 29؛ 1 بطرس 1: 2، 20). لذا، من الواضح أنَّ معرفة الله السابقة لشعبه، هي معرفة فعَّالة.
خامسًا، المعرفة العمليَّة: أو أن تعرف الـ”كيف”. يمكنني أن أقرأ عشرات الكتب عن العزف على آلة الكمان، لكن لن يكون ذلك بديلاً عن تعلُّم العزف. هذا النوع من المعرفة، غالبًا ما يصاحبه مهارات تقنيَّة ومواهب فنِّيَّة. في خروج 31: 1، 2، “كَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلاً: «اُنْظُرْ. قَدْ دَعَوْتُ بَصَلْئِيلَ بْنَ أُورِي بْنَ حُورَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا بِاسْمِهِ، وَمَلأْتُهُ مِنْ رُوحِ اللهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَكُلِّ صَنْعَةٍ»”. ربَّما نتساءل: كيف يكون لهذا النوع من المعرفة صلة بالحكمة؟ يمكن تفسير الأمر على هذا النحو: إذا كانت الحكمة الكتابيَّة تعني كيف يسلك الشخص روحيًّا بالصلاح والبرِّ، خاصَّة في أصعب الظروف، فهذا يعني وجود ترابط قويٍّ بين الحكمة والمعرفة العمليَّة (قارن أمثال 1: 7 مع أمثال 9: 10).
لا شكَّ أنَّ أعظم معرفة إنسانيَّة هي الله نفسه. لكن هل يمكن لأيِّ شخص أن يعرف الله؟ هل يوجد شيء ما يقول هذا؟ يقدِّم الكتاب المقدَّس إعلانًا قويًّا عن الله من خلال الطبيعة (مزمور 19: 1-6). وقد حاجج الرسول بولس عن وجود الله، وعن وضوح صفاته المعلنة التي لا يمكن لأيِّ شخص ادِّعاء الجهل بها كتبريٍر على عدم إعطاء المجد والشكر للخالق (رومية 1: 18-23). حتَّى لو حاول الخطاة أن يحجزوا “ٱلْحَقَّ بِٱلْإِثْمِ”، فإنَّ معرفتهم بالله تكون ناقصة ومشوَّهة، وجهلهم به غير مبرَّر. علاوةً على ذلك، فإنَّ هذه المعرفة تعتبر كافية لدينونتهم، وليس لخلاصهم. معرفة الله الخلاصيَّة، التي تتضمَّن بالضرورة معرفة افتراضيَّة ومعرفة شخصيَّة، تحدُث عند سماع بشارة الإنجيل، والتجديد بالروح القدس الذي يقود الخطاة إلى التوبة والإيمان بالربِّ يسوع (رومية 10: 13-17؛ 2 كورنثوس 2: 11-14؛ 2 كورنثوس 4: 4-6). شهادة المسيح والرسل واضحة وثابتة وهي أنه لا يمكن لأحد أن يدَّعي معرفة الله إلاَّ من خلال المسيح (متَّى 11: 27؛ يوحنَّا 1: 18؛ 14: 6؛ 17: 3؛ 1 يوحنَّا 5: 20).
على الرغم من أنَّ الكتاب المقدَّس لديه الكثير ليقوله عن المعرفة البشريَّة، فإنَّ لديه ما هو أهمُّ بكثير من ذل، أي المعرفة الإلهيَّة. فمعرفة الله كاملة وشاملة (أيُّوب 37: 16؛ إرميا 23: 23، 24؛ عبرانيِّين 4: 13؛ 1 يوحنَّا 3: 20). معرفته شاملة للماضي والحاضر والمستقبل، ولكلِّ أفعال خليقته (مزمور 139: 4؛ إشعياء 41: 21-23؛ 44: 6-8؛ أعمال الرسل 2: 23؛ 4: 27، 28). في النهاية، ما دام أنَّ كلَّ المعرفة البشريَّة تعتمد على الإعلان الإلهيِّ، فهي معرفة مشتقَّة من معرفة الله المطلقة عن نفسه وعمله. ويجب أن نتذكَّر أنَّ معرفتنا هي مجرَّد صدى مؤقَّت لفكر الله الأبديِّ.
لا يمكننا أن نخوض هنا في فحص كلِّ نظريَّات المعرفة التي تمَّ فحصها وتطويرها من قبل الفلاسفة، سواء مسيحيِّين أو غير مسيحيِّين. لكن غالبًا ما تثير النظريَّات العلمانيَّة الكثير من المشكلات بشأن إعلانات المعرفة المسيحيَّة، ولذا يجب أن يكون لدينا تمييز للنقد في هذه المسألة. أيًّا كانت النظريَّات التي نتبنَّاها، يجب أن تكون من خلال إطار عقائديٍّ مسيحيٍّ، وتكون قادرة على التوافق مع تنوُّع التعاليم الكتابيَّة، بشأن معرفتنا بالله، والعالم، وأنفسنا. ورغم الأهمِّيَّة الكبيرة لنظريَّات المعرفة، لكن يجب أن تكون قمَّة اهتماماتنا هي ليس أن نفهم ما هي المعرفة، بل أن نعرف الله وأن يعرفنا (يوحنَّا 10: 14، 15؛ 17: 3؛ 1 كورنثوس 8: 3؛ غلاطيَّة 4: 9).