رسالة تيطس


دعوة إلى رسالة تِيطُسَ

ملاحظات تمهيديَّة

لَعَلَّ رسالة بولس الرسول إلى تِيطُسَ هي أفضل ما يُلَخِّص وجهة نظر الرسول بولس حول الأعمال الصالحة بإيجاز ووضوح. في إطار حفاظ رسالة بولس إلى تِيطُسَ على إنجيل النعمة الذي بَشَّر به بولس، لا تخجل الرسالة من التأكيد على أنَّ الخلاص هو عطيَّة الله التي لا تعتمد على أي شيء آخر سِوَى رحمته السياديَّة، لكن في الوقت ذاته، في حين أنَّ أعمال الإنسان الصالحة لا تُساهِم ولا يمكن أن تُساهِم في خلاصه، فإنَّ خلاصه، بينما يُتَمَّم خلال بقيَّة حياته، لا ينبغي أن يخلو من الأعمال الصالحة. في الواقع، تَسْتَبْعِد الرسالة إمكانيَّة اهتداء شخص اهتداءً حقيقيًّا مع افتقاره في الوقت ذاته إلى الأَدِلَّة الخارجيَّة على نعمة الله الخلاصيَّة، حيث تُدرِك الرسالة أنَّ هناك عددًا ليس بقليل من الناس سَيَعْتَرِفُونَ بالتَّقْوَى، لكن في النهاية، سيفضح غيابُ الأعمال الصالحة في حياتهم فراغَ ادِّعاءاتهم.

بصراحةٍ، لا نعلم سِوَى القليل عن تِيطُس، إلَّا أنَّه يوجد عدد من الإشارات المباشرة إليه في العهد الجديد (تيطس 1: 1، 4؛ 2كورنثوس 2: 13؛ 7: 6، 13، 14؛ 8: 6، 16، 23؛ 12: 18؛ غلاطية 2: 1، 3؛ 2تيموثاوس 4: 10)، والأمر الجَلِيّ في كل هذه الإشارات تقريبًا هو أنَّ الرسول بولس اعتبر تِيطُس شريكًا أمينًا في الإنجيل، ورُبَّما عَلَى قَدَمِ الْمُسَاوَاةِ مع تيموثاوس. الإشارة الوحيدة التي قد تكون مَوضِع شَكٍّ موجودة في (2تيموثاوس 4: 10): “لِأَنَّ دِيمَاسَ قَدْ تَرَكَنِي إِذْ أَحَبَّ ٱلْعَالَمَ ٱلْحَاضِرَ وَذَهَبَ إِلَى تَسَالُونِيكِي، وَكِرِيسْكِيسَ إِلَى غَلَاطِيَّةَ، وَتِيطُسَ إِلَى دَلْمَاطِيَّةَ”. قد يبدو الأمر للوَهْلة الأولى وكأنَّ تِيطُس من بين أولئك الذين تَخَلَّوْا عن بولس، وهذا مُمكِن، لكن من الجدير بالملاحظة أنَّ بولس لا يذكر نفس الإدانة المُفَصَّلَة لتِيطُس مثلما يفعل مع دِيمَاس. هذا بالإضافة إلى أنَّ بولس، بعدما يذكر تِيطُس مباشرةً، يكتب عن شركاء آخرين في الخدمة بصورة أكثر إيجابيَّة: “لُوقَا وَحْدَهُ مَعِي. خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ لِأَنَّهُ نَافِعٌ لِي لِلْخِدْمَةِ. أَمَّا تِيخِيكُسُ فَقَدْ أَرْسَلْتُهُ إِلَى أَفَسُسَ” (2تيموثاوس 4: 11، 12)؛ ومن ثَمَّ فإنَّ الإشارة الواردة في رسالة تيموثاوس الثانية قد تعني ببساطة أنَّ تِيطُس ذَهَبَ إِلَى دَلْمَاطِيَّةَ. لن نعرف أبدًا حقيقة هذا الأمر على وجه اليقين، ولكن على الأقل في باقي إشارات بولس إلى تِيطُس، ولا سِيَّما في هذه الرسالة، يبدو واضحًا أنَّ بولس كان يَكُنُّ تقديرًا كبيرًا لتِيطُس.

كما ذكرنا أعلاه، يَتَمَثَّل العِبْء الرئيس لهذه الرسالة في تعزيز احترامٍ كبيرٍ لممارسة الأعمال الصالحة في ضوء إنجيل الخلاص بالنعمة وحدها الذي بَشَّر به بولس. تَرِد الآية المفتاحيَّة في (1: 1)، حيث يُعَرِّف بولس رسوليَّته بطريقةٍ هَادِفَةٍ إلى حَدٍّ بعيد: “بُولُسُ، عَبْدُ ٱللهِ، وَرَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، لِأَجْلِ [أو حَسَب] إِيمَانِ مُخْتَارِي ٱللهِ وَٱعْتِنَاقِ [أو مَعْرِفَةِ] ٱلْحَقِّ، ٱلَّذِي هُوَ حَسَبُ ٱلتَّقْوَى” (أنا مَنْ غَلَّظْتُ الخط للتشديد). من المُسَلَّم به أنَّ هذا الوصف يُعَدُّ أحد الأوصاف الأكثر طولًا وتعقيدًا التي عَرَّف بها بولسُ نَفْسَه، غير أنَّ الأمر الجدير بالملاحظة في هذا الوصف لِفَهْم الرسالة بأكملها هو رَبْط بولس الصريح بين “اعْتِنَاق” (باللُّغَة اليونانيَّة: إِبِيجْنُوسِينْ، والتي تُتَرجَم عادةً “مَعْرِفَةً” أو “فَهْمًا”) ٱلْحَقِّ و”ٱلتَّقْوَى”؛ إنَّهما وجهان لعُمْلَةٍ واحدة، فمعرفة الإنجيل يجب أن تقود لا مَحَالَةَ إلى ٱلتَّقْوَى، وٱلتَّقْوَى يجب أن تكون التطبيق الطبيعي لاعتناق الإنجيل. يُقَدِّم بولس في رسالته إلى تِيطُس نتيجةً واحدةً فقط تُوافِق العَيْش بين مَجِيئَي المسيح الأوَّل والثاني، وهي: ٱلتَّقْوَى التي تظهر بشكل خاص في العَمَل البارِّ. يَحسُن بالقارئ الحالي للرسالة أن يقرأ الرسالة بأكملها بالنظر إلى انشغال بولس بالأعمال الصالحة، ليس لأنَّها تُخَلِّص الشخص، بل لأنَّها تُمَثِّل دليلًا على أنَّ الشخص قد خَلَصَ بالفعل.

بفضل الطوفان اللَّانهائي من المُؤَلَّفات الأدبيَّة حول القيادة الذي يتدفَّق في ثقافتنا اليوم، أصبح المبدأ معروفًا، وهو أنَّ القادة يُحَدِّدون ثقافة أي مُنَظَّمَة واتِّجاهها، ويساعدنا هذا المبدأ على رؤية التنظيم الأساسي لرسالة بولس الرسول إلى تِيطُسَ، فالإصحاح الأوَّل من الرسالة لا يهتم فقط بالقادة بشكل عام، وإنَّما يهتم بشكل خاص بالقادة الذين يُظهِرون ولاءهم لإنجيل بولس من خلال حياةٍ حَمِيدَةٍ، ثُمَّ ينقل الإصحاح الثاني الانتباه إلى تشجيع ٱلتَّقْوَى داخل عائلة الله في ضوء ظُهُورَي المسيح الأوَّل والثاني، ويَختَتِم الإصحاح الثالث الرسالة بتقديم أساس لاهوتي غني للتَّقْوَى مع بعض التشديد على إظهار هذه ٱلتَّقْوَى تجاه مَنْ هُمْ خارج عائلة الله، ولكنَّ الأمرَيْن الأخيرَيْن -التَّقْوَى “الداخليَّة” و”الخارجيَّة” للكنيسة- غير مُمكِنَيْن ما لم يُقَدِّم آباء أو قادة الكنيسة قُدْوَةً حَمِيدَةً.

قبل أن ندرس الرسالة بمزيد من التفصيل، تَجدُر الإشارة إلى الأهميَّة الخاصَّة لهذه الرسالة اليوم. حَذَّر دِيتْرِيش بُونْهُوفَر قبل سنوات من أخطار النعمة الرخيصة، وكان بُونْهُوفَر ببساطة يُعيد صياغة اهتمام رسالة تِيطُسَ، أي إمكانيَّة الاعتراف بالالتزام بالإنجيل دون أي دليل على ٱلتَّقْوَى الخلاصيَّة. تحتاج الكنيسة اليوم إلى تذكيرها بحقيقة أنَّ إلهنا الثالوث “[خَلَّصَنَا] لَا بِأَعْمَالٍ فِي بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ… [ويجب أن] يَهْتَمَّ ٱلَّذِينَ آمَنُوا بِٱللهِ أَنْ يُمَارِسُوا أَعْمَالًا حَسَنَةً” (3: 5، 8). باختصارٍ، تُؤَدِّي نعمة الله الخلاصيَّة إلى خَلْق شعبٍ جديدٍ مهووس بالأعمال الصالحة (أو الحَسَنَة) استجابةً لِلُّطْف الذي أظهره الله في عطيَّة الخلاص.

ملاحظة حول الرسالة والجمهور المُسْتَهْدَف

مع الأسف، من الشائع اعتبار أنَّ “أحد الأمور المعلومة للجميع” هو أنَّ الرسول بولس التاريخي ليس المُؤَلِّف الحقيقي لرسائل تِيمُوثَاوُسَ الأولى والثانية وتِيطُسَ وأنَّ هذه الرسائل تُمَثِّل أعمالًا مَنْحُولَة أو مُزَوَّرَة. ويتراوح أساس الحُجَّج التي تَدحَض كتابة بولس لهذه الرسائل من الاختلافات في اللُّغَة إلى اللاهوت (أو التركيز اللاهوتي) الذي لا يظهر في كتاباته الأخرى. تُطرَح أيضًا بعض النقاط التاريخيَّة للقَوْل بأنَّ الكنيسة تَبلُغ درجةً من التَّطَوُّر في هذه المرحلة يَتَعَذَّر معها أن تكون هذه الرسائل قد كُتِبَت في حياة بولس.

لكن، حمدًا لله، يبدو أنَّ هناك نُمُوًّا في عدد العُلَماء الذين يَتَبَنَّوْن كتابة بولس لهذه الرسائل، وإن كانت موجات الرأي العلمي تتغيَّر بانتظام. أَلْقَتْ الأبحاث الحديثة حول موضوع الكتابات المَنْحُولَة بظلالٍ من الشك على ما إذا كانت هذه الكتاباتُ واسعةَ الانتشار ومقبولةً في ذلك الوقت كما افترض البعض. علاوةً على ذلك، فإنَّ الحُجَج التي تتمحور حول الاختلافات في اللُّغَة واللاهوت تُصبِح أكثر هشاشة عندما نتذكَّر الحقيقة الأساسيَّة المُتَمَثِّلَة في أنَّ بولس كان يكتب بصفته قَسًّا ومُرسَلًا، فأي شخص في الخدمة يَعلَم أنَّ اللُّغَة والتركيز سيتغيَّران حَسَب الجمهور المُسْتَهْدَف، إذ إنَّ التدريس لطُلَّاب معاهد اللاهوت مَثَلًا سيبدو شديد الاختلاف على الأنظار والمسامع عن التَّحَدُّث إلى مجموعة من الشباب. وعلى نحوٍ مُمَاثِلٍ، يستطيع كل كاتب تقريبًا أن يشهد على تَطَوُّر أسلوبه وإنشائه عَبْر السنين، فهل ينبغي لنا أن نتفاجأ بأنَّ أحد طَلَبَة معاهد اللاهوت يُفَكِّر ويتحدَّث بأسلوب مختلف بعد تَخَرُّجه من المعهد عمَّا كان عليه قبل الالتحاق به؟ بالإضافة إلى ذلك، عندما نُفَكِّر في نطاق رسائل بولس المتاحة لنا، نَجِد أنَّ مجموعة العَيِّنَات في الواقع صغيرة جِدًّا، بل وتَبلُغ في الحقيقة درجةً من الصِّغَر يتعذَّر معها إصدار تصريحات قَاطِعَة بشأن ما كان نموذجيًّا بالنسبة لبولس وما كان شاذًّا.

لَعَلَّ أقوى حُجَّة تُثبِت كتابة بولس لهذه الرسائل تنبثق مباشرةً من الرسائل نفسها، اُنْظُرْ على سبيل المثال إلى (1تيموثاوس 2: 7): “ٱلَّتِي جُعِلْتُ أَنَا لَهَا كَارِزًا وَرَسُولًا. اَلْحَقَّ أَقُولُ فِي ٱلْمَسِيحِ وَلَا أَكْذِبُ، مُعَلِّمًا لِلْأُمَمِ فِي ٱلْإِيمَانِ وَٱلْحَقِّ”، فمن الصعب تَصَوُّر أنَّ مُجَرَّد ناقِلٍ سوف يُدرِج مثل هذه التصريحات في رسالةٍ إذا كان هدفه هو إعطاء الانطباع بأنَّه يكتب بصوت بولس. وعلى نَحوٍ مُشَابِهٍ، تترك الإشارات التاريخيَّة في هذه الرسائل الانطباع بأنَّ الرسول بولس التاريخي هو في الواقع المُؤَلِّف، وإلَّا فكيف يمكننا أن نفهم تصريحات مثل: “كَمَا طَلَبْتُ إِلَيْكَ… إِذْ كُنْتُ أَنَا ذَاهِبًا إِلَى مَكِدُونِيَّةَ” (1تيموثاوس 1: 3)؟ أخيرًا، من المفيد أن نتذكَّر أنَّه في مُعظَم تاريخ الكنيسة أكَّد المؤمنون أنَّ الرسول بولس هو مُؤَلِّف هذه الرسائل، وكان هذا الاعتقاد متماشيًا مع النظرة التقليديَّة التي ترى الكتاب المُقدَّس مُوحًى به؛ ومن ثَمَّ جديرًا بالثقة ويمكن الاعتماد عليه.

فيما يتعلَّق بالجمهور المُستَهدَف، فكما أَشَرْتُ أعلاه وفي تفسيري للرسائل الرَّعَوِيَّة (اُنْظُرْ قائمة المَرَاجِع)، من غير المُرَجَّح أن تكون أيٌّ من هذه الرسائل رسائلَ “شخصيَّةً” مكتوبةً من فردٍ إلى آخر، وتُعَدُّ هذه النقطة مُهِمَّة بصفةٍ خاصَّة لتفسيرنا البلاغي للرسالة. في الوقت الحالي، سَنُقَدِّم بعض الملاحظات الأساسيَّة لدعم أُطْرُوحتنا.

الملاحظة الأولى، ورُبَّما الأكثر وضوحًا، هي أنَّ الرسائل الثلاث جميعها تنتهي بضمير المُخَاطَب في صيغة الجمع “مَعَكُمْ” أو “جَمِيعِكُمْ”: “اَلنِّعْمَةُ مَعَكُمْ” أو “اَلنِّعْمَةُ مَعَ جَمِيعِكُمْ” (1تيموثاوس 6: 21؛ 2تيموثاوس 4: 22؛ تيطس 3: 15)، ويُشير هذا النَّمَط إلى أنَّ هذه الرسائل كانت تُقرَأ بصوتٍ عالٍ –وبشكل أكثر تحديدًا، تُؤَدَّى عَلَنًا- أمام اجتماع المؤمنين تمامًا كما يُقرَأ الكتاب المُقدَّس بصوتٍ عالٍ في الكثير من الاجتماعات اليوم. الملاحظة الثانية هي أنَّ أجزاء كبيرة من هذه الرسائل لن يكون لها معنى إذا كانت هي مُجَرَّد أن بولس يكتب إلى تيموثاوس وتيطس، العامِلَيْن معه المحبوبَيْن والمَعروفَيْن، فبالإشارة مَرَّةً أخرى إلى الآية التي استشهدنا بها أعلاه (1تيموثاوس 2: 7)، أَلَنْ يكون من الغريب أن يتبنَّى بولس هذه النَّبْرَة الدفاعيَّة نوعًا ما في تأكيد رسوليَّته لو كان يكتب فقط إلى تيموثاوس؟ ولماذا سيكون عليه أن يُؤَكِّد له قائلًا: “اَلْحَقَّ أَقُولُ فِي ٱلْمَسِيحِ وَلَا أَكْذِبُ”؟ يمكنني أن أتخيَّل رَدَّ فِعْل زوجتي إذا عُدْتُ إلى المنزل في يوم من الأيام وصَرَّحْتُ قائلًا: “أنا پُول، خادم في الكنيسة المشيخيَّة في أمريكا وأستاذ في كليّة اللاهوت المُصلَح، أنا لَا أَكْذِبُ!”.

تُعَدُّ الطريقة الأكثر نَفْعًا في النظر إلى الجمهور المُستَهدَف هي أنَّ تيموثاوس وتيطس كانا المُتَلَقِّيَيْن الأساسِيَّيْن وأنَّ المؤمنين الذين معهما كانوا المُتَلَقِّين الثانويِّين. تَذَكَّرْ على سبيل المثال حالةً تَلَقَّيْتَ فيها بريدًا إلكترونيًّا أو خطابًا مُوَجَّهًا إليك، ولكنَّ محتواه كُتِبَ مع معرفة أنَّ آخرين سيكونون حاضرين أثناء قراءة هذا البريد الإلكتروني أو الخطاب، ففي بعض الأحيان، عندما تُسافر زوجتي أو أنا، نُراسِل بعضنا البعض على البريد الإلكتروني ونحن نعلم أن أطفالنا سيكونون مُلْتَفِّين يستمعون إلى هذه الرسائل بينما تُقرَأ بصوتٍ عالٍ، ونحن نَصُوغ رسائلنا وَفقًا لذلك لإثارة استجابةٍ مُعَيَّنَةٍ، ليس فقط من بعضنا البعض كزَوْجَيْن، لكن أيضًا من أطفالنا.

أحد الآثار المُتَرَتِّبَة على هذه الملاحظة حول كتابة الرسالة هي أنَّ الجمهور الثانوي، أي المؤمنين الذين كانوا مع هَذَيْن الرَّجُلَيْن (تيموثاوس وتيطس)، كانوا سَيُدرِكون أنَّ أي تعليم أو عمل من جانب تيموثاوس أو تيطس يُمَثِّل طاعةً مُبَاشِرَةً لبولس، فَمَثَلًا، عندما سعى تيموثاوس إلى سَدِّ أفواه المُعَلِّمين الكَذَبَة، ومنهم هِيمِينَايُس وَٱلْإِسْكَنْدَر، كان تيموثاوس يفعل ذلك استجابةً لوصيَّة الرسول (1: 3)، وعندما طَبَّق تيموثاوس معايير اختيار الشيوخ والشمامسة، كان ببساطة يُوَطِّد ما سَبَقَ أن رَسَمَه بولس بالفعل (3: 1-13). من خلال الإنصات إلى الرسالة بينما كانت تُقرَأ، كان الجمهور سَيُدرِك السُّلطَة المُوكَلَة لتيموثاوس وتيطس وتَبِعَات الازدراء بهما المُتَمَثِّلَة في أنَّهم إذا رفضوا هَذَيْن الرَّجُلَيْن، فإنَّهم يرفضون في واقع الأمر بولسَ، وفي النهاية، اللهَ الآبَ والرَّبَّ يسوع المسيح الذي فَوَّض الرسول.

باختصارٍ، يستفيد القُرَّاء اليوم من اعتبار رسائل تيموثاوس الأولى والثانية وتيطس رسائلَ كتبها الرسول بولس التاريخي مُوَجَّهة بشكل أساسي إلى تيموثاوس وتيطس وبشكل ثانوي إلى المؤمنين الذين معهما. نَظَرًا لأنَّ قِلَّةً من الناس كانوا يستطيعون القراءة وكان هناك عددٌ محدود من المخطوطات المتاحة لهم، كانت هذه الرسائل تُؤَدَّى عَلَنًا أمام المؤمنين للحصول على استجابة مُعَيَّنَة منهم، ولكن ما هي هذه الاستجابة المُستَهدَفَة؟ هذا ما سنراه الآن من خلال تَتَبُّع تَدَفُّق الرسالة.

هدف الرسالة

في رسالة بولس إلى تيطس، يُشَدِّد الرسول على ضرورة الأعمال الصالحة في ضوء نعمة الله الخلاصيَّة. لقد كَتَبَ الرسول بولس هذه الرسالة المُختَصَرَة لكن ذات الصِّلَة بِوَضْع المؤمنين الذين مع تيطس “لِكَيْ يَهْتَمَّ ٱلَّذِينَ آمَنُوا بِٱللهِ أَنْ يُمَارِسُوا أَعْمَالًا حَسَنَةً” (3: 8أ)، حيث يبدو أنَّه في ذلك الوقت، كما هو الحال غالبًا الآن، كان هناك عددٌ ليس بقليل من الأفراد الذين افترضوا أنَّه من الممكن أن يعترفوا بالإيمان لكن لا يفيضوا بالأعمال الحَمِيدَة.

الآية المفتاحيَّة

“صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ. وَأُرِيدُ أَنْ تُقَرِّرَ هَذِهِ ٱلْأُمُورَ، لِكَيْ يَهْتَمَّ ٱلَّذِينَ آمَنُوا بِٱللهِ أَنْ يُمَارِسُوا أَعْمَالًا حَسَنَةً. فَإِنَّ هَذِهِ ٱلْأُمُورَ هِيَ ٱلْحَسَنَةُ وَٱلنَّافِعَةُ لِلنَّاسِ”. (تيطس 3: 8)

تقسيم الرسالة

  1. مُقَدِّمَة الرسالة (1: 1-4).
  2. قُدْوَات (أو نماذج) للتَّقْوَى المُتَوَافِقَة مع الحَقِّ (1: 5-16).
  3. ضرورة ٱلتَّقْوَى: الجزء الأوَّل (2: 1-15).
  4. ضرورة ٱلتَّقْوَى: الجزء الثاني (3: 1-11).
  5. خَاتِمَة الرسالة (3: 12-15).

مُقَدِّمَة الرسالة (1: 1-4)

(1: 1) على غِرَار رسالَتَيْ بولس إلى أَهْلِ رُومِيَةَ وإلى أَهْلِ غَلَاطِيَّةَ، تُعَدُّ مُقَدِّمَة هذه الرسالة طويلة إلى حَدٍّ ما. في رسالة رُومِيَةَ، يكتب بولس إلى مجموعة من الناس لم يَلْتَقُوا به قَطُّ؛ لذلك فمن المنطقي أن يُخَصِّص بولس مساحةً إضافيَّة لتقديم نفسه، وفي رسالة غَلَاطِيَّةَ، يُخاطِب بولس مؤمنين تَحَوَّلوا عن إنجيله ورفضوا بذلك رسوليَّته؛ ولهذا السبب يبدأ بولس هذه الرسالة بدفاعٍ عن دعوته الرسوليَّة وتأكيدٍ مَرَّةً أخرى على إنجيله، ويقترب السبب الأخير الخاص برسالة غَلَاطِيَّةَ من السبب الذي دَفَعَ بولس إلى تضمين مُقَدِّمَة أطول في رسالته إلى تيطس، ففي حين أنَّ درجة المقاومة رُبَّما لم تَكُن كبيرة مثلما كانت في غَلَاطِيَّةَ، تَنضَح الرسالة بشعور بالحاجة العاجِلَة المُلِحَّة إلى الرَّدِّ على مُثيري المَتَاعِب الذين “يَقْلِبُونَ بُيُوتًا بِجُمْلَتِهَا، مُعَلِّمِينَ مَا لَا يَجِبُ، مِنْ أَجْلِ ٱلرِّبْحِ ٱلْقَبِيحِ” (1: 11).

في أوَّل بِضْع آيات، يُحَدِّد بولس هُوِيَّته بالارتباط بخطة الله الكُبْرَى للفداء. ليس من الواضح لماذا يختار بولس استخدام عبارَتَيْن لتحديد هُوِيَّته: “عَبْدُ ٱللهِ، رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ” (1: 1أ). رُبَّما هناك تَبَايُن بين التواضُع والسُّلطَان يسعى بولس إلى إيصاله، وفي هذه الحالة سيكون الناتِج النهائي هو أنَّ بولس، على غِرَار المسيح، خادمٌ مُتَوَاضِعٌ مَمْلُوءٌ سُلطَانًا. في الوقت ذاته، وَصَفَتْ عبارة “عَبْد ٱللهِ” شخصيَّات بارِزَة في العهد القديم (مثل موسى) وحَمَلَتْ في معناها سُلطَانًا؛ ومن ثَمَّ فإذا أخذنا عبارة “عَبْد ٱللهِ” على هذا النحو، ستكون وظيفة العبارتَيْن الاثنتَيْن اللتَيْن تُحَدِّدان هُوِيَّة بولس هو تعزيز النقطة الواحِدَة التي مُفادُها أنَّ بولس يَملِك سُلطَانًا بين المؤمنين. بِغَضِّ النظر عن ذلك، فالأمر الجَلِيّ هو أنَّه بسبب أنَّ بولس هو خادمُ اللهِ القادرِ على كُلِّ شيء ومُمَثِّلٌ مُعتَمَدٌ للمسيح يسوع المُقَام، يَتَعَيَّن على تيطس وكُلِّ مَنْ معه أن ينتبهوا جَيِّدًا لِمَا هو على وَشْك أن يُوصِلَه في هذه الرسالة.

يربط الرسول دعوته على الفَوْر بشعب الله، مُشيرًا إلى أنَّه يخدم لِأَجْلِ “إِيمَانِ مُخْتَارِي ٱللهِ”، وتحديدًا لِأَجْلِ “ٱعْتِنَاقِهم [أو مَعْرِفَتِهم] ٱلْحَقَّ، ٱلَّذِي هُوَ حَسَبُ ٱلتَّقْوَى” (1: 1ب)، فالأشياء التي يقولها بولس ويفعلها ليست من أجل الترويج لنفسه، بل من أجل بُنيانهم حتَّى يَشتَمِل إيمانهم على ٱلْحَقِّ وٱلتَّقْوَى معًا، أي إنَّ بولس يَتْعَب من أجل الحفاظ على حَقِّ الإنجيل حتَّى يأتي هذا الحَقُّ بثمار الطاعة، فكما أَشَرْنَا أعلاه، يَتَمَثَّل عِبء هذه الرسالة في التشديد على العلاقة التَّوَافُقِيَّة بين الاعتراف بالحَقِّ وأسلوب الحياة الحَمِيد الذي يَنبُع من مثل هذا الاعتناق.

(1: 2) “التَّقْوَى” مبنيَّة “عَلَى رَجَاءِ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ” (1: 2أ)، و”الرجاء” في العهد الجديد لا يُشير إلى احتمال، بل إلى يقين، رغبةٍ تَمَّ تأمينها بالفعل أو ستتحقَّق في الوقت المُحَدَّد، وهذه “ٱلْحَيَاة ٱلْأَبَدِيَّة” وَعَدَ بِهَا ٱللهُ “قَبْلَ ٱلْأَزْمِنَةِ ٱلْأَزَلِيَّةِ” وَلكنَّها أُظْهِرَت الآن من خلال ٱلْكِرَازَةِ بالإنجيل (1: 2ب-3). بينما نريد استكشاف التفاصيل الغنيَّة لهذه الآيات، لا نريد أن نُفَوِّت ما يمكن أن يكون رسالتها الأساسيَّة، وهي أنَّ تَحَوُّلًا كبيرًا قد حدث في أنَّ ما وُعِدَ به ولكن كان مَخفِيًّا قد أُظْهِرَ الآن، وهذا يعني، من بين أمور أخرى، أنَّ المؤمنين لا يعيشون في الظُّلْمَة ولكنَّهم الآن قد استناروا لدرجة أنَّ حياتهم يجب أن تختلف جوهريًّا، وسوف يشرح بولس بالتفصيل شكل هذا التغيير الجوهري مع تَكَشُّف الرسالة.

من الجدير بالملاحظة بشكل خاص من أجل فَهْم بقيَّة الرسالة هو وصف بولس لله. لقد نال هؤلاء المؤمنون “ٱلْحَيَاة ٱلْأَبَدِيَّة، ٱلَّتِي وَعَدَ بِهَا ٱللهُ ٱلْمُنَزَّهُ عَنِ ٱلْكَذِبِ (باللُّغَة اليونانيَّة: أَبْسِڤْدِيسْ)” (1: 2أ). من بين كل صفات الله التي كان يمكن للرسول أن يُسَلِّط الضوء عليها، يَلْفِتُ بولس الانتباه إلى شخصيَّة الله التي تقول الحَقِّ وتحفظ العهد، وكان من شأن التركيز على هذه الصفة أن يكون ذا صدى عميق لدى المؤمنين ٱلْكِرِيتِيِّينَ الذين كانوا يعيشون في ثقافة كان الخداع فيها أمرًا شائِعًا، وإلى حَدٍّ ما، كان يُعتَبَر فضيلة أو مهارة. لاحِقًا في الرسالة، يُذَكِّر بولس قُرَّاءه وسامعيه بالقَوْل المعروف: “ٱلْكِرِيتِيُّونَ دَائِمًا كَذَّابُونَ (باللُّغَة اليونانيَّة: بْسِفْسْتِيه). وُحُوشٌ رَدِيَّةٌ. بُطُونٌ بَطَّالَةٌ” (1: 12ب). في ضوء طبيعة الله الصادقة والدليل عليها الذي ظهر في إتمام الله لوعد العهد بإعطاء حياة، يَتَعَيَّن على ٱلْكِرِيتِيِّينَ أن يَنبُذوا الأعراف الطبيعيَّة والثقافيَّة ويعتنقوا أسلوب حياةٍ جديدًا قائمًا على الحَقِّ والبِرِّ.

(1: 3) تُقَدِّم الآية الثالثة أيضًا الموضوع المُهِمَّ الخاص بـ “الظهور” أو “الظهور الإلهي”، فٱللهُ ٱلْمُنَزَّهُ عَنِ ٱلْكَذِبِ “أَظْهَرَ الكَلِمَةَ”، أي أعلن الخبر السَّارَّ من خلال ظهور المسيح الأوَّل، ويُشير ذِكْرُ “رَجَاءِ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ” إلى ظهور المسيح الثاني. سيقوم الرسول مَرَّتَيْن في الرسالة بإرساء الأخلاق المسيحيَّة في ضوء هَذَيْن الظُّهُورَيْن (2: 11-14؛ 3: 4-7). مثلما يُبرِز عَشَاءُ ٱلرَّبِّ أيضًا، إنَّ الحياة المسيحيَّة لها أبعاد ماضية وأبعاد مستقبليَّة: نحن نتذكَّر مجيء المسيح الأوَّل، وتحديدًا موته وقيامته، ونَتَطَلَّع إلى مجيء المسيح الثاني، ونعيش حياةً تَقِيَّةً وحَمِيدَةً تتوافق مع هَذَيْن الواقِعَيْن اللذَيْن يُكَمِّلان بعضهما البعض.

هذا المُلَخَّص الكبير لتاريخ الفداء لا يُكَرِّر الإنجيل لجمهور الرسالة فَحَسْبُ، ولكنَّه أيضًا يضع دعوة بولس الفريدة كَعَبْد ٱللهِ وَرَسُول ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ في سياقها، فَمَا كان مَخْفِيًّا قد أُعلِنَ الآن في “الكَلِمَةِ”، إلَّا أنَّ هذه الكلمة ليست مُجَرَّد أي كلمة، ولكنَّها على وجه التحديد ٱلْكِرَازَة ٱلَّتِي ٱؤْتُمِنَ بولس عَلَيْهَا “بِحَسَبِ أَمْرِ مُخَلِّصِنَا ٱللهِ” (1: 3ب). يَدَّعي بولس أنَّه، بدون اختلاف عن الشخصيَّات النَّبَوِيَّة في العهد القديم، يَشْغَل مكانًا فريدًا في خطة الله للخلاص، وليس هذا مَنصِبًا مُتَمَيِّزًا أخذه بولس مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِهِ، بل هو بِحَسَبِ تفويض ٱللهِ. من المُهِمِّ ملاحظة هذه النقطة لأنَّ بولس طوال هذه الرسالة لن يُسَلِّط الضوء فقط على ما يجب أن يؤمن به المؤمنون، بل أيضًا على كيف يجب أن يعيشوا، أي إنَّ الرسول لا يخجل من أن يُؤَكِّد قائلًا: “إذا كنتم تعترفون بالإيمان بالمسيح يسوع، فهذا هو نَمَط الحياة الذي ينبغي لكم أن تتبعوه”، والطريقة الوحيدة التي يمكنه من خلالها أن يستخدم مثل هذه اللهجة المملوءة سُلطانًا هي أن يكون بالفعل خادمًا مُعَيَّنًا من الله.

(1: 4) يُخاطِب بولسُ تيطسَ باستخدام لَقَب “ٱبْنِهِ ٱلصَّرِيحِ حَسَبَ ٱلْإِيمَانِ ٱلْمُشْتَرَكِ” (1: 4أ)، ومن الأفضل سماع هذه التَّحِيَّة باعتبارها إعلانًا بَلَاغِيًّا. إنَّ كلمة “صَرِيح” تعني “شَرعِيًّا” أو “أصيلًا” أو “حقيقيًّا”، ويمكننا تقدير قُوَّة هذا النَّعْت بشكل أفضل عندما يَشْرَع بولس لاحِقًا في مناقشة القيادة الجديرة بالثقة في بيت الله، إذ سَيَثبُت أنَّ المُعَلِّمين الكَذَبَة “غير شرعيِّين”؛ ومن ثَمَّ يَحسُن بالجمهور المُستَمِع أن يتجاهلهم وأن يَتَّجِه بدلًا من ذلك إلى مُمَثِّل بولس ٱلصَّرِيحِ. تيطس هو “ٱلِٱبْن ٱلصَّرِيح” لبولس لأنَّهما يتقاسمان “إِيمَانًا مُشْتَرَكًا”، إيمانًا قد عَرَّفه بولس بالفعل في ضوء ٱلْحَقِّ وَٱلتَّقْوَى، فالرَّجُلان يقفان في نَفْس الصَّفِّ ليس فقط لأنَّهما يتقاسمان نَفْس المُعتَقَدات العقائِدِيَّة، بل أيضًا لأنَّهما يتقاسمان الاقتناع بأنَّ ٱلْحَقَّ يجب أن يُؤَدِّي إلى أسلوب حياة مختلف مدفوع بالرجاء المُتَجَذِّر في مجيئَي المسيح الأوَّل والثاني.

يُدرِك الرسول النِّضَال الذي أمامه، فَقَدْ زَعزَعَ مُثيرو المتاعب بالفعل إيمانَ الكثيرين. إنَّ اتِّباع أسلوب حياة مختلف في ضوء إعلان الله عن نفسه هو أمرٌ صعبٌ في أي مكان وزمان، ويعرف بولس مدى صعوبة “مُطَالَبَة” الناس بالتغيير؛ ولهذا السبب يُصَلِّي بولس لأجل الكثير من “النِّعْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالسَّلَامِ مِنَ ٱللهِ ٱلْآبِ وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مُخَلِّصِنَا” (1: 4ب).

نماذج للتَّقْوَى بحسب الحَقِّ (1: 5-16)

ينقسم هذا الجزء إلى وحدتَيْن مُتَنَاقِضَتَيْن: في الوحدة الأولى، يُجمِل بولس صفات الشيوخ، أي القادة الجديرين بالثقة في بيت الله (1: 5-9)، أمَّا في الوحدة الثانية، فَيُعَرِّف بولس المُتَمَرِّدِينَ ويُعطِي وصايا بشأن ما يجب فِعْلُه معهم (1: 10-16).

(1: 5-9) إنَّ الحاجة العاجِلَة والمُلِحَّة إلى إقامة قادة مستقيمين تظهر في غياب شُكْر بولس المُعتَاد، فبدلًا من كتابة شيء من قبيل: “أَشْكُرُ ٱللهَ عِنْدَ كُلِّ ذِكْرِي إِيَّاكُمْ”، يدخل بولس في الموضوع مباشرةً قائلًا: “مِنْ أَجْلِ هَذَا تَرَكْتُكَ فِي كِرِيتَ لِكَيْ… تُقِيمَ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ شُيُوخًا” (1: 5). يبدو أنَّ بولس اضْطَرَّ إلى مغادرة كريت بَغْتَةً، تارِكًا الكنيسة هناك في حالة من الفوضى أو التَّخَلُّف، وكانت الحاجة هي إلى شيوخ. يمكننا أن نُشير بشكلٍ عابِرٍ إلى أنَّ آية 5 على الأرجح لا تُمَثِّل تذكيرًا شخصيًّا لتيطس بِقَدْر ما تُمَثِّل “دفاعًا” عن سُلطَان تيطس في تنفيذ توجيهات الرسول، فَتِيطُس يُعَلِّم ويعمل حَسَبَ وصيَّة الرسول بولس الذي هو نفسه يُعَلِّم ويعمل حَسَبَ وصيَّة الله المُخَلِّص.

تُلَخِّص الآيات 6-9 صفات الشيوخ المُحتَمَلين. إنَّ الصِّفَة المُمَيِّزَة هي أن يكون الشيخ “بِلَا لَوْمٍ”، والتي تُطَبَّق على الفَوْر بعد ذلك من ناحية الأُسْرَة: يجب أن يكون الشيخ أوَّلًا وقبل كل شيء زَوْجًا وأَبًا صالِحًا (1: 6). يُكَرِّر بولس بعد ذلك الصِّفَة المُسَيطِرَة المُتَمَثِّلَة في أن يكون الشيخ “بِلَا لَوْمٍ”، ويُعَرِّفها من خلال مجموعة من السِّمَات السلبيَّة والإيجابيَّة (1: 7، 8)؛ وبهذا يُوَضِّح بولس أنَّه لا يكفي أن يقول المؤمنون عن أحد المُرَشَّحين لهذا المنصب: “إنَّه ليس شخصًا سَيِّئًا”، وإنَّما يجب أن تَتَّسِم حياته، ليس فقط بغياب الرذيلة، بل أيضًا بِفَرْط الفضيلة، فلا يكفي أن يكون غَيْرَ مُعْجِبٍ بِنَفْسِهِ وَلَا غَضُوبٍ، لكن هل يَتَّسِم أيضًا بإضافة الغُرَبَاءِ والإحسان؟

من المُهِمِّ ملاحظة اللُّغَة اليونانيَّة للآية 8 لأنَّها ترتبط لاحقًا بوصف بولس لله في الإصحاح الثالث، حيث يقول بولس عن ٱلْأُسْقُف المُحتَمَل إنَّه يَجِبُ أَنْ يَكُونَ “مُحِبًّا لِلْغُرَبَاءِ” (فِيلُوكْسِنُونْ) و”مُحِبًّا لِلْخَيْرِ” (فِيلَاجَاثُونْ)، وفي (3: 4) يصف بولس نعمة الله الخلاصيَّة على النحو التالي: “وَلَكِنْ حِينَ ظَهَرَ لُطْفُ مُخَلِّصِنَا ٱللهِ وَإِحْسَانُهُ (مَحَبَّتُهُ لِلبَشَرِ “فِيلَانْثْرُوبِيَا“)…”؛ فالشيوخ إذًا هُمْ رجالٌ عرفوا فِيلَانْثْرُوبِيَا الله بطريقةٍ حقيقيَّة وعميقة تجعل حياتهم تتغيَّر جوهريًّا بحيث يُصبِح الآن مثل هذا الإحسان تجاه الجميع سِمَةً تُمَيِّز حياتهم هُمْ. لاحِظْ مُجَدَّدًا التركيز الذي يضعه بولس على العلاقة بين الاعتراف بالحَقِّ وَٱلتَّقْوَى الملموسة. يَتَعَيَّن على الشيوخ بصفتهم آباء عائلة الله أن يُقَدِّموا أنفسهم قُدْوَةً تعكس الإنجيل، وذلك من خلال اتِّباع حياةٍ تَتَّسِم بإضافة الْغُرَبَاءِ، والإحسان، والتَّعَقُّل، والبِرِّ، والوَرَع، وضَبْط النَّفْس.

في الآية 9 ينتقل بولس من استخدام الصفات إلى استخدام اسم فاعل بينما يواصل قائمته الخاصَّة بِمُؤَهِّلات الشيخ؛ وبهذا يلفت بولس الانتباه بصفةٍ خاصَّة إلى هذا المُؤَهِّل المُتَعَلِّق بمُلاَزَمَة أو التَّشَبُّث بالتعليم الصحيح. مثلما سنلاحظ في هذه الرسالة، لا ينتهج بولس نَهْجًا ثُنائِيًّا بمعنى أنَّه إمَّا مُنشَغِلٌ بٱلتَّقْوَى أو مُنشَغِلٌ بالتعليم الصحيح، فكلاهما مُهِمٌّ بالنسبة له لأنَّ الاثنَيْن لا ينفصلان؛ ولذلك فعلى الرغم من اهتمامه بٱلتَّقْوَى الفِعْلِيَّة والعاديَّة من جانب الشيوخ الطامِحين في شَغْل هذا المَنْصِب (1: 6-8)، فإنَّه يُدرِك خطورة أي طاعة غير تلك النابِعَة من الإيمان بالإنجيل، وبهذا المعنى، لا يقوم الشيوخ فقط بالوعظ والتشجيع بِحَسَبِ ٱلتَّعْلِيمِ ٱلصَّحِيحِ، بل أيضًا بتوبيخ كُلِّ مَنْ يقاوم الكلمة الجديرة بالثقة المُعلَنَة من خلال كرازة الرسول.

(1: 10-16) بِحَسَبِ الوحدة الثانية، تُمَثِّل إقامة شيوخ أتقياء وأصحاب عقيدة سليمة ضرورةً عاجِلَةً ومُلِحَّةً لأنَّه “يُوجَدُ كَثِيرُونَ مُتَمَرِّدِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِٱلْبَاطِلِ، وَيَخْدَعُونَ ٱلْعُقُولَ، وَلَاسِيَّمَا ٱلَّذِينَ مِنَ ٱلْخِتَانِ” (1: 10)، فهناك خطرٌ حقيقيٌّ وقائِمٌ بين المؤمنين ٱلْكِرِيتِيِّينَ لا يمكن التعامل معه إلَّا من خلال إقامة قادة، حيث إنَّ مُثيري المتاعب هؤلاء، مدفوعين بالطَّمَع (“ٱلرِّبْحِ ٱلْقَبِيحِ”)، يرفضون سُلطَان بولس كخادم الله ورسول المسيح ويُقَدِّمون “تعليمًا” مُناقِضًا لِمَا عَلَّمَه، ويصف بولس تعليمهم بأنَّه “خُرَافَات يَهُودِيَّة” وَوَصَايَا تقترح أنَّ المؤمنين يمكن أن يَتَنَجَّسوا من خلال سلوك مُعَيَّن (1: 14، 15)؛ ونتيجةً لذلك، فإنَّهم يعيثون فسادًا بين الكثير من البيوت والعائلات المؤمنة؛ ومن ثَمَّ، فإنَّ الحاجةَ ضروريَّةٌ إلى الشيوخ من أجل استرداد المؤمنين الذين بدأوا يُكَرِّسون أنفسهم لتعاليم هؤلاء الهَرَاطِقَة ووصاياهم.

تُعَدُّ إدانة بولس لمُثيري المتاعب هؤلاء أبعد ما يكون عن الغموض، فباقتباس مقولة: “ٱلْكِرِيتِيُّونَ دَائِمًا كَذَّابُونَ. وُحُوشٌ رَدِيَّةٌ. بُطُونٌ بَطَّالَةٌ” (1: 12)، كان بولس يربط المُعَلِّمين الكَذَبَة بٱلْكِرِيتِيِّينَ النَّمَطِيِّين؛ وهكذا فإنَّهم مُرشِدون باطِلون لأولئك الذين يطمحون إلى اتِّباع ٱلله ٱلْمُنَزَّه عَنِ ٱلْكَذِبِ. ويُضيف بولس ما كان على الأرجح مقولةً أخرى: “كُلُّ شَيْءٍ طَاهِرٌ لِلطَّاهِرِينَ، وَأَمَّا لِلنَّجِسِينَ وَغَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ شَيْءٌ طَاهِرًا، بَلْ قَدْ تَنَجَّسَ ذِهْنُهُمْ أَيْضًا وَضَمِيرُهُمْ” (1: 15)، فَمُثيرو المتاعب هُمْ أولئك “غَيْر ٱلْمُؤْمِنِينَ”، أو حرفيًّا، الذين “بدون إيمان” (أَبِيسْتِيسْ)؛ لذلك فإنَّ المشكلة ليست مُجَرَّد مشكلة جهل، لكنَّها بدرجةٍ أكبر مشكلة فساد، وهي أنَّ أذهانهم وضمائرهم لا تعمل بشكل صحيح. ومن ثَمَّ فإنَّ أفضل ما يفعله الشيوخ هو سَدُّ أَفْوَاهِ هؤلاء الذين يَتَكَلَّمُونَ بِٱلْبَاطِلِ وإعادة تركيز المؤمنين على الْكَلِمَةِ ٱلصَّادِقَةِ ٱلَّتِي بِحَسَبِ ٱلتَّعْلِيمِ وعلى الجهاد في سبيل ٱلتَّقْوَى.

يَدَّخِر الرسول بولس إدانته الأخيرة لهذا الحزب المُتَمَرِّد للآية 16. من ناحيةٍ، هُمْ “يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ ٱللهَ”، فَهُمْ يتظاهرون بالاعتراف بالإيمان بالله ٱلْمُنَزَّه عَنِ ٱلْكَذِبِ، ومن الناحية الأخرى يُظهِرون مدى فراغ اعترافهم من خلال أعمالهم، وهذا يعني، باستخدام لُغَة آية 1، أنَّ مَعْرِفَتَهم/ٱعْتِنَاقَهم لِلْحَقِّ ليس حَسَب ٱلتَّقْوَى؛ ولهذا السبب، يتناقض موقف هؤلاء المُتَمَرِّدِينَ تناقُضًا صارِخًا مع موقف الشيوخ الذين يَتَمَسَّكون بالتعليم الصحيح ويُظهِرون تَقْوَى موافقة له؛ وهكذا، يُرفَض هؤلاء الكَذَّابُونَ ٱلْكِرِيتِيُّونَ النَّمَطِيُّون على أنَّهم “رَجِسُونَ غَيْرُ طَائِعِينَ، وَمِنْ جِهَةِ كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ مَرْفُوضُونَ” (1: 16ب). باختصارٍ، إنَّهم يُجَسِّدون بالضبط ما يجب على المؤمنين ٱلْكِرِيتِيِّينَ تَجَنُّبه.

ضرورة ٱلتَّقْوَى: الجزء الأوَّل (2: 1-15)

بعد أن أَقَرَّ بولس الحاجة إلى قادة أتقياء يُحَدِّدون اتِّجاه عائلة الله، يتناول الرسول الآن كيف ينبغي أن يتصرَّف الأعضاء المختلفون. لاحِظْ كيف أنَّ الآية (2: 1) لا تُقرَأ على النحو التالي، لا يقول بولس: “وَأَمَّا أَنْتَ فَتَكَلَّمْ بِٱلتَّعْلِيمِ ٱلصَّحِيحِ”، وإنَّما يَحُضُّ بولسُ تيطسَ قائلًا: “تَكَلَّمْ بِمَا يَلِيقُ بِٱلتَّعْلِيمِ ٱلصَّحِيحِ”. بعبارةٍ أخرى، كان على تيطس أن يُعَلِّم المؤمنين شكل الحياة الذي يتناسب مع إنجيل بولس. تنقل الكلمات الافتتاحيَّة “وَأَمَّا أَنْتَ” تَبَايُنًا واضِحًا مع المُعَلِّمين الكَذَبَة الذين يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ ٱللهَ، وَلَكِنَّهُمْ بِٱلْأَعْمَالِ يُنْكِرُونَهُ، فيجب على المؤمنين الحقيقيِّين، ومن ضِمْنهم تيطس، أن يرفضوا هذا الرِّياء من خلال ممارسة أعمال صالحة تتوافق مع ٱعْتِنَاقَهم لِلْحَقِّ.

يَتْبَع هذا القسم البِنيَة الخَبَرِيَّة الأَمْرِيَّة باستثناء أنَّ الترتيب معكوس في هذه الحالة، حيث يبدأ الرسول بمجموعة من أفعال الأمر (أو الوصايا) المُوَجَّهة إلى ٱلْأَشْيَاخ وٱلْعَجَائِز وٱلْأَحْدَاث وٱلْحَدَثَات، وتيطس نفسه، والعبيد المسيحيِّين (2: 1-10)، ثُمَّ يُقَدِّم بعد ذلك أساسًا لاهوتيًّا لوصاياه (2: 11-15). تُشَدِّد البِنيَة التي يَتْبَعها بولس هنا على رسالته الأساسيَّة بأنَّ إِيمَان مُخْتَارِي ٱللهِ هو ٱعْتِنَاقٌ لِلْحَقِّ حَسَبُ ٱلتَّقْوَى.

(2: 1-10) لقد كُتِبَ الكثير عن الفضائل الفرديَّة التي يُشَجِّعها بولس، لذلك سَنَقْتَصِر على عِدَّة ملاحظات بشأن الوصايا المُعطَاة لِلْأَشْيَاخ وٱلْعَجَائِز وٱلْأَحْدَاث وٱلْحَدَثَات (2: 1-6). أوَّلًا- إنَّ الأساس الذي يبني عليه بولس هذه الوصايا هو اعتقاده بأنَّ المؤمنين يُشَكِّلون عائلةً واحدة في المسيح. في حين أنَّ هذا الاعتقاد أكثر وضوحًا في حَضِّ بولس لِلْعَجَائِز، فإنَّه مُشَارٌ إليه ضِمْنًا كذلك مع ٱلْأَشْيَاخ الذين يجب أن يكونوا “مُتَعَقِّلِينَ” حتَّى يكونوا قُدْوَةً لِلْأَحْدَاث الذين يَحُثُّهم بولس أيضًا على أن يكونوا “مُتَعَقِّلِينَ”، وعلى هذا النَّحو، رَدًّا على سؤال قَايِينَ: “أَحَارِسٌ أَنَا لِأَخِي؟”، فإنَّ الجواب هو “نَعَمْ!” بحرارةٍ، فاتِّباع ٱلتَّقْوَى الفرديَّة بشكل رئيسي أو فقط من أجل البُنيان الشخصي للفرد هو أمرٌ غريب على الإنجيل، حيث إنَّ الحياة في المسيح هي حياة الجماعة، ولا يَقْدِرُ أَعْمَى أَنْ يَقُودَ أَعْمَى، فلا يمكن لِلْأَشْيَاخ أن يُعَلِّموا ٱلْأَحْدَاث حياة التَّعَقُّل إلَّا إذا اتَّبَعوا ذلك بأنفسهم، ولا يمكن لِلْعَجَائِز أن يُعَلِّمْنَ (أو يَنْصَحْنَ) ٱلْحَدَثَاتِ أَنْ يَكُنَّ فِي سِيرَةٍ تَلِيقُ بِٱلْقَدَاسَةِ، وخاصَّةً بينما يتجسَّد ذلك في أَنْ يَكُنَّ زوجات وأُمَّهات صالحات، إلَّا إذا حَاوَلْنَ هُنَّ أيضًا القيام بذلك.

ثانيًا- تُعطَى المجموعات الأربع جميعها، صراحةً أو ضِمْنًا، فضيلتا الصَّحْو والتَّعَقُّل، وسيكون من الخطإ تفسير هاتَيْن الفضيلتَيْن بشكل مُجَرَّد، ولكن الأكثر إخلاصًا للرسالة نفسها هو التعامُل مع هاتَيْن الفضيلتَيْن باعتبارهما صِفَتَيْن تَنبُعان بالضرورة من تَبَنِّي نظرةٍ إلى العالم يُمَيِّزها قُطْبَا مجيئَي المسيح الأوَّل والثاني، فبالنظر إلى أنَّ يسوع قد جاء وسوف يأتي ثانيةً، ينبغي أن يعيش المؤمنون بإحساس بالوضوح والانضباط والهدف، وسوف يشرح بولس هذا الأمر بالتفصيل في الوحدة التالية (2: 11-15).

ثالثًا- يُشَدِّد بولس، كما هو مُتَوَقَّع منه، على العلاقة بين ٱلتَّقْوَى والكرازة، ففي وصاياه الخاصَّة بٱلْحَدَثَاتِ، يقول بولس إنَّه يجب عَلَيْهِنَّ أن يَتْبَعْنَ ٱلتَّقْوَى “لِكَيْ لَا يُجَدَّفَ عَلَى كَلِمَةِ ٱللهِ” (2: 5)، ويكتب بولس على نحوٍ مُمَاثِلٍ إلى تيطس قائِلًا: (“لِكَيْ يُخْزَى ٱلْمُضَادُّ، إِذْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ رَدِيءٌ يَقُولُهُ عَنْكُمْ [2: 8ب]؛ “لِكَيْ يُزَيِّنُوا تَعْلِيمَ مُخَلِّصِنَا ٱللهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ” [2: 10ب])؛ فٱلتَّقْوَى مُهِمَّة ليس فقط لأنَّها تُثبِت الإيمان الخلاصي، بل أيضًا لأنَّها تُمَكِّن المُشَكِّكين من رؤية ما يؤمن به المسيحيُّون، فالرِّيَاء لا يزيد المصداقيَّة أبدًا. إنَّ تحريضات بولس للمؤمنين على اتِّباع “مَا يَلِيقُ بِٱلتَّعْلِيمِ ٱلصَّحِيحِ” (2: 1) تُمَثِّل من ناحيةٍ ما دعوةً للمؤمنين لكي يُظهِروا للعالم أنَّهم بالفعل مختلفون عنه.

يمكن إعادة صياغة وصيَّة بولس الخاصَّة إلى تيطس على النحو التالي: “لا تَكُنْ كمثيري المتاعب الذين يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ ٱللهَ، وَلَكِنَّهُمْ بِٱلْأَعْمَالِ يُنْكِرُونَهُ”. يُعَدُّ تشديد الرسول في وصيَّته لابنه الشرعي أمرًا لافِتًا للنظر: “مُقَدِّمًا نَفْسَكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ قُدْوَةً لِلْأَعْمَالِ ٱلْحَسَنَةِ، وَمُقَدِّمًا فِي ٱلتَّعْلِيمِ (أو فِي تَعْلِيمِكَ) نَقَاوَةً… لِكَيْ يُخْزَى ٱلْمُضَادُّ” (2: 7، 8)، حيث يجب أن يكون تيطس بين المؤمنين ٱلْكِرِيتِيِّينَ النموذج المثالي للشيخ في الوقت الذي يُجَسِّد فيه ٱلْمُضَادُّون (أو المُقاوِمون) بشكل مثالي القالَب ٱلْكِرِيتِيّ النَّمَطِيّ. ترتبط حياة “النَّقَاوَة” هنا صراحةً بـ “تَعْلِيمِ” تيطس، فَقَدْ كان عليه أن يجعل من حياته وتعليمه شيئًا واحِدًا، وبمراقبة حياته وتعليمه، سيفتقر هؤلاء ٱلْمُضَادُّون (أو المُقاوِمون) إلى أي أساس لتوجيه الانتقاد ذاته (أي الرِّياء) الذي وَجَّهه بولس إليهم.

يَظهَر نَفْس التشديد على الحياة الحَمِيدَة في وصايا بولس إلى “ٱلْعَبِيد”، فعلى غِرَار بولس، “عَبْد ٱللهِ” (1: 1)، يجب على العبيد المسيحيِّين أن يكون لديهم احترام كبير للسُّلطَة، وأن يُقيموا كلام سَادَتِهِمْ، وأن يُظهِروا أمانة وجدارة بالثقة، خاصَّة بِعَدَم الاختلاس، وباتِّباع مثل هذه الحياة “المُرضِيَة” سوف “يُزَيِّنُون تَعْلِيمَ مُخَلِّصِنَا ٱللهِ”، بمعنى أنَّهم سيجعلون تعليم الله أكثر جاذبيَّة إلى حَدٍّ بعيد (2: 9، 10).

في عددٍ ليس بقليل من الكنائس اليوم، يتردَّد القادة في “التَّكَلُّمِ بِمَا يَلِيقُ بِٱلتَّعْلِيمِ ٱلصَّحِيحِ” (2: 1)، ويرجع ذلك جزئيًّا لِدَوَاعٍ مرتبطة بالناموسيَّة والقسوة على الناس، ويَنبُع ذلك أيضًا من الانشغال بالحفاظ على التعليم الصحيح على حساب تشجيع العمل بالتعليم الصحيح، ورُبَّما يكون هذا المنظور مبنيًّا على الافتراض الذي لا أساس له بأنَّ المؤمنين الذين يعترفون بالإيمان سيكتشفون تِلْقَائِيًّا الحياة المسيحيَّة بمفردهم أو سيبدأون في النهاية في فِعْل الأشياء الصحيحة، غير أنَّ هذا المقطع، إلى جانب باقي تعليم الكتاب المُقدَّس حول التلمذة، يُشيران إلى خلاف ذلك، حيث يحتاج المؤمنون إلى مساعدة وإرشاد ملموسَيْن لفهم شكل ٱلتَّقْوَى، فالتدريب على ٱلتَّقْوَى هو أكثر من مُجَرَّد تقديم مُثُل غامضة للصلاح وٱلتَّقْوَى. قد يُزعِج وضوحُ ودِقَّةُ وصايا بولس البعضَ، لكنَّ المشكلة لا تكمُن في أي نزعات ناموسيَّة من جانب بولس، بل رُبَّما تَنجُم المشكلة عن مَيْلِنا إلى الغموض، والذي يسمح لـ “خطايا مقبولة” بالاستمرار في حياتنا.

(2: 11-15) يُعَدُّ النصف الثاني من هذا القسم جوهريًّا لأنَّه يُقَدِّم الأساس لتحريضات بولس السابقة، فالرسول ليس مُهتَمًّا بالسلوك الصالح بصفةٍ عامَّة، بل بِـ “مَا يَلِيقُ بِٱلتَّعْلِيمِ ٱلصَّحِيحِ”، “إِطَاعَة ٱلْإِيمَانِ”، الفَيْض الصالح والضروري المُتَدَفِّق من الإنجيل.

إنَّ الجملة الطويلة المتواصلة بدون فواصل واضحة أو روابط الواردة في الآيات 11-14 لديها بِنيَة مُعَقَّدَة، ولكنَّ النقطة العامَّة واضحة، وهي أنَّ: نعمة الله تُؤَدِّب المؤمنين ليعيشوا بِٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَى فِي ٱلْحَاضِرِ من خلال دعوتهم إلى تَذَكُّر مجيء المسيح الأوَّل والتَّطَلُّع إلى مجيئه الثاني. عندما يتحدَّث بولس عن نِعْمَة ٱللهِ الخلاصيَّة التي ظَهَرَتْ (2: 11)، فإنَّه يُشير إلى ظهور المسيح الأوَّل الذي بَلَغَ ذُروَتَه في موته وقيامته، وبفضل اتِّحادنا بالمسيح، كان موتُهُ موتَنا، وقيامتُهُ قيامتَنا؛ وهكذا، مُتنا عن الخطيَّة وتَحَرَّرنا من سُلطانها (2: 14أ). بينما نتذكَّر ما أنجزه المسيح، تكون الاستجابة المناسبة هي أن “نُنْكِرَ ٱلْفُجُورَ وَٱلشَّهَوَاتِ ٱلْعَالَمِيَّةَ”، وهي الأمور التي مَيَّزَتْ وجودنا السابق في عالم الخطيَّة والموت (2: 12أ).

إنَّ العَيْش الحاضر بٱلتَّقْوَى له صِفَة مستقبليَّة كذلك، وهي أنَّنا: نعيش مُتَطَلِّعين إلى “ٱلرَّجَاء [أو رَجَائِنَا] ٱلْمُبَارَكَ”، أي الظهور الثاني للمسيح، الذي سيأتي ليدين العالم ويُشارِك مجده مع جَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ [أو يَشتاقونَ إلى] ظُهُورَهُ (2: 13)، فالحياة المسيحيَّة ليست مُجَرَّد العمل المُتَمَثِّل في أن نصير ما نحن عليه بالفعل في المسيح يسوع، ولكنَّها مدفوعة أيضًا بوعد ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ والنَّعيم المادي في السَّمَاوَات الجَدِيدَة وَالأَرْض الجَدِيدَة ٱلَّذي وَعَدَ بِهِ ٱللهُ ٱلْمُنَزَّهُ عَنِ ٱلْكَذِبِ؛ ولذلك فإنَّنا نحيا حياةً تخلو من الشعور بالذنب وتغمرها الإثارة لأنَّ “الأفضل لم يأتِ بَعْدُ”.

إنَّ خاتمة مُلَخَّص الإنجيل الذي يذكره بولس في هذه الآيات تُعيد التأكيد على تركيز رسالة تيطس، ففي توضيحٍ أكثر لِمَا ذكره بولس بالفعل عن العَيْش الحاضر بِٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَى، يُوضِح بولس غاية (telos تيلاس)[1] خلاص المسيح: “لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ شَعْبًا خَاصًّا غَيُورًا فِي أَعْمَالٍ حَسَنَةٍ” (2: 14ب). لا يُشير الرسول في أي مكان في مُلَخَّص الإنجيل هذا إلى أنَّ الأشخاص يُساهِمون في خلاصهم، وإنَّما هو نعمة من البداية إلى النهاية: لقد جاء المسيح يسوع لِيُخَلِّص الخُطاة وَوَعَدَ بأن يعود. في ضوء هذا الواقِع الإِسْخَاتُولُوچِيّ (الأُخْرَوِيّ) الواحِد، يُفدَى شعب الله لحياةٍ هادِفَةٍ مُنضَبِطَةٍ تَتَّسِم بأعمالٍ حَمِيدَةٍ. من المُؤَكَّد أنَّ الأعمال الصالحة لا تُؤَدِّي إلى الخلاص، إلَّا أنَّ الخلاص يُؤَدِّي لا مَحَالَةَ إلى غيرة في الأعمال الصالحة.

سَيَظَلُّ شَبَحَا اللَّاناموسِيَّة وَالشِبْهِ بِيلَاچِيَّةٍ يُطاردان الكنيسة دائمًا، فالمسيحيُّون في كل جزء من العالم في كل زمان كانوا يميلون دائمًا إمَّا نحو النعمة الرخيصة أو نحو الخلاص بالنعمة بالإضافة إلى الأعمال (مُختَلِطَان بدرجات متفاوتة حَسَب مِزَاج الفرد والفترة). بعبارةٍ أخرى، كان الخِيَار الذي يفتقد دائمًا للشعبيَّة -وسَيَظَلُّ كذلك- هو الإيمان الذي يُسَلِّط الضوء على الخلاص بالنعمة وحدها لأعمال صالحة. وإذ إنَّ بولس يَعْلَم هذا الأمر، فإنَّه يُحَرِّض تيطس قائلًا: “تَكَلَّمْ بِهَذِهِ، وَعِظْ، وَوَبِّخْ بِكُلِّ سُلْطَانٍ. لَا يَسْتَهِنْ بِكَ أَحَدٌ” (2: 15). لا تخجلْ من التشديد على أنَّ الأعمال الصالحة في غاية الأهميَّة، أمَّا أولئك الذين يقترحون خلاف ذلك، حتَّى لو كان ذلك بِدَافِعٍ يبدو جَيِّدًا، فكان على تيطس أن يُصَحِّحهم، بل ويُوَبِّخهم إذا لَزِمَ الأمر. هذا هو الحَقُّ الذي كُلِّفَ الرسول بالكرازة به من الله الآب والمسيح يسوع؛ لذلك لا ينبغي لأحد، سواءٌ كان لاهوتيًّا موهوبًا أو قَسًّا مُخلِصًا أو عُضْوًا عَاطِفِيًّا، أن يَسْتَهِينَ بهذا التعليم عن الإيمان الحقيقي.

ضرورة ٱلتَّقْوَى: الجزء الثاني (3: 1-11)

يبدأ هذا القسم الثالث بِتَحَوُّلٍ طفيف إلى اتِّباع ٱلتَّقْوَى خارج الكنيسة (3: 1، 2)، لكنَّه يُرَكِّز بعد ذلك على إعادة التأكيد على ضرورة ٱلتَّقْوَى من خلال تعليم لاهوتي غني وتحريض مُوَجَّه وتحذير صارِم (3: 3-11).

(3: 1، 2) في الآيَتَيْن الافتتاحِيَّتَيْن للإصحاح الثالث، يُصَرِّح بولس بما لَمَّحَ إليه في جُمَلِ الغَرَضِ المختلفة الواردة في الإصحاح الثاني (2: 5، 8، 10)، وهو: اتِّباع أسلوب حياة جاذب للعالم المُشاهِد. إنَّ الوصيَّة الخاصَّة بـ “أَنْ يَخْضَعُوا لِلرِّيَاسَاتِ وَٱلسَّلَاطِينِ، وَيُطِيعُوا” (3: 1أ) تستدعي إلى الذاكرة وصف بولس الأوَّل لمُثيري المتاعب بأنَّهم مُتَمَرِّدُونَ، وهُمْ أيضًا مصادر لزعزعة الاستقرار[2] (3: 10)؛ فوصيَّة الرسول هنا إذًا هي ألَّا نكون مثل المُعَلِّمين الكَذَبَة، ألَّا نكون خطرًا على المجتمع، بل أن نكون مواطنين مثاليِّين “مُسْتَعِدِّينَ لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ” (3: 1ب)، وهنا أيضًا لدينا تَذْكِرَة أخرى بالمُعَلِّمين الكَذَبَة الذين هُمْ “رَجِسُونَ غَيْرُ طَائِعِينَ، وَمِنْ جِهَةِ كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ مَرْفُوضُونَ” (1: 16).

على المختارين أن يعملوا الخير ليس فقط لأولئك الذين في السُّلطَة، وإنَّما “لِجَمِيعِ ٱلنَّاسِ” (3: 2ب)، فعليهم ألَّا يَطْعَنُوا فِي أَحَدٍ، بل أن يُظهِروا تَسَامُحًا ووداعةً وسلامًا واحترامًا دون أي تمييز، والسبب وراء هذه المجموعة من أفعال الأمر (أو الوصايا) هو مرَّةً أخرى الأسلوب الخَبَرِيّ الذي يُخبِر بالإنجيل.

(3: 3-7) سَنُبدِي أربع ملاحظات بشأن مُلَخَّص الإنجيل الذي يذكره بولس هنا:

  • يُساوِي الإنجيل بين البشر ولا يُمَيِّز أحدًا، فلا يجب أبدًا على المؤمنين أن يحتقروا أي شخص، بل يجب عليهم أن يعملوا الخير للجميع بسبب مبدأ الإنجيل الأساسي القائل بأنَّه ليس أحدٌ صالِحًا وأنَّ ٱلْجَمِيع أَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللهِ (رومية 3: 10، 23)؛ ومن هنا جاء تصريح بولس: “لِأَنَّنَا كُنَّا نَحْنُ أَيْضًا قَبْلًا أَغْبِيَاءَ، غَيْرَ طَائِعِينَ، ضَالِّينَ…” (تيطس 3: 3). إن التصوير الخالي تمامًا من الإطراء الوارد في الآية 3 لا يُشير فقط إلى أنَّ المؤمنين لم يكونوا أفضل من غير المؤمنين، بل أيضًا إلى أنَّه لم يَكُنْ فيهم أي شيء صالح على الإطلاق يجعلهم مُستَحِقِّين الخلاص. في الواقع، تُشير لُغَة الآية إلى أنَّنا لو كُنَّا تُرِكْنَا لأنفسنا، لَكُنَّا قد انزلقنا أكثر في “شَهَوَاتٍ وَلَذَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، عَائِشِينَ فِي ٱلْخُبْثِ وَٱلْحَسَدِ، مَمْقُوتِينَ، مُبْغِضِينَ بَعْضُنَا بَعْضًا”.
  • لِئَلَّا تفوت أحدًا هذه النقطة المُتَعَلِّقَة بالفساد الذي يشمل الجميع، يُسَلِّط الرسول الضوء على أنَّ إلهنا الثالوث خَلَّصَنَا “لَا بِأَعْمَالٍ فِي بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ” (3: 5). بالنظر إلى تشديد بولس على ضرورة الأعمال الصالحة طوال الرسالة وصولًا إلى هذا القسم، قد يقترح البعض أنَّ لاهوت بولس تَغَيَّر، ولكنَّ هذا التصريح يُبطِل أي فكرة من هذا القبيل. يستند الخلاص بالكامل إلى رحمة الله السياديَّة مثلما يَبرُز في ختام هذا المُلَخَّص للإنجيل: “حَتَّى إِذَا تَبَرَّرْنَا بِنِعْمَتِهِ، نَصِيرُ وَرَثَةً حَسَبَ رَجَاءِ ٱلْحَيَاةِ ٱلْأَبَدِيَّةِ” (3: 7).
  • الأشخاص الوحيدون المُشارِكون في خلاصنا هُمْ الآب والروح القدس والابن، حيث يختار الآب أن يُخَلِّص بـ “غُسْلِ ٱلْمِيلَادِ ٱلثَّانِي وَتَجْدِيدِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، ٱلَّذِي سَكَبَهُ بِغِنًى عَلَيْنَا بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مُخَلِّصِنَا” (3: 5، 6)، فأعمالنا الصالحة لا تُخَلِّصنا؛ بل نَخْلُص نتيجةً لِلُطْفِ الله وَإِحْسَانِهِ، وأفضل جهودنا لا تُطَهِّرنا؛ بل نَتَطَهَّر بالعمل التطهيري والوالِد (أو الخَالِق) ثانيةً الذي يقوم به الروح القدس، وأداؤنا لا يُكسِبنا عُضويَّة في شعب الله؛ بل يُرَحَّب بنا في عائلة الله من خلال اتِّحادنا الإيماني بالمسيح يسوع مُخَلِّصِنَا.
  • يُعَدُّ اختيار بولس لِلُّغَة في هذا المُلَخَّص أمرًا جديرًا بالملاحظة، فكما أشرنا سابقًا، يصف بولس ظهور المسيح الأوَّل باستخدام كلمات “لُطْفُ… ٱللهِ وَإِحْسَانُهُ (فِيلَانْثْرُوبِيَا – مَحَبَّتُهُ لِلبَشَرِ)”، إذ تُعَدُّ فِيلَانْثْرُوبِيَا الله أساس “مَحَبَّة الْغُرَبَاءِ” (فِيلُوكْسِنُونْ) و”مَحَبَّة الْخَيْرِ” (فِيلَاجَاثُونْ) المسيحيَّتَيْن، فَقَد اقتلعت آية 3 فكرة وجود أي صلاح بشري فِطْرِي يقود إلى حياةٍ حَمِيدَة، وإنَّما يَنبُع الأمل والقُوَّة لعَيْش حياةٍ حَمِيدَة من كُلٍّ من الظهور التاريخي لإحسان الله تجاه جميع الناس، اليهود والأمم على السَّواء، وسُكْنَى الروح القدس الذي يُحَوِّلنا إلى شَعْبٍ غَيُورٍ فِي أَعْمَالٍ حَسَنَةٍ، وفي هذا الصَّدَد، فحتَّى أفضل أعمالنا تَنبُع من نعمة الله المُجَدِّدة.

إنَّ هذا الأسلوب الخَبَرِيّ الذي يُخبِر بالإنجيل هو الذي يستلزم ويُمَكِّن من طاعة الوصايا المذكورة في الآيَتَيْن الافتتاحِيَّتَيْن لتيطس 3.

(3: 8-11) يحتوي الجزء المُتَبَقِّي من هذا القسم على رسالة واضحة ومباشرة مُفادُها أنَّ: الأعمال الصالحة مُهِمَّة حقًّا لدرجة أنَّ المؤمنين لا بُدَّ أن يكونوا هادِفين إلى ممارستها وإلى تجاهُل أولئك الذين يقترحون خِلَاف ذلك.

(3: 8) من ناحيةٍ ما، تُكتَب آية 8 على نحوٍ شديد السوء، على الأقل بِحَسَبِ المعايير المُعَاصِرَة المعهودة، بحيث تساعدنا صعوبة هذه الكتابة وغرابتها على تقدير الفكرة الرئيسة. يبدأ الرسول بالعبارة الكلاسيكيَّة: “صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ”، أي أنَّ ما عَبَّر عنه بولس للتَّوِّ يَسْتَحِقُّ القبول التام دون أي تَرَدُّدٍ، فَقَدْ خلَّصنا الله بالنعمة، وبالنعمة وحدها. هَلِّلُويَا! يَحُضُّ الرسولُ بولس تيطسَ بعد ذلك على أن “يُقَرِّرَ (أو يُصِرَّ على) هَذِهِ ٱلْأُمُورَ”، أن يُلازِم أو يَتَشَبَّث بِالْكَلِمَةِ ٱلصَّادِقَةِ ٱلَّتِي بِحَسَبِ ٱلتَّعْلِيمِ، ألا وهي أنَّ مجيئَي المسيح الأوَّل والثاني يقودان إلى هَجْر الخطيَّة والتَّطَلُّع إلى المجد.

إلَّا أنَّ هذه الآية تنتهي بطريقةٍ رُبَّما تبدو مُثِيرَة للاستغراب: “لِكَيْ يَهْتَمَّ ٱلَّذِينَ آمَنُوا بِٱللهِ أَنْ يُمَارِسُوا (أو يُكَرِّسُوا أَنْفُسَهُمْ لِـ) أَعْمَالًا حَسَنَةً”. يضع الأصل اليوناني عبارة “أَعْمَالًا حَسَنَةً” في بداية جُملَة الغَرَضِ لِلَفْتِ الانتباه إلى ضرورتها. لا شَكَّ في أنَّ جمهور الرسالة كان سيفهم التبايُن الواضح: خَلَّصَنَا ٱللهُ لَا بِـ “أَعْمَالٍ فِي بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ”؛ ولذلك، فإنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُوا بهذا الحَقِّ المُذهِل سَيُكَرِّسُون أَنْفُسَهُمْ لِـ “أَعْمَالٍ حَسَنَةٍ”. وهكذا فإنَّ ٱلْأَعْمَال ٱلْحَسَنَة أو الصالحة هي، من ناحيةٍ ما، غير مُهِمَّةٍ، ولكنَّها، من ناحيةٍ أخرى، في غاية الأهميَّة. باختصارٍ، إنَّ “ٱلَّذِينَ آمَنُوا بِٱللهِ”، أي ٱلَّذِينَ وضعوا إيمانهم في المسيح يسوع وحده للخلاص، هُمْ ذات الأشخاص الذين سيفيضون بالأعمال الصالحة، فالاستيعاب الحقيقي للإنجيل يبدو أنَّ له تأثيرًا مُضَادًّا لِلَّاناموسِيَّة.

إنَّ الجانب الآخر الجدير بالملاحظة في جُملَةِ الغَرَضِ هو طبيعتها التي تَتَّسِم بالإطالة والإطناب، فَقَدْ كان بإمكان الرسول أن يكتب شيئًا أبسط على غِرَار: “لِكَيْ يُمَارِسَ (أو يُكَرِّسَ) ٱلَّذِينَ آمَنُوا بِٱللهِ (أَنْفُسَهُمْ لِـ) أَعْمَالًا حَسَنَةً”، لكن لدينا، بدلًا من ذلك، العبارة الزائدة عن الحاجة: “المؤمنون الحقيقيُّون سَيَهْتَمُّون أو سيكونون عازمين على تكريس أنفسهم لِلتَّقْوَى”، والتأثير البلاغي لهذا الأمر هو أنَّ مُحِبِّي الله سيكونون هادفين إلى أن يكونوا هادفين إلى عمل الخير، أي أنَّ الإحسان ليس رَدَّ فِعْلٍ أو تَصَرُّفًا عَفَوِيًّا، بل ممارسة حياة مُخَطَّطَة ومُنضَبِطَة بعناية؛ لذلك، يجب على المؤمنين أن يكونوا هادِفين بشأن الأشياء الأساسيَّة والتي تبدو حِيَادِيَّة مثل الوقت والموارد والعلاقات وما إلى ذلك من أجل تسهيل حياة مليئة بالأعمال الصالحة. إنَّ التشديد على الصَّحْو وضَبْط النَّفْس والتَّعَقُّل له غاية مُحَدَّدَة، وهي: الأعمال الصالحة المُتَجَذِّرَة في إنجيل النعمة والمُمَكَّنَة بواسطته.

تَخْتَتِم آية 8 بالتأكيد: “هَذِهِ الأُمُورُ حَسَنَةٌ وَنَافِعَةٌ لِلنَّاسِ” (ترجمة كتاب الحياة)، ويختلف العلماء حول ما يُشير إليه اسم الإشارة “هَذِهِ ٱلْأُمُورَ”. نحن نَتَمَسَّك بأنَّ الرسول يقصد على الأرجح الصِّفَة الخَبَرِيَّة الأَمْرِيَّة للإيمان، وهي أنَّ: ما هو حَسَنٌ ونافِعٌ للمؤمنين (وغير المؤمنين كذلك) هو إنجيلُ نعمةٍ يُؤَدِّي إلى خير جميع الناس. يجب على تيطس والمؤمنين ٱلْكِرِيتِيِّينَ أن يعتنقوا “هَذِهِ ٱلْأُمُورَ” ويُرَكِّزوا عليها.

(3: 9-11) على النقيض من تعليم بولس عن حَقِّ الإنجيل وتطبيقه الحَتْمِيّ المُتَمَثِّل في ٱلتَّقْوَى تقع ٱلْمُجَادَلَاتُ وَٱلْمُنَازَعَاتُ ٱلْغَبِيَّةُ للمُعَلِّمين الكَذَبَة، وعن مثل هذه “ٱلْمُبَاحَثَات…، وَٱلْأَنْسَاب، وَٱلْخُصُومَات، وَٱلْمُنَازَعَات ٱلنَّامُوسِيَّة” يقول بولس إنَّها: “غَيْرُ نَافِعَةٍ، وَبَاطِلَةٌ” (3: 9)، وهي كذلك لأنَّها تُضعِف غيرة مُخْتَارِي الله في الأعمال الصالحة، وتُزَعزِع أيضًا بيوت مؤمنة وتَشِين سُمعَة كلمة الله الصحيحة؛ وبمعرفة ذلك، يجب على تيطس والمؤمنين الذين معه أن يَجْتَنِبُوا مثل هذه الأمور كجزء من جهدهم الانضباطي في أن “[يَهْتَمُّوا]… أَنْ يُمَارِسُوا (أو يُكَرِّسُوا أَنْفُسَهُمْ لِـ) أَعْمَالًا حَسَنَةً” (3: 8)، فَكَمَا يمكن أن يشهد الكثير من المِهَنِيِّين الناجحين، إنَّ جزءًا لا يَتَجَزَّأ من التكريس لمُهِمَّة واحدة هو تحديد كل الأشياء التي تُعيق تركيز الشخص على هذه المُهِمَّة وإزالتها.

يَخْتَتِم الرسول هذا القسم بإعطاء وصايا صريحة بشأن الشخص الَّذِي يُسَبِّبُ الانقِسَامَ أو “ٱلْمُبْتَدِع”. علينا أن ننظر إلى هذا التحريض باعتباره تطبيقًا ملموسًا آخر لاتِّباع حياة الانضباط الذاتي المُلتَزِمَة بالأعمال الصالحة. بعد إنذار أو اثْنَيْنِ، على المؤمنين أن “يُعرِضُوا عن/يتركوا” الشخص الَّذِي يُسَبِّبُ الانقِسَامَ. يقصد بولس على الأرجح التأديب الكَنَسِي، وإنْ كان غياب لُغَةٍ تُشبِه ما جاء في (1تيموثاوس 1: 20) يُضعِف هذا التفسير. إنَّ السبب الذي يُقَدِّمه بولس لهذا الإجراء هو أنَّه يكاد يكون من المستحيل محاولة إقناع مثل هذا الشخص العنيد: “مِثْلَ هَذَا قَدِ ٱنْحَرَفَ، وَهُوَ يُخْطِئُ (يَستَمِرُّ في ارتكاب الخطيَّة) مَحْكُومًا عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ” (3: 11). يجب الاعتراف بأنَّ كيفيَّة مصالحة هذا التحريض مع تعليم بولس في مكان آخر عن الصَّبْر يُعَدُّ أمرًا صعبًا، لكنَّ تحذير بولس المفيد هنا يَقِي من الفكرة الساذجة القائلة بأنَّنا يجب أن نُواصِل مُلَاحَقَة الأشخاص بِغَضِّ النظر عن كيفيَّة استجابتهم، فإذا كُنَّا نريد أن نفيض بالأعمال الصالحة، فَمِنَ الحكمة عدم مُخَالَطَة الأشخاص الذي لا يقومون سِوَى بِخَلْق النِّزَاع والانقسام.

خَاتِمَة الرسالة (3: 12-15)

تنتهي رسالة بولس إلى تيطس بملاحظة مُتَعَمَّدَة رُبَّما تحوي عِدَّة أجزاء رئيسيَّة. يَخْتَتِم أوَّلُ هذه الأجزاء تعليمَ الرسول عن ضرورة الأعمال الصالحة بِلَفْتِ الانتباه إلى حاجةٍ عاجِلَةٍ مُلِحَّةٍ (3: 12-14)، فبعد أن يدعو بولسُ تيطسَ إلى قضاء الشتاء معه في نِيكُوبُولِيسَ (3: 12)، يُرسِل بولس تعليمات بِخُصُوصِ “زِينَاسَ ٱلنَّامُوسِيَّ (أو المُحَامِي) وَأَبُلُّوسَ” (3: 13أ)، فبالإضافة إلى إرسال تيطس والمؤمنين ٱلْكِرِيتِيِّينَ لزِينَاسَ وَأَبُلُّوسَ سريعًا[3]، يجب عليهم التَّأَكُّد من أنَّهما “لَا يُعْوِزَهُمَا شَيْءٌ” (3: 13ب). يُعيد بولس بعد ذلك التأكيد على غرض هذه الرسالة: “وَلْيَتَعَلَّمْ (عن طريق الممارسة) مَنْ لَنَا أَيْضًا أَنْ [يُكَرِّسُوا أَنْفُسَهُمْ لِأَعْمَالٍ حَسَنَةٍ] لِلْحَاجَاتِ ٱلضَّرُورِيَّةِ، حَتَّى لَا يَكُونُوا بِلَا ثَمَرٍ” (3: 14).

(3: 12-14) بعد كل التعليم السامي الذي قَدَّمَه بولس عن ضرورة الأعمال الصالحة في ضوء مَجيئَي المسيح الأوَّل والثاني، وَوَصْفِهِ لله بأنَّه المُحْسِن الأعظم الذي يُلهِم الإحسان المسيحي، ينزل بولس بجمهوره إلى أرض الواقع، إذا جاز التعبير، ويتناول حاجةً مُحَدَّدَةً وإلى حَدٍّ ما عاديَّة، وهي: توفير الإمدادات الكاملة لزِينَاسَ وَأَبُلُّوسَ، والدرس هنا واضحٌ ومباشِرٌ: لا يَتَعَيَّن على المؤمنين في كثير من الأحيان أن يبحثوا بعيدًا عن فُرَصٍ لعَمَلِ الخير، بل عندما يَرَوْنَ حاجةً عاجِلَةً وضَرُورِيَّةً، عليهم تَلْبِيَتها، فبينما لا يمكننا إنقاذ العالم، يمكننا أن نعمل الخير أَيْنَمَا كُنَّا بالضبط.

عادةً ما يحمل الفعل “يَتَعَلَّم” (مَنْثَانِيتُوسَنْ) صِفَة التَّعَلُّم من خلال الممارسة الفِعْلِيَّة، فالتَّعَلُّم من خلال القراءة شيءٌ والتَّعَلُّم من خلال الممارسة شيءٌ آخر. تقول آية 14 إنَّ المؤمنين “[يَتَعَلَّمُونَ] أَنْ [يُكَرِّسُوا أَنْفُسَهُمْ لِأَعْمَالٍ حَسَنَةٍ]” من خلال القيام بها فِعْلِيًّا بِطُرُقٍ ملموسة ومُنتَظِمَة، وهذا، مَرَّةً أخرى، هو على الأرجح السبب في أن يَخْتَتِم الرسول هذه الرسالة الجليلة بملاحظة عمليَّة جِدًّا: سَاعِدُوا خُدَّام الإنجيل الزُّمَلَاء هؤلاء.

تُظهِر آية 14 أيضًا نَبْرَةً جِدَالِيَّةً خَفِيَّةً. لقد قَابَل الإصحاح الأوَّل من الرسالة بين القادة الحقيقيِّين والقادة الكَذَبَة بين المؤمنين، وفي وَصْف بولس لِلْـ “مُتَمَرِّدِينَ [الذين] يَتَكَلَّمُونَ بِٱلْبَاطِلِ، وَيَخْدَعُونَ ٱلْعُقُولَ” يُدِينهم بأنَّهم “رَجِسُونَ غَيْرُ طَائِعِينَ، وَمِنْ جِهَةِ كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ مَرْفُوضُونَ” (1: 16). باختصارٍ، هُمْ بِلَا ثَمَرٍ. في المقابل، يدعو بولسُ تيطسَ والمؤمنين ٱلْكِرِيتِيِّينَ على النحو التالي: “لْيَتَعَلَّمْ مَنْ لَنَا (أو شَعْبُنَا) أَيْضًا أَنْ [يُكَرِّسُوا أَنْفُسَهُمْ لِأَعْمَالٍ حَسَنَةٍ] … حَتَّى لَا يَكُونُوا بِلَا ثَمَرٍ” (أنا مَنْ غَلَّظْتُ الخط للتشديد). مَنْ هُمْ “مَنْ لَنَا (أو شَعْبُنَا)”؟ إنَّهم ذلك الشَّعْب الـ “[غَيُور] فِي أَعْمَالٍ حَسَنَةٍ” بسبب فداء المسيح له مِنْ كُلِّ إِثْمٍ وتطهيره له مِنْ كُلِّ شَرٍّ. ينبغي أن يكون “مَنْ لَنَا (أو شَعْبُنَا)” إذًا “مُثمِرين” في شكل “أَعْمَالٍ حَسَنَةٍ”. بهذا المعنى، تنتهي آية 14 بِدَعْوَةٍ بَلَاغِيَّة مُفادُها: “في حين أنَّ الذين يَتَكَلَّمُونَ بِٱلْبَاطِلِ بِلَا ثَمَرٍ، لِنَسْعَ نحن، مُخْتَارِي الله الذين بإيمانٍ حقيقيٍّ، إلى أن نكون مُثمِرين من خلال سَدِّ الْحَاجَاتِ ٱلضَّرُورِيَّةِ”.

(3: 15) يبدو أنَّ الجزء الثاني من خَاتِمَة الرسالة يواصِل هذه الدَّعْوَة البَلَاغِيَّة، حيث يكتب بولس: “يُسَلِّمُ عَلَيْكَ ٱلَّذِينَ مَعِي جَمِيعًا”، أي “يُسَلِّمُ عَلَيْكَ مَنْ لَنَا (أو شَعْبُنَا) جَمِيعًا” (3: 15أ)، ويُوصَى تيطسُ بِدَوْرِهِ أن يُسَلِّمَ بِصِفَةٍ خاصَّة على “ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَنَا (فِيلُونْدَاسْ) فِي ٱلْإِيمَانِ” (3: 15ب)، وتُعَدُّ لُغَةُ المَحَبَّة هذه ذات مَغْزًى إذ إنَّها تستدعي إلى الذاكرة وَصْف بولس للمسيحيِّين المِثَالِيِّين (الشيوخ) الذين يُحِبُّون الغُرَبَاء ويُحِبُّون الخَيْر بسبب مَحَبَّة الله لِلْبَشَرِ التي اختبروها؛ فالمَحَبَّة (فِيلِيُو) إذًا هي علامة المؤمنين الحقيقيِّين، بِخِلَاف أولئك الذين يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ ٱللهَ، وَلَكِنَّهُمْ بِٱلْأَعْمَالِ يُنْكِرُونَهُ. لذلك، فإنَّ هذه التَّحِيَّات الأخيرة تحمل قُوَّةً جِدَالِيَّةً: “يُسَلِّمُ عَلَيْكَ ٱلَّذِينَ مَعِي/لِي، مَنْ لَنَا (أو شَعْبُنَا)، وأنت ينبغي أن تُسَلِّمَ عَلَى ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَنَا فِي إِيمَانٍ مُشْتَرَكٍ، إيمانٍ يتوافق فيه ٱعْتِنَاقِ ٱلْحَقِّ مع حياة ٱلتَّقْوَى”.

تُعَمِّق تَأَمُّلاتُنا تقديرَنا للبركة الختاميَّة: “اَلنِّعْمَةُ مَعَ جَمِيعِكُمْ”. كانت رغبة بولس هي أنَّ نعمة الله المُمَكِّنَة تُقَوِّي تيطس والمؤمنين ٱلْكِرِيتِيِّينَ بينما يُقِيمُون شيوخًا مَحْمُودِين، وبينما يُشَجِّعون ويُظهِرون أسلوب حياة يتوافق مع الإنجيل، وبينما يُعَزِّزون ضَبْط النَّفْس اللازِم لتحقيق حياة مُكَرَّسَة لِأَعْمَالٍ حَسَنَةٍ مصنوعة لمجد الله.


[1] يستخدم الكاتب كلمة يونانيَّة الأصل منقولة للإنجليزيَّة (telos تيلاس)، وهي تُعَبِّر عن العِلَّة الغائيَّة أو الغاية في نظريَّة السببيَّة عند أرسطو.

[2] حيث إنَّ كلمة “ٱلْمُبْتَدِع” الواردة في (3: 10) تُشير إلى الشخص الَّذِي يُسَبِّبُ الانقِسَامَ.

[3] إذ إنَّ بعض الترجمات تُتَرجِم “جَهِّزْ زِينَاسَ ٱلنَّامُوسِيَّ وَأَبُلُّوسَ بِٱجْتِهَادٍ لِلسَّفَرِ” على النحو التالي: “أَرْسِلْ زِينَاسَ ٱلنَّامُوسِيَّ وَأَبُلُّوسَ لِلسَّفَرِ سريعًا”.

ماثيو هارمون

 

شارك مع أصدقائك