لازلت أذكر تلك الأمسية في إحدى ليالي عيد الميلاد، وكنت قد فرغت لتوي من تنظيف حوض السمك، وجلست أتأمل فيه على أنغام ترانيم الميلاد وأنا أحتسي كوب من القهوة. وتخيلت كما لو أن إحدى تلك الأسماك الصغيرة تحدق فيّ وتتحدث إليّ كما لو أنها تكتب خواطرها وتحكي عني. فكأنما كتبت تقول…
خواطر سمكة صغيرة
أعيش منذ زمن بعيد وسط عائلتي من السمك، في مكان أبعد من أن يكون بحراً. فكلما سبحت فيه سرعان ما أجد فمي يرتطم بحاجز لا اراه، ليردني لأسبح مرة أخرى في ذات تلك البقعة الصغيرة من الماء. اعتدت ألا آخذ الأمور بسطحية، بل اتفرس في كل ما يدور حولي لعلي أصل أو ربما أعي ما أجهله! لذا، فلا عجب إذا قمت بزيارتي ووجدتني قليل اللهو مع اصدقائي من السمك، خاصة في هذه الأيام بالذات، فانا لست منشغلاً سوى بذلك “الضخم“!
لا أعرف من هو أو ما هو، ولماذا كثيراً ما يقترب ويتعامل مع بحرنا الصغير. لا أعرف إذا ما كان خيّراً أم شريراً، يريد سلامتنا أم هلاكنا! في كل صباح أجده يقترب ويفتح مثل طاقة فوقنا ويلقي منها بالطعام لنا، فأهرع مع عائلتي لنلتقط ونشبع، وأقول في داخلي يا له من “ضخم صالح“. ولا أنسى مرة حين حاول بذات اليد التي كان يلقي لنا بها الطعام، أن يضعها في وسطنا في الماء. فهرولنا مذعورين من الخوف لنختبئ منه، ونحن لا نعرف هل كان يريد أن يصافحنا أم أن يفنينا؟ هل رغب في أن نكون طعامه بعد أن أطعمنا؟
من أنت أيها “اللغز” وماذا تريد مني؟ لماذا كثيراً ما أجدك جالساً أمام بحرنا تتفرس فينا؟ هل تراقب أفعالنا وأخطائنا لتسجلها علينا، أم تتأمل فينا بحب؟ أكاد أشعر كما لو أنك وانت جالس أمامنا تتحدث إلينا وتريد أن تقول لنا شيئاً. ولكن ما هو ولمن فينا ترسله؟ وكيف لي أن أفهمه وأنا لا أفهم لغتك واستيعابي يتضاءل أمامك؟! لماذا وضعتني هنا، لتجني منا منفعة أم لتعطنا بسخاء؟ ولماذا تغلق علينا في ذلك البحر الصغير؟ هل لتسلبنا إرادتنا وتتسلط علينا، أم لتعتني وتهتم بنا؟
من أنت أيها “البعيد” وما أعجزني؟! يا ليتك تنزل إليّ وتتحدث لغتي، لأسألك فتخبرني بعوائص لا أعرفها؛ إذ أن صعودي إليك درب من المحال! يا ليتك تقترب مني مزيلاً الحواجز التي بيننا، لأعاشرك حقاً فأعرفك حقاً!
آه ولكني عالم أنك لو كنت مخلوق محدود مثلي، فلن تستطيع أن تقترب مني وتصير مثلي! ولكنك إن كنت غير محدود وقادر على كل شيء، فحتماً الاقتراب الذي أراه أنا محال يكون في استطاعتك كأمر يسير جداً.
الله تعالى… تنازل
إن هذه القصة ما هي إلا انعكاس لذات التساؤلات المحيرة والاحتياجات العميقة، التي نطرحها جميعًا كبشر بلا استثناء عن الله. ولكنها صورة باهتة للهوة العظيمة التي تفصلنا نحن عن الله تعالى. إن كثيرين منا اليوم هم أناس متدينون حقاً، ولكنهم للأسف يتقون الله وهم يجهلونه! يطيعون وصايا وشرائع ولكن للأسف بداخلهم صوراً مشوهة عن الله؛ تارة يرونه رحيماً سلبيًا متساهلًا مع الشر، وتارة يرونه منتقماً وطاغية! حيارى يحاولون إرضاءه دائماً، ولكن الإخفاق والفشل والسقوط المتكرر في الآثام يحول دون ذلك؛ دافعهم الوحيد للطاعة هو الفرار من الجحيم، وليس حباً حقيقياً لذاك الإله ووصاياه التي تعكس محبته وطهارته على حدٍ سواء.
وصحيح أن الله لم يره أحد قط، ولا يمكن لأحد أن يراه ويعيش كما يخبرنا بذلك الإنجيل المقدس؛ إلا إنه أراد أن تكون علاقته بالإنسان أكثر من مجرد إله بعيد. يقطر تشريعات وكلمات من السماء على عباده ليطيعوها! لذلك اتخذ الله الكلمة الأزلي إنسانية كاملة ليعيش بيننا (يوحنا 1: 14). دون أن ينتقص ذلك أو يحد من طبيعته كإله حاضر في كل مكان وضابط كل شيء؛ ودون أن تُغيّر أو تطمس الطبيعة الإلهيّة من الصفات الإنسانية الكاملة له. ففي ذات اللحظة التي كان يسير فيها المسيح على أرضنا، يخبرنا الإنجيل، أنه كان أيضاً في سماه (يوحنا 3: 13) كائناً في صورة الله (أفسس 2: 6) يدير دفة الكون! يا له من أمر تعجز حقاً عقولنا عن حصره وتخيله؛ هذا لأننا نتحدث عن الله الذي ليس له مثيل، وتعجز عقولنا المحدودة عن إدراكه.
وقد جاء المسيح الكلمة الأزلي ليقدم لنا الإعلان الأكمل والأعظم والأخير عمن هو الله، ويكشف عن أمجاده وأسراره وخططه الصالحة لأجلنا (العبرانيين 1: 1). فالله لم يعرفه البشر بالعقل؛ لأنه لو كان بإمكاننا أن نصل لله بالعقل، فلماذا كان الاحتياج إذاً لوحي يوحى وإعلانات تعطى؟ لقد نزل من السماء واقترب منا وعاش حياتنا، واجتاز في ذات ما نجتاز فيه، ليتحد بنا، ويشعر بمعاناتنا، ليعيننا نحن المجربين اليوم (العبرانيين 2: 14-18)! شابهنا نحن البشر في كل شيء ما عدا المعصية.
إن الخبر السار لنا اليوم هو أن الله المتسامي العلي، أقترب منا وعاش بيننا؛ وأعلن لنا عن ذاته حقاً. لنفرح بهذا الحق، ولنعِش حياتنا في نور ذاك الذي أحبنا، وأقترب منا، وبذل نفسه لأجلنا. ولنُخبر الآخرين بهذا الحق الثمين أن الكلمة صار بشراً وسكن بيننا ورأينا مجده مجداً!