شهادة الروح القدس عن بنويَّتنا

تعريف

يشهد الروح القدس عن بنوَّة المؤمنين من خلال إعطائهم لمحة عن ميراث الخليقة الجديدة، ومن خلال إقناع قلوبهم بوعود الكتاب المقدَّس بالتبنِّي، وخاصَّةً من خلال الشهادة جنبًا إلى جنب مع شهادة المؤمنين أنفسهم بأنَّهم أبناء الله.

موجَز

إنَّ البنوَّة هي هبة يكتسب بها المؤمنون حقوقًا في ميراث الخليقة الجديدة. ويشهد الروح القدس عن بنوَّة المؤمنين بشكل جزئيٍّ من خلال عمله العامِّ في تزويد المؤمنين بلمحة عن الخيرات الآتية. كذلك يشهد الروح أيضًا من خلال عمله العامِّ لتفعيل كلمة الله، لأنَّه بهذا العمل يؤكِّد وعود الكتاب المقدَّس بالتبنِّي في قلوب المؤمنين. ولكن يشهد الروح القدس عن بنوَّة المؤمنين بشكل خاصٍّ من خلال الشهادة مع أرواح المؤمنين بأنَّهم أبناء الله (رومية 8: 16). يشهد المؤمنون أنفسهم عن بنوَّتهم عندما يصرخون “يَا أَبَا الآبُ”، ويضيف الروح شهادته الخاصَّة والأفضل، من خلال الشهادة مع صراخهم.


إنَّ شهادة الروح القدس عن بنوَّة المؤمنين هي حقيقة جميلة، ولكن يسهل تجاهلها. تتحدَّث آية واحدة فقط من الكتاب المقدَّس صراحةً عن هذا العمل للروح القدس (رومية 8: 16)، وغالبًا ما تشمل تعاليم عقائديَّة ذات الصلة، مثل طبيعة التبنِّي وضمان الخلاص. لكنَّ شهادة الروح لبنويَّتنا تستحقُّ الدراسة بحدِّ ذاتها. نقوم بذلك هنا أوَّلاً من خلال التفكير في حقيقتين عامَّتين عن الروح القدس وخدمته، كخلفيَّة مهمَّة لموضوعنا. ثمَّ ننتقل إلى رومية 8 ونرى ما يعلِّم به بولس عن شهادة الروح القدس.

روح الدهر الآتي

أحد الأشياء الرائعة التي يكشفها الكتاب المقدَّس عن الروح القدس هو أنَّه روح الدهر الآتي. إنَّه يأتي من السماء وهكذا يكشف ويخدم حياة الخليقة الجديدة الآتية. بما أنَّ بنويَّتنا كأبناء هي هبة للخليقة الجديدة (أو الأخرويَّة)، فإنَّ هذه الحقيقة تستحقُّ تفكيرنا.

في العهد القديم، كان الوعد بالروح هو وعد الأيَّام الأخيرة التي سيأتي فيها المسيَّا. وكيف سيتعرَّف الناس على مسيحهم؟ سيعرفونه عن طريق الروح الذي باركه وأعطاه القوَّة. لقد شرح إشعياء هذا الموضوع بشكل خاصٍّ. الغصن الآتي سيطهِّر أورشليم بروح القضاء والإحراق (إشعياء 4: 2-4)، وسوف يحلُّ روح الربِّ على الغصن الذي ينبت من جذع يسَّى (11: 1-2)، وسيضع الله روحه على عبده المختار (42: 1) فيقول المسيح: “رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ” (61: 1). وبالتبعيَّة، فلقد كان للروح دور فعَّال في الحَبَل بالمسيح (لوقا 1: 35)، وفي المعموديَّة (متَّى 3: 16)، وفي المعجزات (مرقس 1: 34)، وفي الصلب (عبرانيِّين 9: 14)، وفي القيامة (رومية 1: 4). لقد كان وجود الروح القدس علامة على وصول ملكوت الله (متَّى 12: 28). وفي ضوء كلِّ هذا، نجد أنَّه من المدهش أنَّ الآب قد منح الروح ليسوع عندما رفعه عن يمينه (أعمال الرسل 2: 33). لقد قوَّى الروح يسوع في عمله في أثناء حالة تواضعه، ولكن الآن، بعد أن أنهى هذا العمل، قبِلَ يسوع الروح بطريقة أعظم، باعتباره الإله-الإنسان الممجَّد. ثمَّ سكب يسوع نفس الروح على شعبه (أعمال الرسل 2: 33).

لذلك ليس من الغريب أنَّ الروح القدس هو عطيَّة سماويَّة لنا. وأولئك الذين يسكن فيهم الروح القدس يتمتَّعون بتذوُّق للخليقة الجديدة. إنَّ الروح القدس هو ختم الله وعربون مضمون (دفعة أولى) للخيرات القادمة (2 كورنثوس 1: 22؛ 5: 5؛ أفسس 1: 13-14؛ 4: 30). والروح القدس هو باكورة حصاد أعظم (رومية 8: 23)، لأنَّ الروح نفسه الذي أقام المسيح سيقيمنا عند مجيئه الثاني (رومية 8: 11؛ 1 كورنثوس 15: 42-45).

هذا مرتبط بشهادة الروح القدس لبنويَّتنا، لأنَّ تبنِّينا هو في حدِّ ذاته نعمة للخليقة الجديدة. يوضِّح بولس أنَّه بسبب بنوَّة المؤمنين فإنَّهم ورثة (رومية 8: 17؛ غلاطيَّة 4: 7). هذا السياق يشير بشكل خاصٍّ إلى ميراث الخليقة السماويَّة الجديدة (رومية 8: 17-18، 21، 23). إنَّ الحصول على الأحقِّيَّة بمثل هذا الميراث يتناقض مع حالة العبوديَّة لأركان العالم الحاليِّ (غلاطيَّة 4: 3-7). لذلك، إن كان التبنِّي نعمة للخليقة الجديدة، وإن كان الروح القدس هو روح الخليقة الجديدة، فإنَّ الروح القدس مناسب بشكل مثاليٍّ للشهادة لبنويَّتنا. إنَّ الشهادة لبنويَّتنا، وختمنا، وضماننا، وكوننا باكورة، كلُّها جوانب من عمل الروح القدس الرائع في إعطاء المؤمنين لمحة مسبَّقة عن الأشياء الجيِّدة القادمة.

كلمة وروح

إنَّ الحقيقة العامَّة الثانية الهامَّة لفهم شهادة الروح القدس لبنويَّتنا هي أنَّ كلمة الله وروحه في أعمق علاقة معًا. فمن ناحية، تعتمد الكلمة على الروح القدس. إنَّ الكلمة قويَّة (على سبيل المثال، إرميا 23: 29؛ عبرانيِّين 4: 12)، لكنَّ الروح هو الذي يجعلها فعَّالة. بينما يسمع كلٌّ من المؤمنين وغير المؤمنين الكلمة، فإنَّ الروح يرافق الكلمة عندما يتعلَّق الأمر بالمؤمنين، وهذا يميِّزهم عن الآخرين (على سبيل المثال، 1 تسالونيكي 1: 5). ومن ناحية أخرى، يعمل الروح عادةً من خلال الكلمة (الروح أيضًا يعمل من خلال الأسرار، على الرغم من أنَّني لن أناقش ذلك هنا). فكِّر في التجديد. إنَّه بركة جوهريَّة من الروح القدس، واقع داخليٌّ وسرِّيٌّ وغامض (يوحنَّا 3: 5-8). ومع ذلك، فإنَّ الروح لا يعمل في هذا الأمر مستقلاًّ عن الكلمة، ولكن من خلال الكلمة: لقد ولدنا الله “بِكَلِمَةِ الْحَقِّ” (يعقوب 1: 18) ونحن قد وُلدنا ثانية “بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ” (1 بطرس 1: 23).

تشير هذه الحقائق إلى أنَّ شهادة الروح القدس لبنويَّتنا تأتي -على الأقلِّ في جزء مهمٍّ منها- من خلال الكتاب المقدَّس نفسه. تصف العديد من النصوص الكتابيَّة بنويَّتنا لله وبركات ذلك المختلفة (على سبيل المثال، يوحنَّا 1: 12؛ رومية 8: 14-17؛ غلاطيَّة 4: 4-7؛ عبرانيِّين 12: 3-17)، ويطبع الروح القدس تأثير هذه الكلمات في قلوب المؤمنين لراحتهم وبنيانهم. إنَّ هذا يستدعي التأكيد في مواجهة سوء الفهم المحتمل. فقبل وقت قصير من إشارة بولس صراحةً إلى شهادة الروح القدس، قال إنَّ أولئك الذين “يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ” هم أبناء الله (رومية 8: 14). أخشى أنَّ العديد من المؤمنين اليوم يفهمون هذه الآية على أنَّها تعليم قيادة سرِّيَّة للروح القدس يتواصل من خلالها بصمت أو بصوت هادئ أو بإثارة ميول أو حدس غامض. لكنَّنا في الحقيقة لا يجب أن نتساءل أين أو كيف “نسمع” الروح القدس إذ يرشدنا أو يعزِّينا أو يضمننا. إنَّ العديد من “الكلمات” الثمينة التي يشهد بها الروح القدس لبنويَّتنا هي الكلمات التي نقرأها في نصِّ الكتاب المقدَّس.

سياق رومية 8: 16

ولكن لا يزال هناك المزيد لنقوله عن شهادة الروح القدس لبنويَّتنا. يكتب بولس في رومية 8: 16: “اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ”. دعونا أوَّلاً نفكِّر في سياق هذه العبارة قبل أن ننتقل إلى رومية 8: 16 نفسه.

لقد تحدَّث بولس بإسهاب عن الروح القدس في الآيات السابقة. فالمؤمنون يسيرون بالروح (8: 4)، ويهتمُّون بأمور الروح (8: 5)، كما أنَّ اهتمام الروح هو حياة وسلام (8: 6). فلا ينتمي المؤمنون إلى “الجسد” وبالتالي لا يقدرون على إرضاء الله (8: 7-9). لكن عوضًا عن ذلك هم من الروح، وإلاَّ فهم لا ينتمون إلى المسيح على الإطلاق (8: 9). إنَّ الروح القدس هو الذي يمنحهم الحياة، على الرغم من موت أجسادهم الحالية (8: 10-11). لذلك، فإنَّ المؤمنين ملزمون بقتل أعمال الجسد الشرِّيرة بالروح القدس (8: 12-13).

وبينما يتابع بولس هذه التعليمات الغنيَّة، يقول إنَّ أولئك الذين ينقادون بالروح هم أبناء الله (8: 14). تستخدم العديد من الترجمات الإنجليزيَّة الحديثة كلمة “أطفال” بدلاً من “أبناء”، ربَّما لتجنُّب جعل بولس يبدو متحيِّزًا جنسيًّا وقديمًا. لكنَّ استخدام بولس “للأبناء” هو في الواقع نقيض التحيُّز ضدَّ المرأة. ففي أيَّامه، كان الذكور هم الذين يرثون. وهكذا، من خلال دعوة القرَّاء من الذكور والإناث على حدٍّ سواء “أبناء”، يعلِّم بولس أنَّ كلاًّ من المؤمنين والمؤمنات هم ورثة الميراث السماويِّ.

ثمَّ يشرح بولس طبيعة تبنِّينا كأبناء. لا ينال المؤمنون روح العبوديَّة مرَّة أخرى ليخافوا (8: 15). من المنطقيِّ أنَّ حالتهم السابقة كانت عبوديَّة الخوف، لأنَّ بولس كان قد قال قبل ذلك مباشرةً إنَّ أولئك الذين هم خارج المسيح مقدَّر لهم الموت (8: 13). ولكن الآن، بدلاً من ذلك، نال المؤمنون روح التبنِّي، وبهذا الروح نصرخ “يَا أَبَا الآبُ” (8: 15). في هذه المرحلة، وصل بولس إلى عبارته ذات الأهمِّيَّة الخاصَّة لنا.

رومية 8:16 وشهادة الروح

في المرَّة الوحيدة التي تحدَّث فيها بولس مباشرةً عن شهادة الروح، قال إنَّ الروح القدس في الواقع يشترك في الشهادة. كما كتب في الآية التالية أنَّ المؤمنين يجب أن يتألَّموا مع المسيح الآن لكي يتمجَّدوا معه يومًا ما (8: 17)، لذلك يقول هنا إنَّ الروح القدس يشهد لأرواحنا (8: 16). وهكذا يشير بولس إلى أنَّ أرواحنا تشهد على بنويَّتنا.

كيف يفعلون هذا؟ على ما يبدو بالصراخ “يَا أَبَا الآبُ”. من الرائع التفكير في هذا. إحدى الفوائد العظيمة لخلاصنا هي أنَّ الله قد أصبح أبانا، ليس بالمعنى العامِّ إذ إنَّه هو من أوجدنا إلى الوجود، ولكن بطريقة شخصيَّة وحميمة. أحد المواضيع الرئيسيَّة التي تحدَّث عنها بولس في وقت سابق في رسالة رومية هو أنَّنا نخلص بالإيمان. وفي الأساس، فإنَّ الإيمان المخلِّص ينظر إلى الله بثقة باعتباره الشخص الذي يفي بكلِّ وعوده. على سبيل المثال، وصف بولس إيمان إبراهيم بهذه الطريقة: “وَلاَ بِعَدَمِ إِيمَانٍ ارْتَابَ فِي وَعْدِ اللهِ، بَلْ تَقَوَّى بِالإِيمَانِ مُعْطِيًا مَجْدًا للهِ. وَتَيَقَّنَ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضًا” (4: 20-21). وتبعًا لطبيعتهم الجديدة، يصرخ المسيحيُّون بإيمان بجرأة إلى الله كأب محبٍّ لهم، طالبين مساعدته في ضعفهم، يومًا بعد يوم ولحظة بعد لحظة. وهذا النوع من الصلاة يشهد على بنويَّتنا، لأنَّ أولئك الذين تمَّ تبنِّيهم من قِبَل المسيح هم فقط الذين يستطيعون الصلاة بهذه الطريقة.

هذا رائع، فنحن نعلم من كلٍّ من الحياة العاديَّة والكتاب المقدَّس (تثنية 19: 15) أنَّ وجود شاهد واحد فقط لشيء ما يترك الأمور موضع شكٍّ. وهذا أكثر صحَّة خصوصًا عندما يكون هذا الشاهد الواحد هو أنفسنا الضعيفة الخاطئة! وبالتالي نشكر الله لأنَّ الروح القدس أضاف شهادته كشهادة ثانية وكشهادة أعظم. إنَّه يشترك في الشهادة مع أرواحنا. إذًا، هو لا يشهد لنا مباشرةً، بل هو شاهد إلى جانب شهادتنا. إنَّه يشهد لبنويَّتنا ليس بالحديث إلينا بل بالحديث معنا. وكما أوضح بولس بعد ذلك بقليل، فإنَّنا في كثير من الأحيان لا نعرف حتَّى كيف يجب أن نصلِّي، لكنَّ الروح يشفع فينا [من أجلنا] بأنَّات لا ينطق بها [غير معلن عنها] (رومية 8: 26). فنحن نصلِّي بطريقة معيَّنة، وهذا يشهد على بنويَّتنا. يصلِّي الروح معنا ومن أجلنا، ويفعل ذلك بطريقة أفضل بكثير، لأنَّه يصلِّي “بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ” (8: 27). ويمكننا أن نثق بأنَّ شهادته هي أيضًا أعظم من شهادتنا بما لا يقاس.

خُلاصة

توجد خدمات متعدِّدة الأوجه يقدِّمها الروح القدس للمؤمنين، والتي تربطهم بالمسيح وتوفِّر تعزية كبيرة في كلِّ التجارب. فهو يجدِّد ويختم ويقدِّس ويضمن ويشفع. إنَّه يؤكِّد كلَّ حقيقة معلن عنها في الكتاب المقدَّس. إنَّ شهادة الروح لبنويَّتنا هي جزء عميق وشخصيٌّ وثمين من هذا العمل. ومن خلال التصديق على وعود الكتاب المقدَّس بالتبنِّي وبالشهادة جنبًا إلى جنب مع أرواحنا الخاصَّة، فإنَّ الروح القدس يقوِّي تأكُّدنا من ميراثنا الأخرويِّ.

شارك مع أصدقائك

حاصل على درجتيّ الدكتوراه في القانون، كلية الحقوق بجامعة نورث وسترن؛ وأخرى من جامعة لويولا شيكاغو. هو أستاذ علم الأخلاق المسيحية في كلية وستمنستر كاليفورنيا للاهوت.