شعرت بشيء من التردد عندما شرعت لمناقشة قضية “الكالڤينيون الغاضبون“.
فأنا نفسي كالڤيني إنجيلي، لكني لا أشعر شخصيًا بالغضب. كما أن الكثير والكثير من أصدقائي اللاهوتيين وأساتذتي الكالڤينيين ممن أعتبرهم قدوة روحية، لم يكونوا أبدًا متعصبين أو غاضبين. فالأمر يبدو وكأنه صورة نمطية مغلوطة في أذهان البعض. فإذا قرأ عشرة آلاف شخص منشور ما، وكتب اثنان فقط من الكالڤينيين غريبي الأطوار عددًا من التعليقات الغاضبة اللاذعة، فسيعمم الحكم بأن هذا دومًا هو حال الكالڤينيين الغاضبين.
على الجانب الآخر، فحتى لو كتب أحد الكالڤينين بقلب متواضع والدموع في عينيه، ومن مُنطلق قلق حقيقي من أن موقفًا لاهوتيًا غير قويم أو خطير سيؤثر سلبًا على رسالة الإنجيل وحياة الكنيسة، فغالبًا ما يتم توصيفه في قالب ساخر، من خلال التهكم عليه بأقذع الألفاظ مثل “الحرس القديم”، “المتزمت”، “الأصولي”، “السفسطائي”، “العقلاني متبلد المشاعر”، أو “الذين لا يحبون سوى الجدل وانتقاض أصحاب العقول التنويرية.
ومن اللافت للنظر أن الكالڤينيين ليسوا وحدهم في هذا المضمار. يمكنك أن تدخل بنفسك إلى عالم المدونات لتتابع بعض المنشورات والتعليقات من أتباع الآراء اللاهوتية والفكرية الأخرى، وسترى أن كل “مدرسة لاهوتية” لديها مهووسون قد يحقروا من الآخرين، بل وستجد بينهم من يستهزأ بوقاحة وحِدة. ومع ذلك، ولأسباب مختلفة، يربط الناس الغضب والتعصب بالكالڤينيين بكل أريحية.
لكن ليس الهدف هنا محاولة التنصل من وجود مشكلة حقيقية. فالكالڤينيون الغاضبون ليسوا شخصيات خيالية لا وجود لها في الواقع. بل هم حقا موجودون بيننا، في كنائسنا وعلى صفحات التواصل الاجتماعي. وهناك سبب وراء وجود مثل هذه الصورة النمطية يستحق النقد الذاتي والتحليل الموضوعي. كمثال، أتذكر (وأنا أشعر بالخزي) إجابتي على سؤال أثناء الكلية من فتاة كانت تبكي بشأن عقيدة الاختيار وما قد يعنيه ذلك بالنسبة لأحد أقاربها، وكان ردي هو أني طلبت من كل فرد في غرفة الدراسة أن يفتح النص الكتابي في الأصحاح التاسع من رسالة رومية ليجد الإجابة. ربما اخترت النص الصحيح، ولكن بكل تأكيد كان هذا الأسلوب والتوقيت الخطأ!
هذا يقودني لتوضيح ما قصدته للتو بـصفة “الغضب”، والتي قد تنطبق بالفعل على بعض الأشخاص، ولكنها تحتاج إلى المزيد من التدبر أيضًا. ففي المثال أعلاه، لم أكن أشعر بالغضب حقًا تُجاه تلك الفتاة. لم أكن أحاول حقًا أن أتصرف بشكل أحمق. لكنني، في إجابتي على تلك الفتاة، وفي ذلك التوقيت تحديدًا، فشلت بالفعل في أن أتكلم بما كَانَ صَالِحاً لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ ٱلْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ (راجع أفسس 4: 29). هذا التوجه الغاضب هو ما نحتاج أن نتوقف عنده، ونسعى لأسلوب أكثر حكمة.
ولكن ثمة طريق يمكننا أن نسلكه يتسم بالوداعة دون المساومة في تفصيل كلمة الحق باستقامة. يمتزج فيه الجرأة في تقديم الفكر الكتابي بالتواضع والحكمة، والحساسية الراعوية التي لا تتجاهل الصراع الذي يشعر به المستمع. يمكننا تقديم الحق ونحن “صادقين في المحبة” (أفسس 4: 15)، مقدمين في التعليم نقاوة لا تشوبها شائبة، وكلامًا صحيحًا غير ملوم ليتعظم في كُلِّ شيءٍ تَعاليمَ اللهِ مُخَلِّصِنا” (تيطس١٠:٢ الترجمة العربية المشتركة). كما يعلمنا الرسول بولس في رسالة كولوسي: “لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحاً بِمِلْحٍ، لِتَعْلَمُوا كَيْفَ يَجِبُ أنْ تـُجَاوِبُوا كُلَّ وَٱحِدٍ” (كولوسي ٦:٤).
بشكل أكثر وضوحًا، غالبًا ما يكون تصنيف “الغضب” واسع جدًا، وحمال أوجه، بل ويمكن أن يخطئ الهدف. كما أوضح لي القس واللاهوتي المعروف “كيڤين دي يونج” ذلك في قوله:
بعض الكالڤينيون غاضبون ومتباهون، ولهم شخصيات قتالية بالطبيعة، وقد وجدوا ضالتهم المنشودة في الكالڤينية، لتكون طريقة جيدة جدًا للتعبير عن شعورهم بالغضب والفخر والعداء. والبعض الآخر غير ناضجين – فهم لا يفهمون صراعات الآخرين بالقدر الكافي، ولم تُليّنهم الحياة بشكل صحيح. إذ أنهم لا يرون البشر، بل الجدالات. يمكن أن تكون المجموعتان متماثلتين، ولكن ليس دائمًا.
تقودنا هذه النظرة إلى طرح سؤالين عامين: أولًا: ما هي الأسباب الحقيقية وراء تبني هذا الموقف أو ذاك؟ وثانيًا: ما الذي يمكن فعله لتصحيح هذه النظرة غير المتوازنة؟
قدم القس چون پايپر ذات مرة بعض الأفكار حول سبب ميل الكالڤينيين أحيانًا إلى أن التصرف بشكل سلبي:
أحب عقائد النعمة من كل قلبي، وأعتقد أنها عقائد تُحطم الكبرياء، وتقود للاتضاع، وتلهب القلوب بالمحبة. لكنني أعتقد أنها جاذبة للبعض، بسبب تشددهم الفكري. فهي عقائد متماسكة بقوة، الأمر الذي يجتذب نوعيات معينة من المفكرين. وغالبًا ما تميل مثل تلك العقليات بطبعها للجدل.
لذا فإن الفكر الكالڤيني يجتذب نوعًا معينًا من الأشخاص المثقفين، ليسوا هم الأكثر عطفًا، وحنانًا. لذلك فهم معرضون أكثر من غيرهم ليكون منهم العدائي، أو الفظ الخشن غير الحساس، أو متبلد الشعور، أو شديد العقلانية الذي لا يعطي اهتمامًا كافيًا للمشاعر.
أعترف وأقول، أنه لأمر محزن وفظيع أن يكون هذا هو الحال. بل اعتقد أن بعضًا من هؤلاء ليسوا حتى مؤمنين حقيقيين. إذ يمكنك تبني نظام لاهوتي دون أن تكون قد ولدت من فوق.
ويضيف القس چون پايپر فيقول:
سبب آخر للنظرة السلبية عن الكالڤينيين، هو أنه عندما يتمكن الشخص من رؤية عقيدة النعمة في الكتاب المقدس، فإنه غالبًا ما يتعجب من أن مثل هذه العقائد الثمينة قد فاتته، وقد يتسبب ذلك في غضبه أحيانًا. يغضب بسبب أنه نشأ في كنيسة أو بيت مسيحي لم يتحدث فيه أحدًا عما هو موجود بالفعل في أصحاحات مثل رومية 8، وكورنثوس الأولى 2، وأفسس 2. لم يتحدث عن ذلك مطلقًا – وكل من مر على هذه النصوص مر مرور الكرام – فيستشيط غضبًا لأنه تم تضليله فترة طويلة.
هذا أيضًا أمر محزن: فالتعليم موجود بالفعل، وحقيقي. لكن الكنيسة خذلته ولم تتطرق لهذا التعليم، وهناك آلاف الكنائس التي تتجاهل الحق ولا تعلمه. والآن عليه أن يواجه هذه الحقيقة المؤلمة.
سبب آخر للنظر إلى الكالفينيين على أنهم سلبيون هو أنهم يحاولون إقناع الآخرين بصحة ما يؤمنون به.
فإذا منح الله أحد نعمة أن يتواضع ويرى الحق، وكانت العقيدة حلوة لنفسه ومشبعة لقلبه، فانكسر كبريائه وانفضح بره الذاتي، إذ أدرك أن اختياره من قبل الله لم يكن لشيء صالح فيه. لقد حدثت له صحوة من غفلة الموت، كمن كان راقدًا في قاع بحيرة، وامتدت يد الله، على حساب حياة ابنه، ليصعده من القاع، ويقوم بإنعاش قلبه، فيعيده إلى الحياة بمعجزة، وليقف على الشاطئ مبتهج بنعمة الله – أيعقل أن يظل صامتًا حيال ذلك، أم يبذل قصارى جهده لإقناع الآخرين بإيمانه؟
هل يريد الكالڤينيون أن يجعلوا كل شخص آخر كالفينيًا؟ بالتأكيد نفعل! لكن الأمر لا يتعلق بكوننا نظن أننا النخبة؛ علية القوم. لكن لكون المسيح وجدنا وفتح عيون أذهاننا على روعة مجده، وجلال بهاءه. فالأمر يتعلق أولًا وأخيرًا بحقيقة مجد الله في عمله الخلاصي والفدائي، واعترافنا بالفضل والامتنان لسيادة الله. ذلك الإله الذي نود أن نمجده بكل ذواتنا معترفين له بالفضل، ولسيادة وقيمة نعمته العاملة في حياتنا. كيف لا نود مشاركة هذه الحقائق المباركة مع الآخرين؟
إذا كان يُنظر إليه على أنه نخبوي، فهذا يرجع جزئيًا إلى خطايانا في الطريقة التي نتعامل بها، وكذاك إلى عدم رغبة الناس في رؤية ما هو موجود بالفعل في الكتاب المقدس.
في حوار أجراه د. إد ستيتز مع چو ثورن عبر البريد الإلكتروني عن ذات القضية حول الكالڤيني الغاضب. يقدم چو ثورن بعض التحليلات الذكية ويقدم أربع مقترحات جيدة، فيقول:
أولاً، أعتقد أنه من المفيد أن يأتي المزيد من التصحيح من داخل التيار الكالڤيني نفسه. لا أقصد القول بأن النقد سيكون غير مناسب إن لم يكن ذاتيًا. وإنما علينا ككنيسة أن نكون قادرين على تصحيح بعضنا البعض على اختلاف طوائفنا وانتماءاتنا اللاهوتية. لكن، لنكن أكثر انتقادًا لأنفسنا. وأعتقد أن معالجة مشاكلنا الخاصة من داخلنا ستثبت بشكل عام أنها مفيدة أكثر.
ثانيًا، عند التعامل مع قضية “هؤلاء الكالڤينيين الغاضبين” نحتاج إلى توخي الحذر وعدم جعل العقيدة الكالڤينية الكتابيّة هي محل نزاعنا. الأمر لا يتعلق الكالڤينية. لكن الأمر يرجع إلى السلبية، والكبرياء، والإدانة، وهي أمور لا تتعلق بمبادئ النعمة، بل بقلب الإنسان. لذلك، عندما نرى مثل هذه الأشياء تصدر من بعض الكالڤينيين، يجب أن نتذكر أن هذا الموقف في الواقع على النقيض من الكالڤينية وتعليمها عن النعمة.
ثالثًا، أود أن أشجع المؤمنين على أن يكونوا مثال وقدوة بطريقة فعالة. سواء كنت كالفينيًا أم لا، فإننا مدعوون لتقديم مثال على المحبة التي تصبر وتحتمل رد الفعل غير المرغوب فيه. كما أننا مدعوون للتمييز الروحي الذي لا يفترض أسوأ ما في كلمات الآخر، وللأخوة المبنية على وحدتنا في حق الإنجيل لا إلى التحزب والانقسام غير الضروري. سوف ينتهي بنا الأمر حينها أن يكون لدينا تأثير أكبر في المجتمع المسيحي بدلاً من التراشق وإلقاء التهم.
رابعًا، أود أن أشجع الآخرين على عدم الانخراط مع الكارهين. فهناك مدونات لا أقرأها لأنها غير مفيدة روحياً. يدفعني بعض الناس لفحص نفسي والنظر إلى الرب يسوع والنمو في النعمة. لكن كل ما يفعله الكارهون هو فقط إثارة الغضب. في كثير من الأحيان يكون هذا الغضب إثمًا، أو حتى برًا ذاتيًا. بل وربما أصبح أنا نفسي ذلك الكالڤيني الغاضب الذي أختلف معه. ولكن حقا، الكارهون ليسوا هم أصل المشكلة، أنا وقلبي أصل المشكلة. لذلك، تعلمت الابتعاد عن أماكن معينة على الإنترنت. أود أن أشجع الآخرين على عدم إشراك الأشخاص أو الشخصيات التي لا تبني، بل بالأحرى تبث الكراهية.
انطلاقًا من النقطة الأخيرة، أود أن أضيف نقطة أخرى يقولها تيموثي كِلَر في كتابه “مثل الابنين الضالين” في لوقا 15 :28: “لم يكن يسوع فريسيًا تُجاه الفريسيين، ولا معتدًا ببره الذاتي تُجاه أصحاب البر الذاتي. ويجب علينا نحن أيضًا ألا نكون كذلك. فهو يحب ليس فقط المتحررون والضالون، وإنما أيضًا المتدينون المتشددون.
أعتقد أنه يمكننا جميعًا العمل بجدية أكبر، فليس أمامنا سوى خيار وحيد أن نكون “صادقين في المحبة”.