البعض يعتقد أن الله قد وضع خطة رائعة للعالم، لكن الأمور لم تسر على نحو جيد، ولذلك كان الله مضطرًا للجوء إلى مبادرة مكلفة لحل الأزمة. لكن هذا ليس ما يعلّمه الكتاب المقدس.
فإن الله ليس كالحكومات التي تبدي ردود أفعال تجاه ظروف لم تكن معروفة مسبقًا لها، أو التي تجري تغييرات لأجل عواقب لم تكن في الحسبان. وهو أيضًا ليس عالمًا يجري تجارب ليرى هل سينجح عمله أم لا، أو رجل أعمال ينجح من خلال ابتكار أفكار جديدة تلائم الاحتياجات الناشئة.
فلطالما انطوت خطة الله على اقتياد الخطاة إلى الحياة الأبدية بالمسيح. فقد وعد الله بالحياة الأبدية “قَبْلَ الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَ كَلِمَتَهُ فِي أَوْقَاتِهَا الْخَاصَّةِ” (تيطس ١: ٢-٣). فهو قد رأى قبل أن يخلق العالم الفرح الذي كان عتيدًا أن ينتج عن فداء مجموعة ضخمة من الخطاة من جميع ظروف الحياة، ومن جميع قارات العالم، ومن كل جيل من أجيال التاريخ. ومع علمه بكلفة هذا الفداء، عزم على تنفيذه.
ولهذا السبب يصف الكتاب المقدس المسيح بأنه “مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ … الْخَرُوفِ الَّذِي ذُبِحَ” (رؤيا ١٣: ٨). فإن موت المسيح على الصليب لم يكن شيئًا ابتدعه الله كرد فعل على انتصار إبليس في جنة عدن، كما لم يكن أيضًا الملاذ الأخير الذي لجأ إليه حين تأكد من عجز البشر عن السلوك بمقتضى العشر وصايا. لكن كان فداء الخطاة من كل الأمم بواسطة يسوع المسيح هو خطة الله منذ البدء.
وتختلف خطة الله اختلافًا شاسعًا عن خططنا نحن. فحين أقول: “سألاقيك يوم الثلاثاء القادم لنتناول طعام الإفطار معًا”، فأنا أعني بهذا: “مع افتراض أني كنت لا أزال على قيد الحياة، وأني وجدت وسيلة انتقال، ولم تواجهني أية حالة طارئة أخرى، وكان المطعم مفتوحًا ويقدم وجبة الإفطار، ففي هذه الحالة سألاقيك يوم الثلاثاء”.
إن خططنا مشروطة. فهي تعتمد على ما ستسفر عنه الأحداث، وعلى قدرتنا على تحقيق هذه الخطة. فإن الكثير من الأشياء في هذه الحياة تقع خارج نطاق تحكمنا.
وفي المقابل الله صاحب السيادة المطلقة. وهو يتمم خطته في حينه بقوته وسلطانه، ولا أحد يستطيع إيقافه أو منعه. فهو يعلم تمامًا ما يفعله في كل مرحلة من مراحل التاريخ، وفي كل أمة من أمم العالم، ومن خلال كل حدث في حياتك.
هذا من شأنه أن يجلب لك تعزية كبيرة. إذ لا شيء قد فعلته يومًا أخذ الله على حين غرة. ولا شيء وقع لك كان بمثابة مفاجأة له. فلا شيء تفعله أو يحدث لك من شأنه أن يوقف الله عن تتميم خطته أو حتى يبطئ خطواته. هذا هو ما يعنيه أن يكون الله صاحب السيادة المطلقة.
يعلم الله ما يفعله تمام العلم. ويمكنك أن تتمتع باليقين من جرّاء معرفتك بأن أحداث حياتك لا تدور خارج مدار تحكم الله، ولا تتحدّد بمحض الصدفة، لكنها في يدي الله، الذي يخطط لأجلك في محبة. فإن المؤمنين يجدون فرحهم في معرفتهم بأن خطة الله ستسفر عن أعظم استعلان ممكن لمجده وأعظم فرح ممكن لشعبه.
أدعوك للانضمام لي فيما يلي في جولة موجزة وسريعة عبر سير أحداث قصة الكتاب المقدس، حيث يعلن الله روعة قصده المذهل والأخّاذ، والذي يمتد من الأزل مرورًا بأزمنة التاريخ البشريّ ووصولاً إلى الأبديّة.
وسنبدأ جولتنا هذه من العهد القديم حيث يضع الله الرسوم الأوليّة لخطته. ثم سنذهب إلى الأناجيل لنرى كيف أتمّ يسوع المسيح كل ما يلزم لأجل تحقيق هذه الخطّة. وأخيرًا سوف ننظر إلى رسائل العهد الجديد ونبتهج من تسليم الروح القدس لكل ما وعد به الله وكل ما أتمّه المسيح إلى حياة كل شعب الله.
الله يقطع وعدًا: قصة العهد القديم
يكشف الله تدريجيًا عن خطته من خلال سبع مبادرات تمتلئ بوعود قطعها لكل شعبه:
الخلق:
“فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ” (تكوين ١: ١). لا تحاول تخيّل هذا. فهو يكاد يكون مستحيلاً! لكن قبل هذا الخلق لم يكن هناك سوى الله. والله قد خلق كل شيء وكل شيء له. “لِلرَّبِّ الأَرْضُ وَمِلْؤُهَا. الْمَسْكُونَةُ، وَكُلُّ السَّاكِنِينَ فِيهَا” (مزمور ٢٤: ١).
والآن، الق معي نظرة فاحصة على ما خلقه الله اليوم. انظر إلى السماء، فهي تحدّث بعمل يدي الله. واصغ إلى الطيور، فهي تشهد عن عناية الله الرائعة بها. كل رقاقة ثلج تشهد عن عظمته وجلاله. وكل إشراقة شمس تحدّث بأمانته. “اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ…لاَ قَوْلَ وَلاَ كَلاَمَ. لاَ يُسْمَعُ صَوْتُهُمْ” (مزمور ١٩: ١-٣).
فإن الخليقة ككل تعكس مجد الله، لكن حين خلق الله الرجل الأول والمرأة الأولى قام بشيء ما له نظام وترتيب مختلف، لأنه قال: “نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ” (تكوين ١: ٢٦).
فقد خلق الله الرجل والمرأة على صورته. وهذا هو السبب وراء اختلافك عن النباتات، والحيوانات، والأسماك، والطيور. فإن جميعها مخلوقات خلقها الله، لكن البشر وحدهم هم من خُلقوا على مثال الله. وهذا يضفي على الحياة الإنسانيّة قيمة فريدة.
فقد اختار الله أن يوجدك. ولم ولن يخلق مثيلاً لك. ولهذا أنت لست صدفة، وليست حياتك وليدة العشوائيّة. لكنك الله هو من خلقك، وقد خُلقت له. والغرض النهائيّ لحياتك هو أن تعكس صورة فريدة عن يسوع المسيح. فأنت قد خلقت كي تمجد الله وكي تتمتع به إلى الأبد.
إذن ما الذي يعد به الله هنا؟ يعد الله بأن يهب حياة لأناس سيعكسون مجده.
لا يقدم الكتاب المقدس تفسيرًا وافيًا لأصل الشر، لكنه يخبرنا ببساطة بأن الله وضع الرجل والمرأة في جنة حيث كان كل شيء حسنًا. فقد كان طعامهما متوفرًا على الأشجار، وكان عملهما مجديًا، واتحادهما وفرحهما في الزواج كاملاً. كما أنهما اختبرا شركة مع الله، الذي كان يظهر لهما ويتمشى معهما في الجنة.
وكان هناك في الجنة شجرة تدعى “شجرة معرفة الخير والشر”، نهى الله آدم وحواء عن الأكل منها (تكوين ٢: ١٧). وبما أن الخير كان هو كل ما عرفه آدم وحواء حتى تلك اللحظة، فإن الشيء الوحيد الذي كانا سيجنيانه بالتالي من عصيانهما لله هو معرفة الشر.
ثم جاءت الحية تغويهما بمعرفة الشر، وكان هذا هو ما اختاراه. فبعصيان آدم وحواء لله، نالا معرفة بالشر، ومنذ ذلك الحين علقنا جميعنا معهما في هذا. لكن الله أخذ زمام المبادرة وقطع وعدًا آخر.
الإهلاك:
قال الله للحية: “مَلْعُونَةٌ أَنْتِ” (تكوين ٣: ١٤)، وكان النطق باللعنة هذا يعني التعيين للهلاك. فقد كان الله يقول للحية: “ما فعلتِه لن يدوم، فإنك ستهلكين، وكل ما يمت بصلة للشر سيهلك معك”. فإن نطق الله بلعنة على الحية يفتح أمامنا باب الرجاء.
ثم قال الله لآدم: “مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ” (تكوين ٣: ١٧). لكن الأرض لم ترتكب أي خطأ! لقد استحق آدم اللعنة بسبب خطيته، لكن الله حول مسار اللعنة من الرجل والمرأة موجهًا إياها إلى الأرض، حتى لا يهلكهما مع الحية بل يصالحهما لنفسه.
إذن ما الذي يعد به الله هنا؟ يعد الله بالقضاء على الشر وتخليص العالم من لعنته.
وكيف لهذا أن يحدث؟ قال الله للشرير: “وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ” (تكوين ٣: ١٥).
ووفقًا لهذا، سيظل الجنس البشري في صراع دائم مع الشر. وقد ثبتت صحة هذا عمليًا لدى كل إنسان في كل مجتمع ومكان وفي كل جيل. لكن الله هنا كان يتحدث عن نسل واحد، أي شخص ما سيدخل سلسلة نسل التاريخ الإنسانيّ، مولودًا من امرأة. هذا النسل سيقف إلى جانبنا. ويساندنا في هذا الصراع المرير، ويمثّلنا ضد كل قوى الشر. حقًا سيسحق إبليس عقبه، لكن فيما تقضم الحية عقبه، سيسحق مخلصنا رأسها.
وتواصلت حياة آدم وحواء خارج جنة عدن. فقد أنقذتهم نعمة الله من دينونة فوريّة، ومنحتهم رجاء في استرداد سيأتي في النهاية، لكنهما سرعان ما اكتشفا أن الشر الذي أطلق عصيانهما العنان له قد أسفر عن تغييرات مدمّرة فيهما ومن حولهما.
وسرعان ما تمزّقت العائلة البشريّة الأولى حين قتل قايين أخاه هابيل، ثم أمضى بقية حياته خائفًا من أن يُنتقَم منه لأجل فعلته (تكوين ٤). وهكذا أثبتت معرفة الشر أنه يصحبها حقّاً ديناً لابد من سداده. فقد فصلت بالفعل الرجل والمرأة عن الله. وهي الآن قد مزّقت العائلة.
وفيما ازدادت وطأة العنف، اجتمع البشر معًا ليبنوا مدينة، آملين في إيجاد حل عن طريق الأمن الجماعيّ (تكوين ١١). لكن ما ابتدأ بأمل كبير انتهى بخيبة الأمل حين تبدّد هؤلاء إلى الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب، مدفوعين بخوفهم يفرقهم اختلاف اللغة.
ثم من بين جميع عشائر وأمم العالم التي كانت قد نشأت، اختار الله رجلاً واحدًا.
الاختيار:
“أُبَارِكَكَ … وَتَكُونَ بَرَكَةً… وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ” (تكوين ١٢: ٢-٣). لم يكن إبراهيم يعرف شيئًا عن الله على الإطلاق. فقد كان عابد آلهة أخرى، يحيا في ظلمة روحيّة تامة (يشوع ٢٤: ٢). لكن الله اجتاح حياته دون أن يتلقى دعوة منه وغيّره إلى الأبد.
فإن انتظر الله أن نسعى في طلبه، فربما كان سيظل منتظرًا حتى هذه اللحظة. فليس من يطلب الله (رومية ٣: ١١). ليس ولا واحد! فإننا بالطبيعة نهرب من الله. لكن إن كنا قد طلبناه وبحثنا عنه، فهذا سيكون لأنه هو من أخذ زمام المبادرة كي يطلبنا ويجتذبنا إليه.
وقد أظهر الله لإبراهيم أن هذا بالتحديد هو ما كان ينوي فعله في حياة أناس من كل أمة على الأرض. فهو كان على وشك أن يجمع شعبًا من كل عرق ولغة، ومن كل مستوى علميّ وماديّ، ويأتي بهم إلى المعرفة الكاملة لبركته.
إذن ما الذي يعد به الله هنا؟ يعد الله بأن يبارك أناسًا من كل أمم وقبائل الأرض.
هذه البركة لن تأتي إلى أناس من جميع الأمم من خلال إبراهيم نفسه أو من خلال نسله بوجه عام، بل من خلال ابن واحد يدعى “النسل”، كان عتيدًا أن يولد من نسل إبراهيم (غلاطية ٣: ١٦). ولهذا السبب بالتحديد يتتبّع العهد القديم قصة نسل إبراهيم.
كان إبراهيم وسارة قد شاخا، ولم يكن لهما أبناء. لكن بواسطة معجزة من نعمة الله، حبلت سارة في شيخوختها وولدت ابنًا يدعى إسحاق. وكان ليعقوب، ابن إسحاق، اثنا عشر ابنًا هم من صاروا آباء أسباط إسرائيل الاثنا عشر.
وقد اعتنى الله بهذه العائلة الممتدة عناية خاصة. وحين هدّد الجوع حياتهم، دبر لهم الطعام في أرض مصر. وفي الأعوام التي تلت هذا، باركهم الله فنموا وامتدوا في العدد حتى تحوّلت العائلة التي كانت من قبل تتألف من حوالي سبعين شخصًا إلى شعب يتكون من حوالي مليوني شخص في فترة تقرب من أربعمائة عام.
وبينما شعب الله ينمو في العدد، كانوا يُذلّون ويُحتقرون. فقد عُوملوا بقسوة شديدة وصاروا عبيدًا بمصر. لكن الله رأى معاناتهم وتراءف عليهم.
الفداء:
“فَقَالَ الرَّبُّ: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ… فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ مِنْ أَيْدِي الْمِصْرِيِّينَ، وَأُصْعِدَهُمْ … إِلَى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلاً” (خروج ٣: ٧-٨). أقام الله رجلاً يدعى موسى، وأرسله إلى ملك مصر الوثني بهذا الأمر الإلهي: “أَطْلِقْ شَعْبِي” (خروج ٥: ١). لكن هذا الملك لم يقرّ بسلطان الله، ورفض أمره هذا، فسقط تحت دينونته. أرسل الله أوبئة وضربات متوالية انتهت بدينونة مدمرة ساد فيها الموت جميع أنحاء الأرض.
ولكن قبل أن يرسل الله هذه الدينونة، أعطى شعبه وصية وقطع لهم وعدًا: كان على كل عائلة أن تذبح حملاً وتضع دمه على قائمتى الباب وعتبته العُليا مشيرة بهذا إلى أن الموت قد حل ببيتهم بالفعل (خروج ١٢: ٧). وكان وعد الله: “فَأَرَى الدَّمَ وَأَعْبُرُ عَنْكُمْ” (خروج ١٢: ١٣).
وفي ليلة الفصح، عتقت ذبيحة الله شعبه من العبودية، وأنقذتهم من دينونته. وبعد ذلك، قطع الله عهدًا معهم: “وَأَسِيرُ بَيْنَكُمْ وَأَكُونُ لَكُمْ إِلهًا وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي شَعْبًا” (لاويين ٢٦: ١٢).
ثم أعطى الله شعبه وصايا وحدد لهم نظم لتقديم الذبائح. فإننا أولاً بحاجة إلى الوصايا لأن الله يدعو شعبه أن يسلكوا في طرقه. فإن من يحملون اسمه لابد وأن يعكسوا صفاته وشخصيته. لكن شعب الله يحتاج أيضًا إلى ما هو أكثر من الوصايا. فإننا نحتاج إلى الذبائح، لأننا نظل خطاة يعوزنا مجد الله، مهما حاولنا بذل أقصى ما في وسعنا من جهد.
وهكذا تحرّر شعب الله من الدينونة من خلال دم حمل مذبوح. وعلى النحو ذاته، ستثبت شركتهم مع الله من خلال ذبيحة تقدَّم عن خطاياهم. إذن ما الذي يعد به الله الآن؟ يعد الله بأن يصالح الخطاة لنفسه من خلال ذبيحة.
لكن لم يكتف شعب الله بهذا النظام وهذا الترتيب ولم يقنعوا به، بل أرادوا ملكًا. فأعطاهم الله ملكًا من الصنف الذي أرادوه، لكن تسبب هذا في كارثة. ثم أعطاهم الله ملكًا آخر، ولهذا الرجل قطع الله وعدًا فائقًا.
التسلّط:
“أُقِيمُ بَعْدَكَ نَسْلَكَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَحْشَائِكَ وَأُثَبِّتُ مَمْلَكَتَهُ. هُوَ يَبْنِي بَيْتًا لاسْمِي، وَأَنَا أُثَبِّتُ كُرْسِيَّ مَمْلَكَتِهِ إِلَى الأَبَدِ” (٢ صموئيل ٧: ١٢-١٣).
شهد شعب الله في عهد الملك داود لمحة من بركة الله فاقت كل ما شهدوه قبلاً. فإذ أخضِع أعداؤهم وأمنت حدودهم، ازدهر الشعب ونما وامتد. لكن ماذا كان من المنتظر أن يحدث بعد داود؟
إن كل أب يبغي الأفضل لابنه، وهكذا نجح الله في أن يسترعي كل انتباه داود حين حدّثه عن نسله: فقد وعد الله أن يقيم ابنًا لداود ويثبت مملكته. وكان هذا الابن هو من سيتمم ويحقّق حلم داود ببناء بيت لاسم الله.
ثم قطع الله وعدًا آخر فائق العظمة حتى أن داود كان ينبغي أن يتمالك نفسه جيدًا كي يستوعبه. فقد وعد الله بأن يثبت مملكة ابن داود هذا إلى الأبد، وقال له: “أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا” (٢ صموئيل ٧: ١٤). وقد كان سليمان ابن داود المباشر هو أول ابن خطر على ذهن داود، إذ كان هو من كان عتيدًا أن يلي أباه في الحكم. لكن كان الوعد بسلالة ملك أبديّة من نسل داود (٢ صموئيل ٧: ١٦) يتطلع إلى ابن يتجاوز كلاً من داود وسليمان. وكيف يمكن لأي مملكة أن تدوم إلى الأبد؟ وكيف سيصير ابن داود هذا هو أيضًا ابن الله؟
وفيما نتقدّم في قصة العهد القديم، نبدأ في تكوين صورة أوضح عن خطة الله، وعن الشخص الذي سيتمم ما يعد به الله: فإن الله يعد بأن يهب حياة لأناس سيعكسون مجده، وأن يقضي على الشر ويخلص العالم من لعنته، وأن يبارك أناسًا من كل الأمم، وأن يصالح الخطاة لنفسه من خلال ذبيحة عن الخطايا.
ذلك الشخص الذي سيحقق هذه الوعود سيأتي مولودًا من امرأة، من نسل إبراهيم ومن ذرّيّة داود. وهو ملك سيجلب معه بركة حكم الله. وسيكون الله اباه، وهو ابن لله. كما سيثبّت الله كرسي مملكته إلى الأبد. إذن ما الذي يعد به الله الآن؟ يعد الله بأن شعبه سيحيا تحت بركة حكمه إلى الأبد.
ثم تلا داود نسل من الملوك، بعضهم كانوا صالحين، لكن غالبيتهم كانوا أشرارًا. فقد عبد شعب الله آلهة أخرى وساروا في طرقها. فأرسل الله لهم رسلاً يدعون “أنبياء” يدعونهم إلى الرجوع إلى طاعتهم. ولكن قوبلت هذه الرسالة بالتجاهل والرفض على نطاق واسع. وهكذا تحرك الله، الذي لا يمكن أن تسقط كلمته، لتأديب وتقويم شعبه.
التقويم:
“لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: إِنِّي عِنْدَ تَمَامِ سَبْعِينَ سَنَةً لِبَابِلَ، أَتَعَهَّدُكُمْ وَأُقِيمُ لَكُمْ كَلاَمِي الصَّالِحَ، بِرَدِّكُمْ إِلَى هذَا الْمَوْضِعِ. لأَنِّي عَرَفْتُ الأَفْكَارَ الَّتِي أَنَا مُفْتَكِرٌ بِهَا عَنْكُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَفْكَارَ سَلاَمٍ لاَ شَرّ، لأُعْطِيَكُمْ آخِرَةً وَرَجَاءً” (إرميا ٢٩: ١٠-١١).
كان الأعداء قد اجتاحوا الأرض التي أعطاها الله لشعبه، فسُبي شعب الله. وسكنوا في بابل تحت تأديب الله، نائحين على طرقهم طوال سبعين سنة قضوها في حزن وتوبة.
لكن في وسط هذا التأديب شديد القسوة، كان الله يدفع بقصده نحو التتميم لشعبه. فإن الله يقبلنا ونحن في خطايانا، لكنه لا يتركنا قط فيها. فهو لا يكل من أن يدعونا كي نتبع طرقه، ولا يتوانى عن تقويمنا حين نحيد عنها. إذن ما الذي يعد به الله هنا؟ يعد الله بأن يسلك كل شعبه في جميع طرقه.
فحين يكتمل عمل الله الفدائيّ في حياتك، ستتمكن من أن تحب الله من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك، وأن تحب قريبك كنفسك، وتشترك في فرح هذه المحبة مع شعب الله بأكمله إلى الأبد.
وحتى يأتي ذلك اليوم، لن يظل الله ساكنًا بينما يتعلّق شعبه بخطايا قد أخبروا قبلاً بوضوح أن نتركها. فإن الله ليس بصدد نقل بضعة خطاة غير متغيّرين، متمركزين حول ذواتهم، إلى أفراح الحياة الأبديّة. فهو يدعونا إلى الطاعة، وحين نقاوم دعوته هذه، فلابد أن نتوقع أن ندخل تحت تأديبه المحب الذي يرفض أن يتخلّى عنا.
وبعد مرور سبعين سنة، أعاد الله شعبه المؤدَّب إلى أرض الموعد مرة أخرى. وكان هذا الرجوع معجزة قامت بها نعمة الله، وكانت هذه المعجزة قد بدت مستحيلة. لكن الله أعطى في ذلك الحين رجلاً ما رؤيا بشأن ما هو عتيد أن يفعله.
الاسترداد:
“يَا ابْنَ آدَمَ، هذِهِ العِظَامُ هِيَ كُلُّ بَيتِ إِسْرَائِيلَ. هَا هُمْ يَقُولُونَ: يَبِسَتْ عِظَامُنَا وَهَلَكَ رَجَاؤُنَا. قَدِ انْقَطَعْنَا. لِذلِكَ تَنَبَّأْ وَقُلْ لَهُمْ: هكذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هأَنَذَا أَفتَحُ قُبُورَكُمْ وأُصْعِدُكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ يَا شَعْبِي، وَآتِي بِكُمْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ. فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ عِنْدَ فَتْحِي قُبُورَكُمْ وَإِصْعَادِي إِيَّاكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ يَا شَعْبِي” (حزقيال ٣٧: ١١-١٣)
إن وعود الله فائقة العظمة حتى أن الإيمان يصاب أمامها بالذهول. وهذا هو ما كان الأمر عليه بالنسبة لشعب الله في زمن حزقيال. فقد كانت أورشليم خربة، وقد هرب معظم شعبها أو ماتوا، أما من نجوا فكانوا سبايا في بابل تحت نظام لم يكن يعزم على إطلاقهم.
لقد كان شعب الله يعلمون وعوده جيدًا، لكن بدت الوعود المختصة بإهلاك الشر، ومباركة جميع الأمم، وأفراح مملكة داود وعودًا آتية من عالم آخر بعيد عن واقع كدحهم اليومي. فقد صعب على شعب الله أن يرنموا ترنيمة الرب في هذه الأرض الغريبة.
ثم أعطى الله حزقيال النبي رؤيا، حيث أراه واديًا ممتلئًا من العظام اليابسة. كانت تنطبق هذه الصورة تمامًا على وضع وحالة شعب الله، الذين كانوا يقولون: “يَبِسَتْ عِظَامُنَا وَهَلَكَ رَجَاؤُنَا. قَدِ انْقَطَعْنَا” (حزقيال ٣٧: ١١)، فقد بات الشعب يشعرون بأن حالتهم ميؤوس منها.
وفي هذه الرؤيا، تنبّأ حزقيال بكلمة الله على العظام، وفي الحال تقاربت العظام معًا. ثم كساها العصب واللحم والجلد، وهب روح الله بنسمة حياة على هذه الجثث الهامدة، تمامًا كما نفخ الله بنسمة حياة في آدم. فقد كان الله يُصعد من القبر حياة جديدة. إذن ما الذي يعد به الله الآن؟ يعد الله بحياة جديدة من القبر.
خاتمة:
يقدم العهد القديم قصة وعود الله المدهشة. والآن توقف وحاول استيعاب هذا جيدًا:
- يعد الله بأن يهب حياة لأناس سيعكسون مجده.
- يعد الله بالقضاء على الشر وتخليص العالم من لعنته.
- يعد الله بأن يبارك أناسًا من جميع الأمم والشعوب.
- يعد الله بأن يصالح الخطاة لنفسه من خلال ذبيحة عن الخطايا.
- يعد الله بأن يحيا شعبه تحت بركة حكمه إلى الأبد.
- يعد الله بأن يسلك كل شعبه في جميع طرقه.
- يعد الله بأن يصعد حياة جديدة من القبر.
هذه الوعود مدهشة بكل المقاييس. والله وحده هو من كان يمكنه أن يقطعها، وهو وحده من يمكنه تتميمها. والآن لكي نكتشف كيف فعل الله ذلك، ونرى ما الذي يمكن أن تعنيه هذه الوعود لنا، نتجه الآن إلى العهد الجديد.
الله يوفي بالوعد: قصة الأناجيل
يقطع الله وعودًا فائقة العظمة حتى أنه هو وحده من يمكنه الوفاء بها، ولهذا أخذ الله جسدًا بشريًا في يسوع المسيح. دخل الخالق إلى نطاق خليقته. فقد جاء الله ووقف بجانبنا، عاملاً لأجلنا، كي يوفي بوعده الذي قطعه لنا. فإن الكلمة الذي كان عند الله والذي كان هو الله، الذي به كان كل شيء، قد صار جسدًا وحلّ بيننا (يوحنا ١: ٢، ١٤). وتخبرنا الأناجيل بما حقّقه يسوع المسيح وأتمّه لأجل شعبه.
التجسد:
“فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لَها: اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ” (لوقا ١: ٣٥).
أعلن الملاك لمريم أن يسوع سيكون “ابن العلي”، و “ابن الله” (لوقا ١: ٣٢، ٣٥)، كما كتب متى أنه “الله معنا” (متى ١: ٢٣). ووصفه يوحنا باعتباره كلمة الله الذي صار جسدًا (يوحنا ١: ١٤).
لقد نطق الله بوعوده في صورة كلمات. ثم صار كلمته جسدًا، وحينئذ تمت هذه الوعود. فإن الله وحده هو من يمكنه أن يفي بما وعد به. ولهذا فإن حمد وشكر المؤمن له صلة وثيقة بالإقرار بأن يسوع المسيح هو الله وهو أيضًا إنسان في آن واحد. فكما وُلدنا نحن، وُلد المسيح أيضًا، كي يحيا حياتنا ويموت موتنا. فهو قد جاء إلينا، ووقف بجانبنا كي يعمل لأجلنا. فهو، كونه الله، أوفى بما وعد به الله، وكونه إنسانًا، استطاع أن يسلمنا هذه الوعود.
أيضًا أعلن الملاك أن يسوع قدوس: “القدوس” (لوقا ١: ٣٥). وهذا شيء لم نره قبلاً في تاريخ العالم، ولن نراه ثانية: أي إنسان قدوس بالطبيعة. هذا الإنسان ينتمي حقّاً إلى السماء، وإذ هو الله، فهو يملك القدرة على اصطحاب آخرين معه إلى هناك.
إن اتحاد اللاهوت والناسوت معًا في يسوع المسيح، القدوس، يفتح لنا باب الرجاء. ويعبر جون كالفن عن هذا بصورة رائعة:
باختصار، بما أن الله لم يكن ممكنًا له كإله فحسب أن يشعر بالموت، وكإنسان فحسب أن يغلب هذا الموت، فهو بالتالي قد جمع الطبيعة البشريّة والطبيعة الإلهيّة معًا، فكان يلزمه كي يكفر عن الخطايا أن يخضع ضعف الطبيعة البشريّة للموت، ومن خلال محاربته للموت بقوة وسلطان الطبيعة الإلهيّة، يربح لنا النصرة.[1]
كان هذا هو غرض التجسد. فإن الله – الإنسان وحده هو من كان باستطاعته أن يحضر وعود الله إلى جميع البشر. فولادة قدوس الله قادت إلى حياة ربنا يسوع المسيح الكاملة الخالية من الخطيّة.
التجربة:
“أَمَّا يَسُوعُ فَرَجَعَ مِنَ الأُرْدُنِّ مُمْتَلِئًا مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَكَانَ يُقْتَادُ بِالرُّوحِ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنْ إِبْلِيسَ” (لوقا ٤: ١-٢). لقد تحدّى المسيح إبليس حين كان مقتادًا بالروح ليُجرّب منه، فانتصر فيما أخفق فيه آدم. فقد جرّبت الحيّة يسوع ثلاث مرات، كما فعلت مع حواء وآدم. وبالرغم من أن التوازي واضح، لكن لابد ألا تفوتنا الاختلافات.
فقد كان المناخ مختلفًا اختلافًا واضحًا. فقد واجه حواء وآدم التجربة في جنة كان الطعام متوفرًا فيها على الأشجار في كل موضع من حولهم. لكن المسيح واجه التجربة في برية لم يكن فيها طعام، وكان جائعًا.
كما اختلف صاحب المبادرة الأولى. فقد جاء إبليس بحثًا عن المرأة في الجنة. أما المسيح فقد خرج وراء إبليس إلى البرية. فقد قاده الروح القدس إلى مواجهة مع الشيطان. لاحق المسيح الشيطان، وجذبه إلى العراء، وبادر بالمواجهة.
أما الاختلاف الأعظم فكان ناتج التجربة. ففيما أخفق آدم، انتصر المسيح. وبما أن إبليس كان قد أمطر المسيح بالفعل بأكثر تجاربه مهارة وإتقانًا، فهو كان مجبرًا على التقهقر “إِلَى حِينٍ” (لوقا ٤: ١٣). فإن التغلّب على القدوس بالتجربة والغواية لم يكن حسبما اتضح أمرًا واردًا.
ولانتصار المسيح في التجربة أهمية ضخمة بالنسبة لنا. فقد جلب لنا إخفاق آدم البؤس والشقاء. حيث نقل نتائج وآثار إخفاقه إلى جميع من يستمدون حياتهم منه. فإننا ننتمي بالطبيعة إلى آدم الذي أخفق. ونشترك في إخفاقه هذا. وهكذا فإننا “تَحْتَ الْخَطِيَّةِ” (رومية ٣: ٩).
إلا أن انتصار المسيح يجلب لنا الرجاء. فكما نقل آدم نتائج وآثار إخفاقه إلى جميع من يستمدون حياتهم منه، هكذا أيضًا ينقل المسيح نتائج وآثار انتصاره إلى جميع من يستمدون منه حياة جديدة. فإننا بالنعمة وبواسطة الإيمان ننتمي إلى المسيح المنتصر. وهكذا نشترك في نصرته. ولهذا نحن “تَحْتَ النِّعْمَةِ” (رومية ٦: ١٤).
لكن لايزال ضعف آدم الذي أخفق موجودًا فيك، ولهذا لابد أن تحترس جيدًا من التجربة. وفي المقابل أيضًا قوة المسيح، الذي غلب، هي فيك بالروح القدس، ولذلك حين نُجرَّب، نستطيع أن نثبت راسخين.
وبعد انتصار يسوع في البرية، “رَجَعَ يَسُوعُ بِقُوَّةِ الرُّوحِ إِلَى الْجَلِيلِ، وَخَرَجَ خَبَرٌ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ” (لوقا ٤: ١٤). وسيساعدك ما حدث بعد ذلك على إدراك وفهم ما نختبره ونجتاز فيه في حياتنا في العالم اليوم.
الرفض:
“رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ. فَامْتَلأَ غَضَبًا جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْمَجْمَعِ حِينَ سَمِعُوا هذَا” (لوقا ٤: ١٨-١٩، ٢٨).
تخيّل معي هذا الجمع الصغير المجتمع في المجمع حين كان يسوع يقرأ من كلمة الله ويفسر معناها. فقد كانت كلماته مليئة بالرجاء، لكن الشعب لم يستجب بفرح بل بغضب وحنق شديد. فقد “امتلأوا غضبًا”. وهكذا ومنذ البداية، رُفض يسوع المسيح الذي جاء لينقذنا في بعض دوائر خدمته، وتستمر هذه الفكرة عبر الأناجيل.
وفي موقف آخر، شفى يسوع رجلاً كانت يده يابسة. وكانت المعجزة مدهشة، لكن لاحظ معي رد الفعل، فقد “َامْتَلأُوا (أي الفريسيون) حُمْقًا وَصَارُوا يَتَكَالَمُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَاذَا يَفْعَلُونَ بِيَسُوعَ” (لوقا ٦: ١١). وفي موقف آخر، أخرج المسيح أرواحًا نجسة من رجل كان يروع مدينته بالعنف. لكن حين رأى الناس الرجل الذي كان يعذبهم لاَبِسًا، وَعَاقِلاً، وجَالِسًا طلبوا إلى يسوع أن يذهب عنهم ويترك الموضع (لوقا ٨: ٣٧).
ولكن وصل نمط الرفض هذا إلى ذروته في صراخ الجمع مطالبين بصلب يسوع. وقد حاول بيلاطس التدخل ليثنيهم عن هذا، لكنهم “كَانُوا يَلِجُّونَ بِأَصْوَاتٍ عَظِيمَةٍ طَالِبِينَ أَنْ يُصْلَبَ. فَقَوِيَتْ أَصْوَاتُهُمْ” (لوقا ٢٣: ٢٣).
إننا نعيش في عالم رافض للمسيح. ولا يمكننا أن نفهم جيدًا العالم الذي نعيش فيه إلا إن استوعبنا هذا الكلام: أن المسيح “إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ” (يوحنا ١: ١١).
حين تقع الكوارث الطبيعية، يسأل الناس هذا السؤال: “لمَ لا يعمل الله شيئًا حيال هذا؟” لكنه حين جاء وهدّأ العاصفة، رفضناه. وحين يروّع مُسلّحون المدارس، نسأل هذا السؤال: “لمَ لا يعمل الله شيئًا حيال هذا؟” لكنّه حين جاء بالفعل وطرد الأرواح النجسة، طلبنا إليه أن يذهب عنّا. وحين يحل مرض السرطان، نسأل هذا السؤال: “لمَ لا يعمل الله شيئًا حيال هذا؟” لكنه حين جاء وشفى المرضى، رفضه الناس.
“إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ”. ولكن نشكر الله أن الأمر لم ينته عند هذا الحد. “وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ” (يوحنا ١: ١٢).
وهكذا، فإن هذا هو وضعنا نحن كمؤمنين: فإننا نحيا في عالم رافض للمسيح بكل ما فيه من خطيّة وموت، لكننا في المقابل ننتمي إلى عشيرة تمجد المسيح وترفّعه بكل ما فيها من حياة وفرح. وهكذا فإننا نختبر كلاً من آلام هذا العالم الساقط، مع رجاء جميع من هم في المسيح في الوقت ذاته.
وبينما كان العالم رافضًا ليسوع، صعد إلى جبل مع ثلاثة من تلاميذه.
التجلي:
“وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً، وَلِبَاسُهُ مُبْيَضًّا لاَمِعًا [في الترجمة الإنجليزية: كلمعان البرق]” (لوقا ٩: ٢٩)، فقد استطاع بطرس ويعقوب ويوحنا رؤية مجد، ولمعان، وبهاء يسوع المسيح. أي رأوا ما تراه الملائكة في السماء، وما ستراه يومًا ما عين كل إنسان. وما مدى لمعان شعاع البرق؟ فإن يسوع الذي عرفه هؤلاء الرجال كصديق، كان ولا يزال هو “بهاء [لمعان] مجد الله” (عبرانيين ١: ٣).
لكن هناك المزيد أيضًا: “وَإِذَا رَجُلاَنِ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ، وَهُمَا مُوسَى وَإِيلِيَّا، اَللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ” (لوقا ٩: ٣٠-٣١). لقد عاش موسى وإيليا وماتا منذ مئات الأعوام. والآن ويا للعجب كانا ظاهرين مع يسوع يتشاركان في مجده.
ثم تكلم الله القدير من السحابة قائلاً: “هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا” (لوقا ٩: ٣٥). حقًا إن العالم اليوم يرفض المسيح. لكن الله يدعوك أن تسمع له. فقد اختاره الله، وهو قادر أن يأتي بالبشر الأموات إلى المجد!
لم يبق التلاميذ فوق الجبل إلى الأبد. فقد انقشعت السحابة، واختفى موسى وإيليا عن الأنظار، ورجع وجه يسوع كما عرفوه قبلاً. فقد كان لزامًا على التلاميذ أن يحيوا بالإيمان، كما نحيا نحن أيضًا. وحين نزلوا من فوق الجيل، ساروا مرة أخرى صوب عالم ملئ بالشر العظيم وبالحاجة العميقة والماسة.
الصلب:
“وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ” (لوقا ٢٣: ٣٣). لقد وصلت خطايانا إلى ذروة بشاعتها وظهرت في أسوأ صورها في الصليب. فإننا جميعنا قد عصينا وصايا الله، ثم صلبنا ابن الله. لقد كان لابد أن تسقط دينونة الله على الجنس البشري، لكن الله حول مسار هذه الدينونة التي نستحقها لتسقط على موضع آخر.
وفيما كان الجنود يسمّرون يسوع إلى الصليب، صلى سيدنا قائلاً: “يَاأَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ” (لوقا ٢٣: ٣٤). فحين قال يسوع هذا، كان يفرز نفسه ويضعها تحت دينونة الله. فهو قد علم أن تلك الدينونة كانت قادمة في ذلك اليوم، وقد كان. لكنه صلى للآب قائلاً: “لا تدعها تسقط فوقهم، دعها تأتي عليَّ أنا”.
وهذا هو ما حدث في الجلجثة. فقد سقطت العقوبة المستحَقة عن خطاياك على يسوع. وصار المسيح هو عمود البرق [المترجم: عمود يوضع فوق المباني المرتفعة ليمتص شحنات البرق الكهربائيّة لحماية المباني] الذي امتص كل دينونتنا، وأطلق العنان للغفران بآلامه وموته على الصليب لأجلك. فقد سقطت اللعنة على يسوع لأنه “حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا” (١ بطرس ٢: ٢٤)، إذ “وُضع عليه” ثقل إثمنا (إشعياء ٥٣: ٦)، وصار ذبيحة عن خطايانا.
وهكذا فقد غيّر موت المسيح من طبيعة موت كل شعبه. فإنك حين تموت، لن تحمل معك في موتك خطاياك وذنوبك لأن المسيح حملها في موته عنك. وهكذا، فإن كنت في المسيح، فإنك لن تختبر قط ماذا يعنيه أن تموت ميتة محملة بالخطايا.
حين وصلت خطايانا إلى ذروة بشاعتها، ظهرت محبة الله بكل مجدها. إن كنت تعاني من الشك في محبة الله لك، الق نظرة على الصليب. فلا توجد محبة أخرى يمكنها أن تضاهي هذه المحبة. ولا شيء في كل ما اختبرناه يمكنه أن يقاربها. فإن محبّة الله لنا في المسيح أعظم مما جرؤنا أن نحلم به يومًا على الإطلاق.
القيامة:
“لَيْسَ هُوَ ههُنَا، لكِنَّهُ قَامَ!” (لوقا ٢٤: ٦). في صباح القيامة، ذهبت مجموعة من النساء إلى القبر حيث كان جسد يسوع موضوعًا، فوجدنه فارغًا. لم يكن الخبر السار الذي سمعنه هو أن “يسوع حي” بل كان أنه “قد قام”. فقد كان ابن الله حيًا بالفعل في السماء قبل أن يأخذ جسد بشر. وكان بإمكانه أن يعود إلى السماء، تاركًا جسده المصلوب بداخل القبر. وكان بوسع الملائكة أن يقولوا: “إن جسده في القبر، لكن لا تخفن، فإن روحه الآن مع الآب في السماء”. لكن هذا لم يكن من شأنه أن يتمم خطة الله لفدائنا.
حين خلق الله الملائكة، خلقهم أرواحًا دون أجساد، وحين خلق الحيوانات، خلقها أجسادًا دون أرواح. لكنه في المقابل خلقنا نحن مزيجًا فريدًا بين الجسد والروح.
إلا أن الموت يفرّق ما جمعه الله. فهو تخريب لطبيعتنا، ولهذا فالموت عدو شديد البشاعة. لكن المسيح اجتاز الموت، وانتصر عليه، وخرج منه حيًا. فهو قد جاء لفداء حياتك – روحًا وجسدًا – ولكي يُوقِفَنا أَمَامَ مَجْدِهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي الابْتِهَاجِ ويقدمنا لأبيه في السماء (يهوذا ٢٤).
ثم لاحقًا فتح المسيح أذهان التلاميذ لكي يتسنّى لهم فهم أن رسالة الكتاب المقدس ككل تقود إلى موته وقيامته، وتنبع منهما. فقد قال لهم: “وَهكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ” (لوقا ٢٤: ٤٥-٤٧).
لقد كان المسيح واضحًا وضوح الشمس بشأن الرسالة التي كان على الرسل أن يكرزوا بها: التوبة ومغفرة الخطايا. التوبة تعني أن تغيّر فكرك بالكامل بشأن خطاياك وتغيّر موقفك ككل تجاه يسوع المسيح. فإنك في التوبة تعزل نفسك عن رفض العالم ليسوع، وتعلن انتماءك له، واثقًا في رحمته، وواضعًا نفسك تحت سلطانه.
أما الغفران فهو يعني قبول يسوع المسيح لك في المحبة. فهو يطهر إثمك، ويصالحك لله الآب، ويدخل إلى حياتك بروحه القدوس، مانحًا إيّاك القوّة لتحيا حياة الإيمان الجديدة وتحيا الطاعة التي يدعوك إليها.
الصعود:
“وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ” (لوقا ٢٤: ٥٠-٥١). إن آخر مشهد رآه التلاميذ ليسوع كان صعوده رافعًا يديه، ومباركًا إيّاهم. لقد أُكمِل عمل يسوع الكفاريّ على الصليب. لكن استمر عمله في مباركة التلاميذ حتى بينما كان يصعد إلى السماء. ولابد أن هذه الحقيقة الرائعة قد انطبعت في أذهانهم وقلوبهم من خلال مشهد صعود المسيح.
واليوم لايزال المسيح، وهو عن يمين الآب، يبارك شعبه. فإن يديه ليستا مرفوعتين ضدنا، بل لأجلنا. وهو لا ينطق علينا باللعنة بل بالبركة. فإن كلامه حياة. حين تكون “في المسيح” فإن كل ما له يصير لك. فإن موته المحمل بالخطايا هو لك، وقيامته أيضًا لك، ويومًا ما ستشترك معه أيضًا في صعوده.
لأَنَّ الرَّبّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلاَئِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ [أي المؤمنون الذي اجتازوا الموت ودخلوا محضر يسوع] سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ (١ تسالونيكي ٤: ١٦-١٧).
فحين يأتي المسيح في مجده، سيشترك جميع خاصته معه في صعوده. وستقوم أجساد من ماتوا. وتتغير أجساد الأحياء، ويصير شعب الله المفدي في المسيح معه إلى الأبد.
خاتمة:
نجد فيما يلي الموجز المذهل لما يعد به الله في يسوع المسيح. فقد جاء يسوع وعاش ومات وقام ثانية كي:
- نصير خليقة جديدة تعكس صورة الله كليّة.
- نخلص ونتحرّر من لعنة الشر.
- نتمتّع ببركة الله مع أعداد غفيرة من المفديين من كل الأمم والشعوب.
- نتصالح مع الله بالمسيح، الذي قدّم نفسه ذبيحة عن خطايانا.
- نحيا تحت بركة حكم الله إلى الأبد.
- نسلك في طرق الله، ونحبه من كل قلبنا، ونحب قريبنا كنفسنا.
- نأخذ حياة جديدة من القبر.
ويختم الله جميع وعوده بكلمة “نعم” في يسوع (٢ كورنثوس ١: ٢٠)، فإن يسوع هو الضوء الأخضر لجميع وعود الله، ويمكنك أن تحظى بيقين كامل في أن كل ما وعد به الله هو لك فيه.
سنتجه الآن إلى رسائل العهد الجديد، لنرى كيفيّة تطبيق الروح القدس لكل ما أتمّه المسيح في حياة شعبه.
الكنيسة تنقل الوعد: قصة سفر الأعمال
قبل صعود يسوع إلى السماء، وعد تلاميذه بأن يرسل لهم الروح القدس. فقد كان المسيح ذاهبًا مرة أخرى إلى الآب في السماء، لكن حضوره وقوته كانا سيمكثان معهم وفيهم بالروح القدس.
وتحقّق وعد الله هذا في يوم الخمسين. وفي هذا اليوم، خاطب بطرس جمعًا كبيرًا من كل الشعوب المجتمعين في أورشليم. وتحدث عن حياة، وموت، وقيامة يسوع، ثم أعلن وهو ممتلئ من الروح القدس “أَنَّ اللهَ جَعَلَ يَسُوعَ هذَا، الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبًّا وَمَسِيحًا” (أعمال الرسل ٢: ٣٦).
ومن الواضح أن الواقفين هناك في ذلك اليوم صدّقوا ما كان بطرس يخبرهم به. وإلا كانوا سيجادلونه أو ببساطة كانوا سيمضون بعيدًا. لكن لم يكن هذا رد فعلهم. “فَلَمَّا سَمِعُوا [أي رسالة بطرس المختصة بيسوع] نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ، وَقَالُوا لِبُطْرُسَ وَلِسَائِرَ الرُّسُلِ: «مَاذَا نَصْنَعُ أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ؟»” (أعمال الرسل ٢: ٣٧).
حينئذ أجابهم بطرس: “توبوا” (أعمال الرسل ٢: ٣٨). هذا الرد له أهمية خاصة. فإن الإيمان الحقيقي دائمًا ما يتضمن التوبة، والتوبة الحقيقية دائمًا ما تتضمن الإيمان. فإن الإيمان والتوبة وجهان لعملة واحدة، لا يمكنك أن تحصل على الواحد دون الآخر. فالإيمان والتوبة ينشآن معًا حين تدرك محبة الله ورحمته في يسوع المسيح.
ثم استطرد بطرس في حديثه قائلاً: “تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (أعمال الرسل ٢: ٣٨). فقد كان بطرس يخبرهم بأن يصرِّحوا علنًا بانتمائهم للرب يسوع المسيح، وينالوا علامة، أو ختم وعد الله. فإن الله يعد بغفران الخطايا ومنح هبة الروح القدس لكل من يدعوه الله (أعمال الرسل ٢: ٣٨-٣٩). فالله سيغفر لك. وسيصالحك لنفسه. وسيهبك المسيح حياة جديدة بالروح القدس الذي سيُعطيه لك.
يجدر بنا أن نتذكر أن بطرس كان يتحدث في المدينة نفسها التي صلب فيها يسوع منذ فقط خمسين يومًا. وهكذا فإن بعض من تواجدوا هناك في يوم الخمسين أيضًا كانوا وسط الحشود التي صرخت مطالبة بصلب يسوع، قائلين: “دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا” (متى ٢٧: ٢٥)، ولأولئك أنفسهم تحدّث بطرس عن غفران المسيح وعطية روحه القدوس: “لأَنَّ الْمَوْعِدَ هُوَ لَكُمْ وَلأَوْلاَدِكُمْ وَلِكُلِّ الَّذِينَ عَلَى بُعْدٍ، كُلِّ مَنْ يَدْعُوهُ الرَّبُّ إِلهُنَا” (أعمال الرسل ٢: ٣٩).
إن الموعد هو “لَكُمْ”. فإن آمنتم بالرب يسوع المسيح، وتركتم خطاياكم، سيغفر الله لكم كل ما ارتكبتموه من خطايا. ويهبكم روحه القدوس، مؤهّلاً إيّاكم بهذا للتحرّر من طرقكم القديمة لتحيوا في حياة جديدة.
وهذا الموعد “لأَوْلاَدِكُمْ”. أي أنه ليس مقتصرًا على جيل واحد عاش منذ ألفي عام. فهو ليس مقتصرًا على الماضي. ولا يسقط بالتقادم. بل يمتد الوعد عبر القرون، وهو لنا اليوم.
الموعد أيضًا هو “لِكُلِّ الَّذِينَ عَلَى بُعْدٍ”. فإن وعد الغفران والحياة الجديدة في يسوع المسيح هو لأناس من أي حال وخلفيّة. إن كنت اليوم تشعر بالبعد عن الله، فإن هذا الموعد لك.
لقد وعد الله أنه من خلال نسل إبراهيم سيتبارك أناس من جميع أمم الأرض. فإن الغفران والحياة الجديدة في يسوع المسيح هما وعد الله لمن هم في أفريقيا، وآسيا، وأمريكا، وأوروبا، واستراليا، والقارة القطبيّة الجنوبيّة. وإرساليّة الكنيسة هي أن تنقل هذا الخبر السار بشأن يسوع المسيح إلى كل إنسان.
الموعد هم “لكُلِّ مَنْ يَدْعُوهُ الرَّبُّ إِلهُنَا”. إن الله يدعو من خلال رسالة الإنجيل. فالله كان يدعو الواقفين هناك في ذلك اليوم فيما كان بطرس يتحدث عن المسيح. والله يدعوك اليوم، فيما تقرأ خبر الإنجيل السار. فاليوم يوجد غفران وحياة جديدة لك في يسوع المسيح.
الروح القدس يقوم بتسليم الوعد: قصة رسائل العهد الجديد
كيف تبدو هذه الحياة الجديدة التي في المسيح؟ وماذا يحدث حين ينقل الروح القدس وعد الله إلى داخل شخص يتوب ويؤمن؟ وماذا فعل الله لأجلك وفيك من خلال يسوع المسيح؟
تأخذنا رسائل العهد الجديد إلى أعماق وعد الله لكي تُظهر لنا كل ما لنا في يسوع المسيح. وأريدك أن ترى حركة انتشار وامتداد عمل الله الفدائيّ في حياة الإنسان. وهذا العمل يبدأ بالتجديد.
التجديد: نلت حياة جديدة
“مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنَ الأَمْوَاتِ… مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ” (١ بطرس ١: ٣، ٢٣).
حين خلق الله السماوات والأرض، كان كوكبنا خربًا وخاليًا، أي كانت تعمّه فوضى مظلمة وسبخة. وكان روح الله يرف على وجه المياه (تكوين ١: ٢). ثم خلق الله النور بكلمة نطق بها في وسط الظلمة، فجلب الحياة للعالم. لقد صنع الله جمال الأرض.
وهكذا فإن الروح القدس نفسه الذي كان يرف على وجه المياه في أثناء الخلق يشبه الريح التي تهب على حياة البشر (يوحنا ٣: ٨). فهو يُضيء لأناس لا يستطيعون رؤية مجد المسيح (٢ كورنثوس ٤: ٤)، وهو يجلب حياة جديدة لأموات تجاه أمور الله (أفسس ٢: ١).
يقول يسوع: “الْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ” (يوحنا ٣: ٦). حين يجدّدك الروح القدس، فهو يغيّر فيك حتى يتسنّى لك أن تحب المسيح بذهن جديد وقلب جديد، وحتى تثق فيه، وتتبعه طوعًا. ويصف يسوع هذه المعجزة بأنها أن “تولد ثانية”، أو أن “تولد من الروح” (يوحنا ٣: ٧-٨). فوراء كل إيمان تكمن هذه المعجزة التي تجريها نعمة الله المُجدّدة.
وتعد نقطة التلاقي بين التجديد والإيمان لغزًا ينبغي أن يؤدي بك إلى السجود والعبادة. فإن أبناء الله يتميّزون ويُعرَفون من خلال إيمانهم بالرب يسوع المسيح. “وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ” (يوحنا ١: ١٢).
لكن لماذا آمنت أنت دون آخرين؟ ولمَ أقبلت إلى الإيمان في وقت معين، وليس قبل هذا الحين أو بعده؟ لقد أخذ الله زمام المبادرة في تجديدك. فالله هو الذي فتح عينيك كي ترى مجد المسيح. لقد رفّ الروح القدس على وجه الفوضى المظلمة لحياتك وصنع منك خليقة جديدة في المسيح.
أيمكنك أن تدرك أن الله قد أجرى أمرًا مذهلاً بداخلك، مانحًا إيّاك حياة جديدة من فوق؟ لقد وهبك الله قلبًا جديدًا. ووضع فيك روحه القدوس. وأعطاك ولادة جديدة لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات (١ بطرس ١: ٣).
الاتحاد: أنت في المسيح
“أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ، فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ؟” (رومية ٦: ٣–٤).
حين أعمِّد الناس، فإني أقوم بتغطيسهم في الماء. وهكذا حين يعتمد شخص ما بالروح القدس، فهو يُدفَن أو يغطس “في الروح”، وبهذا يتحد بالمسيح. هذا الاتحاد بالمسيح هو الحقيقة الرائعة التي تشير إليها معمودية الماء.
وقد وصف مارتن لوثر اتحاد المؤمن بالمسيح مستخدمًا صورة الزواج، مستعيرًا فكرته من العهد الجديد:
إن الإيمان … يوحّد النفس بالمسيح مثلما تتّحد العروس بعريسها. ومن خلال هذا السر، كما يُعلّم الرسول، يصير المسيح والنفس جسدًا واحدًا. وما داما قد صارا جسدًا واحدًا، وبينهما زيجة حقيقية … فإن كل ما لهما يصير مشتركًا بينهما … ووفقًا لهذا فإن النفس المؤمنة يمكن أن تفتخر بكل ما للمسيح وتتهلّل به، وكأنّه لها.[2]
كنت أفكر مُؤخرًا في بعض الرفاق في الكنيسة التي خدمنا بها في إنجلترا، وكيف أني لم أبذل سوى جهدًا ضئيلاً للغاية للبقاء على تواصل معهم. ثم تذكّرت أيضًا بعض المشاريع الأخرى التي كنت متأخرًا في إنجازها، وهكذا كنت أواجه يومًا من قبيل “ويحي أنا الإنسان الشقي”. وفي الصباح التالي، كانت كارين زوجتي تجلس على طاولة الطعام منهمكة في كتابة خطابات ورسائل الكريسماس. فعلمت أنها طوال الأعوام الماضية كانت ترسل ما يزيد عن مائة بطاقة تهنئة إلى انجلترا، كل منها تحمل ملاحظة مكتوبة بخط اليد، تقوم بتوقيعها: “من كارن وكولن“.
وهكذا وفيما كنت أرى إخفاقي البائس في البقاء على تواصل مع أولئك الأشخاص، كنت بالفعل قد كتبت لهم رسالة سنويًا طوال الأربعة عشر عامًا الماضية! فقد كنت مخفقًا وحدي، بينما حين أرى نفسي متحدًا بزوجتي، أفرح إذ أشترك فيما فعلته. إذ أرسلت بطاقة تحمل اسمي سنويًا!
لقد أتمّ المسيح لنا ما قد أخفقنا في فعله بأنفسنا. فهو قد عاش الحياة التي لم نحياها نحن ولا نستطيع أن نحياها. لكن حين نكون “في المسيح”، يصير كل ما فعله لنا؛ أي أن كلاً من حياته، وموته، وقيامته تحمل اسمنا عليها وكأنها تخصّنا.
هذا هو ما يعنيه الاتحاد بالمسيح. فما كان يعنيه للمسيح هو أن يُسمّر فوق الصليب. وما يعنيه لنا هو التبرير.
التبرير: إعلان برك
“فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (رومية ٥: ١). كلمة “تبررنا” كلمة قانونيّة تصف حكم تبرئة. حين يُبرّر الله شخصًا ما، فهو يُعلن بكون هذا الشخص بارًا. وفي المقابل حين يدين شخصًا ما، فهو يصرّح بكونه مذنبًا. فإن التبرير والإدانة يتعلّقان بالإقرار بصحة شيء صحيح بالفعل.
حين تسود العدالة، يصدر الحكم على المذنب، ويتم تبرئة البريء. إلا أن حكم التبرئة لا يجعل من رجل ما بريئًا، بل براءته الفعليّة هي التي تؤدي لتبرئته. وهكذا أيضًا إصدار الحكم على شخص ما لا يجعل منه مجرمًا، بل جرمه الفعلي هو الذي يؤدي للحكم عليه.
لابد لنا أن نتوقع، على سبيل العدالة البسيطة والمعروفة، أن يدين الله الخطاة ويبرر الأبرار. لكن إليكم الخبر المذهل: فإن الله يبرّر الخطاة. حاول أن تسمح لهذا التناقض الشديد أن يتغلغل داخل ذهنك. فإن الله يبرّر الخطاة! كيف له أن يفعل هذا؟
قدّم الله المسيح كفّارة عن خطايانا (رومية ٣: ٢٥). وهذا يعني أنه حين مات يسوع، انسكب فوقه كل الغضب والعداوة التي يذخرها الله في عدل تجاه الخطية، والفساد، والشر. وكان هذا الغضب يشبه كأسًا ممتلئة بدينونة الله، شربها يسوع حتى فرغت تمامًا. ففي الصليب امتص المسيح دينونة الله التي كنّا نستحقّها نحن عن خطايانا.
إن الإيمان يُوحّدنا بالمسيح، فحين نكون “في المسيح”، يحسب الله جميع خطايانا للمسيح وكأنّها خطاياه الشخصيّة، ويحسب برّه لنا وكأنّه برّنا نحن. فقد حمل المسيح دينونتنا وعقوبتنا، ونحن نتبرّر فيه. فمن خلال الصليب، أظهر الله بِرِّهِ لِيَكُونَ بَارًّا وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ (رومية ٣: ٢٦).
فإن كان الله يبرّر الأبرار فحسب، فكيف يكون لنا أي رجاء؟ لكن الخبر السار هو أن الله يبرّر الفجّار (رومية ٤: ٥). وحين نتّحد بالإيمان بيسوع المسيح، تصير قوة ذبيحته الكفاريّة لنا. فنتحرر من خوفنا من الدينونة التي نستحقها عن خطايانا وجرمنا، ونُقبِل إلى محبته الرائعة والفائقة.
التّبني: أنت محبوب
“وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ. ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا: «يَا أَبَا الآبُ». إِذًا لَسْتَ بَعْدُ عَبْدًا بَلِ ابْنًا، وَإِنْ كُنْتَ ابْنًا فَوَارِثٌ للهِ بِالْمَسِيحِ” (غلاطية ٤: ٤-٧)
إن الله يتبنّانا في المسيح داخل عائلته ويحبّنا كأبنائه وبناته. ولا يوجد اختبار محبة أيّا كان يمكن مقارنته بمحبّة الله لك في المسيح. فقد يتعهّد أحدهم أن يحبنا “حتى يفرق بيننا الموت”، لكن الله يتعهّد بأن يحبنا في الحياة، وعبر الموت، وإلى الأبديّة. لا يوجد آخر يمكنه أن يقول لنا: “لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ” [الترجمة الإنجليزيّة: لن أهملك أبدًا ولن أتركك أبدًا] (عبرانيين ١٣: ٥).
إن الله يحبنا محبة أبديّة. وهذا يعني أنّه أحبّنا قبل أن نُولد بل وقبل خلق العالم. فقد كنّا في فكر المسيح حين جاء إلى العالم، وحين تعلّق فوق الصليب، وحين قام من الأموات.
وعمل الروح القدس الخاص هو أن يُقنعنا بأننا أبناء الله الأحباء: “لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا” (رومية ٥: ٥). فإن الروح القدس يجعل محبة الله واقعًا ملموسًا اختباريًا. وهو يربطنا بحقيقة محبة الله لنا التي ظهرت بشكل قاطع في الصليب.
أحد التحدّيات التي سوف تواجهها في الحياة المسيحيّة هي أن تفطم نفسك عن عادة محاولة تمييز محبة الله على أساس المشاعر أو الظروف. فإن غريزتنا الفطريّة والطبيعيّة تُملي علينا بالشعور بأن الله يحبنا حين نكون أصحّاء، ولدينا وظيفة جيدة، وحين تسير الحياة على ما يرام. لكن حين تسوء الأوضاع، فإن غريزتنا الفوريّة هي التشكّك في محبة الله وافتراض الأسوأ.
ما ينبغي علينا فعله هو أن نذكِّر أنفسنا بالاستعلان غير المحدود لمحبة الله في الصليب: “اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟” (رومية ٨: ٣٢).
التقديس: ستصير مقدّسًا
“وَإِلهُ السَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِالتَّمَامِ. وَلْتُحْفَظْ رُوحُكُمْ وَنَفْسُكُمْ وَجَسَدُكُمْ كَامِلَةً بِلاَ لَوْمٍ عِنْدَ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. أَمِينٌ هُوَ الَّذِي يَدْعُوكُمُ الَّذِي سَيَفْعَلُ أَيْضًا” (١ تسالونيكي ٥: ٢٣-٢٤).
إن التقديس هو عمل الروح القدس التدريجيّ بداخل المؤمن، والذي به ننمو في الحياة التي يدعونا الله أن نحياها. وهذا التقديس هو شهوة واشتياق قلب كل مؤمن. يقول الأسقف جي. سي. رايل:
غالبية البشر يتمنون الذهاب إلى السماء حين يموتون، لكن القليل، وهذا ما نخشاه، هم من يتكبّدون عناء التفكير فيما إذا كانوا سيتمتّعون بالفعل بالسماء إن وصلوا إليها أم لا. فإن السماء موضع مقدس في الأساس … إذن ما الذي يمكن لإنسان غير مُقدَّس أن يفعله في السماء إن وصل إلى هناك؟[3]
ونقول في إعادة صياغة لحديث جون أوين في هذا السياق ذاته:
لا توجد فكرة أحمق أو أخبث من هذه، أن يُؤخذ شخص ما لم يتقدَّس في هذه الحياة، ولم يُجعَل مُقدَّسًا، إلى البركة التي ينطوي عليها التمتع بالله بعد هذه الحياة. مثل هذا الشخص لا يمكنه التمتع بالله، كما أن الله لن يكون مكافأة بالنسبة له. إن القداسة تتكمّل في السماء، لكنها دائمًا ما تبدأ في هذا العالم.[4]
دائمًا ما يرتبط التبرير والتقديس ببعضهما في المسيح، ويعد فهم كيفيّة ترابطهما أمرًا محوريًا ولازمًا لفهم الإنجيل. فإن أكثر الخطأين شيوعًا هو إمّا الخلط أو الفصل بينهما. فإن الخلط يحدث حين تنجرف في اعتقادك بأن موقفك أمام الله يعتمد بشكل ما على مستوى أدائك في الحياة المسيحيّة. هذا غير صحيح، فإنك تتبرّر بالإيمان بعمل المسيح المُكتمل.
أما الفصل فيحدث حين يعتقد المؤمن بأن طاعة المسيح ليست بالأمر الهام بما أننا نتبرر بالإيمان وحده. هذا أيضًا غير صحيح. فإن المسيح يجمع بركات التبرير والتقديس في نفسه. وحين نقبل المسيح بالإيمان، تصير هذه الهبات لنا معًا. فلا أحد يأخذ الواحدة دون الأخرى.
ولهذا يقول الكتاب المقدس: “الْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ” (عبرانيين ١٢: ١٤). هذا لا يعني أننا نخلص بأن نكون مقدسين، بل يعني أن السعي الحثيث وراء القداسة هو برهان على كوننا في المسيح، الذي يبرّرنا بدمه.
ويصلي بولس هكذا لأجل تقديس المؤمنين: “وَإِلهُ السَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِالتَّمَامِ” – وينبغي علينا نحن أن أيضًا أن نصلي لأجل تقديسنا. إلا أن التقديس هو أيضًا وعد: “أَمِينٌ هُوَ الَّذِي يَدْعُوكُمُ الَّذِي سَيَفْعَلُ أَيْضًا” (1 تسالونيكي ٥: ٢٣-٢٤).
تمسك بهذا الوعد حين تكون خائب الآمال من جراء غياب التقدم في حياتك الروحيّة. فإن ما بدأته نعمة الله فيك سيكتمل لمجده ولأجل فرحك. فإن الله سيعطيك سؤل قلبك، وستصير مشابهًا صورة ابنه إلى الأبد (رومية ٨: ٢٩).
التمجيد: ستعكس مجد المسيح
“مَتَى أُظْهِرَ الْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ فِي الْمَجْدِ” (كولوسي ٣: ٤). يظل واقعنا كتلة من التناقضات. وهذا ينطبق على كل مؤمن. فإننا نحب المسيح، لكننا نشعر بقوة جذب العالم، والجسد، والشيطان. ونحن نؤمن بالمسيح ونثق به، لكننا نصارع مع الكثير من الشكوك والمخاوف. كما أننا قد نلنا حياة جديدة في المسيح، لكن في الوقت ذاته أجسادنا معرضة للمرض، والشيخوخة، والموت.
فإن المؤمنين عبارة عن كتلة من التناقضات، لكن الأمر لن يظل هكذا على الدوام. فإن محبتك للمسيح ستكتمل، وسيتحول إيمانك إلى العيان، وستختبر أفراح الحياة الأبديّة في جسد مُقام. وهكذا ستكون مع المسيح في المجد إلى الأبد.
ولن توجد في مجد المسيح فحسب، لكن مجده أيضًا سيكون فيك. يقول بولس: “فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا” (رومية ٨: ١٨). فإن حياتك الروحيّة تشبه شجرة في فصل الشتاء. تبدو عارية، لكنها مع ذلك حيّة، وحين يُقبل الربيع، ستُزهر هذه الشجرة وتثمر. فإن مجدها الكامل عتيد أن يُرى.
فإن لتعلّمك كيفيّة التطلّع إلى مجدك المستقبليّ فائدة عظيمة في الحياة الروحيّة. فإننا لابد أن نستخدم هذا الحق لفائدتنا حين يبدو أن كل شيء يقف ضدنا. وهذا هو ما فعله بولس: “لِذلِكَ لاَ نَفْشَلُ، … لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا” (٢ كورنثوس ٤: ١٦-١٧). وهكذا يخبرنا الرسول من خبرته الشخصيّة كيف نضمن ألا نفشل.
إن الله يعمل من خلال تجارب حياتك التي تضعفك كي يصنع انعكاسًا فريدًا للمسيح فيك، سيدوم لمجده ولفرحك إلى الأبد. وفي ذلك اليوم، سيصير لنا كل ما وعد به الرب:
- سنعكس صورة وشبه الله بالكامل.
- سنتحرر من لعنة الشر.
- سنشترك مع المفديين من كل الأمم والشعوب في فرح الحياة الأبديّة.
- سندخل إلى محضر الله مفديين بدم يسوع.
- سنحيا هذه الحياة تحت بركة حكم المسيح في ملكوته إلى الأبد.
- سنحب الله من كل قلوبنا، ونفوسنا، وأفكارنا، وقدراتنا، ونحب قريبنا كأنفسنا.
- سنبتهج إلى الأبد في هذه الحياة الجديدة التي نلناها من القبر، والتي لنا من خلال يسوع المسيح ربنا.
نهاية كل شيء: سنرى الله
“ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا، وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْد” (رؤيا ٢١: ١). لقد رأى يوحنا سماءً جديدة وأرضًا جديدة، لم ير أرضًا مختلفة، بل أرضًا جديدة. فإن هذا الأرض ستُفتدى في النهاية من اللعنة، وتعتق من عبودية الفساد (رومية ٨: ٢١).
ثم رأى يوحنا “الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ” (رؤيا ٢١: ٢). وكان للمدينة أبواب تجاه الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب، مما يشير إلى تحقيق الله لوعده بأن يجمع جماعة ضخمة من البشر من كل أمة على الأرض، ويأتي بهم إلى أفراح الحياة في ملكوته الأبدي.
ولا توجد صورة واحدة كافية تمامًا لتصوير مجد ما أعدّه المسيح لنا. لذا فإلى جانب المدينة، رأى يوحنا صورة عروس مزينة بزينة رائعة لرجلها (رؤيا ٢١: ٢). فإن المسيح هو مركز فرح السماء، وسيصير كل فرحنا فيه.
ثم سمع يوحنا صوتًا عظيمًا من عرش السماء قائلاً: “هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْبًا، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهًا لَهُمْ” (رؤيا ٢١: ٣)، فقد تلاشى كل ما يفصلنا عن الله. وصار الله يشترك في الحياة الأبديّة مع جميع شعبه المُفتدى.
فإن الله سيمسح كل دمعة من عيونكم. وسيصير الحزن أمرًا بعيدًا عن اختبار شعب الله. ولن يوجد موت أو نواح أو بكاء أو وجع.
خاتمة:
لقد قطع الله وعودًا رائعة هو الوحيد القادر على الوفاء بها. فهي تتحقق في يسوع المسيح، الكلمة الذي صار جسدًا. هذه الوعود تتضمّن التجديد، والاتحاد بالمسيح، والتبرير، والتبني، والتقديس، والتمجيد، ووعد الفرح الأبدي عند اكتمال قصد الله في الفداء.
كل هذا هو لمن هم في يسوع المسيح. ويمكن أن يكون لك أنت أيضًا. فإن الموعد هُوَ لَكُمْ وَلأَوْلاَدِكُمْ وَلِكُلِّ الَّذِينَ عَلَى بُعْدٍ. فتوبوا. وآمنوا بالرب يسوع المسيح. وبالإيمان ستَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ (يوحنا ٢١: ٣١).
[1] John Calvin, The Institutes of the Christian Religion, 2.12.3 (http://www.ccel.org/ccel/calvin/institutes.iv.xiii.html)
[2] Martin Luther, “The Freedom of the Christian Religion,” in Martin Luther: Selections from His Writings, ed. John Dillenberger (New York: Anchor, 1962), 60.
[3] J. C. Ryle, Holiness (repr., Chicago: Moody, 2010), 58–89.
[4] Owen’s original wording is cited by Ryle, Holiness, 76–77.