أصل الخطية

التعريف

إن السؤال عن أصل الخطية يدور حول سبب خطية آدم، التي سقط بواسطتها الجنس البشري من كونه بَارًا إلى كونه مُدانًا، ويُفكِّر في العلاقة بين دخول الخطية إلى العالَم ومشيئة الخالق الصالح والقدوس صاحب السيادة على الكل.

الموجز

تَبدأ تَعاليم الكتاب المُقدَّس عن الخطية في جنة عدن، حيث تَعدَّى آدم الحظر الذي أعلنه الله بخصوص الأكل من الشجرة المحظورة. نَكتشف أنه قبل سقوط الإنسان، كانت الخطية موجودة في صورة الشيطان الثُعباني المُجرِّب. لكن، مثلما خلقَ اللهُ كلَ الأشياء جيدة، بما فيها الملائكة التي سقطت، وبشكل لا مَفر منه، يَجب أن نَتعامل مع سيادة الله، ومعرفته غير المحدودة، وقُدرته غير المحدودة فيما يَتعلَّق بِأصل الخطية. ستُظهر تعاليم الكتاب المُقدَّس المُتَّزِنَة أن الله ليس مَصدرَ الخطية، حيث أن الله في قداسته خالٍ من أي خطية أو شَر في ذاته. إن التأمَّل الحَذِر في الكتاب المُقدَّس يُعلِّم بأن الله أراد وجودَ الخطية بطريقة تَجعله كاملًا أخلاقيًا: لا يُعد الله السبب الرئيسي أبدًا لخطية البشر، بل السبب الثانوي. إن محاولة الوصول إلى فهم منطقي للخطية ستَصطدم دائمًا باللا منطقية الجوهرية للخطية. مع ذلك، في صليب يسوع المسيح، حيث شاء اللهُ أن يُسلَّم ابنه إلى الموت بأيدي الخُطاة المُذنبين، نَكتشف أفضل إجابة على الأسئلة بخصوص أصل الخطية في نعمة الله السيادية التي تُمجِّده في فِداء الخُطاة.


ما الذي تَسبَّبَ في خطية البشر؟

يُعتبر السؤال عن أصل الخطية هامًا بسبب ما يقوله لنا عن الإنسان وعن الله. وفقًا للنظريات الحديثة، تَنشأ خطيةُ الإنسان من أصوله التطورية. يُقال إن التاريخ يَتضمَّن صعودًا من البدايات البربرية، لذلك تُرى الخطية ببساطة على أنها مُتأصلة في طبيعة البشر. إن تأثير النظرة التطورية بشأن الإنسان هو تطبيع ما يدعوه الكتابُ المُقدَّس خطيةً على أنه ضرورةً بسيطة لِوجودنا.

إن هذه المنهجية الحديثة بخصوص أصل الخطية تَتعارض جذريًا مع الكتاب المُقدَّس في رفضها للصلاح الأصلي الذي اتَّصفَ به آدم. يُصرِّح نَص تكوين ١: ٢٧ بأن الله خلقَ “الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ،” وتُوحي هذه الصورة بالقداسة الشخصية، والبِر، وبذلك تُوحي بالحرية من ضرورة الخطية. كَتَبَ دونالد مَاكلاود قائلًا: “بحسب الكتاب المُقدَّس، كان الإنسان مُستقيمًا، بصفته مخلوقًا بواسطة الله. كان مخلوقًا على صورة الله. كان الإنسان خاليًا تمامًا من الخطية.”[1] لكنَّ الإنسانَ صار خاطئًا عندما استسلمَ آدم للتجرُبة في الجنة. بهذا المعنى الهام، أخطأ الإنسانُ عندما أرادَ آدم في قلبه أنْ يُخطئ. بعد أن مَنعه اللهُ من الأكل من شجرة معرفة الخير والشر (تكوين ٢: ١٧، ١٨)، أكلَ آدم من ثمر الشجرة وسقطَ في الخطية (تكوين ٣: ٦). لذلك، لم تَنشأ الخطية من الطبيعة البشرية مثلما خَلَقَها اللهُ، بل نَتجتْ عندما جَرَّبتْ الحيةُ الشريرة آدمَ من خلال زوجته. بمجرد أنْ أخطأ آدم، سقطَ كلُ الجنس البشري معه، خاسرًا الصلاح الأصلي المُرتبط بكونه مخلوقًا على صورة الله (تكوين ٦: ٤)، ومُشتركًا في ذنب آدم (رومية ٥: ١٢، ١٨)، وصائرًا مُلوَّثًا بالخطية، بحيث أنه من الآن فصاعدًا يُولَد كل إنسان بصفته خاطئًا (مزمور ٥١: ٥).

على الرغم من أننا نَستطيع أن نَربط دخول خطية البشر بِتجربة وسقوط آدم، نُلاحظ أن سقوط آدم سبقه سقوطُ الملائكة الشريرة، وعلى رأسهم الشيطان، الذي تَنكَّر في الجنة في هيئة الحية. لأنه عندما أخطأ آدم، كان حاضرًا في الجنة بالفعل ملاكًا خاطئًا. لا يُعرِّف الكتاب المُقدَّس بوضوح كيفية أو توقيتَ سقوط الملائكة. لكن يسوع قالَ إنَّ الشيطان “كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ” (يوحنا ٨: ٤٤؛ انظر ١ يوحنا ٣: ٨)، وهو ما يُشير على الأرجح إلى بداية قصة الخلق. يُحذِّر بولسُ قادةَ الكنيسة من الامتلاء بالغرور “فيسقطون في فَخ إبليس” (١ تيموثاوس ٣: ٦)، مُشيرًا إلى أن خطية إبليس الأصلية كانت الكبرياء الذي اغتاظَ من أن الله خلقَ الإنسانَ على صورته. من البديهي أن الشيطان أغوى آدمَ وحواء بأنْ يكونا “كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ” (التكوين ٣: ٥) لأن هذا العصيان الساخط صاحَب سقوطه هو.

الخطية ومشيئة الله

تُحضِرنا هذه البيانات الكتابية إلى السؤال عن علاقة الله بِأصل الخطية. يُعلِّق هيرمان باڤينك قائلًا: “على أساس الكتاب المُقدَّس، من المؤكَّد أن الخطية لم تبدأ أولًا على الأرض بل في السماء، أمام عرش الله، في مَحضره مُباشرةً.”[2] هل يعني هذا أن أصل الخطية يوجد في الله، أو في إرادة الله؟

بُناءً على الصفات الإلهية للمعرفة المُطلَقة والقُدرة المُطلَقة، من غير المعقول أن الخطية باعتبارها فِعلًا أو قوةً نشأتْ بِمَعزل عن إرادة الله. سعى بعض المُفكرين لإعفاء الله من تداعيات هذه الحقيقة. على سبيل المِثال، جادَل إيمانويل كانط بأن الله أرادَ وجودَ الخطية لأنها كانت ضرورية لإمكانية وجود الخير في العالَم. مثلما تستطيع الطيور أن تَطير فقط بسبب مُقاومة الرياح المُعاكِسة، هكذا يُعتبر أيضًا ضغطُ الخطية ضروريًا للكمال الأخلاقي للإنسان.[3] جادَلَ آخرون بأن الخطية كانت ضرورية لِخليقة الله لكي يُمارِس الإنسانُ حُريةَ الإرادة. إن المُشكلة في هذه الآراء هي أن الخطية تَصير بِذلك طبيعيةً في حالة البشر ويُمكن حتى أن تُعتبر صلاحًا بدرجةٍ ما. تُناقِض هذه الآراء إصرارَ الكتاب المُقدَّس على كون الخطية “الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ إِلهِنَا” (٢ أخبار الأيام ٢٩: ٦).

يُعلِّم الكتابُ المُقدَّس بانتظام عن سيادة الله على كل الأشياء (متى ١٠: ٩؛ مزمور ٣٣: ١١)، وهم ما يَتضمَّن سيادته على أصل الخطية، لكن الكتاب المُقدَّس يَرفُض صراحةً أن يكون الله نفسه هو مَصدر الشر. يُصرِّح نَصُ يعقوب ١: ١٣ بأن الله ليس مَصدر الخطية: “لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: «إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ»، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا” (يعقوب ١: ١٣). ويُصِرُّ نَصُ ١ يوحنا ١: ٥ قائلًا “إِنَّ اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ،” لذلك لم تَنشأ الخطيةُ مِن طبيعة أو كينونة الله. كذلك، لم يَصنع اللهُ أي شيء شرير بأي حال، مثلما يُعلِن نَصُ تكوين ١: ٣١: “وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا.” يُصرِّح نَصُ أيوب ٣٤: ١٠ بأنه “حَاشَا ِللهِ مِنَ الشَّرِّ، وَلِلْقَدِيرِ مِنَ الظُّلْمِ.” علاوة على ذلك، يُصرِّح الكتابُ المُقدَّس صراحةً بكراهية الله للخطية (مزمور ٥: ٤؛ لوقا ١٦: ١٥).

هل تُظهِر هذه الآيات أن الله سَمحَ فقط بالخطية، دون أن يَشاء حدوثها؟ يجب أن تكون الإجابة “لا،” إذا كُنا نَستبعد بكلمة “سَمحَ” إرادةَ الله الإيجابية. كَتَبَ فرِيد جي زاسبِل قائلًا: “إن علاقة الله بالأفعال الخاطئة ليست علاقةً سلبية بَحتة: إن اشتراكه في الأمر ليس مُجرد سماح.”[4] يُمكننا عن حقٍ أن نقول إنَّ الله أرادَ أن يَسمح بالخطية،  لكن بِفعله ذلك، تأكَّدتْ سيطرتُه السيادية على الخطية. يَتعامل اللاهوتيون مع هذا الموقف عن طريق التأكيد على أن دَور الله في أصل الخطية لا يَتضمَّن سبَبيةً رئيسية بل ثانوية. لقد كانت هي إرادة الشيطان الذي أخطأ بِقيادته لِتَمرُّد الملائكة، مثلما كانت هي إرادة آدم الذي أخطأ بأخذه من الثمرة المَحظورة. وقعتْ هذه الأحداث في النهاية بحسب إرادة الله النافذة، مع ذلك يَظل الشيطان والإنسان مسؤولين عن خطاياهما. يُوضِّح زاسبِل قائلًا: “إن كلَ ما يَحدُث، الخير والشر، يَنبُع من التنظيم الإلهي الإيجابي لما يَحدُث؛ لكن النوعية الأخلاقية للفِعل نفسه تتأصَّل في الطبيعة الأخلاقية للشخص الذي يقوم بالِفعل.”[5] في نفس الوقت، يَجب أن نُلاحظ فرقًا بين إرادة الله من جهة الخير وإرادته من جهة الشر، تَتضمَّن الإرادة الأولى تمكينًا إيجابيًا وتَتضمَّن الثانية سماحًا إيجابيًا: كَتبَ باڤينك قائلًا: “لا يستطيع النور أن يُنتِج بنفسه ظلامًا؛ يستطيع الظلامُ أن يَنشأ فقط عندما يَنسحب النورُ.”[6]

بينما يجب أن نَرفض أي صلاح في الخطية نفسها، يَظل من الحقيقي أن الله عَيَّنَ حدوثَ الخطية —بالطبع، يَستخدم اللهُ الخطية بشكلٍ يخلو من الخطية— من أجل مَدح مجده. بما أنَّ “مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ،” إذن في النهاية أرادَ اللهُ أن تَحدُث الخطية من أجل أن يُظهِر كمالَ صفاته، لكي يكون “لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ” (رومية ١١: ٣٦). لذلك يُمكننا أن نَذهب إلى حَد القوْل بأنه على الرغم من أن الخطية شرٌ، إلا أنه من الجيد أنه توجد خطية، وإلا لما كان الله أرادَ لها أن توجد.

إن التعليم الكتابي الأوضح الذي يؤكِّد على إرادة الله بخصوص الخطية ومسؤولية الإنسان عن الخطية شكَّلَ جُزءًا من عِظة بطرس في يوم الخمسين. في إدانته لِشعب أورشليم على خطيتهم تجاه المُخلِّص، قال بطرس: “يَسُوعُ …هذَا … بِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ.” (أعمال الرسل ٢: ٢٢، ٢٣). إن هذه الخطية هي مِن فِعل الناس الذين طالَبوا بأن يُصلَب يسوع، وبيلاطس في سوء تنفيذه للعدالة، والجنود الرومان الذين سمَّروا المسيح إلى الصليب، والكهنة والقادة الدينيين الآخرين الذين استهزأوا بابن الله في أثناء عذابه. مع ذلك، نَسَبَ بطرسُ إلى الله السيادةَ الكاملة على كل هذه الأحداث الشريرة. يَضع في وسط آية ٢٣ التصريح بأن يسوع كان “مُسَلَّمًا بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ” (أعمال الرسل ٢: ٢٣). لم يَعرف اللهُ فقط أن ابنه سيُعذَّب، وسيُسخَر منه، وسيُعدَم، بل وَقعتْ هذه الأحداث بحسب “مشورته” الأزلية و”المحتومة” للتاريخ.

 “اللُغز” المُرتبط بأصل الخطية

عند الإجابة على أسئلةٍ مثل السؤال المُتعلِّق بأصل الخطية، بينما نستطيع أن نؤكِّد على العديد من الحقائق الهامة، إلا أننا نستطيع أن نَقف أمام ما دعاه هيرمان باڤينك: “أكبر لُغز في الحياة وأثقل صليب يُمكن للعقل أنْ يَحمله.”[7] عند النظر إلى الخطية باعتبارها تفسيرًا للعالَم مثلما نَعرفه، فإنها تُعتبر منطقيةً تمامًا: في الواقع، بدون العقيدة المُتعلِّقة بسقوط البشر، يُصبح العالَم غير مفهوم. مع ذلك، بالنظر إلى البيانات الكتابية بخصوص الخطية نفسها، عندما نَسأل كيف أن كائنات صالحة خَلَقَها الله –مثل الملاك إبليس والإنسان آدم– كان بإمكانها أن تَرغب في أن تَرتكِب الخطيةَ، فإن كل الإجابات تُفْلِتْ مِنَّا. إن المحاولات لِعَقْلَنَة أصل الخطية تَصطدم باللا منطقية الجوهرية المُتعلِّقة بتَمرُّد المخلوق على الخالق. لا تُؤثِّر هذه اللا منطقية فقط على نشأةَ الخطية في التاريخ القديم، بل تُؤثِّر أيضًا على كل الخطايا التي نَرتكبها اليوم. عندما يَسأل المؤمنُ في مرارةٍ: “لماذا فَعلتُ الخطيةَ؟” توجد أوصاف –بسبب التجرُبة، بسبب الخطية الساكنة الباقية، إلخ.– لكن لا توجد تفسيرات حقيقية لأصل أي خطية.

لهذا السبب، في ظل عدم وجود إجابة حقيقية من على جانب الإنسان من المُعادلة، يستطيع المؤمنون أن يكونوا مُمتنين أن سؤال “لماذا؟” بخصوص الخطية يَنال رضاه في نعمة إرادة الله السيادية. يُصرِّح نَصُ رومية ١١: ٣٢ قائلًا: “لأَنَّ اللهَ أَغْلَقَ عَلَى الْجَمِيعِ مَعًا فِي الْعِصْيَانِ، لِكَيْ يَرْحَمَ الْجَمِيعَ.” يُمكن فقط في ضوء مجد نعمة الله أن تَبدأ الخطية في أن تَكون معقولة. لقد اختار اللهُ أن يُخلِّص شعبه بصفتهم خُطاة من خلال دَم ابنه باعتبار ذلك إظهارًا لرحمته السيادية. لذلك، يُدرِك المؤمنون أنه بسبب أننا تَحولَّنا عن الخطية التي غُسِلتْ بواسطة الدَم الكفَّاري، فإنَّ الله يَتمجَّد في ابنه. بعيدًا كل البُعد عن تقليل أهمية خطايانا المستمرة، يُدرِك المؤمنون أيضًا أن الله يَتمجَّد الآن في القوة التي تُقدِّمها نعمته، مُمكِّنة إيانا من ألا نُخطئ. لذلك، فإن لُغز أصل الخطية يُمكِّن المؤمنين في المسيح، في وضوحٍ مجيد، من إدراك محبة ونعمة الله المُدهشة التي في ابنه، “لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ” (أفسس ١: ٦).


[1] Donald Macleod, A Faith to Live By: Understanding Christian Doctrine (Ross-shire, UK: Christian Focus, 1998), 110.

[2] Herman Bavinck, Reformed Dogmatics, 4 vols., John Vriend, trans. (Grand Rapids, MI: Baker, 2006), 3:36.

[3] Ibid., 3:56.

[4] Fred G. Zaspel, The Theology of B. B. Warfield: A Systematic Summary (Wheaton, IL: Crossway, 2010), 205.

[5] Ibid.

[6] Bavinck, Reformed Dogmatics, 3:63.

[7] Ibid., 53.

شارك مع أصدقائك

ريتشارد د. فيليبس

حاصل على ماجستير اللاهوت من كليّة وستمنستر للاهوت، ودرجة الدكتوراة من كليّة جرينفيل المشيخيّة للاهوت.