التعريف
تشمل التوبة المسيحيَّة الحقيقيَّة تبكيتًا نابعًا من القلب على الخطية، وندمًا بسبب الإساءة التي ارتُكِبت في حق الله، وتحوُّلًا عن طريقة الحياة الخاطئة، وتوجُّهًا إلى طريقة حياة تكرم الله وتمجده.
الموجز
التوبة الحقيقيَّة ليست مجرد “إعادة تفكير” من الشخص في شكل علاقته بالخطية وبالله، بل ينبغي أن تكون التوبة متأصلة أولًا في إدراكٍ من الشخص لمدى شرِّ فعلٍ، أو عاطفة، أو معتقد، أو أسلوب حياة معيَّن. بعد ذلك، على الشخص ليس فقط أن يشعر بالخوف من معاقبة الله له على خطيته، بل أن يحزن بسبب مدى إساءة الخطية إلى الله، ومدى تسبُّبها في حزن له. بتعبير آخر، يجب أن تتأصل التوبة في تقدير كبير لقيمة الله، لا لقيمة النفس. وحينئذ فقط، يمكن للتحوُّل عن الخطية إلى القداسة أن يسمَّى توبةً حقيقيَّة. وبالتالي، فإن عدم التوبة هو شكل من أشكال عبادة الأوثان. ورفض التوبة هو بمثابة إعلاءٍ من شأن نفوسنا فوق مجد الله. لكن عندما يتوب أحدهم، يؤدِّي ذلك إلى غفران الخطية، ورفع التأديب الإلهي، واستعادة الشركة مع الله.
التوبة الكتابيَّة هي مفهوم يسهل إساءة فهمه وتطبيقه، الأمر الذي يستدعي منا دراسة متمعِّنة له. تبيِّن العديد من النصوص بوضوح أن التوبة، مع الإيمان، ضرورية لغفران الخطايا (لوقا 24: 47؛ أعمال الرسل 2: 38؛ 3: 19؛ 5: 31؛ 11: 18). في أعمال الرسل 3: 19، وأعمال الرسل 26: 20، الفعل metanoeō (“يتوب”)، والفعل epistrephō (“يرجع”؛ انظر أعمال الرسل 26: 18) “وُضِعا جنبًا إلى جنب على أنهما لفظان يكافئ أحدهما الآخر، مع أنه في هذه النصوص، ربما يركِّز الفعل الأول على ترك الشر، في حين يركز الفعل الثاني على التوجُّه إلى الله”.[1] لكن، سينصب تركيزنا هنا في الأساس على موضوع التوبة في حياة المؤمن المولود ثانية.
معنى الكلمة
الخطأ الرئيس الذي يقع فيه الكثيرون هو أنهم يؤسِّسون فهمهم للتوبة على جذر الكلمة اليونانية. فإن الفعل اليوناني metanoeō (“يتوب”) مكوَّن من حرف الجر meta (ومعناه “مع” أو “بعد”)، والفعل noeō (ومعناه “يفهم” أو “يفكر”). وبالتالي، فإن الاستنتاج الذي يستخلصه البعض هو أن المعنى الوحيد للتوبة التي يطالَب بها المؤمن هو أن يغيِّر من فكره، أو يعيد النظر والتفكير في الخطية وفي علاقته بالله. لكن معاني الكلمات لا تتحدَّد هكذا، لكنها تتحدَّد من خلال طبيعة استخدام الكلمة، والسياق الذي جاءت فيه. فإن تغيير الذهن أو المنظور هو أمر عديم القيمة إذا لم يكن مصحوبًا بتغيير في الاتجاه، وفي شكل الحياة والسلوك.
تبدأ التوبة الحقيقيَّة بتبكيتٍ من القلب على الخطية، لكنها لا تنتهي عند ذلك بأي حال من الأحوال. فهي تبدأ بإدراك مؤلم لا لبس فيه للشخص بأنه قد تحدَّى الله، بقبوله لما يزدري به الله، وبغضته، أو على الأقل عدم اكتراثه بما يحبه الله. وبالتالي، فإن التوبة معناها أن يدرك المرء في قلبه، ويقول لنفسه: “هذا خطأ. لقد أخطأتُ، وأحزنتُ الله”. وعكس الإدراك هو محاولة التبرير، أي المحاولة الأنانية من الشخص أن يبرِّر استباحته الأخلاقية، من خلال لجوئه إلى أيِّ نوع من أنواع الأعذار، من قبيل: “أنا ضحية، إذا عرفتَ ما مررتُ به، ومدى سوء معاملة الآخرين لي، ستلتمس لي بعض العذر”.
توبة داود
يقول جي. آي. باكر (J. I. Packer) إن التوبة الحقيقيَّة “تبدأ فقط عندما يَخرُج الشخص من دائرة ما يسميه الكتاب المقدَّس خداعًا للنفس (راجع يعقوب 1: 22، 26؛ 1يوحنا 1: 8)، وما يسميه المشيرون المعاصرون بالإنكار، ثم يدخل إلى ما يسميه الكتاب المقدَّس بالتبكيت على الخطية (راجع يوحنا 16: 8)”.[2] كذلك، كي تكون توبة أحدهم حقيقيَّة، يجب أن يعترف بالخطية للربِّ بكل صراحة وصدق. نرى ذلك في المزمور 32، حيث يصف داود خبرته الشخصيَّة عقب ارتكابه الزنا مع بثشبع. فعندما تجاوب داود أخيرًا مع التبكيت الذي شعر به في قلبه، نتج عن ذلك اعتراف بفمه:
طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ. طُوبَى لِرَجُلٍ لَا يَحْسِبُ لَهُ ٱلرَّبُّ خَطِيَّةً، وَلَا فِي رُوحِهِ غِشٌّ … أَعْتَرِفُ لَكَ بِخَطِيَّتِي وَلَا أَكْتُمُ إِثْمِي. قُلْتُ: «أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي» وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي” (مزمور 32: 1-2، 5)
استخدم داود هنا كلمتين مختلفتين لوصف اعترافه (مزمور 32: 5). فقد “اعترف” بخطيته، ورفض أن “يكتم” إثمه. فهو لم يحتفظ لنفسه بشيء، ولم يُجَمِّل الأمر، أو يقدِّم أية تنازلات أخلاقية؛ بل كان صريحًا تمامًا. لم يلتمس داود لنفسه أي أعذار، ولم يقدم أية تبريرات، ورفض أن يلقي باللوم على أحد.[3]
عندما يتوب أحدهم توبة حقيقية، يكون لديه وعيٌ بأن الخطية التي ارتُكِبت، بغض النظر عن طبيعتها، قد ارتُكِبت في النهاية في حق الله وحده. في مزمور 51: 4، قال داود: “إِلَيْكَ وَحْدَكَ [يا الله] أَخْطَأْتُ، وَٱلشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ”. فمع أن داود استغل بثشبع جنسيًّا، وتآمر على قتل أوريا زوجها، وجلب العار على عائلته، وخان ثقة أمة إسرائيل فيه، لكنه رأى أن خطيته ارتُكِبت في حق الله وحده في المقام الأول. يقول بيرون (Perowne) عن ذلك: “لقد وقف وجهًا لوجه أمام الله، دون أن يرى شيئًا أو شخصًا آخر، ودون أن يفكر في أي شيء آخر، سوى حضور الله الذي تجاهله، وقداسة الله التي أغضبها، ومحبة الله التي ازدرى بها”.[4] فقد شعر داود بانكسار شديد لأنه تعامل مع الله بكل هذا القدر من التجاهل، لدرجة أنه أُعمِي عن كلِّ جوانب أو أبعاد سلوكه الأخرى.
ومع أن التوبة هي أكثر من مجرد تنفيس نفسي عن المشاعر، هي تنطوي على شعور حقيقي بالندم. فإذا لم يشعر المرء باستياء حقيقي من خطيته، لن تكون هناك توبة. فإن التوبة مؤلمة، لكنها ألم عذب. وهي تستلزم انكسار القلب (مزمور 51: 17؛ إشعياء 7: 15)، لكنه انكسار يتطلع دائمًا إلى الشفاء، والاسترداد، وإلى نظرة جديدة إلى جمال المسيح، وإلى النعمة الغافرة.
وبالتالي، فإن التوبة أكثر من مجرد شعور. يمكن للمشاعر أن تكون عابرة، في حين أن التوبة الحقيقية تصنع ثمرًا. يوجِّهنا ذلك إلى الفرق بين “الندم” و”التوبة”. فإن الندم هو تأسُّف على الخطية، مدفوعٌ بخوف الشخص على نفسه، مثل أن يقول: “يا للهول، لقد أُمسِكتُ في الخطية، ماذا سيحدث لي الآن؟” لكن في المقابل، التوبة هي تأسُّف على ارتكاب إساءة إلى محبة الله، وألم بسبب إحزان الروح القدس. بتعبير آخر، يمكن لأحدهم أن “يتوب” خوفًا من العقاب، وليس بدافع بغضة للخطية.
توبة كورنثوس
فضلًا عن ذلك، يجب تمييز التوبة الكتابيَّة عن التوبة الجسديَّة أو توبة العالم. يُرَى هذا الفرق بسهولة شديدة في كلمات بولس في 2كورنثوس 7: 8-12. كان بولس قد كتب رسالته “القاسية” إلى مؤمني كورنثوس. وكان “مِنْ حُزْنٍ كَثِيرٍ … بِدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ” أن كتب إليهم هذه الرسالة المؤلمة للغاية (2كورنثوس 2: 4). ومن الواضح أنه تحدث بقوة وحسم عن طبيعة خطاياهم، وحاجتهم إلى التوبة؛ وبهذا، خاطر بأن يخسر علاقته بهم، منهيًا على أي أمل في شَرِكة مستقبليَّة معهم. وفي حين أنه ندم في البداية على كتابة هذه الرسالة، لكنه فرح لاحقًا،
لَا لِأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ، بَلْ لِأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ لِلتَّوْبَةِ. لِأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللهِ لِكَيْ لَا تَتَخَسَّرُوا مِنَّا فِي شَيْءٍ. لِأَنَّ ٱلْحُزْنَ ٱلَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلَاصٍ بِلَا نَدَامَةٍ، وَأَمَّا حُزْنُ ٱلْعَالَمِ فَيُنْشِئُ مَوْتًا. فَإِنَّهُ هُوَذَا حُزْنُكُمْ هَذَا عَيْنُهُ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللهِ، كَمْ أَنْشَأَ فِيكُمْ: مِنَ ٱلِٱجْتِهَادِ، بَلْ مِنَ ٱلِٱحْتِجَاجِ، بَلْ مِنَ ٱلْغَيْظِ، بَلْ مِنَ ٱلْخَوْفِ، بَلْ مِنَ ٱلشَّوْقِ، بَلْ مِنَ ٱلْغَيْرَةِ، بَلْ مِنَ ٱلِٱنْتِقَامِ. فِي كُلِّ شَيْءٍ أَظْهَرْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أَنَّكُمْ أَبْرِيَاءُ فِي هَذَا ٱلْأَمْرِ. إِذًا وَإِنْ كُنْتُ قَدْ كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ، فَلَيْسَ لِأَجْلِ ٱلْمُذْنِبِ وَلَا لِأَجْلِ ٱلْمُذْنَبِ إِلَيْهِ، بَلْ لِكَيْ يَظْهَرَ لَكُمْ أَمَامَ ٱللهِ ٱجْتِهَادُنَا لِأَجْلِكُمْ (2كورنثوس 7: 8-12)
فإن تلك الرسالة أثارت فيهم حزنًا أو أسفًا على الخطية “بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللهِ” (2كورنثوس 7: 9، 10، 11)، أي إن هذا الحزن كان متوافقًا مع فكر الله، أو كان مدفوعًا بقناعة منهم بأن خطاياهم أساءت إلى الله، وليس إلى بولس وحده. وقد قارن بولس بين هذا الحزن و”حُزْنُ ٱلْعَالَمِ” (2كورنثوس 7: 10)، الذي ينشأ ليس بسبب تعدِّي أحدهم على إله مجيد وقدوس، بل فقط لأنه أُمسِك أو انكشف أمره. فإن حزن العالم هو في جوهره رثاء للنفس، لأن أمر المرء قد انكشف، وفقد مكانته، أو حظوته، أو احترامه في أعين الناس. أما الحزن الذي بحسب مشيئة الله، فيحدث عندما يحسب المرء أن خطيته أهانت الله.
وإذا كان مؤمنو كورنثوس فيما سبق متبلِّدين وغير مبالين في تجاوبهم مع الرسول، صاروا الآن مجتهدين (2كورنثوس 7: 11أ) في غيرتهم وحماسهم تجاه فعل الصواب. وإذا كانوا فيما سبق قد أنكروا ازدواجيتهم، صاروا هذه المرة متلهِّفين على “الاحتجاج” (7: 11ب)، وذلك لعدم رغبتهم في أن تنعكس إخفاقاتهم بالسوء على المسيح والإنجيل. فإن رسالة بولس، الموحى بها بالروح القدس، قد أشعلت فيهم “غيظًا” (7: 11ج) من أنفسهم، لأنهم لم يدافعوا عن بولس، ولأنهم سمحوا للوضع بأن يخرج تمامًا عن سيطرتهم (وربما أنشأت فيهم غيظًا ضد المخطئ أيضًا، لأن أفعاله شكَّلت تحديًا وقحًا وسافرًا لسلطة بولس). وبذلك، كان الأمر في البداية اختبارًا مزعجًا على الجميع، لكن في النهاية، أثمر عن حصادٍ من التوبة، والاسترداد، والفرح.[5]
في التوبة الحقيقيَّة، يجب أن يحدث رفض لكل الخطايا المَعنيَّة، واتخاذ خطوات عملية إيجابية لتجنُّب أي شيء يمكن أن يسبب التعثُّر والزلل (راجع أعمال الرسل 19: 18-19). وينبغي أن يتحلَّى الشخص بعزم متعمَّد على تغيير اتجاهه، والابتعاد عن أيِّ إيحاء بسيط بالخطية (انظر مزمور 139: 23؛ رومية 13: 14). فإذا لم نقم، فيما نسمِّيه “توبة”، بهجر البيئة التي ترعرعت فيها خطيتنا للمرة الأولى، والتي فيها، على الأرجح، ستظل الخطية تنمو وتزدهر، ستكون توبتنا هذه موضع شك. ينبغي أن يحدث إصلاح من القلب، أي عزم واضح على اتباع الطهارة، وعمل ما يرضي الله (1تسالونيكي 1: 9).
لماذا لا نتوب؟
توجد عدة أسباب يجد البشر لأجلها صعوبةً في أن يتوبوا. على سبيل المثال، الشيطان والنظام العالمي قادانا إلى أن نصدِّق الكذبة القائلة إن قيمتنا كبشرٍ تعتمد على شيء آخر غير ما فعله المسيح لأجلنا، وغير هويتنا في المسيح بالإيمان وحده. فإذا ظن أحدهم أن أشخاصًا آخرين يتمتعون بسُلطة تحديد قيمة الإنسان، سيصير مترددًا دائمًا عن كشف أي شيء عن حياته الداخليَّة يمكن أن يسبب نقصًا في تقدير هؤلاء الأشخاص له.
وبالتالي، فإن عدم التوبة هو شكل من أشكال عبادة الأوثان، ورفض التوبة هو بمثابة إعلاء من شأن نفوسنا فوق مجد الله، ونسب قيمة للراحة التي نتصور أن السرية تمدُّنا بها، أكثر من قيمة مجد الله وكرامته. فهي بمثابة تصريح مني بأن أماني ومكانتي في المجتمع أعلى قيمة من اسم الله، وبأنني لا أتوب لأنني أعتز بصورتي أكثر من اعتزازي بصورة الله.
باختصار، لا يتوب الناس لأنهم مكرَّسون في الأساس لحفظ ماء وجوههم. فهم يخافون من انكشاف أمرهم، لأنهم يخشون الرفض، والسخرية، والإقصاء. وهذه الأمور مخيفة فقط للذين لم يدركوا بعد بما يكفي أنهم مقبولون، ومقدَّرون، ومرغوب فيهم من المسيح.
لمَاذا ينبغي أن نتوب؟
إن سعي أحدهم الصادق إلى التوبة، وتبنِّيه هذا التوجُّه بأمانة، يؤدِّي إلى أعظم بركة على الإطلاق، وهي الغفران! فإنه طوبى للرجل الذي “غُفِر” إثمه (مزمور 32: 1). كانت خطية داود تشبه عبئًا ثقيلًا ومتعبًا، يتوق المرء إلى التحرُّر منه. والغفران قد رفع هذا العبء وهذا الحمل عن كاهله. كذلك، طوبى للرجل الذي “سُتِرت” خطيته (مزمور 32: 1). يبدو الأمر هنا كما لو أن داود يقول: “يا أبي العزيز، ما أعظم الفرح الناتج عن معرفتي بأنني إذا ‘رفعتُ الستار’ (32: 5) عن خطيتي، ولم أكتمها، فإنك أنت الذي ستسترها!” لم يقصد داود أن يوحي بذلك بأن خطيته فقط ستحتجب عن الأنظار، لكنها ستظل موجودة بشكل ما كي تدينه وتهزمه؛ لكنه كان يقصد أن الله نفسه لم يَعُد يراها. فهو قد سترها عن كلِّ الأنظار. وأخيرًا، طوبى للرجل أو المرأة، وللشاب أو الشيخ، الذي لا “يحسب” له الرب خطية (مزمور 32: 2). فلم يعد هناك سجل للخطية، محفوظ في مكان ما. فالله ليس مسجلًا روحيًّا للأهداف، لأولئك الذين يطلبون نعمة غفرانه.
لكن تردُّدنا عن التوبة يمكن أن يؤدي في كثير من الأحيان إلى التأديب الإلهي. فعندما تأمل داود في خطيته، وفي المدة التي ظل ساكتًا فيها عن الاعتراف بها، وصف تأثير إثمه عليه بمفردات جسديَّة قائلًا:
لَمَّا سَكَتُّ بَلِيَتْ عِظَامِي مِنْ زَفِيرِي ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ. لأَنَّ يَدَكَ ثَقُلَتْ عَلَيَّ نَهَارًا وَلَيْلًا. تَحَوَّلَتْ رُطُوبَتِي إِلَى يُبُوسَةِ ٱلْقَيْظِ” (مزمور 32: 3-4)
لم تكن المشكلة تكمن فقط في الخطية التي ارتكبها داود، بل في عدم توبته. فقد سكت عن خطيته، وكتمها، وأبقى عليها في أعماقه، ظنًّا منه بأنها اختفت إلى الأبد. فإنه قد تجاهل الغصة التي في قلبه، وأنكر الألم الذي يعتمل في ضميره، وخدَّر نفسه لئلا يشعر بوخزات التبكيت المستمرة.
لكن، هل كان داود هنا فقط يعبِّر عن ألمه الروحي باستخدام أعراض جسمانيَّة؟ في حين أن هذا أمر محتمَل، لكنني أعتقد أن داود كان يشعر بالفعل بألم خطيته في جسده. فما نراه هنا يمثِّل قانون العيش في عالم الله. فإذا كتمت الخطية داخل نفسك، ستتسرَّب حتمًا في النهاية إلى الخارج مثل السائل الحمضي، وتنخر في عظامك حتى تتآكل. فالخطية غير المعترَف بها، والتي بلا توبة، تشبه قرحة متقيِّحة. فإنك ربما تتجاهلها لبعض الوقت، لكنك لن تستطيع فعل ذلك إلى الأبد.
فقد كانت التأثيرات الماديَّة لخيارات داود الروحيَّة ظاهرة بصورة مؤلمة. فقد شعر بالذبول والتهتك: “بَلِيَتْ عِظَامِي” (راجع مزمور 6: 2)؛ وبالضيق والانزعاج: “زَفِيرِي ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ”. كذلك، شعر بأنه مستنزَف: “تَحَوَّلَتْ رُطُوبَتِي إِلَى يُبُوسَةِ ٱلْقَيْظِ”. فمثل نبات يذبل تحت شمس الصحراء الحارقة، هكذا يبس داود، وشعر بالاستنزاف من جراء كتمان خطيته. بتعبير آخر، أصيب داود بالمرض بالفعل بسبب رفضه “مصارحة” الله. فقد آلمه جسده، لأن نفسه كانت في حالة تمرد وعصيان. تؤدي القرارات الروحيَّة عادة إلى عواقب ماديَّة وجسديَّة. فالله لن يدع أولاده ببساطة يخطئون دون تحمُّل أية عواقب. وفي حقيقة الأمر، كانت يد الله هي التي ثقلت بقوة على قلب داود. فإن ارتكاب الخطية دون الشعور بوخزة يد الله التأديبيَّة هو علامة على كون الشخص ابنًا غير شرعي لله.
تتوقف شركتنا مع المسيح دائمًا على توبتنا الصادقة والقلبيَّة عن الخطية. فصحيح أننا آمنون تمامًا من جهة اتحادنا الأبدي بالمسيح فقط وحصريًّا بفضل نعمة الله المجيدة، لكن قدرتنا على الاستمتاع بثمار هذا الاتحاد، وقدرتنا على الإحساس، والتمتع، والتلذذ بكل ما يترتب على هذا الاتحاد الخلاصي تتأثر كثيرًا، سواء للأفضل أو للأسوأ، بتجاوبنا في توبة مع الروح القدس، عندما ينبِّهنا إلى الطرق التي لم نكرم بها الله، أو نطع مشيئته المعلنة في الكتاب المقدَّس.
دعوة يسوع إلى التوبة
في العديد من المرات، دعا يسوع الكنائس السبع في أسيا الصغرى إلى التوبة. فإلى كنيسة برغامس، قال يسوع: “فَتُبْ” (رؤيا 2: 16أ). وإلى كنيسة ساردس، قال: “فَٱذْكُرْ كَيْفَ أَخَذْتَ وَسَمِعْتَ، وَٱحْفَظْ وَتُبْ” (رؤيا 3: 3). وإلى كنيسة لاودكية، قال: “إِنِّي كُلُّ مَنْ أُحِبُّهُ أُوَبِّخُهُ وَأُؤَدِّبُهُ. فَكُنْ غَيُورًا وَتُبْ” (رؤيا 3: 19). وتمدُّنا كلمات الرب يسوع إلى كنيسة أفسس بفائدة خاصة:
لَكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ: أَنَّكَ تَرَكْتَ مَحَبَّتَكَ ٱلْأُولَى. فَٱذْكُرْ مِنْ أَيْنَ سَقَطْتَ وَتُبْ، وَٱعْمَلِ ٱلْأَعْمَالَ ٱلْأُولَى، وَإِلَّا فَإِنِّي آتِيكَ عَنْ قَرِيبٍ وَأُزَحْزِحُ مَنَارَتَكَ مِنْ مَكَانِهَا، إِنْ لَمْ تَتُبْ (رؤيا 2: 4-5)
فإن التوبة التي يدعو يسوع الكنيسة إليها هي توبةٌ عن سلوك ما، وتبني سلوك آخر. فإنها تعني أن تتوقف عن إهمال محبتك الأولى، وأن تعمل “الأعمال الأولى”. هذه هي التوبة الحقيقية. فإن الإسراع إلى التوبة ليس معناه استسلامًا لحياة يهيمن عليها وعي دائم بالخطية؛ لكن، ينبغي أن نكون على وعي بخطايانا تحديدًا حتى يمكن لحقيقة نعمة الله الغافرة، والمجدِّدة، والمنعشة أن تتحكم في حياتنا اليومية، وتمدُّها بالطاقة والقوة.
[1] see the New International Dictionary of New Testament Theology and Exegesis, 3:292
[2] see J.I. Packer, Rediscovering Holiness, 123–24
[3] see Sam Storms, More Precious Than Gold: 50 Daily Meditations on the Psalms, 92–96
[4] see J.J. Stewart Perowne, The Book of Psalms, 416
[5] see Sam Storms, A Sincere and Pure Devotion to Christ: 100 Daily Meditations on 2 Corinthians, 24–28