التَعْرِيف
تُشَكِّلُ العُهُودُ الكِتَابِيَّةُ خيطًا موَحِّدًا لعملِ الله الخلاصيِّ عبر الكِتَابِ المُقَدَّسِ، إذ تبدأ مباشرةً بالعَهْدِ مع نوح وتصلُ إلى الكمالِ في العَهْدِ الجَدِيدِ بِدَمِ الرَّبِّ يسوع المسيح.
المُوجَز
تُشَكِّلُ العُهُودُ الكِتَابِيَّةُ خيطًا موَحِّدًا لعملِ الله الخلاصيِّ عبر الكِتَاب المُقَدَّس. ومع أن بعض اللاهوتيين ينادي بوجود ثلاثة عُهُود سابقة هي (عَهْدُ الفداءِ، وعَهْدُ الأعمال، وعَهْدُ النعمةِ)، فإن أَوَّلَ عَهْدٍ صريحٍ في الكِتَابِ المُقَدَّس هو العَهْدُ بين الله ونوح بعد الطوفان. ويليه سريعًا العَهْدُ الإبراهيمي في سِفْرِ التَّكْوِين، والذي يرسِّخُ الأساس لأُمَّةِ إِسْرَائِيل والمَسِيح القادِم، الذي بواسطته سيبارِكُ الله أُمَمَ العالم. بعد ذلك، يواصل العَهْدُ المُوسَوِي معاملات الله مع أُمَّةِ إِسْرَائِيل، نَسْلِ إبراهيم، داعيًا إيَّاهم للتعبير عن مَجْدِ رَبِّهم للأُمَمِ المحيطة بهم. أما العَهْدُ المقطوعُ مع المَلِك داود، فيشير مسبقًا إلى مجيءِ المسيح، الذي يمَلِكُ بالتمام على عرشِ داود إلى الأبد. ومع ذلك، لم تُحْفَظْ العُهُودُ مع الإنسان ولا تَحَقَّقَتْ بالكامِلِ إلا بمجيءِ الرَّبِّ يسوع بوصفِهِ مَسِيَّا إسرائيل. لقد جَاءَ المسيح ليُوثِّق العَهْدَ الجَدِيدَ الموعودَ به في النَّامُوسِ والأَنْبِياء، جالبًا معه البركات الأُخْرَوِيَّة الموعود بها لشعب الله.
تُشكِّل العُهُودُ بين الله والبشر خيطًا مُوحِّدًا في الكِتَابِ المُقَدَّسِ، من بدايتها المجردة في سِفْرِ التَّكْوِين حتى اكتمالها الأُخْرَوِيِّ في سِفْرِ الرُّؤْيا. ورغم اختلاف علماءِ اللاهوتِ حول العَدَدِ الدقيقِ لهذه العُهُودِ الإلهيةِ وطبيعَتِها، تشكِّكُ قِلَّةٌ من الباحثين في أهميتها اللاهوتية بالنسبة إلى تاريخِ الفداءِ.
ومع أن لفظَةَ “العَهْدِ” لا تَظْهَرُ قبل نصِّ (التَّكْوِين 18:6)، يَتَمَسَّكُ اللاهوتُ المُصْلَح أو اللاهوت العَهْدي بوجود ثلاثةِ عهودٍ أخرى تسبِقُ عَهْد الله مع نوح: “عَهْدُ الفداءِ” الأبديُّ بين أقانيم الثالوث قَبْلَ خَلْقِ العَالَمِ، و”عَهْدُ الأعمال/الخليقة” أي العَهْدُ الاختباريُّ الذي تأسَّسَ بين اللهِ وآدم قبل السُّقُوطِ، وعَهْدُ النِّعْمَةِ بعد السُّقُوطِ الذي فيه وَعَدَ الله بإنقاذِ البشريَّةِ من عواقِبِ الخطيةِ وتحقيق مقاصِدهُ من أجل الخليقةِ. وبينما لا يَتَّفِقُ جميع اللاهوتيين المُصْلِحِين على العلاقة الدقيقة بين عَهْدِ النعمة وعَهْدِ الفداءِ، فإنهم يعتقدون أن أحدهما أو كليهما يَدْعَمُ الأساسَ لكلِّ العُهُودِ الإلهية-البشرية التالية في الكِتَابِ المُقَدَّسِ، والتي تخْدُمُ جميعُها نفسَ القَصْدِ الأسمى والغاية النهائية.
لكن ثَمَّة علماءٌ آخرين لا يقتنعون بذلك، ويقبلون فقط بِتِلْكِ العُهُودِ الموصوفةِ صراحَةً في الكِتَابِ المُقَدَّسِ بأنها عُهُودٌ إلهِيَّةٌ. مع أنهم لا يُنْكِرُون أن ثالوثَ الله قد خَطَّطَ لخلاصِ البشريَّةِ قَبْلَ خَلْقِ العالَمِ، أو أن اللهَ رَسَمَ عَلاقَةً مع آدم تنطوي على التزاماتٍ متبادَلَةٍ، أو أن علاقاتِ الله بالبشرِيَّةِ تُعَبِّر عن هدفٍ سامٍ واحدٍ غايتُه الفداءُ، إلا أنهم يُميِّزون بِدِقَّةٍ بين هذه الأفكارِ ومفهومِ العَهْدِ، الذي ينطوي على عناصر إضافية كالقَسَمِ أو التَّعَهُّدِ المُلْزِمِ. في إطار فَهْمِنا للعَهْدِ بالمعنى الأخير، فإن أَوَّلَ عَهْدٍ بين الله والبشرِيَّةِ هو العَهْدُ الذي أقامه الله في أيام نوح (إِشَعْيَاء 9:54)، للتأكيد على التزام الله نحو الخليقةِ بعد الطوفان.
العَهْد مع نوح وكلِّ الخليقة
هذا العَهْدُ العالمي المعلَنُ قبل الطوفان (التَّكْوين 18:6)، لم يُقْطَعْ إلا بعد انحسار مياه الطُّوفان (20:8-17:9). فالإشارة المبدئية له تسَلِّطُ الضوء ببساطَةٍ على خُطَّةِ الله لحفظِ نوح ومن معه في الفُلْكِ (18:6). يُعِيدُ عَهْدُ الله مع نوح التأكيدَ على مقاصدِهِ الأصلية، التي توقَّفَتْ مؤقَّتًا بفعلِ الدَّينونة. إيقاف النظام الطبيعي بالطوفان لن يعيق مَرَّةً أخرى (21:8-22؛ 11:9-15) تحقيقَ التكليفِ الإلهيِّ للبشريةِ منذ الخلق (انْظُرْ 1:9-٧؛ مع 26:1-30). تشَدِّد الأوامر الإضافية في هذا العَهْدِ تحديدًا عَلَى قيمَةِ الحياةِ البشريَّة (4:9-6)، مما يُؤكِّد الدافعَ الأساسيَّ وراء هذا العَهْدِ وهو حفظُ الحياة على الأرضِ دون أيِّ تدخُّلٍ إلهيٍّ قوِيٍّ. من المفهوم ضمنًا من نطاق هذا العَهْدِ أن هدفَ الفداء الإلهي سوف يشملُ بشكلٍ نهائيٍّ كلَّ الخليقةِ.
العَهْد الإبراهيمي
الوعود التي تنطوي عليها عُهُودُ الله مع إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب مُدوَّنة في نصِّ (التَّكْوِين 1:12-3). إن الله سيبارِكُ إبراهيم بطريقتين: (١) سوف يصبِحُ أُمَّةً عظيمةً، ومن ثمَّ يكونُ له اسْمٌ عظيمٌ، (٢) ومن خلاله تَمْتَدُّ بركة الله إلى كلِّ شعوبِ الأرضِ. وقد وَثَّقَ اللهَ هذه المواعيدِ بشكلٍ لافِتٍ لاحقًا عن طريقِ العَهْدِ: أولاً البُعْدُ القوميِّ لِوَعْدِ الله هو محورُ نصِّ (التَّكْوِين ١٥)، والذي فيه “قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أبْرَامَ مِيثَاقًا” (١8:15)؛ ثانيًا يأتي التلميحُ إلى البُعد الدُّوَلِي للْوَعْدِ في (4:17-6، 16)، إذ تجاهَلَهُ الفصل 15 من التَّكْوِين. وفي الفصل 17 أعلن الله أن عَهْده مع إبراهيم عَهْدٌ أَبَدِيٌّ (7:17)، وهو المعروف بـ “عَهْدِ الختانِ” (أَعْمَال الرُّسُل 8:7). وبينما يرى الكثيرون أن العَهْدَ الأخيرَ هو مجرَّد توسيعٍ للعَهْدِ المذكور في (التَّكْوِين 15)، فإن الظروفَ والتأكيداتِ المختلِفَةَ تشيرُ إلى أنه يمثِّلُ مرحَلَةٌ ثانِيَةٌ بالفعلِ في معاملاتِ الله العَهْديَّةِ مع إبراهيم.
يؤكِّدُ العَهْدُ في (التَّكْوِين ١٥) رسميًّا على وَعْدِ الله بأنه سيجعلُ إبراهيم “أُمَّةً عَظِيمَةً” (التَّكْوِين 2:12)؛ وينصبُّ التركيز الأساسي على كيفية تفعيل الله لمقاصدِهِ البديعةِ في “النَّسْلِ” البيولوچي لإبراهيم، الذي عُرِفَ لاحقًا بأبناء يعقوب (إِسْرَائِيل). ومع ذلك، لم يكُنْ هذا سوى مرحلَةً تمهيديَّةً في خُطَّةِ الله المستعْلَنَةِ من أجل الفداء. أما المرحلَةُ الثانيةُ فترتبطُ بالطريقَةِ التي بها يكون إبراهيم وسيطَ البركَةِ لكلِّ الأُممِ، وذلك عن طريق تلك الأُمَّةِ العظيمة المنحدِرَةِ منه (3:12) – هذه هي النقطةُ المركزيةُ لِفَصْلَيِّ (التَّكْوِين 17؛ 22).
على الرُّغْمِ من أن التَّوَقُّعَ بأن يكونَ إبراهيم أمَّةً عظيمةً ليس غائبًا تمامًا في (التَّكْوين 8:17)، إلا أن التركيز في الفصل 17 ينصَبُّ على “الأُمَمِ”، و”المُلوكِ”، والعلاقة الإلهية-البشرية الدائمة مع “نَسْلِ” إبراهيم (4:17-8، 21:16). ومن اللافِتِ أن يَنْحَصِرَ التركيزُ بشكلٍ خاص على إسحاق (21:17 مع 12:21) باعتبارِهِ الشخص الذي من خلاله يتأبَّد هذا العَهْد، الأَمْرُ الذي يُسَلِّط الضوء على ما كان بالفعلِ معرَّضًا للخطرِ في امتحانِ الله لإبراهيم (التَّكْوِين 22). هناك، لبَّى إيمانُ إبراهيم الطائعُ (16:22، 18) مطالب الله (1:17؛ مع 19:18؛ 5:26). الأَمْرُ الذي دَفَعَ الله إلى أن يوثِّقَ بِقَسَمٍ رَسْمِيٍّ مواعيده (16:22 مع 3:26)، وذلك في فصل التَّكْوِين 17 (انْظُر أيضًا 17:22-18؛ 4:26).
بهذا الفَهْمِ، أَقام الله عَهْدَيْن متميِّزَيْن بينه وبين إبراهيم. يُؤكِّدُ الأَوَّلُ على وَعْدِ الله بأن يَجْعَلَ إبراهيم “أُمَّةً عظِيمَةً”، بينما يؤكِّد الثاني على وَعْدِ الله بأن يباركَ كلَّ الأُمَمِ من خلال إبراهيم و”نَسْلِهِ”.
العَهْدُ المُوسَوِيُّ
أقام الله العَهْدَ المُوسَوِيَّ مباشرةً بعد أن تحقَّقَتْ كلماتُ فصل (التَّكْوِين ١٥) أي بعد تحريرِ نَسْلِ إبراهيم من القمعِ في أرضٍ غريبَةٍ (التَّكْوِين 13:15-14؛ الخروج 4:19-6؛ 2:20). في العَهْدِ السينائي، يقلُّ التركيز على ما يَنبغي أن يقومَ به نَسْلُ إبراهيم لِيَرِثَ أرضَ الموعدِ، وفي المقابل يزدَادُ التركيز على الطريقة التي ينبغي أن يسلكوا بها داخل تلك الأرضِ بوصفِهِم شعبَ الله المختارَ (الخروج 5:19-6). ولكي يكون شعب إِسْرَائِيل “شعبًا خاصًّا” لله، و”ممَلِكةَ كَهَنَةٍ”، و”أُمَّةً مقدَّسَةً”، يتعينُ عليه الالتزامُ بعَهْدِ الله بالخضوعِ لمطالِبِهِ (أي للشروط المنصوص عليها في (الخروج ٢٠-٢٣). بالتَّمَسُّكِ بهذه الالتزاماتِ العَهْدِيَّةِ اللاحقَةِ المقدَّمَةِ في سيناء، يكونُ شعْبُ إِسْرَائِيل بكلِّ جلاءٍ شعبًا مختلفًا عن الشعوبِ الأخرى، ومن ثمَّ عليه أن يُعَبِّرَ عن حكمةِ الله وعظمتِهِ للشعوبِ المجاوِرَةِ (انْظُرْ التثنية 6:4-8).
بهذه الطريقَةِ، لا يَتْبَعُ نَسْلُ إبراهيم فقط خُطَى سَلَفِهِ (التَّكْوِين 5:26)، بل يُساهم أيضًا في تحقيقِ مواعيد الله (19:18). وهكذا، وعلى غرار إبراهيم، يَتَعَيَّنُ على إِسْرَائِيل السلوكُ أمام الله بلا لومٍ (1:17). إن الإخفاق في القيام بذلك سيُقوِّض المُبَرِّرَ الجوهريَّ لوجودِه كشعبٍ، وهو الدرسُ الذي صورتْهُ واقعَةُ العجل الذهبي بكلِّ جلاءٍ (الخروج ٣٢-٣٤). ومع أن الله أعاد تأسيسَ العَهْدِ (خروج ٣٤)، إلا أن ذلك كان من بابِ النِّعْمَةِ لا العَدْلِ (6:34-7). وإضافةً إلى ذلك، بَرْهَنَتْ إعادة التأكيد على التزاماتِ العَهْدِ في نهاية هذه الواقعة على أن مسؤولية إِسْرَائِيل لم تَتَغَيَّرْ.
بإعلانِهِم عن قداسةِ الله (اللاَّوِيِّين 1:19)، يُظْهِرُ بنو إِسْرَائِيل نموذجًا لممَلِكةٍ ثيوقراطيةٍ حقيقيةٍ، وبهذا يخدمون كشهودٍ لله وسط عالمٍ يراقبهم. ولأن التمرُّدَ البشريَّ يُهِدِّدُ بتقويضِ الهدفَ النهائيَّ لله في (أن يبارك كلُّ الأُمَمِ عن طريقِ “نَسْلِ” إبراهيم)، اشتَمَلَ العَهْدُ المُوسَوِيُّ أيضًا على الوسائل التي يُمْكِنُها الحفاظُ على العلاقَةِ الإلهية-البشرية بين يهوه وشعبِ إِسْرَائِيل، ومنها العبادَةُ الذبائحِيَّةُ، وخاصةً يوم الكفارة (اللاَّوِيِّين ١٦)، التي تُكَفِّرُ طقسيًّا عن خطايا إِسْرَائِيل وتعبِّر رَمْزِيًّا عن غفرانِ الله. لذلك، وكما أكَّد العَهْدُ النوحي على حفظِ الحياة البشرية على الأرض، أكَّدَ العَهْد المُوسَوِي على حفْظِ إِسْرَائِيل في الأرض، أُمَّةِ إبراهيم العظيمةِ. إن تأكيدًا مثل هذا كان أَمْرًا بالِغَ الأهميَّةِ للمرحلَةِ التالِيَةِ في تحقيقِ مواعيدِ الله أي تأسيس سلالة مَلَكِيَّة، في النهاية يأتي منها النَّسْلُ السَّامِيُّ لإبراهيم وَوَرِيثُ العَهْدِ (غَلاطِيَّة 16:3).
العَهْدُ الدَّاوُدِيُّ
بعد العَهْدِ السِّينائي، يأتي التَّطَوُّرُ الرئيس التالي بفَمِ النَّبِيِّ ناثان للمَلِك داود (2 صَمُوئيل ٧؛ 1 أخبار الأيام ١٧). فقد وَضَعَ المَلِكُ داود في قلبه أن يَبْنِيَ بيتًا (أي هيكلاً) لله، لكن الله وَعَدَهُ ببناءِ بيتٍ له (أي سُلالَةٍ مَلَكِيَّةٍ). لا يَصِفُ فصلا الكِتَابِ في (2 صَمُوئيل ٧؛ 1 أخبار الأيام ١٧) هذا الوعدَ صَرَاحَةً بأنه “عَهْدٌ”، إلا أن نصوصًا أخرى عديدةً تَصِفُهُ على هذا النَّحْو (انْظُرْ 2 صَمُوئيل 5:23؛ 2 أخبار الأيام 18:7؛ 5:13؛ المَزْمُور 3:89؛ إِرْمِيَا 21:33).
يواصِلُ العَهْدُ الدَّاوُدِيُّ مسارَ العَهْدَين المُوسَوِي والإبراهيمي. وهكذا تَتَشابك معًا مقاصِدُ الله نحو المَلِكِ داود وإِسْرَائِيل بوضوحٍ (٢ صَمُوئِيل 8:7-11، 23-26). والأكثر من ذلك، ثمة أوجهُ تشابه لافتةٌ تربطُ بين داود وإبراهيم:
- وَعَدْهُما الله بِاسْمٍ عظيمٍ (التَّكْوِين 2:12؛ ٢ صَمُوئِيل 9:7).
- في المستقبل، ينتصرُ كلاهما على أعدائِهِ (التَّكْوِين 17:22؛ ٢ صموئيل 11:7؛ مع المَزْمُور 23:89).
- حَظِي كلاهما بعلاقَةٍ إلهية-بشرية خاصَّة (التَّكْوِين 7:17-8؛ 2 صموئيل 24:7 مع المَزْمُور 26:89).
- يَنْعَمُ كلاهما بـ “نَسْلٍ” خاص يُخلِّد اسميهما (التَّكْوِين 12:21؛ 2 صموئيل 12:7-16).
- يَتَعَيَّنُ على نَسْلِهِما حفظُ شرائعِ الله (التَّكْوِين 19:18؛ 2 صموئيل 14:7؛ مع المَزْمُور 30:89-32؛ 12:132).
- سيكون نَسْلُهما وسيطًا لبرَكَةِ الله لكلِّ الشعوبِ (التَّكْوِين 18:22؛ المَزْمُور 17:72).
وهكذا يُحَدِّدُ العَهْدُ الدَّاوُدِيّ بِدِقَّةٍ أكبر النَّسْلَ الموعود الذي سَيَلْعَبُ دورَ الوسيط في الوصول ببركة الله لكلِّ الشُّعوبِ، سيكون نسلاً مَلَكِيًّا لإبراهيم وعلى وجه التحديد من نَسْلِ داود.
لذلك، يُقَدِّمُ هذا العَهْدُ تحوُّلاً رائعًا لكنه لافِتٌ من جِهَةِ التركيزِ. في أُمَّةٍ عظِيمَةٍ وَعَدَ بها الله إبراهيم، وقد صارتْ راسخةً بقوةٍ الآن (2 صَمُوئِيل 1:7)، يَنْحَصِرُ التركيزُ على نَسْلِهِ المَلَكِيِّ (التَّكْوِين 6:17، 16). هذا النَّسْلُ المَلَكِيُّ، الذي يمكن الاستدلال عليه بوضوح في سِفْرِ (التَّكْوِين 11:35؛ 10:49؛ وأيضا الفصل ٣٨؛ وراعوث 18:4-22)، والذي يبلُغُ ذروَتُهُ في “نَسْلٍ” فردِيٍّ منتصرٍ يُحقِّقُ وَعْدَ التَّكْوِين 18:22، مع الرجاء المعبَّر عنه في المَزْمُور 17:72.
العَهْدُ الجَدِيدُ
أدَّى الإخفاقُ المتواصلُ في الحياةِ وَفْقًا لمطالبِ عَهْدِ اللهِ إلى كارثةٍ حتميةٍ على الأُمَّةِ وعلى الحُكْمِ المَلَكِيِّ فيها، بَلَغَتْ ذروةُ هذه الكارثةِ بالدينونَةِ، أي بتدميرِ الهيكلِ والسَّبْيِ البابليِّ. كان من الممكن أن تُنْذِرَ هذه الكارثة بالنهاية، لو لم تكن المقاصدُ الإلهية من أجل إِسْرَائِيل حاسِمَةً في تحقيقِ مواعيدِ عَهْدِ الله. كان لا بُدَّ من التَّغَلُّبِ على سَبْيِ الأُمَّة وزوال الُحُكْمِ المَلَكِيِّ بطريقَةٍ ما لتحقيقِ مقاصدِ الله. وهكذا استمرَّ تاريخُ العَهْدِ بالرجاءِ في “عَهْدٍ جَدِيدٍ” – عَهْدٍ يكون امتدادًا لِعُهُودِ الماضي ولكن منفصلاً عنها.
مع أن الإشارةَ إليه صَرَاحَةً بِاسْمِ “العَهْدِ الجَدِيدِ” تأتي فقط مَرَّةً واحِدَةً في أَسْفَارِ العَهْدِ القَدِيمِ (إِرْمِيَا ٣١:٣١)، إلا أن عِدَّةَ نصوصٍ، في سِفْرِ إِرْمِيَا وفي مواضع أخرى، تُلمِّحُ إليه. في سِفْرِ إِشَعْيَاء، يرتبطُ عَهْدُ السَّلامِ الأبديِّ ارتباطًا وثيقًا بشخصية العَبْدِ (إِشَعْيَاء 6:42؛ 8:49؛ 10:54؛ 3:55؛ 8:61). وهو عَهْدٌ شَامِلٌ – وجامِعٌ للغرباءِ والخصيانِ (3:56)، ولكنه حَصْرِيٌّ أيضًا – يقتصرُ على من يتمسَّكون بالتزاماته (5:56-6؛ مع 1:56-2).
مع أن النَّبِيَّيْن إِرْمِيَا وحِزْقِيال يستخدمان مفردات مختلفة لوَصْفِ العَهْدِ الجَدِيدِ، يَتَوَقَّعُ كلاهما حدوثَ تغييرٍ جِذْرِيٍّ في مجتمعِ العَهْدِ: يتحدَّثُ النَّبِيُّ إِرْمِيَا عن الاستيعاب العميق للتوراة (إِرْمِيَا 33:31)، في حين يتحدَّث حِزْقِيَال عن جراحةٍ روحِيَّةٍ وتحوُّلٌ جِذْرِيِّ (حِزْقِيَال 26:36-27). بالنسبة إلى كلا النبِيَّيْن، سيؤدِّي هذا التجديدُ الداخليُّ إلى علاقَة إلهيَّة-بشرية مثالية، يُعَبِّر عنها هذا العَهْدُ والعُهُودُ السابقة بصيغَةِ العَهْد: “أَكُونُ لَهُمْ إِلهًا وَيَكُونُونَ لِي شَعْبًا”. في العَهْد الجَدِيد، تبلغُ كلُّ آمالِ وتَوَقُّعاتِ العُهُودِ السَّابِقَةِ التحقيقَ النهائيَّ والتعبيرَ الأُخْرَوِيَّ.
لذلك، لا غرابَةً في أن يُعْلِنَ العَهْدُ الجَدِيدُ تحقيقَ كلِّ مواعيد الله العَهْدِيَّةِ في شخص الرَّبِّ يسوع (لُوقَا 54:1-55، 69-75؛ 2 كُورِنْثُوس 20:1)، فهو المَسِيَّا الدَّاوُدِيُّ الذي طَال انتظارُهُ (مَتَّى 17:1-18؛ 4:2-6؛ 16:16؛ 9:21؛ لُوقَا 11:2؛ يُوحَنَّا 42:7؛ أَعْمَال الرُّسُل 22:2-36). والنَّسْلُ النهائيُّ لإبراهيم (مَتَّى 1:1؛ غَلاطِيَّة 16:3)، والنَّسْلُ المَلَكِيُّ لداود (مَتَّى 1:1؛ لُوقَا 27:1، 32-33؛ 4:2؛ رومية 3:1؛ 2 تِيمُوثَاوُس 8:2؛ الرُّؤيا 5:5؛ 16:22)، يسوع هو أيضًا من يُتَمِّمُ دَوْرَ العَبْدِ الذي تنبَّأ عنه النَّبِيُّ إِشَعْيَاء (انْظُرْ أَعْمَال الرُّسُل 18:3؛ 27:4-28؛ 32:8-35)، ليس فقط في فداءِ إِسْرَائِيل (لُوقَا 38:2؛ أَعْمَال الرُّسُل 25:3-26؛ العِبْرانيِّين 12:9، 15)، لكن أيضًا بكونه وسيطَ بَرَكَةِ الله لمن يؤمِنُ به من كلِّ الشُّعُوبِ (أَعْمَال الرُّسُل 1:10 – 18:11؛ 1:15-29؛ رومية 2:1-6؛ 22:3-24؛ 16:4-18؛ 8:15-12؛ غَلاطِيَّة 7:3-14، 29).
تَبْعًا لروايات الإنجيل الأربع والرَّسَائِل، تمَّ توثيقُ العَهْدِ الجَدِيدِ بموتِ الرَّبّ يسوع على الصليب (مَتَّى 28:26؛ مَرْقُس 24:14؛ لُوقَا 20:22؛ ١ كُورِنْثُوس 25:11). في عشاءِ الرَّبِّ التَّأْسِيسِيِّ، لَمَّحَ الرَّبُّ يَسُوع إلى الغفرانِ المرتبط بِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ إِرْمِيا عن العَهْد الجَدِيد (مَتَّى 28:26؛ مع إِرْمِيَا ٣4:31)، وكذلك إلى الدَّمِ المرتبطِ بتأسيس العَهْدِ المُوسَوِيِّ القديمِ (لُوقَا 22:20 مع الخروج 7:24). وبناءً عليه، يؤكِّد العَهْدُ الجَدِيدِ على غفرانِ الخطايا، الأَمْرُ الذي لا يمكِنُ بُلُوغُهُ بشكلٍ تام إلا في ظِلِّ العَهْدِ الجَدِيدِ (أَعْمَال الرُّسُل 39:13؛ مع العِبْرانيِّين 4:10)، فالغفران من الفوائد الأساسية المترتبة على موتِ الرَّبِّ يسوع (لُوقَا 77:1؛ 46:24-47؛ أَعْمَال الرُّسُل 38:2؛ 43:10؛ 38:13؛ 18:26؛ رومية 24:3-25؛ أَفَسُس 7:1؛ كُولُوسِّي 14:1؛ العِبْرانيِّين 12:9، 28؛ 1 يُوحَنَّا 7:1؛ الرُّؤْيا 5:1؛ 14:7؛ 10:12-11).
وهكذا، وَفْقًا للرَّسُول بُولُس وكاتِبُ الرِّسَالة إلى العِبْرانيِّين، العَهْدُ الجَدِيدُ أسمى بكثيرٍ من القَدِيمِ (أي العَهْد المُوسَوِي). وهذا واضحٌ بشكلٍ ضمْنِيٍّ بنعتِهِ بالـ “جَدِيد” في (1 كُورِنْثُوس 25:11؛ مع لُوقَا 20:22)، والتي تُلَمِّحُ بوضوحٍ إلى التبايُن الوارِدُ في (إِرْمِيَا ٣١:٣١-٣٢). ومع ذلك فإن الرَّسُول بُولُس محدَّدٌ أكثر في (2 كُورِنْثُوس 1:3-18)، عندما قارَنَ صَرَاحَةً بين العَهْديْن القَدِيمِ والجَدِيدِ، مُسَلِّطًا الضَّوءِ على التَّدَنِّي الهائِلِ للعَهْدِ القَدِيمِ مقارنة بالمجْدِ السَّامي للعَهْد الجَدِيد وديمومته. وثمة مقارنة مماثلة أخرى يَعْقِدُها الرَّسُول بُولُس أيضًا بالصُّورَةِ “المَجَازِيَّة” الكاشفة عن مدى التباين بين هَاجَر وَسَارَّة في نصِّ رِسَالَتِهِ إلى (غَلاطِيَّة 21:4-31).
ينتهي كاتِبُ الرِّسَالة إلى العِبْرانيِّين أيضًا إلى خلاصاتٍ مماثلَةٍ. بعد أن أشارَ الكاتبُ إلى أفضليةِ العَهْدِ الجَدِيدِ في (العِبْرانيِّين 22:7)، يشرحُ الكاتِبُ بِدِقَّةٍ وجهةَ نَظَرِهِ بِتَعْلِيقٍ مُوسَّعٍ على نص (إِرْمِيَا ٣١:٣١-٣٤)، الذي يُشكِّلُ إطارًا أَدَبِيًّا لجزء كبيرٍ من مناقشَتِهِ الجَدَلِيَّةِ في (العِبْرانيِّين ٨-١٠ مع 9:8-١٢؛ 16:10-17). والآن، لا يُمارِس الرَّبُّ يسوع فقط كهنوتًا دائمًا، وكاملاً، وسمائيًّا (23:7-6:8)، بل إن العَهْد، الذي صار هو وَسِيطُهُ، “قَدْ تَثَبَّتَ عَلَى مَوَاعِيدَ أَفْضَلَ” (6:8)، كما أن الكاتبَ يفُسِّرُهُ في ضوء ارتباطه بالفداء الأبديِّ (12:9) والميراثِ الأبديِّ (15:9)، ويقينِ رسوخِهِ بِدَمِ المسيحِ (11:9-18:10)، ذلك الدَّمُ الموصوفُ لاحقًا بأنه دَمُ العَهْدِ الأبديِّ (20:13). وعلى غِرارِ الرَّسُول بُولُس، فإن التباينَ ليس بين ما هو رديءٌ وما هو جَيِّدٌ، بل بين ما هو جَيِّدٌ (لكنه مؤَقَّتْ)، وبين ما هو أَعْظَمُ (لأنه أَبَدِيٌّ).
ومع أن حقائقَ العَهْدِ الجَدِيدِ حاضرةٌ بالفعلِ من نواحٍ عديدةٍ (العِبْرانيِّين 11:9)، إلا أنه من الصَّوابِ القولُ بأن الأفضلَ لم يأتِ بعد. لم تنقطعْ آمالُ استرداد إسرائيل بالعودةِ إلى الوطنِ بعد السَّبْيِ البابلي، ولا تحقَّقَتْ بالكاملِ في المجيء الأَوَّل لمسيحِهِم. لكن في يسوع، أيْ في النَّسْلِ الموعودِ به لإبراهيم (غَلاطِيَّة 16:3)، والنَّبِيِّ المُنْتَظَرِ على قياس النَّبِيِّ مُوسَى (مَتَّى 5:17؛ مع التثنية 15:18)، والابْنِ الأَعْظَمِ للمَلِكِ داود (مَتَّى 42:22-46)، وَوَسِيطِ العَهْدِ الجَدِيدِ (العِبْرانيِّين 6:8)، قد تحقَّقَتْ مواعيد الله العَهْديَّة لكلِّ من إسرائيل والأمم، إلا أنَّ التعبيرَ النهائيَّ عن هدفِ الله البديعِ والفاديِ ينتظرُ تحقيقًا أَكْمَل في الواقعِ الأُخْرَوِيِّ للخَلِيقَةِ الجَدِيدَةِ. حينها فقط سَيَتَحَقَّقُ تمامًا اختبارُ الرَّجاءِ المُعَبَّر عنه في صيغة العَهْد (الرُّؤيا 3:21)، لأن “…. عَرْشُ اللهِ وَالْحَمَلِ يَكُونُ فِيهَا، وَعَبِيدُهُ يَخْدِمُونَهُ. …. وَهُمْ سَيَمَلِكونَ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ” (الرُّؤيا 3:22-5).