شرح سفر الرؤيا: الجزء (1): خلفية السفر

YouTube player

 


المقدمة


عندما ماتَ المسيح، ظنَّ كثيرون من تلاميذهِ والمُعجبينَ به أنه هُزمَ بشكلٍ نهائي. وذهب بعضُهم إلى الاعتقاد بأنَّ كلَّ تعاليمِه ومعجزاتِه كانت بلا فائدة. لكنْ، ما لم يفهمْهُ تلاميذُهُ حتى اليومِ الثالثِ، هو أنَّ موتَ المسيح لم يكنْ نهايةَ القصَّة. فقد أثبتَتْ قيامتُه أنَّ موتَه كان في الواقعِ انتصاراً، وأتاحتْ لتلاميذِه أنْ يفهموا خدمةَ المسيح، وآلامَه، وموتَه من منظورٍ جديدٍ تماماً. عندما كتبَ يوحنا سفر الرؤيا، كان قُرّاؤُه بحاجةٍ أيضاً إلى هذا المنظورِ الجَديد. فقد عانتِ الكنيسةُ الأولى من الاضطهادَ على يدِ الإمبراطوريةِ الرومانيةِ القوية. وبدأ العديدُ من المسيحيينَ أن يروا في هذا الاضطهادِ هزيمةً. أما يوحنا فقد شجَّعَ قرَّاءَه أنْ يَجِدوا الراحةَ والثقةَ في الانتصارِ الذي حقَّقَه المسيح بقيامتِه. كذلك أرادَهم أن يُدركوا أنه حتى وإنِ انْتهتْ حياتُهم بالاستشهادِ، فلن يكونَ ذلك ختامَ الأمرِ. ففي نهايةِ المطافِ، سيُتمّم المسيحُ ملكوتَه، وسيُشْرِكُ كلَّ المؤمنينَ الذين مرّوا بهذِه الحياةِ في انتصارِه.

هذا هو الدرسُ الأولُ في هذه السِلسلَة حولَ كتاب الرؤيا الذي يُسَّمى أحياناً رؤيا يوحنا. وَقَدْ وَضَعْنَا عُنْوَاناً لِهَذَا الدرسِ “خَلفية الرُّؤيا”. وفيه نَتعلمُ كيف يُساعِدُ محيطُ الرؤيا وسياقُ أحداثِها على فهمِ المعنى الأَصْلي للكتاب، وعلى تطبيقِ رِسالتِه على حَياتِنا في يومِنا الحاضر.

ينقسمُ الدرسُ حَوْلَ خلفيةِ الرؤيا إلى ثلاثةِ أقسام: أولاً، فَحصُ الخَلفيةِ التاريخية لِكتاب الرؤيا. ثانياً، البحثُ في خلفَيتِه اللاهوتية. ثالثاً، النظرُ في خَلفيتِهِ الأدبية. لِنَبدأ بالخَلفيةِ التاريخية للرؤيا.

 


الخلفية التاريخية


فَتَنَ كتابُ الرؤيا منذ كتابِتِه المُؤمنينَ وغيرَ المؤمنينَ على السَواء. لكنّ المفسّرينَ اختلفوا حولَ مَعاني الرموزِ والُصوَرِ المَجازيَّةِ التي فيه، كالحَيواناتِ الغَريبة، والمعاركِ الكَوْنية، والضَرباتِ والدَينوناتِ، وَوَجدَ بعضُهم تلكَ الصُوَرَ مُحيِّرةً بِحيثُ فَقدَ كلَّ أَملٍ في فَهمِ هذا الكتاب. لكنَّ هذه الصُعوبةَ تعودُ إلى حدٍّ بعيدٍ إلى جَهلِهِم بخلفية الكتابِ التّاريخية. لذلك بِغرضِ فَهمِ كتاب الرُّؤيا وتطبيقِهِ بشكلٍ صحيح، لا بُدَّ لنا أن نتعلَّمَ شيئاً عن تاريخِه.

سوفَ نبحثُ في ثَلاثِةِ جوانبَ أساسيةٍ لخَلفيةِ الرؤيا التاريخيةِ: كاتبُ الكتاب؛ وتاريخُ الكتابة؛ والقرَّاءُ الأولون. لنبدأَ بكاتبِ كتاب الرؤيا.

الكاتب


نتناولُ كاتبَ كتاب الرؤيا من جهتَين: أولاً، إظهارُ أن الموقفَ التقليديَّ الذي ينسِبُ الكتاب إلى الرسولِ يوحنا موثوقٌ به. وثانياً، تفحُّصُ موقعِ يوحنا وظروفِه عندما كتبَ الكتاب. لننتقلْ أولاً إلى الرأيِ التقليديِّ الذي يَعتبرُ أن الرسولَ يوحنا هو كاتبُ كتاب الرؤيا.

 

1. الرسول يوحنا

عرَّفَ كاتبُ كتاب الرؤيا نفسَه بالاسمِ الشائعِ نسبيّاً “يوحنا”. وذكرَ اسمَهُ في الرؤيا ١: ١،٤،٩؛ و٢٢: ٨. لكنه لم يعرِّفْ نفسَه بالتحديدِ بالرسولِ يوحنا، بل أشارَ إلى كونِه خَدَمَ المسيحَ بأمانة، وتأَلمَ من أجلِ مَلكوت ِالله. ويتَّضِحُ من خِلالِ الكتاب أنه نبيٌ. لكنَّ هذه التفاصيلَ العامةَ ليسَت كافيةً لتُبرهَنَ أنَّ الذي كتبَ كتاب الرُّؤيا هو الرسولُ يوحنا.

لكن مع ذلكَ، هناكَ على الأقلِّ سببانِ وجيهانِ يَدعمانِ الرأيَ التقليديَّ أنَّ الرسولَ يوحنا هو كاتبُ الكتاب: السببُ الأولُ، توجدُ شهاداتٌ باكرةٌ عديدةٌ تَدعمُ كونَ يوحنا هو الكاتبُ.

في فترةٍ مُبَكِّرةٍ، في القرنِ الثاني الميلادي، اعتبرَ بعضُ آباءِ الكنيسةِ أمثالَ يوستينوسَ الشهيدِ، وإيريناوسَ وأكليمندسَ الإسكندريِّ، أنَّ الرسولَ يوحنا هو كاتبُ كتاب الرؤيا. ويشيرُ يوستينوسُ إلى ذلكَ في مُؤَلَّفِهِ الحوارُ مع تريفو في الفصلِ ٨١. وشهادة ُيوستينوسَ مهمةٌ بصورةٍ خاصةٍ لأنه عاشَ في أَفَسُسَ في فترةٍ مُبَكِّرةٍ من القرنِ الثاني، وهو من الناس الذين عَرفوا يوحنا شَخْصِيّاً.

ويُشيرُ إيريناوسُ إلى يوحنا ككاتبِ كتاب الرؤيا في مُؤَلَّفِه “ضدُّ الهرطقاتِ” المُجَلَدِ ٤، الفصلِ ١٨ والجزءِ ١١. وشَهادتُه مفيدةٌ جدّاً بِسبب كونِ إيريناوسَ تلميذاً لبوليكاربوسَ الذي كان بدَورِه تلميذاً للرسولِ يوحنا. من هنا، كان إيريناوسُ في وضعٍ أفضلَ من سِواهُ من جهةِ معرفةِ أيِّ كتاباتٍ كَتبَها يوحنا بالفِعل.

أخيراً، يبدو أنَّ أكليمندسَ الإسكندريَّ سَلَّم بصحةِ الرأيِ القائلِ بأن يوحنا هو الكاتبُ في مُؤَلَّفِه “من هو الغنيُّ الذي يَخلُص؟” الجزءِ ٤٢.

سببٌ آخرٌ يدعمُ الرأيَ التقليديَّ بأن الرسولَ يوحنا هو كاتبُ كتاب الرؤيا هو مفرداتُ الكتاب. يوجد الكثيرُ من أوجُهِ التشابُهِ المميَّزةِ بين كتاب الرؤيا وكتاباتِ يوحنا الأُخرى. لكن اختِصاراً للوقتِ سأُشيرُ فقط إلى اثنين.

أولاً، الإشارةُ إلى المسيحِ بـأَنهُ “الكلمةُ”، أو “اللوغوسُ”، موجودةٌ فقطْ في العهدِ الجديدِ في الرؤيا ١٩: ١٣، وفي يوحنا ١: ١،١٤. وهناك لغةٌ مشابهةٌ في ١ يوحنا ١:١.

ثانياً، تصريحُ يسوعَ: “وَمَنْ يَعْطَشْ فَلْيَأْتِ”، في الرؤيا ٢٢: ١٧ لا يوازيهِ في العهدِ الجديدِ سوى يوحنا ٧: ٣٧. حيث نقرأ “إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ”.

بالرُّغمِ من هذه الحُجَجِ القَويةِ التي تَدعَمُ الرسولَ يوحنا ككاتبِ كتابِ الرؤيا، فقد شكَّكَ النُقّادُ باكراً، بَدءاً من القرنِ الثالث، بكونهِ الكاتبَ. على سبيلِ المثالِ، أشارَ الأسقفُ ديونيسيوسُ الإسكندريُّ في القرنِ الثالثِ أن كاتبَ كتاب الرؤيا عَرَّفَ نفسَه بيوحنا، بينما كاتبُ إنجيلِ ورسائلِ يوحنا لم يُخبرْنا مُطلقاً عن اسمه. كما أشارَ ديونيسيوسُ كذلك إلى وجودِ فروقٍ بين الرُّؤيا وكتاباتِ يوحنا الأُخرى، مثلِ فروقٍ في الأسلوبِ الأدبي ومفرداتِ اللغةِ اليونانية. ويستمرُ النُقّادُ بتقديمِ حُججٍ مماثلةٍ اليومَ.

بالطَبع، هناك تفسيراتٌ جيدةٌ للأسبابِ الكامنةِ وراءَ الاختلافاتِ في كتاباتٍ تعودُ إلى الكاتبِ ذاتِه. على سبيلِ المِثالِ، قد يكونُ يوحنا أدرجَ اسمَه في هذا الكتاب ليَتأكدَ الناسُ من أنه يأتي من مصدرٍ موثوقٍ به، أو قد يكونُ ذَكَرَ اسمَه بسببِ تَكليفِ المسيحِ له شخصيّاً أن يُرسِلَ هذا الكتاب إلى سبعِ كنائسَ محدَّدةٍ. وعدمُ ذكرِ يوحنا اسمَه في بعضِ الكتاباتِ، لا يَعني بالضرورةِ أنه لن يفعلَ في كتاباتِه الأخرى.

عِلاوة على ذلِك، يُمكنُ بسهولةٍ شرحُ الفروقِ في الأسلوبِ بين الرؤيا وكتاباتِ يوحنا الأُخرى. فالرؤى التي دوَّنَها يوحنا في كتابِ الرؤيا تَختلفُ كثيراً عن الإعلانِ الذي نالَهُ خلالَ خِدْمَةِ يسوعَ الأرضية.

كذلكَ، بخلافِ كتاباتِ يوحنا الأُخرى، فقد كُتِب كتابُ الرؤيا بأسلوبٍ رؤيوي، وهو على الأرجَح السببُ وراءَ الفُروقِ العَديدةِ في أسلوبِهِ الأَدَبي ولُغتِهِ اليونانِيَة. وقد يكونُ أيضاً وراءَ هذه الفُروقِ الأهدافُ المختلفةُ عند يوحنا، والعلاقاتُ المختلفةُ التي كانت تَربِطُهُ بقرّاءٍ أوَلين مُختلفين.

باختِصار، الأدلةُ التي تدعمُ يوحنا ككاتبٍ للكتاب، تَفوقُ بقوة تلكَ التي تُعارضُه. لهذا السبب، سنَعتمدُ في هذه الدروسِ الرأيَ التقليديَ بأنَ الرسولَ يوحنا هو كاتبُ كتابِ الرؤيا.

بعدَ أن تَكلمْنا عن الرسولِ يوحنا ككاتبِ كتابِ الرؤيا، دعونا ننتقلُ إلى موقعِ يوحنا وظُروفِه عندما كتبَ كتابَ الرؤيا.

 

2. الموقع والظروف

بحَسبِ الرؤيا ١: ٩ كتبَ يوحنا كتابَ الرؤيا عندما كان في بَطْمُس، وهي جزيرةٌ صغيرةٌ في بحرِ إيجَة، على مسافةِ نَحْوِ أربعينَ ميلاً جَنُوبِيّ غَرْبِيّ أفَسُس. وبَطْمُس هي مكانٌ صخريٌ قاحل، شبهُ خالٍ من الأشجار. وبسببِ قساوةِ طبيعَتِها، باتَت بَطْمُس مَوْقِعاً مناسباً لمُعاقَبَةِ المشهورينَ الذين اعتُبِروا تهديداً لأمنِ الإمبراطوريةِ الرومانية. ويوجدُ في الرؤيا ١: ٩ إشارةٌ ضِمنيةٌ قويةٌ إلى كَونِ يوحنا قد نُفي إلى بَطْمُس.

وبينما كان يوحنا يُعاني من هذه الظروفِ القاسية، استلَمَ عِدةَ رؤًى من المسيح. وكتابُ الرؤيا هو سجلُّ يوحنا لتلكَ الرؤى وتفسيرُه لها.

استمع إلى روايةِ يوحنا في الرؤيا ١: ١٠-١١:

كُنْتُ فِي الرُّوحِ فِي يَوْمِ الرَّبِّ، وَسَمِعْتُ وَرَائِي صَوْتاً عَظِيماً كَصَوْتِ بُوقٍ قَائِلاً:”أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ. الأَوَّلُ وَالآخِرُ. وَالَّذِي تَرَاهُ، اكْتُبْ فِي كِتَابٍ وَأَرْسِلْ إِلَى السَّبْعِ الْكَنَائِسِ الَّتِي فِي أَسِيَّا: إِلَى أَفَسُسَ، وَإِلَى سِمِيرْنَا، وَإِلَى بَرْغَامُسَ، وَإِلَى ثَيَاتِيرَا، وَإِلَى سَارْدِسَ، وَإِلَى فِيلاَدَلْفِيَا، وَإِلَى لاَوُدِكِيَّةَ.

هنا، وفي مقاطعَ أُخرى مِثلِ الرؤيا ٢١: ٥، أوضحَ يوحنا أنه كتبَ إطاعةً لأمرِ الله. كان اللهُ على وَشْكِ أن يُرِيَهُ رؤيا، وكانَ على يوحنا أن يًدوِّنَ تلكَ الرؤيا ويُرسلَها إلى الكنائسِ السبعِ في آسيا الصُغرى.

معرفةُ أن كتابَ الرؤيا نَتجَ عن رؤيا خارقةٍ أُعْطيَت إلى يوحنا، قادَ بعضَ المفسِّرين إلى التقليلِ من أهَميةِ يوحنا ككاتبٍ للكتاب. فإن كان الكتابُ مجردَ تَدوينٍ لرؤيا، فما أهميةُ هوية كاتبِه؟ وما هي المُساهمةُ التي يُمكنُ توقُعُها من يوحنا؟

ربما في الفصلَين 2 و3 في الرؤيا أعطى اللهُ يوحنا الكلماتِ الفِعليَةَ التي كان عليهِ أن يَكتبَها، وما بقيَ من كتابه كان رؤى. وقد كتبَ يوحنا، عُموماً، تلك الرؤى بكلماتِه الخاصة. من هذه الناحِية، كتابُ الرؤيا هو إلى حدٍ بعيد، مثلُ إنجيلِ يوحنا. ففي البداية، تابعَ يوحنا الأحداثَ في حياةِ يسوع، ثم دوّنَ لاحقاً تلكَ الأحداثَ في إنجيلِه ضِمنَ خِطةٍ تَهدفُ إلى سدِّ الحاجاتِ الخاصةِ عندَ قُرائِه. وبطريقةٍ مشابهةٍ إلى حدٍ بعيد، راقبَ يوحنا الرؤى التي دوَّنَها في كتابِ الرؤيا. ثم كتبَ كتابَه كسِجِلٍ حقيقيٍ لمُشاهداتِه. وكما سنرى في هذه الدروس، اختارَ يوحنا مادةَ كتاب الرؤيا ورتَّبها بحيثُ تُلَبي حاجةَ قرائِه الأولين.

سفر الرؤيا مُوحى به من الله، مثلُ بقيةِ أسفارِ الكتابِ المقدس. فالروحُ القُدُسُ أشرفَ على عملِ يوحنا بحيثُ أن كلَّ ما كتبَه صحيحٌ وموثوقٌ به. لكن، كما سنرى في هذه الدروسِ، استمرَّ يوحنا في القِيامِ بدورِه كَكاتبٍ نَشيطٍ ومُفكِر. وربما باستِثناءِ الإصحاحين 2 و3، لم يُملِ المسيحُ شيئاً على يوحنا. فقد كان يوحنا مسؤولاً عن تذكُّرِ الرؤيا، وفَهمِها، وتَقديمِها بِكلماتِه الخاصَة.

بعد أن نَظرنا في مَوقعِ يوحنا وظُروفِه عندما كتَب الرؤيا، لننظُرْ إلى تاريخِ كِتابةِ الكِتاب.

 

التاريخ


 يُشيرُ المفسِّرون الإنْجيلِيون إلى أحدِ تاريخَين مُحتملَين لِكتابةِ كتابِ الرؤيا: تاريخٌ مُبَكِّرٌ خلالَ زمنِ الإمبراطورِ الروماني نيرون، وتاريخٌ متأخرٌ في زَمنِ الإمبَراطورِ الروماني دومتيان. سننظرُ في هذَين التاريخَين، بَدءاً من زمنِ نيرون.

 

1. نيرون

 حَكمَ الإمبراطورُ الرومانيُّ نَيرونُ من عامِ ٥٤-٦٨ م، ويميلُ المؤرخون الذينَ يُؤيدونَ تاريخَ الكتابةِ في زمنِ نيرون إلى اقتراحِ تاريخٍ للكتاب نحوَ نهايةِ حُكمِ نيرونَ. في المرحلةِ الباكرةِ من حُكمِ نيرونَ، كان لمستشاريه الأكفاءِ تأثيرٌ كبيرٌ على حياتِه. لكنْ مَع مرورِ الوقتِ فَسُدَ حُكمُه بشكلٍ كبير. وقد اشتُهِرَ نَيْرون بإلقائه اللومَ على المَسيحيين في حَريقِ روما سنةَ ٦٤ م، واستندَ إلى هذه التُهمة ليَضطهدَ أعداداً كبيرةً من المسيحيين.

أما الحُججُ التي تدعمُ تاريخَ كتابةِ كتابِ الرؤيا في السنواتِ الأخيرةِ لحُكمِ نيرون، فتستندُ على الأقلِ إلى ثلاثةِ مصادرَ للمعلومات، المصدرُ الأولُ الرئيسيُّ هو إشارةُ يوحنا إلى السبعةِ ملوك.

في الرؤيا ١٧، يُقدِّمُ يوحنا وصفاً لوحشٍ قرمزِّيٍّ، لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ. وفي الأعدادِ ٩-١١، يُعلنُ أن السبعةَ الرؤوسِ تُمثِّل سبعةَ ملوك. ويتفقُ مُعظمُ المفسِّرين أن هؤلاءِ الملوكَ السبعةَ هُم أباطرةٌ رومان. يُعتبرُ يوليوسُ قَيصرُ أحياناً إمبراطورُ روما الأول. ثم يتبعهُ الأباطرةُ أُغُسطُسُ، وطيباريوسُ، وكاليجولا، وكلوديوسُ، ونيرونُ وغالْبا. في الواقع، في الرؤيا ١٧: ١٠، توجدُ إشارةٌ إلى أن ملكَ روما السادسَ كان في السلطةِ عندما استلمَ يوحنا رؤاه وكتبَ كتابَ الرؤيا. وهذه الإشارةُ قادتْ العديدَ من المفَسّرينَ إلى الاستِنتاجِ بأن رؤيا يوحنا كُتب أثناءَ حُكمِ نيرون.

الحُجَّةُ الثانيةُ الرئيسيّةُ التي تُستخدَمُ لدَعمِ كِتابةِ يوحنا الكتابَ في زمنِ نيرونَ، هي إشارتُه إلى الهيكلِ اليهودي. يشيرُ يوحنا إلى الهيكلِ بشكلٍ خاصٍ في الرؤيا ١١، وقد استنتجَ بعضُ الدارسين من ذلكَ أن الهيكلَ اليهوديَّ في أورُشليمَ كان ما زالَ قائماً عندما كُتب كتابُ الرؤيا. أما التاريخُ، فيدوّنُ لنا أن هيكلَ أورشليمَ دُمرَ سنةَ ٧٠ م، أي بعد سنتَينِ من انتهاءِ حُكمِ نَيرونَ. من هنا، إن كانَ الهيكلُ لا يزالُ موجوداً عندما كُتب كتابُ الرؤيا، فهذا يرجِّحُ أن يكونَ قد كُتبَ في زمنِ نيرون.

أما العاملُ الثالثُ الذي قد يُشيرُ إلى تاريخٍ في زمنِ نَيْرون، فهو أن يوحنا قد كَتَبَ في فَترةِ اضطِهاد. يشيرُ كتابُ الرؤيا تَكراراً إلى أن الذين يَكتبُ إليهِم يوحنا يتألمون. ونجدُ ذلكَ في الرؤيا ١: ٩؛ ٢: ٩،١٠،١٣؛ ٦: ٩ و٢٠: ٤. وكما سبقَ وذكَرْنا، فقد كانَ نَيرونُ معروفاً بتشجيعِه على اضطِهادِ المَسيحيين. لم يكنْ الإمبراطورُ الوحيدُ الذي فعلَ ذلك، لكنه أولُ من فعلَ ذلكَ بطريقةٍ بارزة، على الرغمِ من اقتصارِ اضطهاداتِه عامةً على مَنطَقةِ روما.

 رُغمَ عدمِ وجودِ دَليلٍ تاريخيّ على امتدادِ الاضطهادِ إبانَ حُكمِ نَيرون إلى مناطقَ جديدةٍ خارجَ روما، فلا يُمكنُ استبعادُ هذا الاحتمال. مما يدعمُ تاريخاً للكتابِ أثناءَ حُكمِ نَيرونَ.

لكن، رغمَ أن الحُججَ التي تدعمُ تاريخَ كِتابةِ الرؤيا أثناءَ حُكمِ نيرونَ لها وزنُها، فهي لَيست مُقنعةً تماماً. فهناكَ عدةُ اعتراضاتٍ على هذا الرأي.

أولاً، يوليوسُ قيصرُ ليسَ في الواقعِ إمبراطوراً. كان خَليفُتُه أُغُسطسُ أولَ من ادَّعى هذا اللقب. من هنا، قد لا يكونُ يوليوسُ قَيصر الملكَ الأولَ بين الملوكِ السبعةِ المَذكورين في الرؤيا ١٧: ٩-١١.

ثانياً، كما سبقَ وذكَرنا، يُشيرُ الرؤيا ١١ إلى الهيكل. لكن أُخبرَ يوحنا في الرؤيا ١١: ١-٢ بأن كلَ الهيكلِ باستثناءِ الدارِ الخارجيةِ هو مَحميٌ من الأمم. في المُقابل، نقرأُ في متى ٢٤: ١-٢، أن يسوعَ نَفسَه سَبقَ وتَنبأَ بأنَ هيكلَ أورُشليم سيُدَمّرُ على أيدي الأُمَم. لذا، من الصعبِ التأكدِ أن الرؤيا ١١ يُشيرُ إلى الهَيكلِ الذي دُمِّر سنةَ ٧٠ م.

ثالثاً، رُغمَ أنَه من الممكنِ أن يكونَ اضطهادُ نيرونَ قد امتدَّ خارجَ آسيا الصُغرى، فلا يوجدُ دليلٌ تاريخيٌّ على أن ذلك قد حصلَ فعلاً. لذلك، من الصعبِ نَسَبُ وَصفِ يوحنا للاضطِهادِ المسيحي مُباشرةً إلى نَيْرون. إن صُعوباتٍ من هذا النوع، جعلتْ معظمَ الإنجيليين يفضِّلون تاريخاً متأخراً لكتاب الرؤيا.

بعد أن نظَرنا في الحُججِ التي تَدعَمُ تاريخَ كِتابةِ الرؤيا في زمنِ نَيْرون، لنَنتقِل إلى الأدِلَةِ التي تَقتَرحُ أن يكونَ يوحنا قد كتبَ كتابَ الرؤيا أثناءَ حُكمِ دومتيان.

 

2. دومتيان

يميلُ الدارسونَ الذين يفضِّلون تاريخاً متأخراً لكتابةِ الرؤيا إلى وَضعِ الكتابِ إبانَ حُكمِ الإمبراطورِ الرومانيِّ دومتيان الذي حَكمَ من عامِ ٨١-٩٦ م. يُمكنُ الإشارةُ على الأقلِ إلى أربعةِ عواملَ تؤيدُ كتابةَ الرؤيا في هذا التاريخ.

أولاً، أشارَ العديدُ من آباءِ الكنيسة الأولين إلى كتابةِ الكتابِ في ذلكَ الوقت. على سبيلِ المِثال، في مُؤَلفِه ضد الهرطقات المجلدِ ٥ الفصلِ ٣٠، والجُزءِ ٣، يُخبرُنا أحدُ آباءِ الكنيسةِ الأوائلِ إيريناوسُ أن كتابَ الرؤيا كُتب “نحو نهايةِ حُكمِ دومتيان”. وقد ذكَرْنا في بِدايةِ هذا الدرسِ أن إيريناوسَ كان تلميذاً لبوليكاربوس، وهذا كانَ بدورِه تلميذاً للرسولِ يوحنا. لذلك يوجدُ سببٌ وجيهٌ يَجعلُنا نثقُ بشهادةِ إيريناوسَ في هذه المسألة.

ويَتفِقُ هذا التاريخُ مع شَهادةِ بَعضِ آباءِ الكنيسةِ في القرنِ الثاني، مثلِ أكليمَندُسَ الإسكندريَّ الذي أشارَ ضِمناً إلى أن يوحنا أُعيدَ من النفي بعدِ موتِ دومتيان.

هناك عاملٌ ثانٍ يَدعمُ تاريخاً للكتابِ إبانَ حُكمِ دومتيان، وهو الإشارةُ ذاتُها إلى السبعةِ ملوك التي يستخدمُها بعضُ المفسِّرينَ ليدعموا تاريخاً للكتابِ إبانَ حُكمِ نيرون. كما رأَينا، في الرؤيا ١٧: ٩-١١، يَشرحُ لنا يوحنا أن الرؤوسَ السَبعةَ للوحشِ القِرْمِزِيّ هي سبعةُ ملوك. والذين يُدافعون عن تاريخٍ للكتابِ أثناءَ حُكمِ دومتيان ينظرونَ إلى الملوكِ السبعةِ كمُضطهِدين قُساةٍ للكنيسة. من هنا، بدلَ أن يَحسِبوا كلَّ الأباطرةِ الرومانِ، يَحسبون فقط الأباطرةَ الذين اضطهدوا الكنيسةَ اضطهاداً شديداً.

ووِفقَ هذا الحِسابِ، يكونُ كاليجولا الإمبراطورَ الأول. وهو مَلَكَ من عام ٣٧-٤١ م. وكلوديوسُ هو الإمبراطورُ الثاني، وقد ملك من عامِ ٤١-٥٤ م. ونَيرونُ هو الثالث، وقد ملك من عام ٥٤-٦٨ م. ثم يَغفُلون ثلاثةَ أباطرةٍ صِغاراً بعد نيرون لعدم قيامِهم بأي اضطهادٍ للكنيسة. أما الإمبراطورُ الرابعُ الذي اضطهدَ الكنيسةَ فهو فَسباسْيان، وقد مَلكَ من عام ٦٩-٧٩ م. والخامسُ هو تيطُس الذي مَلكَ من عامِ ٧٩-٨١ م. أما السادسُ الذي يُفترضُ أن يكونَ كتاب الرؤيا قد كُتبَ في زمنِه، فهو دومتيان الذي حكمَ من عامِ ٨١-٩٦ م.

أما العاملُ الثالثُ الذي يشيرُ إلى كتابةِ الرؤيا إبانَ حكمِ دومتيان فهو اضطهادُ المسيحيين.

وِفْقَ العديدِ من المؤرِخين، اضطَهدَ دومتيانُ الكنيسةَ خارجَ روما بشكلٍ أوسعَ من أيِّ إمبراطورٍ آخر. فعلى سبيلِ المِثال، في سنةِ ٩٦ ميلادية كتبَ أكليمندسُ الرومانيُّ رسالةً إلى أهلِ كورنثوسَ تحدَّثَ فيها عن مِحَنٍ وبَلايا أصابَتْهم فَجأةً وبشكلٍ مُتكرِر. وهذه المحن والبلايا تُوحي باضطهادٍ أكثرَ انتظاماً عانى منه المسيحيونَ في أيامِ دومتيان. ويُحكى أنه كان يَخشى عودةَ المسيحٍ حتى قيل إنه أعدمَ ابنَ عمهِ فلافيوسَ كليمنس لأنه كان مسيحيّاً.

أما السببُ الرابعُ وراءَ اقتراحِ تاريخِ كتابةِ الكتابِ في زَمنِ دومتيان، فهو مطالبةُ دومتيانَ بعبادةِ الإمبراطور.

يَظهرُ مَوضوعُ عِبادةِ الإمبراطورِ في أجزاءٍ عِدةٍ في كتابِ الرؤيا. فمثلاً: في الرؤيا ١٧: ٩-١١ نرى الوحشَ الذي يُمثِّلُ السبعةَ الملوكَ يَطلبُ أيضاً من الناسِ أن تعبُدَه كما ورد في الرؤيا ١٣، ١٤، ١٦. وقد يشيرُ هذا التَكرارُ إلى كونِ كتاب الرؤيا قد كُتب خلال زمنِ الإمبراطورِ الرومانيِّ الذي أمرَ المسيحيين بعبادتِه.

لا يوجدُ دليلٌ على أن نيرونَ طالبَ الشعبَ بعبادتِه. لكنَّ دومتيانَ طلبَ ذلكَ بوضوح. وعرَّضَ المسيحيون أنفسَهم لغَضبِه في كل مرةٍ رَفضوا الاعترافَ بزعمِه أنه ربٌ وإله. وكان دومتيانُ يستهِلُّ كلَّ رسائِله بالعبارةِ ربُنا وإلهُنا يأمر، ويطلبُ من رعاياه أن يُنادوه بهذه الطريقِة. كما صنعَ لنفسِه تماثيلَ من ذهبٍ وفِضَةٍ ووَضَعَها في هياكلِ الآلهةِ الرومانية.

لكنّ الرأيَ القائلَ بأنَّ يوحنا كتبَ في زمنِ دومتيان، له كذلك ضعفاتُه. على سبيلِ المثال، لم يُشِرْ يوحنا إطلاقاً إلى كونِ الملوكِ السبعةِ في الفَصلِ ١٧ هم مضطهِدون بارزون للكنيسة. كما لم يُشِر قطُّ إلى دَمارِ الهَيكلِ في أورُشليمَ سنةَ ٧٠ م، وكان حدثَ قبلَ زمنِ دومتيان.

لا يُمكننا أن نَعرِفَ بالتحديدِ تاريخَ كتابةِ يوحنا لسفرِ الرؤيا. لكنْ يبدو أنَّ هناكَ دلائل كثيرة للرأيِ القائِلِ بأنَه كُتبَ أثناء حُكمِ دومتيان. والمفسِّرون الذين يَدعمونَ هذا الرأيَ يَقترحونَ تاريخاً حوالي سنة 95 م في نهايةِ حياةِ دومتيان، قبل أن يُطلَقَ سَراحُ يوحنا من بَطمُس.

في هذه الدروس، لن يَرتكزَ أيٌ من تفسيراتِنا على تاريخٍ مُحدَّدٍ لسفرِ الرؤيا. لكنَنا سنُركّزُ بدلَ ذلك على حَقيقةِ كَونِ السفر قد كُتبَ خلالَ النِصفِ الثاني من القَرنِ الأوَل، في وَقتٍ كان فيه المؤمنينَ مُضطَهدين لأجلِ إيمانهِم، وتحتَ ضَغطٍ ليَعبُدوا الإمبراطورَ.

بعد أن بحَثْنا في كاتبِ كتابِ الرؤيا وتاريخِ كتابتِه، لنبحثْ في القرّاءِ الأولين.

 

القرّاء


 وجَّه يوحنا كتابَ الرؤيا بالتحديدِ إلى الكنائسِ السَبعِ في آسيا الصُغرى، وهي مِنطَقةٌ تَقعُ اليومَ في جُزءٍ من غَربي تركيا. وتقعُ هذه الكنائسُ في مُدُنِ أفسسَ، وسِميرْنا، وبَرغامُسَ، وثَياتيرا، وسارْدِسَ، وفيلادَلفيا ولاوُدِكِيَّة. وقد نالتْ منه كلُ كنيسةٍ تشجيعاً لها، وعند الضرورةِ توبيخاً بِحَسَبِ حالتِها الروحية.

يُخبرُنا المؤرخونَ وكتابُ الرؤيا نفسُه أن المسيحيين الذين كانوا يعيشون في تلكَ المدنِ واجهوا كلَ أنواعِ التَجاربِ والضغوطاتِ ليتخلوا عن إيمانهِم المسيحي. ومثلُ العديدِ من المسيحيين في كلِ عصر، خَضَعوا لضغوطاتٍ لكي يساوُموا على إيمانهِم.

واجهَت كنائسُ آسية الصُغرى ضغوطاتٍ من مصادرَ عدةٍّ لتساومَ على مُعتقداتِها وممارساتِها. لكنْ من أجل أهدافِ هذا الدرسِ، سنركِّزُ على أربعِ مشاكلَ تميَّزت بها ظُروفهُم.

 

1. نقابات التجار

أولاً، ضَغطُ نقاباتِ التُجار على المسيحيين ليعبُدوا آلهةً كاذبة. كان في القرنِ الأولِ نقاباتٌ للتُجارِ في كل آسيا الصُغرى. وكانت تلك النقاباتُ مجموعاتٍ من العُمالِ والحِرَفيّين نشأَت لأغراضٍ اقتِصادية. فالجميعُ بمن فيهم المسيحيون، كانوا بِحاجةٍ إلى أن ينتموا إلى تلكَ النَقاباتِ في حالِ أرادوا أن يكونَ لهُم عملٌ جيدٌ في مُجتمعاتِهم. وشكَّلتْ هذه الممارسةُ الاجتماعيةُ تحديّاً جِدِيّاً بالنسبةِ لأتباعِ المسيح، إذ كانَ لكلِ نقابةٍ إلهٌ راعٍ، وكان يُتوقعُ من أعْضاءِ النقابةِ أن يُظهروا ولاءَهم نحوَ ذلكَ الإله. وكان المسيحيونَ الذينَ يرفُضونَ إظهارَ وَلائِهم لإلهِ النقابةِ الراعي، يُقْصَوْنَ عن المُعاملاتِ التجارية مع أعضاءِ النقابة.

 

2. الجماعات اليهودية

الضَغطُ الثاني للمُساومةِ أتى من الجماعاتِ اليهوديةِ المُنتشرةِ في آسيا الصُغرى في القَرنِ الأول. كانت دياناتُ الإمبراطوريةِ الرومانيةِ تُمارَسُ في غالبيتِها فقط في البُلدانِ التي نَشأَت فيها تلكَ الدِيانات، باستثناءِ اليَهوديةِ التي شذَّت عن هذه القاعدة. فالمجامعُ اليهوديةُ كانت نشيطةً في المُدنِ البارزةِ في آسيا الصُغرى. وفي مَرحلةٍ باكِرة، نظرَ الرومانُ إلى المَسيحيةِ كفَرْعٍ من اليَهودية، ونَتيجةً لذلك، كانت تُمارِسُ إيمانَها بِصورةٍ شَرعيةٍ في كلِ الإمبراطورية. لكن بمرورِ الوقتِ، مع بَدءِ اليَهودِ بعزلِ أنفُسِهِم عن المسيحيين المؤمنين، خَسِرَت المسيحيةُ وَضعَها القانوني في مُعظَمِ أجزاءِ الإمبراطورية، وباتَ المَسيحيونَ عُرضةً لاضطِهادِ الحُكومة. ونتيجةً لذلك، ضُغِطَ على المسيحيين ليتكيَّفوا مع اليهودية، إلى حدِ تخلّيهم عن إيمانهِم بالمسيح.

 

3. الحكومة الرومانية

أما الضَغطُ الثالثُ للمساومةِ على الإيمانِ المسيحي، فقد جاءَ من الحكومةِ الرومانية، التي طالبَت المسيحيين بعبادةِ الإمبراطورِ والآلهةِ الرومانية. بسببِ رَفضِ الجَماعةِ اليهوديةِ للكنيسةِ المسيحية، طالبَتْ الحكومةُ المسيحيين بالاشتراكِ في العبادةِ العامةِ للآلهةِ الرومانية. وفي زَمنِ دومتيانِ، تَضَمنَ ذلك الاعتَرافَ بالإمبراطورِ كإله. وفي حال رفَضَ المسيحيونَ الاشتِراكَ في هذه العِبادةِ الوَثنية، كان من المُمكنِ اتهامُهم بالإلحاد، وهي جريمةٌ يَترتبُ عليها عواقبُ وخيمةٌ قد تصِلُ عقوبَتُها للإعدام. وبِغرضِ ضَمانِ أمنِهم الجَسدي، كان كثيرٌ من المسيحيينَ تحتَ الضَغطِ يقومون بالمشاركةِ في العباداتِ الخاطئة.

 

4. المسيحيون المشاكسون

مع الأسفِ، بالإضافةِ إلى الضُغوطاتِ الخارجيةِ التي تعرَضَ لها المَسيحيون ليتكيَّفوا مع الدِياناتِ الأُخرى، بَرزَ ضَغطٌ رابعٌ جاءَ في الواقعِ من المسيحيينَ المشاكِسين. لا يُعطينا الكتابُ المقدسُ الكثيرَ من التفاصيلِ عن المَشاكلِ في كنائسِ آسيا الصغرى. لكنَّ الرسائلَ إلى الكنائسِ في الرؤيا ٢و٣ تشيرُ إلى عددٍ من المشاكلِ المحدّدةِ التي سبَّبها أناسٌ من داخلِ الجَماعَةِ المَسيحية. على سبيلِ المِثالِ، توجَدُ إشارةٌ إلى تعاليمِ بلعامَ في الرؤيا ٢: ١٤. ويدينُ الرؤيا ٢: ٦،١٥ جماعةً ممن يُسمَّوْنَ “بالنُّقُولاَوِيِّين”، ونبيةً كذابةً تُدعى إِيزَابَل في الرؤيا ٢ ٢٠.

علاوةً على ذلك، يبدو أن هؤلاءَ المسيحيينَ المشاكِسينَ كانوا يَضغَطونَ على مسيحيينَ آخرينَ ليشترِكوا في مُمارساتِهم المضلِّلة. لكن لم ينضمْ كلُ المسيحيين المشاكِسين إلى تلك المجموعاتِ الهَرطوقية. فقد تخلّى البعضُ منهُم ببساطةٍ عن إيمانِهم، وعادوا وانضَموا إلى الدياناتِ الوثنيةِ التي كانت حولَهم. وأحدُ السِجلاتِ الهامةِ في هذا الشأنِ يأتينا من بْلَيني الأصغرِ الذي كان حاكماً لبَنطُسَ وَبِيثِينِيَّةَ من سنة ١١١-١١٣ م.

استمع إلى ما كتبَه بلَيْني إلى الإمبراطورِ الرومانيِّ تراجان:

آخرون أشارَ إليهِم المُخبرُ أعلنوا أنهم كانوا مسيحيين، لكنَهُم أنكروا مسيحيتَهم الآن، مؤَكِدين أنهم كانوا كذلك لكنهم تَخَلَّوا عن إيمانِهم… البعضُ منهُم منذُ أكثر من خمسٍ وعشرينَ سنة. وجميعُهم يعبدونَ صورتَك وتماثيلَ الآلهة، ويلعنون المسيح.

يواجه المسيحيونَ في كل عصرٍ ضغوطاً ليُساوموا على ولائِهم للمسيح في الفكرِ، والقولِ، والعمل. ولا تزالُ المسيحيةُ في مناطقٍ عديدةٍ من العالمِ ديانةً غيرَ شرعية. حيث يَجتمعُ المؤمنونَ الأُمناءُ في السرِّ– مخاطرين بأن يُعتقلوا، وفي بعضِ الأحيانِ أن يُقتلوا. كذلكَ هناكَ الضغطُ الفكريُّ. حين يسخرُ العلماءُ العلمانيين، والأصحاب، وأفرادُ العائلةِ من المسيحيةِ ويعتبرونَها ديانَةَ الجُهّالِ التي تتناقضُ مع العِلم. كذلك هناك ضغطُ المساومةِ على سلوكِنا ومُعتقداتِنا من أجلِ النجاحِ في العمل، أو تَجنباً لظلمِ المعاملةِ في المُجتمع. يتناولُ سفرُ الرؤيا حالاتٍ من هذا النوع. فرسالةِ السفرُ هي أن المسيح هو الملكُ الأعلى، وأنه سيعودُ في النهايةِ ليُسوّي كلَ الأمور. وعندها سيكافئُ كلَ من بقيَ أميناً له.

بعد أن فهِمنا الإطارَ التاريخيَّ لكتاب الرؤيا، غدَوْنا مُستعدينَ للبحثِ في خلفيةِ الكتاب اللاهوتية.

 


الخلفية اللاهوتية


يُقرُّ كتابُ الرؤيا عُموماً بالتعاليمِ اللاهوتيةِ الواردةِ في كلّ ما كُتبَ قبلَه في الكتاب المقدّس. وقد استندَ يوحنا إلى حدٍ بعيدٍ إلى الكتاباتِ التي سبَقَته، وتوقعَ أن تكونَ تلك الكتاباتُ مألوفةً عند قُرائِه.

يُمكنُ وصفُ الخلفيةِ اللاهوتيةِ لكتابِ الرؤيا بعدةِ طرقٍ. لكننا سنركّزُ في هذا الدَرسِ على ثلاثةِ مفاهيمَ رئيسيةٍ لتلكَ الخَلفية: أولاً، العقيدةُ الكتابيةُ للأمورِ الأخيرية، أو ما يتعلقُ بالأيامِ الأخيرة؛ وثانياً، مفهومُ العهد؛ وثالثاً، دورُ الأنبياءِ الكتابيين. لننظرْ أولاً في ما يتعلقُ بموضوعِ الأمورِ الأخيريةِ.

كانت الكنيسةُ الباكرةُ في زمنِ يوحنا تشعرُ بتوترٍ كبيرٍ لعدمِ رجوعِ يسوعَ ليتمِّمَ عملَه. كان يسوعُ قد بدأَ خلالَ خِدمتِه الأرضِيةِ بإيصالِ الخَلاصِ إلى كلِ أُمةٍ بافتتاحِه المراحلَ النٍهائيةَ لملكوتِ الله على الأرض. لكن في الوقتِ الذي كَتبَ فيه يوحنا، كان قد مضى نِصفُ قرنٍ على صعودِ يسوع، وبدأ المسيحيون يَتساءلونَ إن كان سيعودُ يوماً. من هنا، فإن أحدَ الأسبابِ وراءَ كتابةِ يوحنا كان ليُطمِئنَ قُراءَه بأن يسوعَ سيعودُ حتماً في المستقبلِ ليحقّقَ كلَ وعودِ الكتابِ المقدسِ عنه. بكلمةٍ أخرى، كتبَ يوحنا ليشرحَ الأمورَ الأخيريةَ، أي تعليمَ الكتابِ المقدسِ حولَ أحداثِ الأيامِ الأخيرة.

 

الأمور الأخيرية


إن عبارةَ الأمورِ الأخيرية تشيرُ إلى دراسةِ الأزمنةِ الأخيرة، أو دراسةِ الأمورِ الأخيرة. والكلمةُ مشتقةٌ من كلمةٍ يونانيةٍ وَرَدَت في العَهدِ الجديدِ إسخاتوس، والتي تعني عادةً الأخير. وجرتِ العادةُ أن تُستخدمَ العبارةُ “الأمورُ الأخيرية” للإشارةِ بصورةٍ رئيسيةٍ إلى تعليمِ الكتابِ المقدسِ حولَ مجيءِ المسيحِ ثانية. لكنَ علماءَ الكتابِ المقدسِ دَرجوا على استعمالِ العبارةِ الأمورِ الأخيرية للإشارةِ إلى ذُروَة التاريخِ المقدسِ بكاملِه من مجيءِ المسيحِ أولَ مرةٍ إلى حينِ عودتِه. وهذا الرأيُ الشاملُ للأمورِ الأخيريةِ يتناسبُ مع كونِ مقاطعِ مثلَ العبرانيينَ ١: ٢ و١ بطرس ١: ٢٠ تشيرُ إلى أنَّ زمنَ العهدِ الجديدِ بكامله هو بمثابةِ الأيامِ الأخيرة، أو الأزمنةِ الأخيرة.

لكي ندركَ كيفَ فَهِمَ كُتّابُ العهدِ الجديدِ الأيامَ الأخيرة، من المفيد أن نبدأَ بتعاليمِ العهدِ القديمِ. فقد سبقَ وأنبأَ أنبياءُ العَهدِ القديمِ بأن المسيحَ الآتي، سيُنهي استبدادَ الحُكْمِ الأَجنَبي، ويُعلنُ ملكوتَ اللهِ على الأرض.

كما نقرأُ في دانيالَ ٢: ٤٤:

وَفِي أَيَّامِ هؤُلاَءِ الْمُلُوكِ، يُقِيمُ إِلهُ السَّمَاوَاتِ مَمْلَكَةً لَنْ تَنْقَرِضَ أَبَداً، وَمَلِكُهَا لاَ يُتْرَكُ لِشَعْبٍ آخَرَ، وَتَسْحَقُ وَتُفْنِي كُلَّ هذِهِ الْمَمَالِكِ، وَهِيَ تَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ.

 يُخبرُنا دانيالُ في هذا العدَد أنَّ مَلكوتَ اللهِ سيَسحقُ الأُممَ والحُكّامَ الأعداءَ بغرَضِ تَوطيدِ حُكمِ اللهِ الأبديِّ على كلِّ الأرض. وفي دانيالَ ٧: ١٣-١٤، ذَهَبَ النبيُّ إلى حَدِ القَولِ إنَّ هذا المَلكوتَ سينتصِرُ من خِلالِ عَمَلِ ابنِ الإنسانِ، المعروف أيضاً بالمَسيح.

قادَت مَقاطعُ نَبويةٌ مِثْلُ تلك التي في دانيالَ لاهوتيِّ اليَهودِ في القَرنِ الأَولِ إلى تَقسيمِ التاريخِ إلى عَصرَين أو دَهرَين كَبيرَين: هذا الدهر دهرُ الخطيّةِ والعَذابِ والمَوت؛ والدهرُ الآتي، عندما يُبيدُ اللهُ أعْداءَه بالكامِل ويُبارِكُ شَعْبَه في النِهاية. وفي القُرونِ التي تلَت زَمَنَ دانيالَ، استمرَت إسرائيلُ في صِراعِها ضِدَ الإمبراطورياتِ الوَثَنيةِ والحُكّامِ الأجانِب. وتاقَ اللاهوتيونَ اليهودُ أكثرَ فأكثرَ إلى مجيءِ المسيحِ لينُهيَ هذا الدهرَ ويُعلنَ الدهرَ الآتي.

ويسوعُ نفسُه غالباً ما اعتمدَ على هذا الرَأيِ للدَهرَيْن في كِرازَتِه. فهو على سَبيلِ المِثال، تَكلمَ عن هذا الدَهرِ والدَهرِ الآتي في أماكِنَ مِثلَ متى ١٢: ٣٢، ومَرقُسَ ١٠: ٢٩-٣٠ ولوقا ٢٠: ٣٤-٣٥. لكنَّ يسوعَ قدَّم وُجْهَةَ نَظَرٍ جَديدةً حَول الدَهرَين. فهو استمرَ من جِهةٍ في الإشارةِ إلى الدَهرِ الآتي كعَصرٍ مُستقبليِّ. لكن، من جِهةٍ أخرى، تَحدثَ أيضاً عن كَونِ مَلكوتِ اللهِ قد أتى في أيامِه. بكلماتٍ أخرى، علَّم يسوعُ أن الدَهرَين تداخلا في زمنِه. الدهرُ الآتي بدأ على الرغمِ من أن الدهرَ الحالي أو هذا الدهرَ لم ينتهِ بعد. وبحسبِ كلامِ يسوعَ فإنَّ المؤمنينَ يَعيشونَ الآن في ملكوتِ اللهِ ويتمتعونَ ببركاتِه العديدة.

استمع الى كلماتِ يسوع في متى ١٢: ٢٨:

وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ اللهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ.

 فانتصارُ يسوعَ على القُوى الشّيطانية بَرهنَ أنه بَدأ أو افتَتَحَ المَرحَلةَ النِهائيةَ لمَلكوتِ اللهِ على الأَرض.

من خِلالِ خِدمَة المسيحِ الأرضِيَة، حَققَ اللهُ الغلبةَ النِهائِيَةَ على أَعدائِه، وجَلَبَ البَركاتِ النِهائيةَ لشَعبِه. فَملكوتُه اقتَحمَ هذا الدَهرَ الشَريرَ. فما عَمِلَه المَسيحُ كان عمليةَ إنقاذٍ لشعبِ اللهِ وضمانةً لبركاتِه المستقبلية. وكما قرأنا للتَّو في متى ١٢: ٢٨، بدأ هذا الإنقاذُ في زمنِ المسيح. ونجدُ هذا الموضوعَ ذاتَه في مقاطعَ مثل لوقا ١٦:١٦؛ ١٧: ٢٠-٢١، ويوحنا ٣:٣. في الوقتِ الحاضر، يستمرُ الملكوتُ بالنمو كما نرى في متى ١٣: ٢٤-٣٠؛ ٣٦-٤٣، ولوقا ١٩: ١١-٢٧. وسيتمُّ الملكوتُ أو يُستكملُ في المستقبل، عند رجوعِ المسيح، كما علَّمَ هو ذاتُه في مقاطعَ مثلِ متى ١٦: ٢٧-٢٨؛ ٢٤: ٤٤-٥١، ٢٥: ٣١-٤٦.

هذه النظرةُ إلى الدهرَينِ نجدُها واضحةً بصورةٍ خاصة في كتاباتِ الرسولِ بولس. فهو من جهة، أكدَ أنَّ دهرَ الخطيةِ والموتِ هذا ما زال موجوداً. فمثلاً، وصفَ الشيطانَ بـأنه إِلهُ هذَا الدَّهْرِ في ٢ كورنثوسَ ٤:٤. ووصفَ أي فيلسوفٍ وثني بـأنه مُبَاحِثُ هذَا الدَّهْرِ في ١ كورنثوسَ ١: ٢٠. علاوةً على ذلك، استخدمَ بولسُ عبارةَ الدهرِ الآتي للإشارةِ إلى الدهرِ المستقبلي، عندما ستأتي الدينوناتُ والبركاتُ النِهائيةُ على الجنسِ البشري. ونرى ذلك في أماكنَ مثلِ أفسُسَ ٢: ٧، و١ تيموثاوسَ ٦: ١٩. وهو يقابلُ بينَ الدهرَين في أفسُسَ ١: ٢١.

من جهةٍ أخرى، علَّم بولسُ أيضاً أنَّ الدهرَ الآتي قد سبقَ وجاءَ إلى حدٍ ما. على سبيلِ المثال، في ١ كورنثوسَ ١٠: ٦، كتبَ: إن إتمامَ كلِّ الدهورِ قد حصلَ في المسيح. وفي كولوسي ١: ١٣-١٤، قالَ إن المؤمنينَ قد انتقلوا إلى ملكوتِ المسيح.

ووجهةُ نظرِ الأمورِ الأخيريةِ التي يُعلِّمُها يسوع وبولس، تُسمَّى أحياناً الأمورَ الأخيريةَ التي تمَّ تدشينُها لأنها تعلنُ أن الدهرَ الآتيَ قد بدأ أو افتُتِح، لكنهُ لم يأتِ بعد في كل ملئِه. يسوعُ افتتحَ ملكوتَ اللهِ خلالَ مجيئِه الأول، لكنهُ لم يُلغِ هذا الدهرَ تماماً. ومنذُ ذلكَ الحين، سارَت أبعادُ الدهرَين جنباً إلى جَنب، الواحدُ إلى جانبِ الآخر. ونتيجةً لذلك، سبق واختبرَ المؤمنونَ بعضَ بركاتِ الدهرِ الآتي. لكننا لن نختبرَ كلَّ بركاتِه حتى يكتملَ الدهرُ عندِ عودةِ يسوع.

بحسبِ علمِ الأخروياتِ عندَ اليهود، كان من المُفترضِ أن يصلَ المسيا بدهرِ الخطيةِ والموتِ الحالي إلى ذُروةِ نهايتِه، إذ يُعلنُ الدهرَ الآتي. لكنَ المسيحَ لم يفعلْ ذلك، مما جعلَ العديدَ من الناس يتساءلونَ إن كانَ هو المسيا حقا. وهذا أحدُ الأسبابِ الذي جعلَ كتّابَ العهدِ الجديدِ يعملون بجَهدٍ كبيرٍ كي يوضحوا أن ملكوتَ اللهِ يأتي على مراحلٍ. نعم، هذا التغييرُ كان مفاجئاً. لكنَّ معجزاتِ المسيح القويةَ وشهادتَه كانت كافيةً لأثبات أن ما يقولُه هو الحقيقة، وأن اللهَ أرادَ حقاً أن يأتي الملكوتُ بصورةٍ غيرُ مُتوقعةٍ. فعند عودة المسيح سينتهي تماما هذا الدهر الشرير، وسيأتي الدهر الآتي بكل ملئه. لكن إلى ذلك الحين، ستبقى أبعادُ الدهرَينِ موجودةً جنباً إلى جنبٍ.

لكن كيف أثَّر هذا الرأيُ عن الأمورِ الأخيرية على يوحنا وهو يَكتِبُ كتابَ الرؤيا؟ ولماذا كانت هذه النُقطةُ اللاهوتيةُ مُهمَةً بالنسبةِ لهُ ولقُرائِه؟

في الزمنِ الذي كَتبَ فيه يوحنا كتابَ الرؤيا، كانت كنائسُ آسيا الصُغرى تُواجِهُ صُعوبةً في فَهمِ الاختِلافاتِ في مُعتقَداتِها. فهم من جهة، آمنوا بأن اللهَ يسودُ على التاريخ، وأن المَسيحَ انتصَرَ على الدَهرِ الشِريرِ الحالي، وأنه تمَّمَ توقُعاتِ العَهدِ القَديمِ بمجيئِه كمنقذٍ لكلِ الذينَ آمنوا به.

لكن، من جهةٍ أخرى، كان على كَنائسِ آسيا الصُغرى أن تَتعامَلَ مع واقِعِ استمراريةِ وجودِ الشرِ ونشاطِه في عالَمِهم. ونَتيجةً لذلك، واجَهوا أسئِلةً صَعبةً جدّاً من مثلِ: “إنْ كان المسيحُ قد جَلبَ الخَلاص، فلماذا ما زالَ العالمُ يُجرِّبُ المَسيحيينَ ليُخطِئوا؟” أو “إن كانَ المَسيحُ يَحكمُ، فلماذا لا يُنقذُنا من الاِضطِهاد؟” ومن الطبيعي أن يَسألوا: “كيف ومتى ستَنتهي كلَ هذه التَجارب؟” هذه الأسئلةُ جَميعُها مُرتبِطةٌ بطريقةٍ ما بالنَظرةِ إلى الأيامِ الأخيرة. وهي بالتَحديدِ الأسئلةُ التي يُجيبُ عنها كتابُ الرؤيا.

كان يوحنا يُدرِكُ تماماً وجودَ صُعوباتٍ لاهوتيةٍ نشَأت بسببِ نظرةِ العهدِ الجديدِ إلى الأُمورِ الأَخيرية. وأحدُ أهْدافِ كِتاب الرُؤيا هو مُساعدةُ المسيحيين على فَهمِ تلكَ النظرة. وفي كلِ كتابِ الرؤيا، كان يوحنا يُشجِّعُ قُراءَه أن ينظروا إلى هذه الصُعوبةِ على ضَوءِ انتِصارَين: الانتِصارُ الأول، حَققَه يسوعُ على الدَهرِ الحاضِر.

من خِلالِ مَوته، وقِيامتِه، وصعودِه، فقد ضَمِنَ المسيحُ بفدائِه لكلِ مؤمنٍ حقيقيٍ خلاصاً داخليّاً روحيّاً. ونجدُ الاحتِفالَ بهذا الانتِصارِ الأوَلي في مواضعَ مثلِ الرؤيا ١: ١٨، حيثُ أعلنَ المسيحُ أنه قامَ من بينِ الأموات، وبأنه لن يَموتَ من جَديد. وكذلكَ في الفَصلَين ٥ و١٢، فهما يتحدثانِ عن سلطانِ المَسيحِ وقُوَتِه، وكيفَ نالَهُما بموَتِه وقيامَتِه.

والانتصارُ الثاني هو الانتصارُ النِهائيُّ الذي سيُحقُّقه المَسيحُ عند عودِتِه، وهو انتِصارٌ سينتجُ عنه القضاءُ الكاملُ على أعداءِ الله، وتَجديدُ الخليقةِ كلِّها. ونجدُ هذا الانتصار النهائيَّ في مواضعَ مثلِ الرؤيا ١: ٧، وفي الفصلَين ١٩ و٢٢.

وقد أرادَ يوحنا أن يَعرِفَ قُراؤه الأوَلون أن يسوعَ المسيحَ قد قَهرَ حقاً قوةَ الخَطيةِ، والألمِ، والمَوت، تماماً كما أنبأَ العهدُ القديم. وعلى هذا الأساسِ، حثَّ يوحنا قراءَه أن يَثِقوا بأن يسوعَ سيعودُ ليتمِّمَ دينونةَ اللهِ وخلاصَه.

الآن، وقد فَهِمنا مَعنى الأمورِ الأخيرية، غدَونا مُستعدين أن نَنتقلَ إلى الجانبِ الثاني للخَلفيةِ اللاهوتيةِ لكتابِ الرؤيا وهي: المفهومُ الكِتابي للعهد.

 

 العهد


على الرُّغمِ من أنَّ كلمةَ “العهدِ” تَظهرُ مرةً واحدةً فقط في سفرِ الرؤيا، فإن مّفهومَ العَهدِ في أسفارِ العَهدِ القَديمِ قد شكّل سفرِ الرؤيا من عدةِ نواحٍ هامة. فقد حدّد هذا المفهومُ التوقعات الأساسية التي يَجبُ أن تكون لشَعبِ اللهِ من جِهةِ حياتِهم في ملكوتِ الله. ووَعدَهم بالخَلاصِ والبَركةِ في المُستقبل. كما حثَّهم على التغلّبِ على كل المصاعبِ التي واجَهوها. ولكي نَفهمَ الدَورَ الذي يَلعَبُه مَفهومُ العَهدِ في سفرِ الرؤيا، من المُفيدِ أن نَستعرِضَ كيف تَطوَّرَت هذه الفِكرةُ في كلِ الكِتابِ المُقدس.

كان لكل عَهدٍ من عُهودِ اللهِ سِماتُه الفريدة، ولكن كانَ هناك نمطٌ ثلاثيٌ ميّزَ كلَ العهودِ الإلهية. أولاً، أظهرَ كلُ عهدٍ إحسانَ اللهَ الغامرَ نحوَ شعبِه. ثانياً، توقعَ اللهُ من شعبِه الولاء له تعبيراً عن امتنانهِم لإحسانِه. ثالثاً، وضعَ اللهُ نظاماً لملكوتِه بإثباتِه مبدأَ عدالةِ النتائج. بناءً عليه، ينالُ الموالون لله بركاتِه، أما غير الموالين فتنزلُ بهمِ اللعناتُ.

في العهدِ مع داود المذكورِ في مقاطعَ مثلِ ٢ صموئيل ٧: ١-١٧ والمزمور ٨٩،١٣٢، ثَبَّت اللهُ مملكةَ داود كوسيلةٍ لتوصيلِ بركاتِ اللهِ وتنفيذِ دينوناتِه بشعبه. وكان بنو داودَ نسلَ ملوكٍ خاضعينَ لله، ويُمثِّلونَ كلَّ المملكةِ أمامَ الله. وكما هي الحالُ بالنسبة للعُهودِ الأخرى، أظهرَ اللهُ إحسانَه وتَوقَعَ بالمقابلِ الولاء له. ولقد ذكَّر اللهُ بيتَ داودَ بنتائجِ بركاتِه وعَواقبِ لعَناتِه. لكنْ لاحقاً في تاريخِ إسرائيلَ، فَشِل نسلُ داودَ بصورةٍ مُريعَةٍ في إرضاءِ اللهِ، مما أدَّى إلى سقوطِ شَعبِ إسرائيلَ تحتَ لعنةِ اللهِ وجرِّهِ إلى السبي.

لكن حتى في أيامِ السَبِي، تنبأَ أنبياءُ إسرائيلَ بأنَه في آخرِ الأيامِ سيُجَدِّدُ اللهُ عهدَه من خِلالِ ابنٍ بارٍ لداوُد. وأشارَ النبيُّ إرميا إلى هذا التجديدِ بحديثِه عن العهدِ الجديد في إرميا ٣١:٣١.

بحَسبِ أسفارِ العهدِ الجديدِ، يُعتَبرُ المسيحُ الابنَ الأعظمَ لداودَ الذي سيتمِّمُ هذا العهدَ الجَديد. فيسوعُ المسيحُ هو المَلكُ في مَلكوتِ اللهِ على الأَرض. والله الملكُ العظيمُ أو الإمبراطورُ، قَطَعَ عَهداً مع يسوعَ وكنيستِه. ومن خلالِ يسوعَ ظهرَ أعظمُ إحسانٍ منحَه اللهُ للبشر. فالمسيحُ نفسُه تمَّم عنا كلَّ مُتطلباتِ الولاءِ نحوَ الله. وهو حَملَ لَعناتِ العَهدِ الأبَدية عندما ماتَ عِوَضاً عنا. وقد قامَ من المَوتِ في اليومِ الثالثِ ليُشارِكَ شَعبَه ببركاتِ عَهدِ اللهِ الأبدِية. وسيعودُ ثانيةً ليقدِّمَ لشعبِه بركاتِ اللهِ النَهائيةِ في الخَليقَةِ الجَديدة.

كان في الشعبِ الذي دخلَ في العهدِ مع الله دائماً أناسٌ أُمَناءُ وآخرون غيرُ أُمَناءِ. وهذه الحالُ ستَستمرُ حتى عودةِ المسيح. ففي أيامِ آدمَ ونوحَ وُجِد بين سكانِ العالم، المؤمنُ وغيرُ المؤمن. وهذا ينطبِقُ أيضاً على شَعبِ اللهِ الخاصِ في أيامِ إبراهيم، وموسى وداود. وحتى كنائسِ العهدِ الجديدِ كانت تَضمُّ خليطاً من المؤمنينَ وغيرِ المؤمنين.

بعضُهم كان لهُم إيمانٌ للخلاصِ في المسيح، والبعضُ الآخرُ لم يكن عندَهُم ذلكَ الإيمان. لذلك، عندما كتبَ يوحنا كتابَ الرؤيا إلى كَنائسِ آسيا الصغرى، بيَّن أن عدداً صغيراً فقط من قُرّاءِ كتابِه كانوا مؤمنينَ حَقيقيين. وكان المؤمنونَ ينتظرونَ بشَوقٍ أن يُكافئَ اللهُ ولاءهم له بالبركات. لكن آخرونَ في الكنيسةِ بدأوا يَتراجَعونَ عن وَلائِهم وصاروا في خَطَرِ الوقوعِ تحت لَعناتِ الله. واستِجابةً لهذا الظَرف، ذكَّر يوحنا قرَّاءَه بطبيعةِ حياةِ الفردِ الذي هو في عهدٍ مع الله.

فبَيْن المَجيءِ الأولِ للمسيحِ ومجيئِه الثاني، نحن نعيشُ في فترةِ امتحانٍ تُستعلنُ فيها حالةُ قلوبِنا الحقيقية. وعند عودةِ المَسيحِ سينالُ الذينَ يَثِقونَ بالمسيحِ بالكاملِ بركاتِ عهدِه، أما الذينَ لا يثِقون به فسيقَعون تحتَ لعناتِ العهد.

استمع إلى ما قالَه يسوع للكنيسةِ في لاوُدِكِيَّة في الرؤيا ٣:١٦:

هكَذَا لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِداً وَلاَ حَارّاً، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي.

 أقلُّ ما يمكنُ قولُه هو أنَّ بعضَهم في كنيسةِ لاوُدِكيَّة كانوا في خَطَرِ الارتِدادِ عن إنجيلِ المَسيحِ، لذلك أنذَرَهم يوحنا بأنه ما لم يَبقوا أُمناءَ فسوفَ يقَعون تحتَ لعَناتِ عَهدِ الله.

كانت هذه الإنذاراتُ في الواقعِ امتداداً لمَحبةِ الله لشَعبِه، لأنها أعطَت قرَّاءَ يوحنا الفُرصةَ ليتوبوا. في الحَقيقةِ، نحن نرى إحسانَ اللهِ في كلِّ سفرِ الرؤيا. وهذا الإحسانُ ظاهرٌ من خلالِ مَحبتِه لشَعبِه، وفي ذبيحة المسيح من أجلِنا، وفي ملكوتِ الله، وفي رَجائِنا بعودة المسيح. فاللهُ أحبَنا إلى درَجةِ أنه أرسَلَ ابنَه ليتألمَ من أجلِنا، وهو قامَ من الموتِ كي نحيا في مَلكوتِه إلى الأبد. ويَجبُ أن يُشجِعَنا إحسانُه لنبقى أُمَناءَ له، حتى في وَسطِ مُعاناتِنا الشديدة.

مع هذا الفَهمِ لـقَضيةِ الأمورِ الأَخيرية ووُضوحِ العُهودِ الإلَهيةِ في ذِهنِنا، صِرنا مُستَعدينَ لننتقلَ إلى الجانِبِ الثالثِ للخلفيةِ اللاهوتيةِ لكتاب الرؤيا وهو: دورُ الأنبياء.

 

 الأنبياء


سنبحثُ في دَورِ الأنبياءِ أولاً: بمُقارنَتهِم بـسفراءِ العهدِ في القديم. وثانياً: بالنَظَرِ إلى النتائجِ المُحتَملةِ لدَورِهم النَبوي. وثالثاً: بالتَركيزِ على الطَريقةِ التي تمَّمَ فيها الرسولُ يوحنا دورَ النبيِّ في كتابِ الرؤيا. لنبدأْ بالتركيزِ على الأنبياءِ الكتابيين كـسُفراءِ العهد.

 

1. سفراء العهد

سبقَ ورأينا أن الكتابَ المقدسَ يصفُ عهدَ اللهِ مع شَعبِه بطُرقٍ تُشبهُ مُعاهداتِ الإمبَراطوريةِ القديمة التي تمهّدُ الطريقُ إلى الفِكرةِ المُتصلةِ بها وهي أنَّ أنبياءَ الكتابِ المقدسِ مثلَ الرسولِ يوحنا، خَدموا كسفراءَ للإمبراطورِ أو كرُسلٍ لعَهدِ الله.

لم يكُنِ الأباطرةُ في العالمِ القديمِ يتَنقلون في ممالِكِهم الشاسِعَةِ بأنفُسِهم، على الأقل ليسَ بشَكلٍ مُنتظِم، بل كانوا يُعيِّنون سفراءَ ليقوموا بهذه المُهمَةِ نيابةً عنهم. وكان دَورُ السُفراءِ حثَّ الولاةِ الخاضعين للإمبراطور على تنفيذ مُتطلباتِ المُعاهداتِ. وكان السُفراءُ يقومون بذلك بتذكيرِ الوُلاةِ بالمكافآتِ التي سيَنالونها في حالِ كانوا مُخلِصين لبُنودِ العَهد، ويُحذِّرونهم من العقوباتِ التي ستنزلُ بهم في حالِ كَسَروا بنودَ العهد.

وبطريقةٍ مشابهة إلى حدٍ بعيد، أرسلَ اللهُ أنبياءَه في العَهدَين القديمِ والجَديد ليَخدموه كُسفراء العهد، وعهَد إليهم تسليمَ رسائلَ محدَّدة أو نبوءاتٍ إلى شعبه. وعندما كان الشعبُ يُطيع، كان الأنبياءُ يَحُثونهم بتّذكيرِهم بالمكافآتِ التي ينالونها إنْ هم استمروا في الطاعة. لكن عندما كان الشعبُ يَعْصى، كان الأنبياءُ عامةً يحذِرونَهم من الدينوناتِ التي سيَجلِبُها عليهم الله إن هم رفضوا أن يتوبوا وأن يغيِّروا طرقَهم.

كما سبقَ وذكَرنا في هذا الدَرس، يَربِطُ مُعظَمُ المسيحيين المعاصرين كلمةَ النبوة بالتنبؤاتِ عن المستقبل. لكن في زمنِ الكتابِ المقدسِ، كانت لفظةُ النبوة تنطبقُ بصورةٍ رئيسيةٍ على البلاغاتِ التي أرسلَها اللهُ إلى شعبِهِ ليَحُثَهم على الأمانة. فالأنبياءُ كانوا سفراءَ عَهدِ الله. وكانوا يذكِّرون شَعبَه بواجباتِ عهدِهِم، ونتائجِ سلوكِهم.

عندما يكونُ القَصدُ من النبوةِ أن تَحُثَّ شعبَ اللهِ على العَمل، يَجِبُ أن لا يُنظرَ إليها كتنبؤٍ مُطلَقٍ عن المُستقبلِ لا يتبدلُ، بل يَجبُ أن يُنظرَ إليها كعَرْضٍ بالبركة، أو توَعُّدٍ باللعنة. ففي حالِ استجابَ الناسُ إيجابيّاً مع النبوة، يمكنُهم أن يتوقَعوا البركات. لكن إن هم رفضوا أن يتوبوا، أو كانت طاعتُهم تُنشئُ فيهم برّاً ذاتيّاً، يمكنُهم أن يتَوقَعوا أن يَقَعوا تحت اللَعنة.

استمع إلى ما قالهُ اللهُ عن طبيعةِ النبوةِ وغرضِها في إرميا ١٨: ٧-١٠:

تَارَةً أَتَكَلَّمُ عَلَى أُمَّةٍ وَعَلَى مَمْلَكَةٍ بِالْقَلْعِ وَالْهَدْمِ وَالإِهْلاَكِ، فَتَرْجعُ تِلْكَ الأُمَّةُ الَّتِي تَكَلَّمْتُ عَلَيْهَا عَنْ شَرِّهَا، فَأَنْدَمُ عَنِ الشَّرِّ الَّذِي قَصَدْتُ أَنْ أَصْنَعَهُ بِهَا. وَتَارَةً أَتَكَلَّمُ عَلَى أُمَّةٍ وَعَلَى مَمْلَكَةٍ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، فَتَفْعَلُ الشَّرَّ فِي عَيْنَيَّ فَلاَ تَسْمَعُ لِصَوْتِي فَأَنْدَمُ عَنِ الْخَيْرِ الَّذِي قُلْتُ إِنِّي أُحْسِنُ إِلَيْهَا بِهِ.

 هنا، يعلنُ اللهُ بوضوحٍ أنَّ النبواتِ هي إعلاناتٌ عن قُدومِ كارثةٍ أو خَير. لكن يمكنُ لمستلمي تلكَ النبوةِ أن يؤثِّروا في الطريقةِ التي تتحققُ فيها النبوة. فالإعلاناتُ عن كارثةٍ آتيةٍ يمكنُ إعادةُ النظرِ فيها في حالِ تابَ الشعبُ. والإعلاناتُ عن بركةٍ قادمةٍ يمكنُ إعادةُ النظرِ فيها في حالِ وقعَ الشعبُ في الخطيّة.

قد يبدو ذلكَ غريباً لأولِ وهلة، لكنَهُ يتضِحُ تماماً عندما نُدرِكُ أن الأنبياءَ كانوا سُفراءَ عَهد. وقد تَطلَّبَ عَهدُ اللهِ الولاء من شعبِه، وقدَّم لنا عواقبَ الطاعةِ وعدمِ الطاعة.

 من المهمِّ الإشارةِ إلى أنَّه أحياناً أرادَ اللهَ بالفعلِ من خلالِ النبوّاتِ أن يُعطيَ شعبَه لمحةً عن مستقبلٍ معيَّنٍ. وهو في أوقاتٍ أخرى، أرادَ أن تتمَّ النبوّةُ كما أعلنَها حيث كَفَلَ بصورةٍ خارقةٍ أن يتصرفَ شعبُه بطرقٍ تتمِّمُها دونَ تغيير. في مِثلِ هذه الأوقاتِ، أشارَ الأنبياءُ بوضوحٍ إلى نوايا اللهِ الثابِتة.

إحدى الطُرقِ التي من خلالِها أشارَ اللهُ إلى نواياهُ الثابِتة، كانت من خلالِ إضافَةِ تأكيداتٍ إلى نُبواتِه. وقد تَكونُ تلكَ التأكيداتُ كلماتٍ تُعلنُ عن نواياهُ الثابِتة، أو نَشاطاتٍ نَبويةً رَمزيةً، أو حتى آياتٍ خارِقة. في كلِ مَرةٍ رافَقَ النُبوةَ هذا النوعُ من التَأكيدِ، ذُكِرَت إشارةٌ إلى صُعوبَةِ تغييرِ البَشَرِ نَتيجةَ تلك النبوة.

ونرى أحياناً نبواتٍ أخرى مؤكدةً بوُعودٍ مثلَ: عاموسَ ٤: ٢، حيثُ أقسمَ اللهُ بقَداستِه؛ وإرميا ٤٩: ١٣، حيث أقسمَ بنفسِه؛ وحِزْقِيَالَ ٥: ١١، حيثُ قالَ اللهُ إن الدينونةَ ستأتي بكلِ يقينٍ طالما هو حي.

عندما أقسَمَ اللهُ بنفسِه، نَزَعَ فِعليّاً احتِمالَ إعاقةِ البَشرِ إتمامَ النُبوة. وزادتْ وعودُ اللهِ من يَقينيةِ النَتيجةِ المُتنبأِ بها إلى مستوى العهدِ نفسه. ولمَّا كانَ يستحيلُ أنَّ اللهَ يَكذِبُ، فما أقسَمَ به لا يمكنُ أن يتَغير.

وكونُ اللهُ قد دَعمَ أحياناً نُبواتِه بتأكيداتٍ ووعود، يجبُ أن يُريحَنا، لأن إيمانَنا المَسيحيَّ يَستندُ إلى الإتْمامِ النِهائي للنُبوةِ الكِتابية. والأهم، هو أننا نؤمنُ بأنه سيأتي يَومٌ يعودُ المسيحُ إلى الأرضِ ليدينَ أعداءَه ويكافئَ أتباعَه الأُمَناء. ولنا هذا الرجاءُ بأنه في يومٍ قادمٍ سيردُّ المسيحُ الخليقةَ ويمسحُ كلَ دَمعةٍ من عيونِنا. وتمَ تأكيدُ هذه النُبواتِ مِراراً من خِلالِ الكِتابِ المُقدَسِ بِحيثُ نثقُ بأنه لا يُمكِنُ أن تُلغى أو تُخفَف. في يومٍ قادمٍ كلُ هذه النبواتِ حولَ عودةِ المسيحِ ستَتَحقق.

انطلاقاً من هذا الفَهمِ الأساسي للأنبياءِ كسُفراءَ العهد، غدَونا مستعدينَ أن ننظرَ إلى النتائجِ المحتملةِ للعملِ النبوي.

 

2. النتائج المحتملة

كما سبقَ ورأينا، فإنَّ النبواتِ المُختَصةِ بالبركةِ لا تُلزِمُ اللهَ بأنْ يَستمرَّ تلقائيّاً في مُباركَةِ شَعبه. فهم إن ابتعدوا عنه في وقتٍ ما، فالنَتيجةُ المُحتَملةُ هي أن يُعيدَ اللهُ النظرَ في مُباركةِ شَعبِه ويتعاملَ معَهُم كعُصاة.

بنفسِ الطريقةِ، يَجِبُ النَظرُ إلى النُبواتِ المُختَصَةِ بالدَينونةِ عامةً كتَحذيراتٍ لأولئكَ الذين يَدَّعون أنَهم شَعبُ الله. وتشرحُ التحذيراتُ النبويةُ ما سيَفعَلُه اللهُ إن استَمرَ شَعبُه في طُرقِهِم الأَثيمة. وهذه التَحذيراتُ أُعطيَت مُسبّقاً لأن اللهَ رحيمٌ وهو يريدُ أن يُعطيَ شَعبَه فُرصةً ليتوبَ، وليَتَجنبَ عَواقِبَ عِصيانه. بهذا المعنى، تكونُ مُعظمُ النُبواتِ التي تحدّثت عن الدَينونةِ امتِداداً لإحسانِ اللهِ نحوَ شعبِه. ولا يُراد بها أن تُعطيَ الشَعبَ تَحذيراً مُسَبَّقاً عن الهَلاكِ المَحتومِ فَحسب، بل أن تَحُثَّهم على تَغييرِ طُرُقهِم.

يَعرِضُ الكِتابُ المُقدَسُ خَمسَ طُرُقٍ على الأقلِّ يُمكنُ من خِلالِها أن تَتأثرَ النتائجُ المحتملةُ للنُبوةِ بردّاتِ فِعلِ مُستَلِميها: أولاً، يُلغي اللهُ أحياناً تحذيراً، أو عَرضاً نبويّاً.

على سَبيلِ المِثالِ، استمع إلى كَلماتِ النبيِّ يوئيلَ في يوئيل ٢: ١٢-١٤:

وَلكِنِ الآنَ يَقُولُ الرَّبُّ، ارْجِعُوا إِلَيَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ، وَبِالصَّوْمِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ. وَمَزِّقُوا قُلُوبَكُمْ لاَ ثِيَابَكُمْ”. وَارْجِعُوا إِلَى الرَّبِّ إِلهِكُمْ لأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّأْفَةِ وَيَنْدَمُ عَلَى الشَّرِّ. لَعَلَّهُ يَرْجعُ وَيَنْدَمُ، فَيُبْقِيَ وَرَاءَهُ بَرَكَةَ.

 وعلى الرغمِ من أنَّ يوئيلَ قد تَنَبأَ بالدينونةِ على شَعبِ الله، فقد أدركَ أنه ما زالَ هناكَ أملٌ. فالتَوبةُ القَلبيةُ قد تُغيِّرُ نتيجةَ النُبوة.

ثانياً، البَرَكةُ أو اللَعنةُ التي أُنبئَ بها يمكنُ أن تُؤَخَر. على سبيلِ المثالِ، في ٢ ملوك ٢٠: ١-٧، تنبأَ إشعياءُ بأنَّ المَلكَ حَزَقيا سَيموتُ نتيجَةَ مَرَضِه. تَجاوباً مع هذه الرِسالة، بَكى حَزَقِيَّا وصَلى إلى اللهِ ليَذْكُرَ خِدمَتَه الأمينَة، فأخَّرَ اللهُ موتَه ١٥ عاماً.

ثالثاً، أحياناً يُخفّفُ اللهُ البركةَ، أو الدَينونةَ التي أعلنَها. فَمثلاً، نقرأُ في ٢ أخبار ١٢: ٥-١٢ قِصةَ النبي شَمْعِيَا الذي أعلنَ أن اللهَ سيَسمحُ لمصرَ بأن تُدمِّرَ إسرائيلَ. عندما سَمِعَ رَحبعامُ وقادَةُ إسرائيلَ بذلك، تذلَّلوا. عندها قامَ الله بتَخفيفِ الحُكمِ عليهم. فَبدلَ أن يَهلِكوا على يدِ مِصرَ، سيَصيرونَ عبيداً لمصرَ.

رابعاً، أحياناً يزيدُ اللهُ على إتمامِ النبوة. أحدُ أبرزِ المراتِ التي زادَ فيها اللهُ على إتمامِ النبوةِ نجدُه في دانيالَ ٩: ١-٢٧. هناك، قاصصَ اللهُ شعبَه بسبيِهم من أرضِ الموعدِ لمدةِ ٧٠ سنة. لكن في نهاية ٧٠ سنة، لم يكونوا قد تابوا عن خَطيتِهم بعد. فقامَ اللهُ بتمديدِ سَبيِهم إلى حَوالي أربعِ مئةِ سنةٍ إضافية.

وخامساً، يمكنُ لنبواتِ الأنبياءِ أن تتمَ دونَ تغيير. على سبيلِ المثالِ، يَنقلُ إلينا كتابُ دانيالَ ٤: ٢٨، ٣٣ إتمامَ الحُلمِ النَبوي الذي فسَّرَه النبيُّ دانيالُ. فالحُلُمُ احتوى نبوةً عن طردِ الملكِ نبوخَذْ نصَّر من بينِ شعبِه وعن أكلِه العُشبَ مثلَ الثيرانِ. وقد دعَمَت هذا الحُلمَ كلماتُ اللهِ النبويةُ في العددَينِ ٣٠ و٣١ بعد مرورِ سنةٍ على الحُلُم. وبعدَ كلامِ اللهِ مباشرةً، تمّتِ النبوةُ كما أُنبئَ بها.

والآن بعد أن قُمنا بمقارنةِ دورِ أنبياءِ الكتابِ المقدس بـسفراءِ العهدِ ونظَرنا إلى النتائجِ المحتملةِ لعملِهم، لنُوجِّهَ انتباهَنا إلى كيفية إتمامِ الرسولِ يوحنا لدورِ النبيِّ في كتاب الرؤيا.

 

3. الرسول يوحنا

من السهلِ أن نرى أنه عندما كتبَ يوحنا كتابَ الرؤيا كان يقومُ بدورِ سَفيرِ عَهدِ الله، وكان هدفُه حثَّ الكنيسةِ الباكرةِ على الثَباتِ في الأَمانة. وقد ذكَّرَ يوحنا بِشَكلٍ مُستمرٍ كَنائسَ آسيا الصُغرى بالقَوانينِ الرئيسيةِ التي تَشتركُ فيها كلُ العُهودِ الكتابية. وذكَّرهم بإحسانِ الله، وشدّدَ على ضَرورةِ ولائهم له. كما أكَّد على بركاتِ الولاء ولعناتِ عدمِ الأمانة.

وهذه السماتُ تَظهَر بطرقٍ عدةٍ في الكتاب. لكنها مُقدَّمةٌ بشكلٍ واضحٍ في الرسائل إلى الكنائسِ السبعِ في الرؤيا ٢ و٣. وتبدأُ كلُ رسالةٍ بتأكيدِ عظمةِ يسوعَ المسيحِ وإحسانِه. ثم توجِّه الانتباهَ إلى مطلبِ الولاء، وعروضِ البركاتِ، أو التوَعُّدِ باللعناتِ.

كمثالٍ لذلك، انظرْ إلى الرسالةِ إلى كنيسةِ أفسسَ في الرؤيا ٢: ١-٧. يبدأُ كتاب الرؤيا ٢: ١ بتصريحٍ عن إحسانِ الله، فيقول:

هذَا يَقُولُهُ الْمُمْسِكُ السَّبْعَةَ الْكَوَاكِبَ فِي يَمِينِهِ، الْمَاشِي فِي وَسَطِ السَّبْعِ الْمَنَايِرِ الذَّهَبِيَّةِ.

 ونرى إحسانَ اللهِ في الرؤيا ٢: ١ في حقيقةِ تمشِّي يسوعَ بين المنايرِ التي تُمثِلُ الكنائسَ التي يتوجهُ إليها في رسائلِه. فهو لم يتخلَّ عنهُم، بل كان معهُم باستمرار.

وبينما نُكمِّلُ رسالةَ يسوعَ إلى أفسُس نجدُ أنه يَطلبُ الولاء من أتباعِه. ففي الأعدادِ ٢-٤ مَدَحَ يسوعُ كنيسةَ أفسُسَ على تَعبِها وصَبرِها، لكنه انتقَدَها على فُقدانِها مَحَبتَها الأولى. كما مَدحَ كَراهِيتَها لمُمارساتِ النُّقُولاَوِيِّينَ.

بعد ذلك، يصلُ نصُ الرسالةِ إلى مكافآتِ العَهد، حيثُ نجِدُ نتيجة اللعناتِ بسببِ العِصيانِ في العددِ ٥، حيثُ هدَّدَ يسوعُ بنزعِ مَنارةِ الكنيسةِ في حالِ لم تَتُبْ، وتَرجعْ إلى مَحبتِها الأولى. ويمكنُ أن نجدَ مكافأةَ البَركةِ بسببِ الطاعةِ في العدَدِ ٧، حيثُ عَرضَ يَسوعُ بأن يُبارِكَ أتباعَه المُطيعين بإطعامِهم من شَجَرةِ الحَياة.

عندما كتبَ يوحنا الرسولُ سفرَ الرؤيا، كانت كنائسُ عديدة في آسيا الصُغرى مترددة في التزامِها نحو عهد الله. فبدأ بعضُ الأفرادِ داخلَ الكنائسِ يشكّكونَ في عودة المسيح. وتساءلَ آخرون كيف يُمكنُ لمَلكوتِ المسيح أن ينمو في حين أن ما يَختبرونه شخصيّاً هو الألمُ والاضطِهاد. وهكذا كان يوحنا الرسول في كل سفرِ الرؤيا بمثابة نبيِّ اللهِ لتلكِ الكنائسِ. وقد ذكَّرهم بإحسانِ اللهِ. كما حذَّر قرّاءَه من مَخاطرِ عدمِ الأمانة. وأعطاهُم رجاءً بالمستقبلِ ليشجَّعهم أن يَبقوا أُمَناءَ حتى عودة الرَب.

بَحَثْنا في هذا الدرسِ حتى الآنَ، الخلفيتَين التاريخيّةَ واللاهوتِيةَ لكتابِ الرؤيا. وغَدَونا مُستعدينَ للنظرِ في خَلفيةِ الكِتاب الأدَبية. أي كيفَ يُشبِهُ كتابُ الرؤيا الكتاباتِ الأُخرى في زَمنِه؟

 


 الخلفية الأدبية


 سنَبحثُ الخَلفيةَ الأدبيةَ لكتابِ الرؤيا على مَرحَلتَين: أولاً، سنُقارنُ بين كِتابِ الرؤيا ونَوعِ الأدَبِ في نبوة العَهدِ القَديم. وثانياً، سنُقارِنُ الكتابَ بالنَمَطِ المُحدّدِ للنُبوةِ الكِتابيةِ المَعروفِ بالأدَبِ الرؤيوي. لنبدأْ بالبحثِ في نبوةِ العهدِ القديم.

 

النبوة


 يحتوي الكتابُ المقدسُ على الكثيرِ من أنماطِ، أو أنواعِ الأدبِ مثلَ: التاريخِ القَصَصي، والشريعةِ، والشعرِ، والأدبِ الحكمي، والرسائلِ، والنبوةِ وغيرِها. كلُّ نوعٌ من أنواعِ الأدبِ له اصطلاحاتُه وأساليبُه في الاتصال. فالتاريخُ القَصَصي ينقلُ الرسالةَ بطريقةٍ أكثرَ وضوحاً من الشعر. والرَسائلُ أسلوبُها مُباشِرٌ أكثرَ، وغالباً ما تُخبرُ قراءَها كيف يُطبِّقون التعاليمَ الكِتابيةَ على الظروفِ المحدَّدة.

ومن المهمِّ أن نُبقيَ فروقاً من هذا النوعِ في أذهانِنا ونحن نقرأُ الكتابَ المقدس. على أيِّ حال، من السهلِ أكثرَ أن نفهمَ ما يعلِّمُه مقطعٌ ما، إن نحنُ فهِمنا أولاً كيف يعلِّمُه. لذلك، كي نفهمَ كتابَ الرؤيا، فإن أحدَ الأمورِ الهامةِ التي يجبُ أن نفعلَها هي تحديدُ نوعِ أدبِه بِشكلٍ صحيح.

ويُمكنُ تعريفُ نوعِ أدبِ كتاب الرؤيا بصورةٍ عامة بـالنبوة. في الواقع، دعاهُ الرسولُ يوحنا بالتحديدِ نبوةً في الرؤيا ١: ٣. وكما رأينا، تتضمنُ النبوةُ الكتابيةُ أحياناً تنبؤاتٍ عن المستقبل. لكن أكثرَ من أي شيءٍ آخر، النبوةُ هي رسالةٌ من اللهِ إلى شعبِه تَحُثُهم على الأمانة.

سنفحصُ نوعَ الأدبِ النبويِّ الكتابيِّ بطريقتَين: أولاً، سننظرُ في خصائصِه. وثانياً، سننظر ُفي أنواعٍ مختلفةٍ من إتمام النبوةِ الموجودةِ في الكتابِ المقدس. لنبدأْ بـخصائصِ النبوة.

 

1. خصائص النبوة

للنبوةِ الكتابيةِ خصائصُ عديدةٌ مختلفة ولا يوجدُ عندنا الوقتُ لنذكرَها كلَّها. لذلك، سنركِّزُ فقط على اثنتينِ من أوجُهِ النبوةِ الأبرز، مُبتدئينَ بـأنواعِها النموذجية.

لما كان كتابُ الرؤيا ينتمي إلى نوعِ الأدبِ النبوي، من المفيدِ بالنسبةِ إلينا أن نلخِّصَ بعضَ الأشكالِ النموذجيةِ للنبوةِ الموجودةِ في العهدِ القديم. فالنبوةُ في العهدِ القديمِ يُمكنُ أن تكونَ رسالةَ توبيخٍ لشعبِ الله، أو تنبؤاً عن بليّةٍ أو دينونةً على الأعداء، أو إعلاناً عن بركة بسبب الطاعة، أو وعداً برفع وجه حافظي العَهد الأُمناء، أو إعلاناً عن خِطة الله الفدائية، أو صَلاةً أو حَديثاً بين النبي والله، وأحياناً تنبؤاً عن الأحْداثِ المُستقبَلية.

أحدُ أكثرِ أشكالِ النبوةِ شيوعاً هو الدعوى القضائية، حيث نجدُ استخداماً للّغة القانونِية في المَحكمة. نموذجيّاً، يُصوَّرُ اللهُ وهو يَستدعي إسرائيلَ العاصيةَ إلى المَحكمةِ لتُحاكم. وهذه الدَعاوى تُشدِّدُ عادَةً على لُطفِ اللهِ وتَتوعَدُ بالدَينونَةِ إن استمرَتْ إسرائيلُ في عِصيانِها. وهي تَعِدُ أحياناً بمكافأةِ الأمانَةِ والتَوبةِ بالبرَكات. وكثيراً ما تردُ التنبؤاتُ عن المُستقبلِ في سِياقِ تلكَ التَهديداتِ بالدَينونةِ والعُروضِ بالبَركة، مما يعني أن النُبواتِ كانت مَشروطةً بتَجاوِبِ الناسِ مع النُبوَة.

من عدةِ نواحٍ، لَعبتْ نُبواتُ يوحنا في كتابِ الرُؤيا دَوراً مُشابِهاً لنُبواتِ العَهدِ القَديم.

سِمةٌ ثانِيةٌ من سِماتِ النُبوةِ في العَهدِ القَديم، هي استخدامُها الصورَ المجازيةَ بِكَثرةٍ في نَقلِ رسالتِها. يُمكنُ للتعبيرِ صورٌ مجازيةٌ أن يكونَ له معنىً واسعٌ. لكن عندما نستَخدِمُه في وَصفِ النبوة، فنحنُ نشيرُ إلى اللغةِ التي تَصِفُ الأشياءَ بِطرُقٍ تشجِّعُ على الاختباراتِ الحِسيةِ الخَيالية. في الأساسِ، تُشدِّدُ الصورُ المجازيةُ على الطُرقِ التي يُمكنُ أن نَتخيَلَ من خِلالِها رؤيةَ الأشياء، وسَماعَها، وتذوقَها، أو لمسَها.

على سبيلِ المِثالِ، في إرميا ١٨ استخدمَ النبيُّ إرميا صورةَ الْفَخَّارِيِّ وهو يشكِّلُ قطعةَ طينٍ ليبيّنَ أن للهِ الحقَ في تَشكيلِ إسرائيلَ بالطريقةِ التي يُريد.

وفي حِزقيال ٣٧، استخدمَ حِزْقِيَالُ صورةَ الوادي المليءِ بالعِظامِ اليابسةِ ليصِفَ الموتَ الروحيَ لشِعبِ الله. ثم جَلبَ لهُم الأملَ عن طريقِ شَرحِه بأنَ العِظامَ عادَتْ واجتمعَت معاً لتُشكِّلَ بَشراً أحياءَ من جَديد. كذلك يَستخدمُ كتابُ الرؤيا المَجازَ كثيراً.

استمع كيفَ وَصَفَ يوحنا يسوعَ في كتابِ الرؤيا ١: ١٥-١٦:

وَرِجْلاَهُ شِبْهُ النُّحَاسِ النَّقِيِّ، كَأَنَّهُمَا مَحْمِيَّتَانِ فِي أَتُونٍ. وَصَوْتُهُ كَصَوْتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ.‏ وَمَعَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى سَبْعَةُ كَوَاكِبَ، وَسَيْفٌ مَاضٍ ذُو حَدَّيْنِ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ، وَوَجْهُهُ كَالشَّمْسِ وَهِيَ تُضِيءُ فِي قُوَّتِهَا.

 هذه الصورُ الجميلةُ عن يسوعَ تشدِّدُ على قُوتِه وسُلطانِه العَظيمَين. فصوتُه كصوتِ شَلالِ مياهٍ هادِر؛ وهو يحمِلُ بينَ يدَيه سبعةَ كواكِب، تَرمزُ إلى السُلطانِ المَلكي؛ ووجهُه يُضيءُ كالشَمس، إشارةً إلى إنارتِه للعالم.

ونجِدُ صُوَراً مُماثلةً في كلِ كِتاب الرؤيا. فنَحنُ نَقرأُ عن وحوشٍ بِعِدَةِ رؤوسٍ لها قرونٌ وتيجان، وملائكةٍ مع أبواق، وكؤوسٍ، وترانيمَ، وصَرخاتٍ تُطالبُ بالانتقام، وتذوُّقِ أسفارٍ وأكلِها، وأفراسٍ وفرسان، وجبال، وحتى عن مدينةٍ نازلةٍ من السماء. في الواقع، من الصَعبِ أن نَجدَ مَقطعاً في أي مكانٍ في كتاب الرؤيا لا يَتضمنُ نوعاً من المجاز.

يستمدُ كتاب الرؤيا الكثيرَ من الصُورِ المجازيةِ من العهدِ القديم. وهذا يعني أنَّ إلمامَنا بنبواتِ العهدِ القديمِ يُمكنُ أنْ يساعدَنا على التعرّفِ على الصورِ المجازيةِ في كتابِ الرؤيا. وأكثرُ من ذلك، يمكنُ أن يساعدَنا على تفسيرِ الصوَرِ المَجازيةِ في الرؤيا انطلاقاً من كونِ الرؤيا والعهدِ القَديم غالباً ما يستخدمان الصورَ ذاتَها وبالطرقِ ذاتِها.

الاعتراف بالصور المَجازيةِ في سفرِ الرؤيا لا يعني أنه يَجبُ أن نفسّر الرؤيا مجازيّاً، أو إعطاءُ الكِلماتِ صبغة روحيةً. بالعكس، فإنَّ التعرُّفَ على السِماتِ الأدَبيةِ مثلِ الصورِ المَجازيةِ هو جُزءٌ من المَسارِ الطَبيعي للتَفسيرِ بناءً على قواعدِ اللُغَةِ والتاريخ. في النِهاية، لو أرادَ يوحنا أن يَتكلمَ مَجازيّاً، فَسيكونُ خَطأً كبيراً أن نُفسِّرَ كلماتِه بصورةٍ حَرفيةٍ جامدة. تقر القراءةُ المَسؤولةُ لسفرِ الرؤيا بِصوَرِه وتُفسِّرُها وِفقاً للاصطلاحاتِ الأدَبيةِ الطَبيعية.

الآن، وقد قدَّمنا بَعضَ خصائصِ النبوة، لنركّزْ على أنواعِ إتمام النبواتِ التي نراها في الكتابِ المُقدس.

 

2. إتمام النبوات

إتمامُ النبواتِ هو موضوعٌ شائكٌ جدّاً. لكن لأهدافِ درسِنا، نَتناولُ ثَلاثةَ أنواعٍ من الإتمامِ النَبوي. أولاً، يُمكنُ للنُبواتِ أن تَتِمَّ بصورةٍ مباشرة.

عندما يفكرُ معظمُ الناسِ بالنبوةِ أنها قد تمَّت، فان أولَ ما يَتبادرُ إلى أذهانِهم هو الإتمامُ المباشر. يُمكنُ أن تتِّمَ النبواتُ مباشرةً عندما تكونُ الأحداثُ التي تَنبأت بها قد تمَّت كما أعلنَتها. على سبيلِ المثال، في إرميا ٢٥: ٨-١١، يُعلنُ إرميا أن يَهوذا سَتسقُطُ في يدِ البابليين وتَصيرُ الأرضُ خَرِبَةً لمدةِ سَبعين سَنة. وبحَسبِ ٢ أَخبارِ ٣٦: ١٥-٢١، هذا تماماً ما حَدَث.

ثانياً، يُمكنُ أن يكونَ هناكَ إتمامٌ غيرُ متوَقَعٍ للنُبوة. الإتمامُ غيرُ المُتوقع يَحدُثُ عندما تتَغيرُ نَتيجةُ نبوةٍ نوعاً ما على ضَوءِ الطَريقةِ التي يتَجاوبُ فيها البَشرُ مع النُبوة. وقد سَبقَ ورأينا أن هذه النتائجَ للنبواتِ يُمكنُ أن تَتبدلَ وِفقاً لتَجاوبِ مُستلمي النبوة. وعندما يحدثُ ذلك، يمكنُنا أن نقولَ إن النتائجَ كانتْ غيرَ متوقعة من جهةِ تجاوبِ الشعب. وهذا ما نقصدُه عندما نَتحدَثُ عن إتمامٍ غيرِ متوقَعٍ للنبوة.

مثلاً، في ٢ صموئيلِ ١٢: ١-١٥، حذَّرَ النبيُ ناثانُ داوُدَ بأن اللهَ سوفَ يُميتُه لأنه ارتكَبَ خَطيةَ الزِنى مع بَثْشَبَعَ وقتلَ زوجَها أُورِّيا. وتجاوباً مع هذه النبوة، تابَ داوُد. وبسببِ توبتِه خفَّفَ اللهُ الحُكمَ عليهِ بالإبقاء ِعلى حياتِه. لكن مع ذلك، أماتَ اللهُ ابنَ داوُدَ وجلبَ المَصائِبَ على عائلتِه. وتَصفُ الفصولُ ١٣-١٩ بتفصيلٍ كبيرٍ إتمامَ نُبوةِ ناثانَ في عائلةِ داوُد.

ثالثاً، يُمكنُ أن يكونَ للنبواتِ إتمامٌ عن طريقِ المِثال. من أجل أغراضِنا في هذا الدرس، نُعرِّفُ المِثالَ بأنهُ:

التعاملُ مع الأشخاصِ والمؤسَساتِ والأحْداثِ في الكتابِ المقدسِ كرموزٍ تمثلُ مُسّبقاً أشخاصاً ومؤسساتٍ وأحداثاً مستقبلية.

 على سبيلِ المثال، دعا بولسُ آدمَ مِثالاً للمسيحِ في رومية ٥: ١٤، لأن حَياةَ آدمَ مثَّلت مُسبّقاً حياةَ يسوع. لكن في الوقتِ الذي أخطأَ آدمُ في الجَنةِ جالباً الموتَ على البَشرية، أطاعَ يسوعُ وجلبَ الحَياةَ والتَبريرَ للمُؤمنين به.

فإتمامُ مِثالِ النبوةِ هو إتمامُ الأمورِ التي تشيرُ إليْها النبوةُ مباشرةً مع أنَها تُمثّلُ مُسبَّقاً أحداثاً مُستقبلية. مثلاً، في متى ٢:١٥، قال متى إنه عندما غادرَت عائلةُ يسوعَ مصرَ، تمّمَت ما وردَ في هوشع ١١: ١ الذي يقول: “وَمِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي”.

لم يكنْ هذا العددُ في هوشع ينبئُ بمجيءِ المسيح. في الواقع، كانت النبوةُ تشيرُ إلى زمنٍ في التاريخِ عندما فدى اللهُ إسرائيلَ من مِصرَ أثناءَ الخروج. لكن من ناحيةِ المثالِ فإن هذا المقطعَ تمّ من جديدٍ في زمنِ المسيحِ لأن الخروجَ كان مِثالاً مُسبّقاً عن حياةِ مسيحِ إسرائيلِ العظيم. وقد فَهِمَ كتّابُ العَهدِ الجَديدِ أن بَعضَ نُبواتِ العَهدِ القَديمِ قد تَمَّت فِعلا حتى قَبلَ أن يَكتُبوا أسفارَهم في العَهدِ الجَديد. لكنَهم استَمروا في الإشارةِ إلى إتمامٍ لمُثُلٍ أعظَمَ في زَمنِهم.

بمقارَنتِنا كتابَ الرؤيا مع النَوعِ الأَدَبي للنبوة، أضحَينا مُستَعدينَ أن نَتناولَ فَرْعاً من فُروعِ النبوةِ المعروفِ بالأدب الرؤيوي.

 

الأدب الرؤيوي


 سنفحصُ طبيعةَ الأدَبِ الرُؤيوي أولاً بالنَظرِ في خَصائِصِه، وثانياً بتَلخيصِ التَطورِ التاريخي. لنبدأْ بـخَصائصِ الأدَبِ الرُؤيوي الكِتابي.

 

1. خصائص الأدب الرؤيوي

الأدبُ الرؤيوي مُعقّدٌ، ويُمكِنُ تلخيصُه بطرقٍ مُتنوعة. نعرِّفُ في هذه الدروسِ الأدبَ الرؤيويَّ الكتابيَّ كما يلي:

هو أدبٌ رمزي إلى حدٍّ بعيدٍ يُستعملُ للتعبير عن الإعلاناتِ الإلهية، التي تُستلمُ عادةً بإعلاناتٍ خاصةٍ حولَ التفاعلاتِ بين الحقائقِ الطبيعيةِ، وغيرِ الطبيعيةِ والخارقةِ للطبيعة، وتأثيرُها على الماضي، والحاضرِ والمُستقبل.

 هذا التعريفُ مفصّلٌ بعضَ الشيء، لذلك يجبُ أن نأخذَ الوقتَ في شرحِه. أولاً، لنأخذْ بعينِ الاعتبارِ حقيقةَ أن الأدبَ الرؤيويَ الكتابي هو رمزي إلى حدٍّ بعيد.

بصورةٍ عامة، الرمزُ هو علامةٌ أو رسمٌ يشيرُ إلى شيءٍ أبعدَ منه. على سبيلِ المِثال، الكلماتُ هي علاماتٌ تشيرُ إلى أشياءَ مثلِ الأفكارِ، والأغراضِ، والأعمالِ، والصفاتِ. الأعلامُ الوطنيةُ هي رموزٌ لبُلدانِها. والصَليبُ هو رمزٌ مُعترَفٌ به إلى حدٍ بَعيدٍ في الدِيانةِ المَسيحية.

كمَثلٍ واحدٍ فقط، استمع كيفَ فسّرَ يسوعُ الرَمزَين في الرؤيا ١: ٢٠:

سِرَّ السَّبْعَةِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي رَأَيْتَ عَلَى يَمِينِي، وَالسَّبْعِ الْمَنَايِرِ الذَّهَبِيَّةِ: السَّبْعَةُ الْكَوَاكِبُ هِيَ مَلاَئِكَةُ السَّبْعِ الْكَنَائِسِ، وَالْمَنَايِرُ السَّبْعُ الَّتِي رَأَيْتَهَا هِيَ السَّبْعُ الْكَنَائِسِ.‏

 في سِياقِ هذا العدد، رأى يوحنا رؤيا للمسيحِ كان فيها الربُّ يُمسكُ كواكبَ بيدِه اليُمنى ويمشي بين المناير. لكن الكواكبَ والمنايرَ هي رموز. فهي تُمثّلُ ملائكةً وكنائس.

يَستخدمُ الأدبُ الرؤيوي الكتابي الرموزَ بكَثرة. بعضُ الرموزِ تَصويريةٌ إلى حدٍ بعيد، كأن يَستخدِمَ الكاتِبُ رُموزاً تَنطبِقُ بوضوحٍ على ما شاهَدَه. ففي دانيالَ ٧: ٤، دوَّنَ دانيالُ رؤيا لوَحشٍ بدا مِثلَ أسَدٍ بأجنِحَةِ نَسْر. والأسَدُ والأجنِحَةُ تصويريانِ لأنَهما ينقلان مَظهرَ المَخلوقِ الحَقيقي. وهما رَمزِيان لأنهما يتَحَدَثان عن طَبيعَتِه. ورَمزُ الأسدِ يُشيرُ إلى أن المَخلوقَ كان قويّاً ومخيفاً. والأجنِحةُ على الأسَدِ تربُطُه على الأرجَحٍ ببابلَ التي غالباً ما تَظهَرُ في رُسوماتِها الأسودُ بأجنِحة.

في حالات أخرى، قد يكون الرمز مبتكراً ليعبّر عن حقيقة. ففي يوئيل ٢: ٢٥ وصف الله الجيوش الغازية بالجراد. الجيوش لم تبدُ كالجراد لكنها تصرفت مثل الجراد. فقد كانت حشوداً كبيرة لا يمكن وقف تقدّمها، تلتهم كل ما في طريقها.

كما استُخدِمتْ رموزٌ أخرى بسببِ كونِها تمثلُ أموراً، أو أشياءَ، أو أفكاراً تقليدية، مثلَ عَلَمِ البلَد. فَمثلاً في كتابِ الرؤيا ١: ١٠-٢٠، رأى يوحنا رؤيا عن يسوعَ كانت رمزيةً إلى حدٍّ بعيد. فقد ظهرَ يسوعُ كإنسانٍ لابساً ثوباً طويلاً مع حِزامٍ ذهبيٍّ حولَ صَدره، ووجُهُه يُشِعُّ مثلَ الشمس. ورِجلاه شِبهُ النُحاسِ النقي، كأنهما مُحمَّيتان في أتون. وصوتُه مثلُ مياهٍ مندفعةٍ بقوة. وسيفٌ ماضٍ ذو حَدَّين يَخرجُ من فمه. وهو مُمسِكٌ بالسبعةِ الكواكبِ في يدِه. وَيَقِفُ وَسَطَ المَنايرِ السَبع.

وهذه التفاصيلُ تُذَكِرُنا بالرُموزِ والصُورِ المَجازِية ِفي العَهد القَديم، وبالتالي تُذكِّرُنا ضِمناً بيسوع. فَمَثلاً الثِيابُ والشَعرُ الأبيضُ والوجهُ الذي يَلمَعُ كالشَمسِ جَميعُها يذكّرُنا بوصفِ اللهِ في دانيالِ ٧: ٩. وتُذَكِّرُنا المَنايرُ بأثاثِ المَسْكَن والهَيْكَل، مما يُشيرُ إلى أن يسوعَ ما زالَ حاضراً مع شَعبِه كما كانَ اللهُ حاضِراً مَعَهم في بُيوتِه المُخَصَّصة لعِبادَتِه في العَهدِ القَديم. وتُذكِّرُنا الكَواكِبُ بأوصافِ العَهدِ القَديمِ للمُلوكِ والقادةِ البَشريينَ الآخَرين، كما في العَددِ ٢٤: ١٧ وفي إشَعياءَ ١٤: ١٢ ومواضِعَ أخرى كَثيرةٍ. فعندما يتحدثُ كتابُ الرؤيا عن الكواكبِ كمَلائكةٍ تُمثلُ الكنائسَ، فذلك لأن يسوعَ كان يُعلنُ مُلكَه الروحي الحاضِرَ على كل الخَليقَة. فمنِ المَنظورِ البَشري كانت روما تهدِّدُ بالسيطرةِ على مصيرِ الكَنيسة. لكنَّ الرمزَ أعلنَ أن يسوعَ يُمسكُ بيدِه بالقدرةِ والسُلطانِ الكَاملَين على الكَنيسة.

تتَضمنُ الكتاباتُ الرؤيوية غالباً صوراً ورموزاً يواجهُ القرّاءُ العَصريون صُعوبةً في فهمِها. لكنَّ معظمَ الرموزِ في كتابِ الرؤيا لم تَكن غامضَةً بالنسبةِ لقرّاءِ كِتابِ يوحنا الأوائل، لأنها كانت مأخوذةً من العَهدِ القَديمِ ومن العالمِ الذي حَولَهم. ولم يكن القصدُ من تلكَ الرموزِ إرباكَ قرّاءِ يوحنا، بل إبلاغَهم الحقيقةَ بطريقةٍ آسرةٍ لا يمكنُ نِسيانُها.

خاصيِّةٌ ثانيةٌ للأدبِ الرؤيوي الكتابي هي أنه ينقلُ الإعلاناتِ الإلهية.

الأدبُ الرؤيوي الكتابي مُوحى به من الروحِ القُدُسِ تماماً مثلُ بقيةِ النصوص المقدسة. فهو جُزءٌ من كَلمةِ اللهِ المَعصومَةِ، والمَوثوقِ بها تماماً، وذاتِ السُلطانِ إلى شَعبِه. وهي تَنقلُ إلينا الإعلاناتِ الحقيقيةِ التي استلمَها الكتّابُ البشريونَ سواء من اللهِ نفسه، أو بواسطة ملائكته المرسلين الموثوق بهم تماما. والأدبُ الرؤيوي في الكتاب المقدس ليسَ تخمينيّاً – أي ليسَ أفضل تخمين للكاتب. بل على العكس، هو إعلانُ اللهِ الحقيقي لشعبِه الذي يكشفُ عن مقاصدهِ نحوَ خليقتِه.

ثالثاً، الإعلاناتُ الإلهيَةُ المُقدَّمةُ في الأدبِ الكِتابي الرُؤيوي تَنهجُ أن تكونَ قد استُلِمَتْ من خلالِ إعلاناتٍ خاصة.

كلمة رؤيا (apocalypse) نفسُها تعني الكشف أو الإفصاح. لذا في جوهرِه، الأدبُ الرؤيوي الكِتابي هو أسلوبٌ يُعلنُ فيه اللهُ خُطتَه إلى شَعبِه، بِحيثُ يتمكنونَ من فهمِ العالمِ ولا يَفقُدون الأمل.

لكن على نقيضِ بعضِ الإعلاناتِ الخارِقة، كَتجلّي اللهِ لكلُ شَعبِ إسرائيلَ في عَمودِ سحابٍ في الخُروجِ ١٣، فإن الإعلاناتِ الرُؤيويةَ الكتابيةَ يستلمُها أفرادٌ مُنعزلون. فالأنبياءُ رأوا أحلاماً، وسمِعوا أصواتاً، ورأوا رُؤى، وزارَهُم رُسلٌ ملائكيون، ويبدو أنه كانت لهم اختِباراتٌ غادروا فيها أجْسادَهم. وفي بعضِ الأحيانِ التقوا اللهَ نفسَه. لكن ذلك حدَثَ في إطارٍ منعزلٍ سِرّي. وكان يَعودُ إلى النَبي كَرسولٍ وسَفيرٍ لله أن يُسلِّمَ الرِسالةَ التي تلقاها إلى شَعبِ الله.

الخاصيِّةُ الرابعةُ للأدبِ الرؤيوي الكتابي التي نُشيرُ إليها تتعلقُ بـالتفاعلاتِ بينَ الحقائقِ الطبيعية، وغيرِ الطبيعية، والخارقةِ للطبيعة.

نعني بالعالَمِ الطَبيعيِّ الكونَ الذي نعيشُ فيه، بما في ذلكَ العالمُ الماديُّ وكلُّ المخلوقات التي فيه. والكلمةُ غيرُ الطبيعي تشيرُ إلى عالمِ ما وراءِ الطبيعة. وهذا العالمُ هو المسكونُ بالأرواحِ كالملائكةِ والشياطين. أخيراً، الكلمةُ خارقٌ للطبيعة تعني فوقَ الطبيعة وتشيرُ بالتَحديدِ إلى اللهِ وأعمالِه. اللهُ هو السيدُ الوحيدُ الذي هو فوقَ العالمِ الطَبيعي ويَسودُ عليه. فهو الكائنُ الوَحيدُ الذي هو حقّاً خارقٌ للطَبيعة.

كلُ هذه العَوالمِ هي في تَفاعُلٍ مُستمر. والله يُمارسُ سُلطانَه على العالمَينِ الطَبيعي وغيرِ الطَبيعي. والمَلائكةُ والشَياطينُ في العالمِ غيرِ الطَبيعي تُؤثرُ في الأُمورِ التي تَحدثُ في العالمِ الطَبيعي. الشَياطينُ تُجرّبُنا لنُخطئ. والملائكةُ تَحفُظنا. وبحسَبِ الكِتابِ المُقدس، المَلائكةُ والشَياطينُ تؤثرُ حتى في سياساتِنا العالمية.

نجدُ في العَهدَين القديمِ والجديدِ تلميحاتٍ إلى القوى الروحيةِ التي تُؤثِّرُ في مسارِ تاريخِ العالم. على سبيلِ المِثالِ في ٢ ملوكِ ٦، كان أليشعُ مُلاحَقاً من مَلكِ آرام. في نَهايةِ الأَمر، أدرَكَه ملكُ آرامَ وأَحاطَ به، وارتَعبَ خادمُ أليشع.

استمع إلى ما حدثَ لاحقاً في ٦: ١٥-١٧:

آهِ يَا سَيِّدِي! كَيْفَ نَعْمَلُ؟‏ فَقَالَ: لاَ تَخَفْ، لأَنَّ الَّذِينَ مَعَنَا أَكْثَرُ مِنَ الَّذِينَ مَعَهُمْ.‏ وَصَلَّى أَلِيشَعُ وَقَالَ: يَا رَبُّ، افْتَحْ عَيْنَيْهِ فَيُبْصِرَ. فَفَتَحَ الرَّبُّ عَيْنَيِ الْغُلاَمِ فَأَبْصَرَ، وَإِذَا الْجَبَلُ مَمْلُوءٌ خَيْلاً وَمَرْكَبَاتِ نَارٍ حَوْلَ أَلِيشَعَ.

على الرغمِ من أن هذه المشاهداتِ في العالمَين غيرِ الطبيعي والخارق للطبيعة تَظهرُ هنا وهناك في أجزاءٍ مختلفةٍ من العهدَين القديمِ والجَديد، فالأدبُ الرؤيوي الكتابي يركّزُ بكَثرةٍ على هذه المسائل. على سبيلِ المثال، تُركّزُ أجزاءُ من يوئيلَ، وحِزْقِيَالَ، ودانيالَ وزَكريا، انتباهَها على التفاعلِ بين العوالمِ الطبيعية، وغيرِ الطبيعية، والخارقةِ للطبيعة. وكذلكَ بالطريقةِ ذاتِها يلفتُ كتاب الرؤيا الانتباهَ مرةً تلوَ المرة إلى عوالمِ اللهِ والقوى الروحيةِ والسلاطينِ التي يستخدمُها اللهُ في إتمامِ مقاصدِه.

أخيراً، خاصيِّةٌ خامسةٌ للأدبِ الرؤيوي الكِتابي هي أنه يَشرحُ تأثيرَ العَوالمِ الطبيعيةِ وغيرِ الطبيعيةِ والخارقةِ للطبيعة على الماضي، الحاضر والمستقبل.

يُركِّزُ الأدبُ الرؤيوي الكِتابي على كل جوانبِ التاريخ. وهو يفسّرُ الطُرقَ التي من خلالِها أثَّرتِ العوالمُ الطبيعية، وغيرُ الطبيعيةِ، والخارقةُ للطبيعةِ على عالمِنا في الماضي، وما زالتْ تؤثرُ على عالمِنا الحاضر، وكيف ستؤثرُ على عالمِنا في المُستقبل. وأكثرُ من ذلك، فإن الأدبَ الرؤيويَّ، مثلَ بَقيةِ أسفارِ الكِتابِ المُقدَس، يَنظُرُ إلى كلِ التاريخِ كقِصَةٍ كَبيرَة – قِصَةِ الخَليقة، وسُقوطِ الإنسانِ في الخطيّة، والفِداءِ الذي تَبِعَ ذلك من خِلالِ المَسيح. ويَنهجُ الأدبُ الرؤيوي إلى وَصفِ الحاضرِ بعَلاقتِه بالألمِ والصُعوبات، ويركّزُ على المستقبلِ عندما ستتحققُ كلَ الآمال.

يجدُ أحياناً المسيحيونَ المعاصِرون صُعوبةً في فَهمِ كتابِ الرؤيا لأنهُم لا يُفكرونَ بالبرَكاتِ الروحيةِ التي تقفُ وراءَ اختِباراتِهم في الحياة. ونحن كبشَر نتأثَر بالعِلم الحَديث، ونَميلُ لأن نَبحثَ عن تَفسيراتٍ طَبيعيةٍ للأمورِ التي تَحدثُ في حَياتِنا، فنركّزُ على أمورٍ نَراها، ونَسمعُها، ونَشمُها، ونتَذوقُها، ونَلمَسُها. لكنَّ الكتابَ المُقَدسَ يُوضِحُ أنه يمكنُ لحَواسِنا أن تُدرِكَ فقط جُزءاً مما يَحدُثُ حَولَنا.

ولكي نستوعِبَ ما يقدِّمُه لنا كتابُ الرؤيا اليوم، يَجبُ أن نَضعَ جانباً التَفسيراتِ الطَبيعية، ونتبَعَ تَعليمَ الكتابِ المقدَس. ما يَحدثُ في داخلِنا وحَولَنا، يَتأثرُ إلى حدٍ بعيدٍ بالقوى الروحية، وباللهِ نفسِه. وما يبدو لنا كأحداثٍ طَبيعية، وأزَماتٍ شَخصيَة، ومشاكلَ في الكَنيسة، وحتى النِزاعاتِ السِياسيةِ ليسَت مُجردَ أحداثٍ طبيعية. فهي نتيجةُ تَدَخُلاتٍ مُعقّدةٍ تَشمَلُ دَورَ اللهِ والحَقائقِ الروحيَة.

وحينَ نَقبلُ نَظرةَ الكِتابِ المُقدسِ حولَ تلكَ المَسائل، يُمكنُ لكِتابِ الرؤيا أن يتَكلمَ إلينا بقوَة، تَماماً كما تَكلمَ إلى قُرّائِه في القَرنِ الأول. ولا يُمكِنُ لأيٍ منا أن يَرى الحَقائقَ الروحيَةَ الكاملَةَ التي تَكمنُ وراءَ اختِباراتِنا. لكنْ كتابُ الرؤيا يَكشِفُ النِقابَ عن تَلكِ الأُمورِ الروحِيَةِ ليَسمحَ لنا أن نَرى خُطَةَ اللهِ الكَونيةَ في تَحْقيقِ الخَلاصِ في التاريخِ من خِلالِ يَسوعَ المَسيح. فهو حاضرٌ الآن بِروحِه مع كَنيستِه، وسيَعودُ ليُعلنَ الانتِصارَ النِهائيَ على كلِ أعدائِه.

الآن وقد فَحَصْنا خصائصَ الأدبِ الرُؤيوي الكتابي، لننتقلْ إلى التطورِ التاريخي للأدبِ الرؤيوي.

 

2. التطور التاريخي

 ظنَ كثيرونَ من علماءِ النقدِ أنَ الأدبَ الرؤيويَّ في الكتابِ المقدسِ هو نتيجةُ التأثيرات البابليةِ والفارسيةِ في زمنٍ متأخرٍ من تاريخِ إسرائيلَ بعد سبيِ القرنِ السادس قبل الميلاد إلى بابل. لكنَّ الدِراساتِ الحَديثةَ بَيَّنتْ أن السِماتِ الرَئيسيةِ للأَدَبِ الرُؤيوي نَشَأتْ باكراً في الإعْلانِ الكِتابي مَع بَدْءِ تَفاعُلِ إسرائيلَ مع الحَضاراتِ الكِنعانِيةِ من حَولِها وحَضارةِ الشُعوبِ الساميةِ الغَربية.

العديدُ من العناصرِ التي برَزَتْ في الأدَبِ الرُؤيوي الكِتابي ظَهرتْ أيضاً في الأسْفارِ الأقدَمِ للعَهدِ القَديم. على سبيلِ المِثال، يوجَد في الخُروجِ ١٥ ترنيمةٌ رَمزيةٌ إلى حَدٍ بعيدِ تَحتفلُ بإغراقِ اللهِ لجَيشِ الأعداء في البَحرِ الأحمَر. وهي تَتَحدثُ عن تَحطيمِ اللهِ الأعداء بيدِهِ اليُمنى، مُحرقاً إياهَم مثلَ القشِّ، جاعلِاً المِياهَ تَتراكمُ بريحِ أنفِه، والأرضَ تبتلِعُهُم. ويتابعُ فيقولُ إن الشعوبَ ستَرتَعِدُ من مِخافةِ الله، بحيث تتثبت إسرائيل في أرض الموعد ويَسكنُ اللهُ مع شعبه كملكَهِم الأبدي.

مثلٌ آخرُ نجدُه في أسفارِ موسى، هو نبوةُ بلعامَ في العددِ ٢٤: ١٧، حيثُ يُوصَفُ قيامُ الملكِ في إسرائيلَ بصورة الكوكبِ الرمزية.

وهذا الأسلوبُ الأدبي نما تدريجيّاً في تاريخِ إسرائيل. ويتحدثُ أيوبُ ٢٦: ١٢ والمزمورِ ٨٩: ١٠ عن أن اللهَ سيسحقُ الحيةَ “رهب” في معركةٍ كونية. وفي أيوبَ ٤١ أعلنَ اللهُ سلطانَه على لَوِيَاثَان وحشِ البحر. واستمرَ الأنبياءُ في تطويرِ مجازٍ رؤيويٍ إلى مستوياتٍ أعلى في أسفارٍ مثلِ يوئيلَ، ودانيالَ، وحِزْقِيَالَ وزَكَرِيَّا. على سبيلِ المثال، يُدوِّنُ كتاب دانيالَ ٧ حلمَ دانيالَ الذي فيه تصعدُ مجموعةٌ من الحيواناتِ الهائلةِ من البحر، ينتهي بدينونةِ الله ِوإهلاكِه آخرَ تلكَ الحيواناتِ وأرهَبَها.

الفترةُ التي تلي مباشرةً خاتمةَ العهدِ القديمِ تُسمى غالباً فترةَ ما بينِ العهدَين، لأنها كُتبت بعدَ العهدِ القديمِ وقبلَ العهدِ الجديد. خلالَ تلكَ الفترةِ، تطورَ الأدبُ الرؤيوي إلى نوعٍ جديدٍ بالكامل، وظهرتِ الكثيرُ من الكُتبِ الرؤيوية خارجَ أسفارِ الوحي. بين تلكَ الكُتُب: صعودُ موسى، وأَخنوخ، وأجزاءُ من عَزرا ٢، ورؤيا باروك، ولفيفةُ الحربِ التي وُجِدَت في قُمران. وبالرغمِ من أن هذهِ الكتبَ ليستْ جُزءاً من الكتابِ المقدسِ، فنحنُ نشيرُ إلَيها لتساعدَنا على اقتفاءِ أثرِ تطورِ الأدبِ الرؤيوي.

تناولتْ هذه الكتبُ بقوةٍ الصراعاتِ الكونيةَ التي وراءَ اختباراتِ قرائِها الأرضِيين. واقْتَبَسَتْ بكثرةٍ من الصورِ المجازيةِ لأنبياءِ العهدِ القديم، وطوّرتْ استخدامَ تلك الصورِ عن طريقِ دمجِها معاً. وهذه الجوانبُ المحدّدةُ للأدبِ الرؤيوي لفترةِ ما بينَ العهدَين، نجدُها أيضاً في كتاباتِ العهدِ الجديدِ الرؤيوية.

رغمَ أن كتابات ما بين العهدينِ الرؤيويةَ تشبهُ إلى حدٍّ ما الكتاباتِ الرؤيويةَ الكتابية، فهي تَمتَلكُ أيضاً خَصائصَ تميّزُها عن أسفارِ الكتابِ المقدسِ في جوانبَ هامة. على سبيل المثال، هي تَحملُ أسماءً مُستعارة، أي تَستخدمُ أسماءً غيرَ حقيقةٍ لتشجّعَ الناس على قِراءتِها وقُبولِها ككتبٍ موثوقٍ بها كتَبها صاحبُ الاسمِ المستعار. لكنْ هذه الممارسةُ غيرُ شريفةٍ وقد أدانَها بولسُ في 2 تسالونيكي 2: 2. بعضُ الكتاباتِ الرؤيويةِ خارجَ الكتابِ المقدسِ تَروي أحداثاً ماضية كما لو أنها لم تحدثْ بعد، لتعطيَ الانطباعَ أن الكاتبَ تنبأَ بدقةٍ عن كلِ تاريخِ إسرائيل. وهذا بالطبعِ نوعٌ آخرُ من الكَذِب. والأدبُ الرؤيوي الكتابي لا يَستخدِمُ مُطلقاً هذه الوسيلة.

استمرَ نوعُ الأدبِ الرُؤيوي في التطوُر. وهنا لا بدَ أن نتذكرَ أن المادةَ الرؤيويةَ في العهدِ الجديدِ مُختلفةٌ تماماً عن أدبِ ما بين العهدَين. فالعهدُ الجديدُ صادقٌ تماماً وجَديرٌ بالثِقة. في الوَقتِ نفسِه، استخدَمَ أدبُ العهدِ الجديدِ الرؤيوي أُسلوباً مشابهاً إلى حدٍ بعيدٍ لكتاباتِ بينَ العَهدينِ الرؤيوية.

نجدُ خارجَ كتاب الرؤيا، أشكالاً رؤيويةً مثلَ متى ٢٤. في ذلك الفصلِ اقتبسَ يسوعُ من الأدبِ الرُؤيوي لرؤى دانيالَ وإشَعياءَ ليُفسّرَ الأحْداثَ المُستقبَليَة، مثلَ دَمارِ هَيكلِ أورشَليم، وحتى نهايَةِ العالَم. على سبيلِ المثال، في متى ٢٤: ٢٩، تَحدَّث يسوعُ عن توقفِ الشمسِ والقمرِ عن إعطاءِ ضوئِهما، وسقوط ِالنجومِ من السَماء.

قد تكونُ هناكَ أيضاً إشاراتٌ إلى الأسلوبِ الرؤيوي في رسائلِ بولس. غالباً ما بَعثَ بولسُ الأملَ في قُرائِه عن طَريقِ البُرهانِ أن موتَ المَسيحِ وقيامتِه قهرا الأرواحَ الشِّريرة، كما نَقرأُ في كولوسي ١: ١٥-٢٠، و٢: ١٣-١٥. وهو غالباً ما تَحدَّثَ عن الحَربِ الروحيةِ بطرُقٍ تُشبهُ الكِتاباتِ الرؤيويةَ. وفي ٢ تسالونيكي ٢، تحدَّثَ عن قِوى الشرِّ الكَونيةِ التي ستُقهَرُ عندَ رُجوعِ المَسيح.

لكنْ لا شكَ أن الكتابَ الأفضلَ الذي يُمثِلُ التطورَ النهائي للأدبِ الرؤيوي الكتابي هو كتاب الرؤيا. إنَّ الرؤيا كتاب معقدٌ لأنه يتضمنُ الكثيرَ من سِماتِ الأَدبِ الرؤيوي. لكن في الوَقتِ عينِه هذا الأدبُ مُترسخٌ بعمقٍ في بَقيةِ الأسفار. ولا شَكَ أن ذلكَ يريحُنا عندما نقرأُه. قد يبدو الكتابُ غَريباً بالنِسبةِ إلينا، لكن تُساعدُنا بقيةُ أسفارِ الكتابِ المُقدَسِ على فَهمِ رِسالَتِه، وكذلكَ على تَطبيقِها على حَياتِنا الخاصَة في عالِمنا المُعاصِر.

فَهمُ الخَلفيةِ التاريخيةِ للرؤيا يُساعدُنا كثيراً. وكونُ الرؤيا يتألفُ بصورةٍ رئيسيةٍ من نبوةٍ رؤيويةٍ يُطمئنُنا بأنَ الغايةَ من الكتابِ هي حثُنا على إطاعةِ اللهِ من كلِ قلوبنا. وليسَ القصدُ من كلماتِه وصورِه أن تربكَنا، أو أن تُقدمَ لنا ألغازاً عن مستقبلٍ غيرِ واضح، بل بالعَكس، فإن القَصدَ من الرؤيا هو أن يَكونَ كِتاباً مَفهوماً ومُشجِّعاً ليُرشِدَنا إلى حَياةٍ نَخدِمُ من خِلالِها اللهَ. وإذ نَتفَحَصُ كتابَ الرؤيا بصورةٍ أعمقَ في دُروسٍ أُخرى، فإنَّ فَهْمَنا لدورِه كأدبٍ رؤيويٍ يساعدُنا على فَهمِ رسالتِه وعلى العَيشِ وِفقَ تَعاليمِه.

 


الخاتمة


استَطلعْنا في هذا الدرسِ ثلاثةَ جَوانبَ هامَةً لخلفيةِ الرؤيا. وفَحَصْنا خَلفيتَه التاريخية، مُرَكزين على كاتبِ الكتاب، وتاريخِ الكتابة، والقرّاءِ الذينَ استلَموه. كما دَرَسْنا قرينتَه اللاهوتِيةَ بعلاقَتِها بالأمورِ الأَخيريةِ في العَهدِ الجَديد، وبِمفهومِ العهدِ، ودَورِ الأنبِياء. وشَرَحْنا الخَلفيةَ الأدَبية لكِتابِ الرُؤيا، وبالتَحديدِ عَلاقتَها بنوعَيِ الأدبِ النبويِّ والرؤيويِّ.

قد يبدو سفرُ الرؤيا غَريباً على مَسامعِنا اليَوم. لكن لا شكَ أن فَهمَه في بيئتِه الأصليةِ كانَ أسهَلَ بكَثيرٍ. فالأشكالُ الأدَبيةُ التي استخدَمَها يوحنا والأشياءُ التي قالَها كانت مألوفةً عند قرّاءِ سِفرَهِ الأوائل. وبِقَدرِ ما نَفهمُ قرينتهم ومَواقفَهم، بقدر ما نَتمَكنُ من فَهمِ رِسالةِ يوحنا ونطبِّقُها على حياتِنا بصورةٍ أفضل. وسَواءٌ كنا نتألمُ لأجلِ المسيحِ والإنجيل، أو كنا نتمتعُ بسلامٍ نِسبي، فسفرُ الرؤيا يعلُّمنا أن نَبقى أمَناءَ للمسيح، وأن نترجّى المُستقبلَ الرائعَ الذي أعدَّهُ اللهُ لكلِ الذينَ يَثِقونَ فيه.


تم النشر بإذن من خدمات الألفيّة الثالثة.

شارك مع أصدقائك