المقدمة
عانى أتباع المسيح من الاضطهاد على مر العصور. فكان سلب الممتلكات، والضرب، والسجن، والاستشهاد من نصيبِ عدد لا يُحصى منهم. ووفق بعض التقارير، فإن الاضطهاد الذي يواجهه أتباع المسيح اليوم يفوق كل الاضطهادات التي عرفوها في السابق.
أما الذين لا يتـألمون بيننا في هذه الأيام، فمن الصعب عليهم أن يتخيّلوا التجارب التي تنتج عن الاضطهاد. فالمسيحيون الذين يعيشون في سلامٍ وطمأنينة، غالباً ما يساومون على إيمانهم حتى من دون أي تهديدات. لكن، هل يمكنك أن تتصوّر التجربة التي تواجهك لتساوم على إيمانك لكي تحمي نفسك، أو زوجتك، أو أولادك، أو أعز أصدقائك من خطر حقيقي؟ كيف، كيف يمكننا تشجيع إخوتنا المؤمنين الذين يمرّون بظروف مماثلة؟
هذا هو التحدّي الذي واجهه كاتب الرسالة إلى العبرانيين. فقد كتب إلى مجموعة من المسيحيين الذين تألموا في ماضيهم، وعادوا يُهدّدون بالمزيد من الآلام. كانوا قد أبلوا بلاءً حسناً في مواجهتهم الآلام، لكن يخشى كاتب العبرانيين أن يرتدّوا عن المسيح ليتجنبوا المزيد من الاضطهاد.
هذا هو الدرس الأول في سلسلة الرسالة إلى العبرانيين، وقد أعطيناه العنوان “خلفية العبرانيين والقصد من كتابتِها”. في هذا الدرس، نعرِض عدداً من وجهات النظر التي تساعدنا دون شك في تفسيرنا لهذه الرسالة الصعبة.
كما يشير عنوان الدرس، لننظر في خلفية العبرانيين والقصد من كتابتها من ناحيتَين: أولاً، النظر في خلفية الرسالة. وثانياً، تلخيص القصد الرئيسي الذي من أجله كُتبت العبرانيين. لنبدأ بوضع مخطط لبعض المسائل المتعلقة بخلفية الرسالة إلى العبرانيين.
الخلفية
ندرس هنا خلفية العبرانيين عن طريق النظر في ثلاثة مواضيع مترابطة: أولاً النظر في هوية كاتب الرسالة، ثم البحث فيمن هم مستلمو الرسالة الأولون وأخيراً، فحص تاريخ كتابة الرسالة إلى العبرانيين. لننظر أولاً إلى كاتب العبرانيين.
الكاتب
تفاوتت الآراء منذ أقدم العصور حول كاتب العبرانيين. من أجل أغراضنا في هذا الدرس سنتطرّق إلى مسألتَين: الأولى، مسألة هوية الكاتب. والثانية، وضع لمحة عامة عن الكاتب بالتركيز على بعض الميزّات البارزة في الرسالة. لنبدأ بفحص هوية الكاتب.
1. الهوية
مسألة تحديد هوية كاتب العبرانيين ليست سهلة كما هو الحال بالنسبة لعدد كبير من كتّاب العهد الجديد، فكاتب العبرانيين لا يُعرِّف أبداً عن نفسه. ومنذ عصر الآباء، أقرّ كل من أكليمندُس الإسكندري الذي عاش تقريباً بين العامَين 150-215م وأوريجانُوس الإسكندري الذي عاش في الفترة بين العامَين 185-254م بوجود آراء مختلفة في زمنهما حول مَنْ هو كاتب العبرانيين. في فترة باكرة، غالباً ما كان يُشار إلى الرسول بولس كالكاتب المحتمل، لكنَ الدارسين اقترحوا أيضاً برنابا، ولوقا، وأَبُلُّوس، وحتى أكليمندُس الروماني.
حوالي سنة 325م أشار المؤرخ الكنسيّ يوسابيوس في كتابه تاريخ الكنيسة إلى وجهة نظر أوريجانوس حول كاتب العبرانيين في المجلد 6، الفصل 25، والجزء 14. حيث نقرأ هناك:
أما من كتب الرسالة إلى العبرانيين، الله وحده يعلم.
ويعكس تعليق أوريجانوس عدم يقينه هو وكثيرون غيره في زمنه في من هو كاتب العبرانيين. ويتفق معظم علماء الكتاب المقدس اليوم مع هذا الرأي. وحده الله يعلم يقيناً من كتب هذه الرسالة.
مع الأسف، خلال عصر الآباء، أدّت الأسئلة حول هوية الكاتب، وسوء استخدام الجماعات الهرطوقية لرسالة العبرانيين، إلى تشكيك بعضهم في مسألة اعتبار العبرانيين من ضمن الأسفار القانونية. بالطبع، قام علماء بارزون أمثال أكليمندس الروماني، الذي توفي حوالي سنة 99م، بالتعامل مع العبرانيين باعتبارها مساوية لبقية الأسفار القانونية. وكذلك فعل يوستينوس الشهيد الذي عاش ما بين العامَين 100-165م. لكنَّ العبرانيين حُذفت من اللائحة التي وضعها مارقيون حوالي عام 144م، وكذلك من اللائحة الموراتورية التي وُضِعت حوالي العام 170م. ولكن مع نهاية عصر الآباء، أقرّ معظم المفسّرين البارزين في الكنيستَين الشرقية والغربية برسالة العبرانيين كجزء من الأسفار القانونية. وقد اتفقوا إجمالاً على كون الرسول بولس هو الكاتب.
طوال فترة العصور الوسطى، تمسّك معظم العلماء البارزين بالاعتقاد أن بولس هو كاتب العبرانيين. لكن في فترة الإصلاح شكَّك المصلحون البروتستانت في الكثير من التقاليد الكنسية، بما فيها الرأي التقليدي الذي ينسب كتابة الرسالة إلى بولس. فاقترح مارتن لوثر أن يكون أبلوس هو الكاتب. أما جون كالفن فلم يقترح بديلاً عن بولس، لكنه أصرّ أنه لا يمكن أن يكون الكاتب.
يرفض معظم المفسّرين اليوم نسبة الرسالة إلى بولس. وسنتطرّق إلى ثلاثة أسباب لهذا الموقف: أولاً، كما سبق وأشرنا، هذه الرسالة لا تذكر اسم كاتبها، علماً أن من عادة بولس أن يذكر اسمه في رسائله. في الواقع كما توضّح 2 تسالونيكي 2: 2، كان بولس قلقاً جداً من انتشار كتابات منحولة تحمل اسمه. لذلك، من المستبعد أن يكون قد أغفل التعريف عن نفسه في حال كان هو الكاتب.
ثانياً، تشدّد الرسالة إلى العبرانيين على مواضيع لا يبدو أن بولس أعارها الكثير من الاهتمام في رسائله. على سبيل المثال، أشار كاتب العبرانيين إلى مَلْكِي صَادَقَ ثلاث مرات. كما لفت الانتباه إلى المسكن في العهد القديم. وتناول بالتفصيل موضوع المسيح كرئيس كهنة. وعندما نأخذ هذه المواضيع معاً، نجد أنها تميّز الرسالة إلى العبرانيين عن سائر الرسائل التي نعرف أن بولس كتبها.
ثالثاً، السبب الأقوى الذي يجعلنا نشكك في كون بولس هو كاتب العبرانيين، هو الطريقة التي ينأى فيها الكاتب بنفسه عن أتباع يسوع في الجيل الأول. استمع إلى ما جاء في العبرانيين 2: 3:
فَكَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصاً هذَا مِقْدَارُهُ؟ قَدِ ابْتَدَأَ الرَّبُّ بِالتَّكَلُّمِ بِهِ، ثُمَّ تَثَبَّتَ لَنَا مِنَ الَّذِينَ سَمِعُوا (العبرانيين 2: 3).
لاحظ هنا أن كاتب العبرانيين نوّه بالخلاص الذي ابْتَدَأَ الرَّبُّ بِالتَّكَلُّمِ بِهِ – الرب هنا إشارة إلى يسوع نفسه – ثُمَّ “تَثَبَّتَ لَنَا مِنَ الَّذِينَ سَمِعُوا”. أي أن الكاتب وقرّاء رسالته تحققوا من الإنجيل من خلال الأشخاص الذين سمعوا يسوع مباشرة. واعتراف الكاتب بأنه تسلم الإيمان المسيحي بصورة غير مباشرة يتباين مع مقاطع مثل غلاطية 1: 11 و12، و1 كورنثوس 11: 23 حيث أصرّ بولس على استلامه الإنجيل مباشرة من يسوع.
لقد قمنا بالبحث في مسألة كاتب الرسالة إلى العبرانيين وأثبتنا أن هوية الكاتب لا تزال مجهولة. لكن ما زال بإمكاننا أن نضع لمحة مختصرة عن حياة الكاتب.
2. لمحة عن حياته
لكن اختصاراً للوقت، سنشير بالأحرى إلى ميزتَين واضحتَين في حياة الكاتب.
يهودي ذو ثقافة هيلِّينية. في المقام الأول، كان كاتب العبرانيين يهودياً ذا ثقافة هيلِّينية – يونانية. يتفق معظم علماء الكتاب المقدس اليوم مع استنتاج أوريجانوس بأن الله وحده يعلم من هو كاتب الرسالة إلى العبرانيين. صحيح أن هويّة كاتب العبرانيين كانت موضوع جدال عبر السنين، لكن يجب ألا يمنعنا ذلك من استكشاف فكر الكاتب وشخصيته من خلال بعض المؤشرات في نص الرسالة.
يمكننا أن نستنتج من خلال نص الرسالة التأثيرات اليهودية والهيلينية التي شكّلت شخصية الكاتب ورسالته. أما الإرث اليهودي القوي فواضح من خلال معرفة الكاتب بالعهد القديم. في الواقع، اقتبس الكاتب من العهد القديم 31 مرة على الأقل في فصول رسالته 13.
كما يبدو أيضاً أنه كان للكاتب تنشئة هيلينية قوية. في الماضي، كان المفسّرون يشيرون إلى استخدام الكاتب للسبعينية، أي الترجمة اليونانية للعهد القديم، كدليل على كونه يهودياً هيلينيّاً. لكن في النصف الثاني من القرن الماضي، كشفت البحوث في مخطوطات البحر الميت أن الاقتباسات التي اعتبرت في البداية مأخوذة مباشرة من السبعينية، قد تكون مأخوذة عن نصوص يهودية غير تقليدية. لهذا السبب، لا يمكننا أن نجزم بأن كاتب العبرانيين استخدم السبعينية.
لكن على الرغم من هذا الاكتشاف، ما زال بإمكاننا أن نكون واثقين بأن كاتب العبرانيين كان هيلينيّاً. إن لغته اليونانية المصقولة تقدّم دليلاً قوياً على تنشئته الهيلينية. كما أن مفرداته وأسلوبه تدل على إتقانه للغة، وهو إتقان يفوق ما نجده في كتابات لوقا.
مفكر متحمس. لم يكن كاتب العبرانيين يهودياً هيلِينيّاً فحسب، بل يمكننا أن نضيف إلى لمحة عن حياته، أنه كان مفكّراً متحمّساً. يقرّ المفسّرون على نحو واسع أن كاتب العبرانيين كان مفكراً مثقفاً. فالحجج اللاهوتية في العبرانيين مصقولة أكثر من الكثير من تلك التي نجدها في بقية العهد الجديد. في الواقع، أشار الكاتب نفسه إلى أولوية التأمل اللاهوتي العميق في مقاطع مثل العبرانيين 5: 13 و14 حيث أشار أنه بغرض التمييز بين الخير والشر، على أتباع المسيح أن ينضجوا في العقيدة.
على الرغم من أن كاتب العبرانيين كان شخصاً مثقفاً، إلا أنه لم يكن محايداً أو غير مبال، فقد كان متحمساً للإيمان المسيحي. وولاؤه وحبه لإخوته المسيحيين واضحان في رسالته.
استمع إلى الطريقة التي يتعاطف فيها مع قرائه في العبرانيين 10: 33 و34:
مِنْ جِهَةٍ مَشْهُورِينَ بِتَعْيِيرَاتٍ وَضِيقَاتٍ، وَمِنْ جِهَةٍ صَائِرِينَ شُرَكَاءَ الَّذِينَ تُصُرِّفَ فِيهِمْ هكَذَا. لأَنَّكُمْ رَثَيْتُمْ لِقُيُودِي أَيْضاً، وَقَبِلْتُمْ سَلْبَ أَمْوالِكُمْ بِفَرَحٍ، عَالِمِينَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَنَّ لَكُمْ مَالاً أَفْضَلَ فِي السَّمَاوَاتِ وَبَاقِياً (العبرانيين 10: 33–34).
وبطريقة مماثلة يظهر حبه للمسيح بقوله:
لِذلِكَ نَحْنُ أَيْضاً إِذْ لَنَا سَحَابَةٌ مِنَ الشُّهُودِ مِقْدَارُ هذِهِ مُحِيطَةٌ بِنَا، لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْل، وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ (العبرانيين 12: 1–2).
من الصعب أن نقرأ هذه المقاطع وأخرى مشابهة لها دون أن ندرك أن هذا الكاتب لم يكن باحثاً لا التزام له، فقد كان يحب قراءه والمسيح. وما لم نرَ هذا الحب، تفوتنا إحدى أبرز ميزات الرسالة.
في بحثنا حول خلفية الرسالة إلى العبرانيين ركزنا حتى الآن على كاتب الرسالة. دعونا الآن ننتقل إلى مسألتنا الثانية: المستلمون الأولون للرسالة إلى العبرانيين.
المستلمون الأولون
لا تشير الرسالة إلى العبرانيين بوضوح إلى الذين أُرسلت الرسالة لهم، سواء بالاسم أو بالمدينة أو المنطقة. مع ذلك يمكننا الوثوق بأن المؤلف كتب إلى قرّاء محدّدين معروفين عنده وتربطه بهم علاقة شخصية. في 13: 19–24، طمأن الكاتب قرّاءه واعداً إياهم بأنه سيزورهم ثانية. وتحدّث عن تيموثاوس ودعاه “الأخ”، كما أشار أيضاً إلى مجموعة من الناس من إيطاليا التي يبدو أن قرّاءه يعرفونهم.
سنبحث في خمسة عوامل تتعلق بالذين وُجهت الرسالة إليهم يجب أن نأخذها بعين الاعتبار.
1. يهود
أولاً، هناك سبب يجعلنا نعتقد أنّ قسماً هاماً، على الأقل، من الذين وُجّهت الرسالة إليهم كانوا يهوداً. وهذا واضح في العبرانيين 1: 1:
اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ (العبرانيين 1: 1).
هنا يشير الكاتب إلى كيفية إعلان الله عن نفسه لإسرائيل في العهد القديم. لكن لاحظ كيف دعا بني إسرائيل في العهد القديم بالآباء – أجداد الكاتب ومستلمي الرسالة.
لا عجب أنه من عصر مبكر في زمن ترتليانوس، الذي عاش تقريباً بين العامين 155-230م، كان العنوان التقليدي الذي ارتبط بهذه الرسالة هو “ﭘروس إبرايوس” ΠΡΟΣ ΕΒΡΑΙΟΥΣ أي “إلى العبرانيين”.
2. هيلينيين
ثانياً، من المحتمل أيضاً أن الذين وُجّهت الرسالة إليهم كانوا في معظمهم هيلينيين. يمكننا أن نستنتج من خلال محتوى الرسالة إلى العبرانيين أن الناس الموجهة إليهم كانوا معتادين أكثر على التعاليم اللاهوتية المنتشرة بين اليهود الذين هم خارج فلسطين منه بين تلامذة التوراة اليهود داخل فلسطين.
وقد سعى عدد من المفسّرين إلى تحديد مكان إقامة مستلمي الرسالة خارج فلسطين. وحيث إن الرسالة الأولى لأكليمندس الروماني أشارت إلى الرسالة إلى العبرانيين في فترة باكرة حوالي 95م، جعلت بعضهم يعتبر أن متلقي الرسالة كانوا في روما. وقد استُخدمت العبرانيين 13: 24 لتدعم هذا الرأي لأنها تشير إلى الَّذِينَ مِنْ إِيطَالِيَا. هذه الاقتراحات مثيرة للانتباه، لكن أكثر ما يمكننا قوله، مع بعض اليقين، هو أن مستلمي الرسالة كانوا إلى حد بعيد يهوداً هيلينيين يعيشون خارج فلسطين.
3. غير ناضجين
ثالثاً، كان الذين وُجهت إليهم رسالة العبرانيين غير ناضجين. استمع إلى الطريقة التي يصفهم فيها الكاتب في العبرانيين 5: 12:
لأَنَّكُمْ إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ لِسَبَبِ طُولِ الزَّمَانِ، تَحْتَاجُونَ أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ مَا هِيَ أَرْكَانُ بَدَاءَةِ أَقْوَالِ اللهِ (العبرانيين 5: 12).
لاحظ أنّ الذين وُجهت إليهم الرسالة كان لهم في الإيمان مدّة كافية جعلت الكاتب يقول “لِسَبَبِ طُولِ الزَّمَانِ”. كان يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ. كان ينبغي أن يكونوا قد أحرزوا تقدّماً مهمّاً من جهة العقيدة. لكن كما دوّن الكاتب، هم محتاجون أن يعلّمهم أحد ما “هِيَ أَرْكَانُ بَدَاءَةِ أَقْوَالِ اللهِ”.
اللافت للنظر هو أنّه على الرغم من المعرفة اللاهوتيّة البسيطة التي لدى الذين استلموا الرسالة، تحتوي الرسالة إلى العبرانيين على أعلى مستوى من التعاليم اللاهوتيّة وأكثرها عمقاً في كلّ العهد الجديد. فكيف لسفرٍ مثل هذا أن يتلاءم مع قلّة النضج الروحي للقرّاء؟ أفضل طريقة لنفهم هذا الوضع هو أن نُبقيَ في أذهاننا أنّ المسيحيّين الأوّلين اعتمدوا أسلوباً في التعليم كان مألوفاً في مجامع القرون الأولى.
نحن نعلم من مقاطع مثل لوقا 4: 16، وأعمال الرسل 13: 15، و1 تيموثاوس 4: 13 أنّ القادة في المجامع اليهودية والكنائس المسيحيّة كانوا يشرفون على تلاوة الأسفار المقدّسة على الرعيّة وتفسيرها لهم. من هنا، عندما قام كاتب العبرانيين بكتابة أحد أكثر مقاطع العهد الجديد عمقاً على المستوى اللاهوتي، كان يتوقّع أن يقوم قادة الكنائس بتعليم جماعتهم ما ورد في هذا الكتاب. ونرى أنّ الكاتب في العبرانيين 5: 11، وبخ قرّاءه لكونهم “مُتَبَاطِئِي الْمَسَامِعِ”. فمن المعقول جدّاً أن يكون القسم الأكبر من الذين وُجهت الرسالة إليهم غير ناضجين لاهوتياً لأنّهم لم يحترموا قادتهم كما يجب. ويدعم هذا الطرح قول الكاتب لقرّائه في العبرانيين 13: 17:
أَطِيعُوا مُرْشِدِيكُمْ وَاخْضَعُوا، لأَنَّهُمْ يَسْهَرُونَ لأَجْلِ نُفُوسِكُمْ كَأَنَّهُمْ سَوْفَ يُعْطُونَ حِسَاباً، لِكَيْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِفَرَحٍ، لاَ آنِّينَ، لأَنَّ هَذَا غَيْرُ نَافِعٍ لَكُمْ (العبرانيين 13: 17).
4. يعانون من الاضطهاد
رابعاً، كان الذين وُجهت رسالة العبرانيين إليهم يعانون من الاضطهاد. عرف القرن الأول الميلادي حقبتين من الاضطهاد المسيحي من الممكن أن يكون العبرانيون الذين وُجهت الرسالة إليهم قد تأثّروا بهما ولو بطريقة غير مباشرة. ففي العام 49م قام الإمبراطور الروماني كلوديوس بترحيل اليهود من مدينة روما. وحوالي العام 64م، اضطهد الإمبراطور نيرون المسيحيين في جوار روما.
وإذ نتابع قراءتنا في رسالة العبرانيين، يتوضّح لنا أنّ الذين استلموها سبق أن واجهوا اضطهاداً في الماضي، وأن بعضاً منهم كان يواجه اضطهاداً في حينه، وتوقّع الكاتب أنْ يطال الاضطهاد عدداً أكبر في المستقبل وربّما يكون اضطهاداً أشدّ وأعنف.
في 10: 32–35، يجذب الكاتب انتباهنا إلى الأحداث المؤلمة التي كان بعض القرّاء على الأقلّ قد اختبروها في الماضي:
وَلَكِنْ تَذَكَّرُوا الأَيَّامَ السَّالِفَةَ الَّتِي فِيهَا بَعْدَمَا أُنِرْتُمْ صَبِرْتُمْ عَلَى مُجَاهَدَةِ آلاَمٍ كَثِيرَةٍ … فَلاَ تَطْرَحُوا ثِقَتَكُمُ الَّتِي لَهَا مُجَازَاةٌ عَظِيمَةٌ (العبرانيين 10: 32–35).
نرى هنا كيف أنّ الكاتب يمدح قراءه بسبب مقاومتهم الشدائد حين كانوا مضطهدين في “الأيام السالفة بعدما أنيروا أوّلاً”. لكنّه حثّهم أيضاً على ألّا “يطرحوا ثقتهم”. والكلمة اليونانيّة المترجمة إلى “ثقة” هي ﭙاريسيا παρρησία، وهي في سياقات عديدة تأتي بمعنى “شجاعة”، “جرأة”، أو “جسارة” في حضرة أصحاب المقام الرفيع. واختيار هذه الكلمة يوحي بأنّ قارئي الرسالة كانوا يواجهون نوعاً من الاضطهاد من الشعب أو من الحكومة، وكانوا مجرّبين أن يفقدوا جرأتهم. في 13: 3 أشار الكاتب أيضاً بطريقة مباشرة إلى اضطهادات كان مستلمو الرسالة يواجهونها في الحاضر، إذ قال:
اُذْكُرُوا الْمُقَيَّدِينَ كَأَنَّكُمْ مُقَيَّدُونَ مَعَهُمْ، وَالْمُذَلِّينَ كَأَنَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً فِي الْجَسَدِ (العبرانيين 13: 3).
بإمكاننا أن نرى من خلال هذا العدد أنّ الكاتب يحثّ قرّاءه بقوله “اُذْكُرُوا الْمُقَيَّدِينَ كَأَنَّكُمْ مُقَيَّدُونَ مَعَهُمْ، وَالْمُذَلِّينَ كَأَنَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً فِي الْجَسَدِ”. فمن الواضح أنه يوجد بين قرائه مَن ما زالوا يواجهون الاضطهاد.
بالإضافة إلى الاضطهاد الحاصل في الماضي والاضطهاد الذي يواجهونه في الحاضر، يقرّ كاتب العبرانيين في 12: 3 و4 بأنّ المزيد من الاضطهاد يهدّد قرّاءه في المستقبل. استمع إلى تحذيره هذا:
فَتَفَكَّرُوا فِي المسيح الَّذِي احْتَمَلَ مِنَ الْخُطَاةِ مُقَاوَمَةً لِنَفْسِهِ مِثْلَ هَذِهِ لِئَلاَّ تَكِلُّوا وَتَخُورُوا فِي نُفُوسِكُمْ. لَمْ تُقَاوِمُوا بَعْدُ حَتَّى الدَّمِ مُجَاهِدِينَ ضِدَّ الْخَطِيَّةِ (العبرانيين 12: 3–4).
وكما يشير هذا المقطع، يتوقّع الكاتب أن يواجه قرّاؤه المزيد من الاضطهاد وهو قلق جدّاً حيال مرورهم باختبارٍ كهذا.
5. على وشك الارتداد
خامساً، بينما واجه مستلمو الرسالة إلى العبرانيين الاضطهاد، كان البعض منهم على وشك الارتداد. هؤلاء لم يضعفوا أو تثبط عزيمتهم في مواجهة الآلام فحسب، بل كانوا في خطر التخلي كلّيّاً عن الإيمان المسيحي. نقرأ على سبيل المثال في العبرانيين 10: 26-27 التحذير التالي:
فَإِنَّهُ إِنْ أَخْطَأْنَا بِاخْتِيَارِنَا بَعْدَمَا أَخَذْنَا مَعْرِفَةَ الْحَقِّ، لاَ تَبْقَى بَعْدُ ذَبِيحَةٌ عَنِ الْخَطَايَا، بَلْ قُبُولُ دَيْنُونَةٍ مُخِيفٌ، وَغَيْرَةُ نَارٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَأْكُلَ الْمُضَادِّينَ (العبرانيين 10: 26–27).
لا بدّ أن نوضّح هنا أنّ كاتب العبرانيين لم يكن قلقاً حيال الزلات أو الخطايا الصغيرة. لكنه كان يحذّر قراءه بصرامة معلناً أن الذين يتخلّون تماماً عن المسيح “لاَ تَبْقَى بَعْدُ (لهم) ذَبِيحَةٌ عَنِ الْخَطَايَا”. فحين يترك أناسٌ الإيمان بالمسيح، وهذا ما كان بعض مستلمي الرسالة مجرّبين أَن يقعوا به، فإن فعلوا هم يبرهنون أنّهم لم يختبروا يوماً الإيمان الخلاصي. ولهذا السبب، لا يبقى بعد غير “قُبُول دَيْنُونَةٍ مُخِيفٌ، وَغَيْرَةُ نَارٍ عَتِيدَةٍ مدّخرة لِلْمُضَادِّينَ”.
كما سنشرح في درسنا التالي، لا يدل هذا المقطع أو أيّ مقطع مشابه له في هذه الرسالة على أنّه يُمكن للمؤمنين الحقيقيين أن يفقدوا خلاصهم. بل بالحريّ تتحدث هذه المقاطع عن أولئك الذين جاهروا بإيمانهم واختبروا العديد من بركاته لكن دون أن يتجدّدوا أو يتبرّروا فعلاً. في جميع الأحوال، من الواضح أن بعض الذين وُجِّهت رسالة العبرانيين إليهم كانوا مُجرّبين بقوة أن يتخلوا عن إيمانهم.
والآن بعد أن بحثنا في خلفيّة العبرانيين آخذين في عين الاعتبار كاتب الرسالة ومستلمي الرسالة الأولين، ننتقل إلى موضوعنا الثالث: تاريخ كتابة الرسالة إلى العبرانيين.
التاريخ
على الرغم من عدم قدرتنا على تحديد تاريخ كتابة الرسالة إلى العبرانيين بدقّة، إلّا انّه يمكننا أن نحدّد يقيناً التاريخَين الأبكر والأبعد لكتابتها. لننظر أوّلاً في أبكر تاريخ ممكن لكتابة هذه الرسالة، أو ترمينوس آكوو، ومن ثمّ في أبعد تاريخ ممكن أو ترمينوس أد كويم. باستطاعتنا تحديد هذَين التاريخَين بدرجة معيّنة من اليقين معتمدين على أدلّة كتابيّة وتاريخيّة.
من ناحية، يساعدنا العدد 23 من الفصل 13 للعبرانيين على تحديد التاريخ الأبكر لكتابة الرسالة بشكلٍ مؤكّد. وقد جاء في هذا العدد:
اِعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أُطْلِقَ الأَخُ تِيمُوثَاوُسُ، الَّذِي مَعَهُ سَوْفَ أَرَاكُمْ، إِنْ أَتَى سَرِيعاً (العبرانيين 13: 23).
نرى هنا أنّ “تِيمُوثَاوُس قد أُطْلِقَ” حديثاً من السجن. لا نسمع عن سَجْن تِيمُوثَاوُس في أيّ مكانٍ آخر في العهد الجديد. في الواقع، في رسالة 2 تيموثاوس، وهي رسالة بولس الأخيرة التي كتبها قبل موته بمدّة قصيرة، كان لتيموثاوس الحريّة الكاملة للسَفَر وجَلْب بعض الحاجات لبولس. أما العدد أعلاه، فيروي لنا أنّه في زمن كتابة الرسالة إلى العبرانيين كان تيموثاوس مسجوناً وأُطلق. لهذا السبب، لا بدّ أن تكون الرسالة إلى العبرانيين قد كُتبت بعد موت بولس، أي حوالي العام 65م.
من ناحية أخرى، إنّ أبعد تاريخ محتمل لكتابة الرسالة هو حوالي العام 95م أي قبل أن يشير أكليمندُس الروماني إلى رسالة العبرانيين في رسالته 1 أكليمندُس بفترة وجيزة.
بالإضافة إلى ذلك، يرى العديد من المفسّرين أنّه في مقاطع مثل العبرانيين 5: 1–3، استخدم الكاتب زمن الحاضر في وصفه لمهام رئيس الكهنة الذبائحية. وهذا أمرٌ مهمّ،ٌ لأنّه في بقيّة رسالته استخدم الكاتب دائماً زمن الماضي في اللغة اليونانيّة أثناء روايته للأحداث الماضية.
كذلك، في 8: 13 يحثّ الكاتب قرّاءه على ألّا يعودوا إلى الممارسات الذبائحيّة “العتيقة” التي وضعها الله في عهده مع موسى. ويشرح لهم أنّه في ضوء العهد الجديد، كلّ هذه الممارسات هي “قريبة من الاضمحلال”. ونحن نعلم أنّ نشاطات رئيس الكهنة ونظام اللاويين الذبائحي ككل صار إلى زوال عام 70م حين قام الرومان بتدمير أورشليم وهيكلها. إذاً هذه الأدلّة تفترض تاريخاً لكتابة العبرانيين ما بعد موت بولس أي حوالي العام 65م وقبل تدمير الهيكل عام 70م.
في درسنا حول خلفيّة الرسالة إلى العبرانيين والقصد منها، نظرنا في أوجه عدة حول خلفيّة هذا الكتاب. ونحن الآن في طور الحديث عن القصد الرئيسي من هذه الرسالة. لماذا كُتبت الرسالة إلى العبرانيين؟
القصد
من المنصف أن نقول إنّ أيّ سفر بطول الرسالة إلى العبرانيين وبعمقها سيكون لكاتبه مقاصد متعددة في ذهنه. لكنّنا في هذا الدرس، سنهتم بالدرجة الأولى بتلخيص القصد الرئيسي وراء الرسالة. لكلّ جزء من هذه الرسالة تشديداته الخاصة التي سوف ندرسها في درسنا التالي. لكنّنا نود الآن أن نفحص كيف أنّ الرسالة بمجملها قد صُمّمت لتؤثّر في مفاهيم الذين وُجِّهت إليهم وسلوكهم وعواطفهم.
قام المفسّرون بتلخيص القصد الرئيسي من رسالة العبرانيين بطرق عدّة. لكنّنا في هذا الدرس سنعرّف القصد الأساسي من رسالة العبرانيين هكذا:
كان هدف كاتب العبرانيين أن يحضّ مستلمي رسالته على نبذ التعاليم اليهوديّة المحلّيّة وعلى بقائهم أمناء ليسوع.
يساعدنا هذا التعريف لقصد الكاتب على توجيه أنظارنا نحو الأفكار الرئيسيّة التي نجدها في الرسالة إلى العبرانيين.
كما سبق أن ألمحنا، كان هدف كاتب العبرانيين أن يحض أو (يعظ) مستلمي رسالته على الثبات. استمع إلى الطريقة التي يصف بها رسالته في 13: 22:
وَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَحْتَمِلُوا كَلِمَةَ الْوَعْظِ، لأَنِّي بِكَلِمَاتٍ قَلِيلَةٍ كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ (العبرانيين 13: 22).
لاحظ هنا أنّ الكاتب يطلب من مستلمي رسالته أن يقبلوها ككلمة وعظ. والكلمة أطلب مشتقّة من الفعل اليوناني باراكاليو παρακαλέω وهي صيغة الفعل من الاسم اليوناني المترجم وعظ في الجملة عينها.
إنّ المصطلح يحضُّ أو (يعظ) يعني “الدعوة للوقوف إلى جانب المتكلّم” أو “دعوة أحدهم لتبنّي وجهة نظر المتكلّم”. وقد استُخدم المصطلح ذاته في وصف دعوة يوحنا المعمدان الملحّة والمقنعة إلى التوبة في لوقا 3: 18.
وبشكلٍ مثير للاهتمام، تعود عبارة “كلمة وعظ” لتظهر في أعمال الرسل 13: 15 حيث دعا رجال مجمع أنطاكية بيسيديّة بولس ومرافقيه إلى قول كلمة وعظ بعد قراءة الأسفار المقدّسة. فمن المحتمل جداً أن تكون عبارة “كلمة” أو رسالة “وعظ” هي مصطلح متداول في القرن الأوّل بمثابة ما نسمّيه اليوم العظة.
كلّ رسالة في العهد الجديد تتضمّن تحذيرات لقرّائها. لكنّ رسالة العبرانيين تتميّز عن سائر رسائل العهد الجديد بكثافة التحذيرات التي تظهر في الرسالة.
بغية اكتشاف قصد الكاتب، لننظر عن قرب في حدة التحذيرات التي تتكرّر بشكلٍ بارز على طول الكتاب. من ثمّ سوف ندرس الغاية من هذه التحذيرات، وكيف كان الكاتب يأمل أن يتجاوب مستلمو الرسالة معها. لننظر أوّلاً في حدّة التحذيرات التي يوجّهها الكاتب إلى قرّائه.
حدة التحذيرات
بغية التعمق أكثر فيما نعنيه بحدّة تحذيرات الكاتب، سننظر في مسألتين: أوّلاً، تكرار التحذيرات في الكتاب، وثانياً، أسلوب الكاتب البلاغي الذي يتلازم مع هذه التحذيرات. لنبدأ بتكرار هذه التحذيرات.
1. التكرار
يساعدنا تكرار تحذيرات الكاتب على فهم الحاجة الملحة لهذه الرسالة. وردت هذه التحذيرات بطريقة ضمنيّة أحياناً، إلّا أنّها تظهر بشكلٍ واضح 30 مرّة على الأقلّ. ويستخدم الكاتب في مناسباتٍ عدّة ما يسمّيه علماء النحو اليونانيون بصيغة “التمني التشجيعية” “subjunctive” وصيغ الأفعال هذه تدعو إلى الحثّ أو المناشدة وهي غالباً ما تترجم إلى “لنفعل” هذا أو ذاك. على سبيل المثال، في 4: 14 و16 نقرأ تحذيرَيْن من هذا النوع:
فَإِذْ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ اجْتَازَ السَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ابْنُ اللهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بِالإِقْرَارِ… فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ (العبرانيين 4: 14، 16).
يحذّر الكاتب قرّاءه أيضاً باستخدام صيغة الأمر التي غالباً ما نترجمها على شكل أمرٍ مباشر. على سبيل المثال، في 12: 12–16 نقرأ هذه التحذيرات المتتالية:
لذَلِكَ قَّوِمُوا الأَيَادِيَ الْمُسْتَرْخِيَةَ وَالرُّكَبَ الْمُخَلَّعَةَ، وَاصْنَعُوا لأَرْجُلِكُمْ مَسَالِكَ مُسْتَقِيمَةً … اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ … مُلاَحِظِينَ لِئَلاَّ يَخِيبَ أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ. لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ … لِئَلاَّ يَكُونَ أَحَدٌ زَانِياً أَوْ مُسْتَبِيحاً كَعِيسُو (العبرانيين 12: 12–16).
إن أحدَ الأسبابِ وراءَ أهميةِ التَنَبُهِ إلى تَحذيراتِ الكاتِبِ المباشرة إلى قرائه، هو أن التأملات اللاهوتية المُعَقَّدة في الرسالة غالباً ما تحجب قصد الكاتب من كتابته. فهو لم يرد فقط إبلاغ القرّاء تعليماً لاهوتيّاً. بل هو أراد من خلال التعليم إقناعهم بتبنّي مواقف والقيام بأعمال متنوعة. وهذا ما عناه بتسمية رسالته “كلمة الوعظ”. ونحن إن لم نبقِ هذه الحاجة الملحة في أذهاننا فسوف تفوتنا ناحية مهمّة من الرسالة إلى العبرانيين.
لقد رأينا كيف أنّ حدّة تحذيرات الكاتب قد انعكست من خلال تكرار تحذيراته إلى قرّائه. والآن لندرس كيف أظهر الكاتب رغبته في تحذير قرّائه من خلال الأسلوب البلاغي الذي استخدمه في كتابته.
2. الأسلوب البلاغي
لطالما تميّزت الرسالة إلى العبرانيين بمستوى عالٍ من الأسلوب البلاغي. ونعني بهذا أنّها تستخدم العديد من الصور البلاغيّة التي اقترنت بالخطابات المقنعة أو النقاشات الملحّة في القرن الأوّل. ويظهر العديد من هذه الصور البلاغية من حينٍ إلى آخر في كتبٍ أخرى من العهد الجديد، إلّا أنّها الأكثر تكراراً في العبرانيين.
إحدى هذه الصور البلاغية، وتُسمى سينكريزِس synkrisis باليونانية، هي مقارنة مفصّلة بين أمرَين أو أكثر غايتها إقناع القرّاء بوجهة نظر المتكلّم. على سبيل المثال، تظهر السينكريزِس في الرسالة إلى العبرانيين في 7: 11–28. في هذا المقطع، يناقش الكاتب مسألة يسوع الكاهن- الملك على مثال مَلْكِي صَادَقَ وهذا الأخير هو كاهن وملك يرد ذكره في كتاب التكوين. إلّا أنّ الكاتب لم يكتفِ فقط بالدفاع عن فكرته بل قدّم لقرّائه مقارنة مقنعة بين مَلْكِي صَادَقَ والمسيح تشتمل على ثماني نقاطٍ: الأصل، سلالة النسب، الولادة، الموت، المنصب، الأعمال، المنزلة والإنجازات. وكان يهدف بهذه المقارنات المفصّلة إلى إزالة كلّ الأفكار التي تشكّك بأن يسوع هو رئيس الكهنة الملكي العظيم.
نوعٌ آخر من الصور البلاغية التي نراها في الرسالة إلى العبرانيين يُعرف بإكزامبلا Exempla. والإكزامبلا هي إيضاحات أو أمثلة متتالية تهدف إلى إقناع الآخر بوجهة نظر معيّنة من خلال تقديم حجة مقنعة حول رأي محدّد. ويظهر هذا الأسلوب الخطابي في لائحة المؤمنين المألوفة في العبرانيين 11. حيث ذكر الكاتب بالأسماء كلّاً من: هابيل، أخنوخ، نوح، إبراهيم، سارَة، إسحاق، يَعقوب، يوسُف، موسى، بني إسرائيل، راحاب، جِدْعُون، باراق، شَمشُون، يفْتاح، داوُد، صموئيل والأنبياء. وكانت الغاية من هذه اللائحة الطويلة إقناع القرّاء بأنه ينبغي على خدّام الله أن يثبتوا في إيمانهم وأمانتهم في أوقات الاضطهاد.
نوع ثالثٌ من الصور البلاغية التي استخدمها كاتب العبرانيين يُعرف بالتعبير العبريّ قول واهومير. هذا التعبير معروفٌ جدّاً في التقليدَين اليوناني – الروماني والرابيني، ويمكن أن يترجم من “الخفيف إلى الثقيل”، أو “من الأصغر إلى الأعظم”، أو “من البسيط إلى المعقّد”. وهذا النوع من الجدل يبدأ بمقدّمة منطقيّة بسيطة لا يختلف حولها القرّاء. ثمّ تتّجه نحو خلاصة أكثر تعقيداً كانت محور شكٍّ لدى القرّاء في البداية، إلّا أنّهم الآن باتوا أكثر قبولاً حيالها. وبطرح مثل هذا البرهان يمكننا أن نبيّن أنّه بما أنّ المقدّمة البسيطة هي صحيحة، إذاً لا بدّ للخلاصة الأصعب من أن تكون صحيحة أيضاً. استمع إلى الطريقة التي تظهر فيها هذه الصورة البلاغيّة في العبرانيين 10: 28 و29:
مَنْ خَالَفَ نَامُوسَ مُوسَى فَعَلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ يَمُوتُ بِدُونِ رَأْفَةٍ. فَكَمْ عِقَاباً أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقّاً مَنْ دَاسَ ابْنَ اللهِ؟ (عبرانيين 10: 28–29)
هنا يبدأ الكاتب بمقدّمة منطقيّة متفق عليها لدى القارئ: إنّ مخالفة ناموس موسى عاقبتها الموت. ثمّ ذهب بالقرّاء أبعد من ذلك حين ناقش كم عقاباً أشدّ يستحقّ الذين داسوا من هو أعظم من موسى– ابن الله.
تساعدنا هذه الأمثلة على فهم أهداف الكاتب الملحّة. لقد كان مقتنعاً بأنّ مستلمي رسالته يواجهون ظروفاً خطيرة جدّاً وأنّه حان الوقت لكي يتّخذوا بعض القرارات الصعبة. فعَمل كلّ ما بوسعه ليحثّهم على اتخاذ الخيارات الصائبة ويقنعهم بها.
والآن، بعد أن رأينا كيف عزّزت حدّة التحذيرات قصد الكاتب، علينا أن ننتقل إلى خاصّيّة ثانية للرسالة، هي: الغاية من هذه التحذيرات.
الغاية من التحذيرات
رأينا سابقاً أنّ القصد الرئيسي من الرسالة إلى العبرانيين يمكن تعريفه بالطريقة التالية:
كان هدف كاتب العبرانيين أن يحض مستلمي رسالته على نبذ التعاليم اليهوديّة المحلّيّة وعلى بقائهم أمناء ليسوع.
كما يؤكّد هذا التعريف، كان لـتحذيرات الكاتب غاية مضاعفة. إذ كان يرغب في أن ينبذ مستلمو رسالته التعاليم اليهوديّة المحلّيّة وكان يريد منهم أيضاً أن يبقوا أمناء ليسوع باعتباره المسيح المنتظر. لندرس كيف حثّ الكاتب مستلمي الرسالة على نبذ التعاليم اليهوديّة المحلّيّة.
1. نبذ التعاليم المحليّة
سبق وأشرنا أنّ قرّاء العبرانيين قد عانوا الاضطهاد مما جعلهم عرضة للارتداد. إلّا أنّ تجربتهم هذه ليست كما قد نتصوّر في البداية. إذ يبدو أنّه في الوقت الذي كتبت فيه الرسالة إلى العبرانيين كان يمكن للمسيحيّين أن يكونوا بمأمن من الاضطهاد في حال تخلّوا عن معتقداتهم المسيحيّة التي تميّزهم، وانخرطوا أكثر في المجتمع اليهودي المحلّي.
كان يترتّب على اليهود في القرن الأوّل، أن يدفعوا ضرائب غير اعتيادية، وكانوا يعانون من وقت لآخر من الاضطهاد. لكن في أغلب الأحيان كانت الجماعات اليهوديّة في الإمبراطورية الرومانيّة تمارس إيمانها بحرّيّة. وهذا كان حال المسيحيّيّن في البداية، لأنّ الرومان كانوا ينظرون إلى المسيحية كجزء من اليهودية. لكن مع مرور الوقت، لم تعد المسيحيّة تُعتبر إحدى الطوائف اليهوديّة. في الواقع، يروي كتاب أعمال الرسل أنّه حتّى في أيّام بولس، كان أتباع المسيح يُقصون من مجامع اليهود، وكان رؤساؤهم يحرّضون السلطات المحليّة على إساءة معاملتهم. فهناك احتمال قويّ أن يكون مستلمو العبرانيين قد واجهوا هذا النوع من الظروف. ومعاناتهم التي طالت دفعتهم إلى قبول تعاليم كانت شائعة في مجتمعهم اليهودي المحلّي، تتعارض وإيمانهم المسيحي.
واللافت للنظر أنّ كاتب العبرانيين لم يتطرّق إلى مسائل ارتبطت عادةً برياء اليهود وتقيّدهم بحرفية الشريعة. فمهما بلغت خطورتها لم تكن هذه الأمور بالنسبة إلى كاتب العبرانيين همّه الأوّل. بل أعطى الأولويّة لحلّ مسألة المعتقدات والممارسات الخاطئة، خصوصاً تلك التي نشأت في المجتمعات اليهوديّة خارج الاتجاه اليهودي السائد في فلسطين. استمع إلى كلمات الكاتب في العبرانيين 13: 9:
لاَ تُسَاقُوا بِتَعَالِيمَ مُتَنَّوِعَةٍ وَغَرِيبَةٍ، لأَنَّهُ حَسَنٌ أَنْ يُثَبَّتَ الْقَلْبُ بِالنِّعْمَةِ، لاَ بِأَطْعِمَةٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا الَّذِينَ تَعَاطَوْهَا (العبرانيين 13: 9).
في هذا العدد، يقابل الكاتب بين “الثبات بفضل النعمة” و”الثبات بفضل الأطعمة”. والتركيز على هذه النقطة بالأخصّ لا يبدو أمراً غريباً. لكن لاحظ أيضاً أنّ ذلك ليس سوى أحد الأمثلة عمّا سمّاه الكاتب بـ”التعاليم المتنوعة والغريبة”. وهي بكلمات أخرى، التعاليم الغريبة وغير المعهودة التي تلقّنوها من المجتمعات اليهوديّة المحلّيّة. فما كانت هذه “التعاليم الغريبة” التي كان القرّاء عرضة لاتِّباعها؟
في النصف الثاني من القرن الماضي، ظهر عدد من الأفكار المفيدة في الإجابة عن السؤال أعلاه مع اكتشاف مخطوطات البحر الميت في قمران. وقد احتوت مجموعة الوثائق المكتشفة هناك والتي بقيت مخبأة لمدّة طويلة، على نصوص العهد القديم. وتضمّنت هذه الوثائق أيضاً كتابات من خارج الأسفار المقدسة بشأن التعاليم الخاصّة لجماعة من اليهود المحرومين من حقوقهم كانوا يعيشون بالقرب من البحر الميّت. وقد تضمّنت كتباً مثل نظام الجماعة، وعهد دمشق، ولفيفة الحرب، والمدراش حول ملكي صادق، بالإضافة إلى جزئين من 1 أخنوخ معروفَين بكتاب الساهرين وكتاب الأحلام. في هذه الكتب عدد من التعاليم الشبيهة إلى حدٍّ كبير بالقضايا اللاهوتية المطروحة في العبرانيين.
والجدير بالذكر هو أنّ هذه التعاليم لم تكن محصورة في هذه الجماعة. فهناك مجموعات أخرى من اليهود كانت لها تعاليم مماثلة تعيش في نواحي حوض البحر المتوسّط. في الواقع، كانت رسالتا أفسس وكولوسي تعالجان قضايا مماثلة في مناطقهما. يمكننا فهم العديد من التحذيرات الموجودة في العبرانيين ضد المعتقدات اليهوديّة المحلّيّة، إن نحن انتبهنا إلى بعض المواضيع المشابهة الموجودة في الرسالة إلى العبرانيين والمخطوطات التي عُثر عليها في قمران.
سنكتفي في هذا الدرس بالإشارة بشكلٍ موجز إلى أربعة مواضيع يرد ذكرها في الرسالة إلى العبرانيين وفي الوثائق التي وُجدت في قمران.
الأطعمة الطقسية. في المقام الأول، سبق وذكرنا أنّه في العبرانيين 13: 9، اعترض الكاتب على مسألة محدّدة من تناول الأطعمة الطقسية.
ونجد في الكتاب المُعنون نظام الجماعة، وصفاً للعديد من الممارسات في قمران. وكانت جماعة قمران، بالإضافة إلى ممارسات عديدة أخرى، تقيم بانتظام ولائم مقدّسة جماعيّة يجري خلالها خاصة تناول أطعمة مكرّسة.
التعاليم الأساسية. ثانياً، نجد في الرسالة إلى العبرانيين مجموعة من التعاليم الأساسية التي تظهر أيضاً في كتابات قمران.
على سبيل المثال، في العبرانيين 6: 1–2، يشير الكاتب إلى التوبة، والإيمان، وشعائر التطهير (أو المعموديّات)، ووضع الأيادي، وقيامة الأموات والدينونة الأبديّة. واللافت للنظر هو كون نظام الجماعة ولفيفة الحرب في قمران يسلّطان الضوء على هذه المسائل ومسائل مشابهة لم يعهدها الاتجاه اليهودي العام في فلسطين.
الملائكة. ثالثاً، تساعدنا كتابات قمران على فهم سبب تركيز الرسالة إلى العبرانيين على موضوع الملائكة. تناولت الرسالة إلى العبرانيين في عدد من المقاطع ذكر معتقدات حول الملائكة. وجاء هذا التركيز ردّاً على معتقدات من النوع الذي يشبه التعاليم في كتب مثل نظام الجماعة، وعهد دمشق، ولفيفة الحرب، بالإضافة إلى جزأين من 1 أخنوخ يُسميان كتاب “الساهرين” و”كتاب الأحلام”. هذه الكتب أشادت بقوى الملائكة الأخيار والأشرار، ودورهم كرسل للرؤى الإلهيّة، وتأثيرهم على الكائنات البشريّة الأدنى منها رتبة. فيبدو أنّ قرّاء العبرانيين الأوّلين افتتنوا بهذا النوع من التعاليم.
مَلْكِي صَادَق. رابعاً، تساعدنا الوثائق التي وجدت في قمران على فهم اهتمام كاتب العبرانيين غير الاعتيادي بشخصيّة مَلْكِي صَادَق المذكورة في العهد القديم.
وجد المفسّرون، لفترة زمنيّة تعدّ الأطول، صعوبة في شرح لماذا كانت المقارنات بين مَلْكِي صَادَق ويسوع في غاية الأهمية بالنسبة إلى كاتب العبرانيين. إلّا أنّ أحد النصوص الذي وجد في قمران، ويُدعى عامة المصدر 11Q مَلْكِي صَادَق أو المدراش حول مَلْكِي صَادَق قد أتى بتعليمٍ خاطئ عن كون مَلْكِي صَادَق شخصيّة سماويّة سوف تظهر في الأيام الأخيرة لتعلن يوم الكفّارة وتمنح شعب الله الكفارة النهائية عن خطاياه. وكلّ الأمور كانت توحي بأنّ القرّاء الأولّين للعبرانيين كانوا في خطر التمسّك بهذه المعتقدات الخاطئة.
إنّ تحديد أنواع التعاليم الخاطئة التي كانت منتشرة في المجتمعات اليهوديّة يساعدنا على فهم لماذا كان كاتب العبرانيين يحثّ قرّاءه على مقاومة هذه التعاليم وعلى البقاء أمناء ليسوع.
لم تكن الغاية من تحذيرات الكاتب لقرّائه حثّهم على نبذ التعاليم اليهودية المحلية فقط، بل أكثر من ذلك، أراد الكاتب أن يبقوا أمناء ليسوع كونه المسيح المنتظر.
2. يبقوا أمناء ليسوع
من أجل تحقيق الغاية المرجوّة من دعوة قرّائه إلى خدمة يسوع بأمانة، وضع كاتب العبرانيين تحذيراته في خمسة أقسام رئيسية. في درسنا التالي سننظر في كل قسم من هذه الأقسام مع بعض التفصيل. لكن في هذه المرحلة سنلخّص القضايا الرئيسية في كل قسم.
في العبرانيين 1: 1-2: 18، توجّه كاتب العبرانيين إلى قرّائه ليؤكّد تفوّق المسيح على الإعلانات الملائكيّة.
لقد ذكرنا سابقاً في هذا الدرس أنّ كاتب العبرانيين يندد بالمعتقدات الخاطئة حول الملائكة. فهناك العديد من الكتابات اليهوديّة التي عادةً تمجّد الملائكة باعتبارها مخلوقات قديرة ومجيدة نقلت إعلانات إلهيّة إلى البشر الأدنى منها منزلة. وهذا الإكرام المُعطى للملائكة ولّد تحدّيّاً خطيراً بالنسبة لأتباع المسيح. فيسوع كان من لحم ودم. فكيف لأي شخص أن يتبع ما علّمه يسوع عوضاً عن اتّباع ما أعلنته الملائكة؟ لكنّ كاتب العبرانيين ردّ على هذا التعليم اليهودي المحلّي ببراهين من العهد القديم ومن حياة يسوع، وموته، وقيامته، وصعوده وعودته في المجد، كلها تثبت أنّه في الواقع أعظم كثيراً من الملائكة.
إنّ القسم الرئيسي الثاني من العبرانيين، الممتدّ من 3: 1-4: 13، يبرهن أنّ يسوع أهلٌ لسلطة تفوق سلطة موسى.
كان واضحاً للجميع أنّ أتباع يسوع ما كانوا يمارسون خدمة الذبائح التي أوصى الله بها من خلال موسى. وقد ناشدت الجماعة اليهوديّة المحلّية المسيحيّين أن يعودوا إلى موسى ويعملوا بما أوصى به. وقد ردّ كاتب العبرانيين على هذه المسألة بتأكيده أنّ موسى كان خادم الله الأمين. لكنّ يسوع كان أعظم من موسى فهو ابن الله الملك (الجالس على عرشه).
بعد أن تناول الكاتب مسألة الملائكة وموسى، تحوّل إلى الكلام عن كهنوت مَلْكِي صَادَق في 4: 14-7: 28.
في هذا القسم، ناقش الكاتب مسألة كون يسوع الكاهن والملك الأعظم مُعيّناً على رتبة مَلْكِي صَادَق. ويبدو جليّاً أنّ المجتمع اليهودي المحلّي أراد أن يتخلّى مستلمو الرسالة الأولون عن اعتقادهم بيسوع كالمسيح المنتظر لأنّه كان يعتقد بظهور مَلْكِي صَادَق كرئيس الكهنة الملكي في الأيام الأخيرة. لكنّ كاتب العبرانيين ردّ على هذا التحدّي مبرهناً أنّ يسوع هو الملك الكاهن الحقيقي الذي ظهر في الأيام الأخيرة ليمنحنا تكفيراً أبديّاً عن الخطيّة.
في 8: 1-11: 40، شرح كاتب العبرانيين تفوّق العهد الجديد بيسوع.
أثارت التعاليم اليهوديّة المحليّة شكوكاً حول الادعاء المسيحي بأن يسوع قد أتى ليكون وسيط العهد الجديد الذي وعد به إرميا. إلّا أنّ كاتب العبرانيين أشار إلى أنّ يسوع هو في الحقيقة وسيط العهد الجديد.
في القسم الرئيسي الأخير، الممتدّ من 12: 1-13: 25، تكلّم كاتب العبرانيين بطرق عديدة عن حاجة قرائه إلى ممارسة الثبات العملي.
ويتكون هذا القسم من لائحة طويلة من التحذيرات، وعلى شروحات لها. في ضوء التحدّيّات العديدة الآتية من المجتمع اليهودي المحلّي، أو أيّ مصدر آخر، والتي تقف بوجه إيمانهم، وجّه الكاتب رسالته ليبعث الأمل والقوّة في نفوس قرّائه. كما حضهم على البقاء أمناء ليسوع كالمسيح المنتظر مذكّراً إيّاهم بمواعيد الله وبركاته في يسوع.
الخاتمة
في هذا الدرس حول خلفية الرسالة إلى العبرانيين والقصد منها، نظرنا إلى خلفية الرسالة إلى العبرانيين، أي إلى الكاتب ومستلمي الرسالة وتاريخ الكتابة. كما ركّزنا على القصد الأولي للرسالة من خلال بحثنا كيف كتب الكاتب رسالته ليحضّ مستلمي رسالته على نبذ التعاليم اليهوديّة المحلّيّة وإعادة تأكيد أمانتهم ليسوع كالمسيح المنتظر.
إنّ الرسالة إلى العبرانيين هي واحدة من أكثر أسفار العهد الجديد التي تبدو صعبة في تعاليمها، مع أنها للذي يدرسها بعناية في غاية البساطة والجمال الذي يغير الحياة. وتنطوي على عدد كبير من التعاليم بحيث لا يمكننا في هذه العجالة سوى تناول قسم صغير ممّا تعلّمه هذه الرسالة. لكن لا يزال بوسعنا الاستفادة بطرق كثيرة من تعاليمها الغنيّة. ونحن كأتباع للمسيح في هذا العصر، نواجه أيضاً تجربة الابتعاد عن مشاكل هذه الحياة عن طريق المساومة على التزاماتنا تجاه المسيح. لكن لو فتحنا قلوبنا وأصغينا كيف حذّر كاتب العبرانيين قرّاءه الأولين بإلحاح عندها يمكننا أن ندرك كم هو مهمّ أن نثبت في إيماننا مهما كانت المقاومة التي قد نواجهها.
تم النشر بإذن من خدمات الألفيّة الثالثة.