شرح سفر الرؤيا: الجزء (2): بنية السفر ومحتواه

YouTube player

 


المقدمة


أخبرني صديق لي عن زيارة قام بها إلى محل لبيع نسيج التطريز بالرسوم في ضاحية القاهرة. كانت غرف المحل مليئة بأشخاص يحيكون النسيج. وقد فُتِنَ صديقي بالطريقة التي كانت تُحاك بها تلك الخيوط الرفيعة مع آلاف من خيوطٍ مشابهة أخرى لتشكِّل أنماطاً معقدة من النسيج. تأتي روعة هذه الخيوط حين يتم اتحادها لتصبح نسيجا. وسفر الرؤيا هو إلى حدٍ ما مثل ذلك النسيج. فهو مليء بالنبوّات الصغيرة التي تستمد الكثير من معانيها من نبوّات أخرى حولها. وتتضح رسالته أكثر عندما نقرأ السفر بكامله، ونرى الصورة الأشمل التي يرسمها لنا.

هذا درسنا الثاني في سلسلتنا حول كتاب الرؤيا، وَقَدْ وَضَعْنَا عُنْوَاناً لِهَذَا الدرسِ “البنية والمحتوى”. نبحث في هذا الدرس كتاب رؤيا يوحنا عن طريق النظر في بنيته الأدبية وكيف تنسجم أجزاؤه المختلفة معاً.

نبدأ بحثنا لبنية ومحتوى الرؤيا بالنظر باختصار إلى قصد يوحنا من الكتابة. ثم نفحص تفاصيل كتاب الرؤيا نفسه. وأخيراً نفحص بعض الطرق أو الاسترتيجيات الشائعة في تطبيقه المعاصر. لنبدأ بالنظر إلى قصد يوحنا.

 


القصد


معرفة قصد يوحنا من كتابة الرؤيا معقّد بقدر تعقيد الكتاب نفسه، لذلك لا نقدر أن نستعرض كل تفاصيله في هذا الدرس. لكن ما زال بإمكاننا أن نلخِّص أهدافه الرئيسية بهذه الطريقة: كتب يوحنا كتاب الرؤيا ليشجِّع المسيحيين المتألمين على البقاء أمناء حتى رجوع يسوع.

كما أشرنا في درسنا الأول في هذه السلسلة، كان قرّاء يوحنا المضطهدون يعانون من شتى أنواع الاضطهادات ليتراجعوا عن إيمانهم. لذلك كتب يوحنا ليُطمئِن كنائس أَفَسُسَ، وسِمِيرْنَا، وبَرْغَامُس، وثِياتِيرا، وسَارْدِس، وفِيلاَدَلْفِيَا ولاَوُدِكِيَّة وبقية العالم أن المسيح يشعر بألمهم وهو يقف إلى جانبهم. وقد أَكَّد كتاب الرؤيا أن يسوع يتحكم بمستقبلهم المجيد، وهو سيكافئ كل أتباعه الأمناء.

انسجاماً مع دوره كنبي لله، عبّر يوحنا عن قصده في رسالتَين متكاملتين من يسوع إلى كنائس آسيا الصغرى. أولاً، قدَّم عروضاً بالبركة لجميع المخلصين ليسوع. ثانياً، نقل إليهم تهديدات باللعنة لكل الذين لم يكونوا أمناء. سنبحث في هذَين النوعَين من الرسائل بَدءاً من العروض بالبركة.

 

عروض بالبركة


استمع إلى التشجيع الذي قدَّمه يوحنا إلى كنيسة سميرنا في الرؤيا ٢: ٩-١٠:

أَنَا أَعْرِفُ أَعْمَالَكَ وَضَيْقَتَكَ وَفَقْرَكَ مَعَ أَنَّكَ غَنِيٌّ … لاَ تَخَفِ الْبَتَّةَ مِمَّا أَنْتَ عَتِيدٌ أَنْ تَتَأَلَّمَ بِهِ. هُوَذَا إِبْلِيسُ مُزْمِعٌ أَنْ يُلْقِيَ بَعْضاً مِنْكُمْ فِي السِّجْنِ لِكَيْ تُجَرَّبُوا، وَيَكُونَ لَكُمْ ضِيْقٌ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. كُنْ أَمِيناً إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ.

ويوحنا لم يَعد كنيسة سِمِيرْنَا بالحماية من الألم، بل أعلن أن سِمِيرْنَا ستتألم. لكن في الوقت نفسه، أكد لهم أنهم سينالون إكليل الحياة إن هم بقوا أمناء. فألمهم وموتهم المحتمل سيكونان وقتيَين فقط، أما بركاتهم فستدوم إلى الأبد.

وقد كان هذا التشجيع مهمّاً لأن غايته توجيه أنظار قرّاء يوحنا الأولين نحو الرؤى التي تلت. وقد حثَّهم أن يقرؤوا الرؤى بعيون مفتوحة على البركات التي سوف يعطيها يسوع لأتباعه الأمناء عند عودته. على سبيل المثال، يتحدث كتاب الرؤيا ٢٠: ٤ عن بركة المُلك مع المسيح.

استمع كيف يصف كتاب الرؤيا ٢١: ٣-٤ البركات النهائية التي سينالها المؤمنون:

وَسَمِعْتُ صَوْتاً عَظِيماً مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْباً، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهاً لَهُمْ.‏ وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ” الرؤيا.

لا بد أن هذه الرؤيا عن المستقبل قد حثت قرّاء يوحنا أن يبقوا أمناء لله لكي ينالوا هذه البركات الرائعة.

إلى جانب وعد يوحنا أتباع يسوع الأمناء بالبركات، عبَّر أيضاً عن قصده في تهديدات باللعنات على غير الأمناء للمسيح.

 

تهديدات باللعنات


كمثل واحد فقط، استمع إلى تهديد يسوع للكنيسة في لاَوُدِكِيَّة في الرؤيا ٣: ١٦:

‏هكَذَا لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِداً وَلاَ حَارّاً، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي.

هذه الكلمات تحث قرّاء يوحنا على التوبة عن خطاياهم والعيش بخضوع جدي ليسوع. والتهديد بالتقيؤ من فم المسيح هو إنذار قوي بأن العصيان الأثيم ضد يسوع يؤدي إلى رفضنا من قبله.

والغرض من تضمين هذا النوع من التهديدات، هو تمكين قرّاء يوحنا الأولين من قراءة الرؤى التي تلت وهم مدركون لحقيقة دينونة الله. وشدَّد يوحنا ككاتب، على هذه العقوبات مراراً ليحث المؤمنين المزيفين والحقيقيين ليتوبوا عن خطاياهم.

على سبيل المثال، تصف رؤى يوحنا في عدد من المواضع العقوبات التي تقع على أولئك الذين يعبدون الوحش. فعبدة الأوثان هؤلاء يُعصرون في معصرة الله في الرؤيا ١٤، ويعذبون بالمرض في الرؤيا ١٦ ويحترقون في بحيرة النار في الرؤيا ١٩-٢١. وهذه الرؤى كانت تهديدات حقيقية للمؤمنين المزيفين في آسيا الصغرى. لكنها أيضاً حثت المؤمنين الحقيقيين ليتجنبوا التصرفات والمواقف التي تقود إلى دينونة الله عليهم.

لا شك في أن الكثير من التفاصيل في سفر الرؤيا يصعب فهمها. لكن أفكارهُ الرئيسية واضحةٌ بشكلٍ كافٍ. فقد كان قصد يوحنا تشجيع قرائه ليكونوا أمناءً للمسيح حتى وسط آلامهم. ولا بد أن وعود الله بالبركة شجعتهم ليكونوا أمناء للمسيح ونشيطين في الأعمال الصالحة. وقد أنذرهم بدينونة الله من أجل دفعهم إلى التوبة. وسواء في الوعود بالبركة، أو في التهديد باللعنة، فكل صورة ورمز وسيناريو في الرؤيا يشجِّع على الأمانة. ونحن إن أبقينا هذا القصد في ذهننِا، سيساعدنا على فهم ما قصده سفر الرؤيا للمسيحيين الأوائل، وما يعنيه بالنسبة للقرّاء المعاصرين أيضاً.

الآن وقد بحثنا في قصد كتاب الرؤيا، لننتقل إلى تفاصيله.

 


التفاصيل


يبدأ كتاب الرؤيا بـمقدمة قصيرة في 1: 1-8. ثم يتبع ذلك جسم الرؤيا ويتألف من أربع رؤى رئيسية:

  • رؤيا للمسيح في 1: 9-3: 22.
  • رؤيا حول الأحداث القادمة في 4: 1-16: 21.
  • رؤيا تصف عقاب الزانية الكبيرة في 17: 1-21: 8.
  • ورؤيا العروس، امرأَة الخروف في الرؤيا 21: 9-22: 5.

بعد الرؤى الأربع الرئيسية ينتهي الكتاب بخاتمة في الرؤيا 22: 6-21.

وتبدأ كل واحدة من الرؤى الأربع الكبيرة في جسم الرؤيا بالتصريح أن يوحنا كان في الروح. وقد استخدم يوحنا باستمرار هذه اللغة ليحدّد بداية الأقسام الجديدة في القسم الرئيسي من كتابه.

في الرؤيا ١: ١٠، كتب يوحنا:

‏كُنْتُ فِي الرُّوحِ فِي يَوْمِ الرَّبِّ، وَسَمِعْتُ وَرَائِي صَوْتاً عَظِيماً كَصَوْتِ بُوقٍ.‏

في الرؤيا ٤: ٢، أخبرنا:

‏وَلِلْوَقْتِ صِرْتُ فِي الرُّوحِ، وَإِذَا عَرْشٌ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الْعَرْشِ (شخص) جَالِسٌ.‏

في الرؤيا ١٧: ٣، قال:

‏فَمَضَى بِي بِالرُّوحِ إِلَى بَرِّيَّةٍ.

وفي الرؤيا ٢١: ١٠، كتب:

‏وَذَهَبَ بِي بِالرُّوحِ إِلَى جَبَل عَظِيمٍ عَال، وَأَرَانِي الْمَدِينَةَ الْعَظِيمَةَ أُورُشَلِيمَ الْمُقَدَّسَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ.

سنقوم بفحص كل قسم من الأقسام الرئيسية في كتاب الرؤيا، بدءاً بـالمقدمة في الرؤيا ١: ١-٨.

 

المقدمة


تبدأ المقدمة بـتمهيد في الرؤيا ١: ١-٣ يشدّد على سلطان الكتاب الإلهي. فهو بدأ من الله الآب، ثم أُعطي ليسوع المسيح، وأُعلن من خلال ملاك. وكنبيِّ المسيح، كان يوحنا سفيراً ذا سلطان نقل رسالة يسوع إلى كنائسه.

يتضمن العددان ٤ و٥ تحية فيها يُعرِّف يوحنا بنفسه وبقرائه. وهو كتب تحديداً إلى السبع الكنائس في مقاطعة آسيا الرومانية، الواقعة في آسيا الصغرى. كما أضاف يوحنا تحية: من الله الآب الذي وصفه بالْكَائِنِ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي؛ ومن الروح القدس، الذي يٌشار إلى ملئه أو كماله برمز السبعة الأرواح التي أمام عرشه؛ ومن يسوع المسيح الذي يدعوه يوحنا بالشاهد الأمين، البكر من الأموات، ورئيس ملوك الأرض.

وفي الأعداد ٥-٨ قدَّم يوحنا الحمد لله، وهذا الحمد كشف بعضاً من قلقه الرئيسي على قرائه. لقد حمد يوحنا الله على سيادته، مقتنعاً بأن الله كان يوجّه كل التاريخ لإتمام مقاصده المجيدة. وهو حمد الله على الفداء الذي أتمّه بيسوع المسيح، لأن حياة يسوع وموته وقيامته كانت أساس كل رجاء أشار إليه يوحنا في كتابه. وأخيراً، حمد الله على الوعد بأن المسيح سيعود ثانية، وهو الحدث المستقبلي العظيم الذي فيه سيتمِّم كل ما خططه ووعد به.

بعد المقدمة، نجد رؤيا المسيح وتطبيقها على السبع الكنائس في الرؤيا ١: ٩-٣: ٢٢.

 

رؤيا المسيح


تبدأ رؤيا المسيح بـوصف للمسيح وتنتهي بالرسائل إلى السبع الكنائس في آسيا الصغرى. وسنبحث في كل قسم من هذه الأقسام منفصلاً، مبتدئين بـوصف يوحنا للمسيح في الرؤيا ١: ٩-٢٠.

 

1. وصف المسيح

قبل وصفه ليسوع، عبّر يوحنا عن توحيد نفسه بقرّائه عن طريق تعريفه بنفسه كشريكهم في الضيقة وفي ملكوت المسيح، وصبره. كان الألم دائماً حقيقة بالنسبة للمؤمنين. لكن يوحنا أصرّ أنه في زمن العهد الجديد، صار لألمنا معنى مميّزٌ. فالمسيح تألم عندما وقف ضد الخطيّة. ولأننا نحن المسيحيين متحدون بيسوع، فنحن نتألم أيضاً معه. لكن مع ذلك، في كل مرة نتألم، عندنا التعزية بأن الله حاضر معنا وهو يسود ويهيمن على ظروفنا. في كل الظروف، حتى في الاستشهاد، نحن ننال النصرة على الشرّ بقوة المسيح.

أشار يوحنا أيضاً إلى أنه استلم رؤياه عندما كان في الروح. وهذا يعني على الأرجح أنه كان في حالة من الانجذاب الروحي، رغم أنه لم ينتقل في الجسد إلى موقع جديد. وهذه أيضاً هي إحدى الطرق التي من خلالها يعلن الله نفسه للأنبياء في العهد القديم، كما نقرأ في مقاطع مثل حِزْقِيَالَ ٣: ١٢.

أخيراً، اختتم يوحنا مقدمته الافتتاحية بقوله إن صوتاً من السماء فوَّضه ليكتب تقارير رؤيوية إلى الكنائس وهي أَفَسُس، سِمِيرْنَا، بَرْغَامُس، ثِياتِيرا، سَارْدِس، فِيلاَدَلْفِيَا و‍لاَوُدِكِيَّة.

يبدأ وصف يوحنا الفعلي ليسوع في الرؤيا ١: ١٢. بدا يسوع هناك كـابْنِ إِنْسَانٍ يمشي وسط السبع المناير. وهذه المناير ترمز إلى الكنائس التي أتت بنور الله من خلال المسيح إلى العالم الذي ما زال واقعاً تحت استبداد الظلام. كانت تلك المناير أيضاً بمثابة تذكير لقرّاء يوحنا بأثاث المسكن في العهد القديم والهيكل؛ وبحقيقة وجود يسوع الآن في المسكن السماوي أمام عرش الله. سبق ليوحنا في الرؤيا ١: ٤ أن وجد علاقة رمزية بين السبع الكنائس في آسية الصغرى وسبع مناير الشمعدان أمام الله. وقد أظهر الله حضوره المجيد بين شعبه في المسكن أولاً ولاحقاً في الهيكل. وكما سكن الله مرة بين شعبه إسرائيل، سكن المسيح وسط كنيسته.

وظهر يسوع وهو يلبس ثوباً وحزاماً مثل رئيس الكهنة في الهيكل اليهودي. كانت عيناه كلهيب نار، ورجلاه شبه النحاس المُحمّى. وكان صوته قوياً كصوت مياه كثيرة، وسيف ماض ذو حدَّين يخرج من فمه. وكان وَجْهُهُ يشع مجداً كَالشَّمْسِ وَهِيَ تُضِيءُ فِي قُوَّتِهَا. وبيّن هذا المظهر أن يسوع كان مهيباً، مجيداً، وقوياً.

الآن بعد أن بحثنا في وصف يوحنا للمسيح، لننظر في رسائل يسوع إلى السبع الكنائس في الرؤيا ٢ و٣.

 

2. الرسائل إلى الكنائس السبع

وجّه يسوع رسائله إلى سبع كنائس تقع في آسيا الصغرى، أي في القسم الغربي من تركيا المعاصرة. وقد رتّب الرسائل بالطريقة التي يسافر فيها الشخص الذي ينقل تلك الرسائل. كتب أولاً إلى المدينة الساحلية أَفَسُس، ثم إلى سِمِيرْنَا في الشمال، ثم إلى بَرْغَامُس الأبعد إلى الشمال. ثم اتجه نحو الجنوب الشرقي حاملاً رسائله إلى ثِياتِيرا، ثم سَارْدِس، ثم فِيلاَدَلْفِيَا ثم لاَوُدِكِيَّة. وتنقل هذه الرسائل كلمات يسوع من بلاطه السماوي، وقد صُممت لتساعدَ الكنائس على فهم الرؤى التي تبعت وتتجاوب معها.

عموماً، تتبع كل تلك الرسائل النمط الأساسي ذاته، مع بعض الاختلافات في الترتيب. ويتضمن هذا النمط العديد من العناصر التي تشبه نبوات العهد القديم، ويذكِّرنا بأن يوحنا كان يقوم بدور نبي يسوع إلى تلك الكنائس.

أولا، تبدأ كل الرسائل بـتوجه إلى ملاك كل كنيسة. اعتبر بعض المفسِّرين أن الإشارة هنا هي إلى رسل بشريين ممثلين لكل كنيسة. لكن على الأرجح، هنا في قرينة الرؤيا السماوية، أن يكون هؤلاء ملائكة حقيقيين أوكل المسيح إلى كل منهم كنيسة محلية. ثانياً، يوجد وصف للمسيح مستمد من مظهره في الرؤيا ١، يشدّد على صفة مميزة ليسوع وثيقة الصلة بالرسالة. ثالثاً، يوجد تصريح بالمعرفة، يشير إلى أن المسيح يعرف هذه الكنائس وتفاصيل حياتها. رابعاً، يوجد تقييم للكنيسة، يتضمن مديحاً وغالباً ما يشتمل على توبيخات. خامساً، في الرسائل خليط من العروض بالبركة والتهديدات باللعنة وفق تقييم المسيح للكنيسة. سادساً، هناك الوعد بأن كل الذين يغلبون سيرثون بركات أبدية. وسابعاً، تتضمن كل رسالة حضاً على طاعة المسيح.

يلفت التشابه الموجود بين الرسائل في الإصحاحات ٢ و٣ من الرؤيا انتباهنا إلى الأفكار الرئيسية في هذا القسم. فكان المسيح مخاطبا هذه الكنائس بصفته ملكهم الشرعي. كان مدركاً لظروفهم الحاضرة وكان له السلطان لتقييم تلك الظروف. وهو عرض عليهم البركات، وتوعدهم باللعنات، ليشجّعهم على الأمانة. وذكّرهم بأن الخلاص الأبدي هو فقط لأولئك الذين يتغلبون على المحن والتجارب. ولا عجب في أن تلعب هذه المواضيع دوراً أساسيّاً في الجزء الرئيسي من سفر الرؤيا.

سننظر بإيجاز إلى كل من هذه الرسائل، بَدءاً من الرسالة إلى أَفَسُس في الرؤيا ٢: ١-٧.

  • أَفَسُس. في هذه الرسالة، قدّم يوحنا يسوع كالشخص الذي يُمسك السبعة الكواكب بيده اليمنى ويمشي في وسط السبع المناير الذهبية. وهذا الوصف يشدّد على نور مجد المسيح وقدرته. بصفته ملكها، أعطى يسوع الكنيسة في أَفَسُس تقييماً مزدوجاً. فهم لهم غيرة محمودة من جهة العقيدة الصحيحة، ولم يتسامحوا مع السلوك الشرير. وعرفوا بصورة خاصة بكراهيتهم لأعمال النُّقُولاَوِيِّينَ، وهي جماعة هَرطَقِية باكرة جداً مزجت الإيمان المسيحي مع الشهوات الجنسية الوثنية. لكن كنيسة أَفَسُس تلقت أيضاً توبيخاً قوياً. ففي الرؤيا ٢: ٤ قال لهم يسوع إنهم تركوا محبتهم الأولى؛ خسروا حماستهم وغيرتهم للمسيح وملكوته. لذا، حذَّرهم بأنهم إن لم يتوبوا ويعودوا إلى حماستهم الأولى، فسينزع منارتهم، وهي رمز لتكريمهم في السماء. بعبارة أخرى، سيؤدّبهم وربما يرفضهم.
  •  سِمِيرْنَا. ترد الرسالة إلى كنيسة سِمِيرْنَا في الرؤيا ٢: ٨-١١. وتبدأ بوصف يسوع بالأَوَّلُ وَالآخِرُ الَّذِي كَانَ مَيْتاً فَعَاشَ. وهذا الوصف قدَّم المسيح كالشخص الذي خلق كل شيء، وبكونه النقطة المركزية في المصير النهائي للخليقة. هذه الرسالة هي واحدة من اثنتين فقط لا تتضمنان توبيخاً على أعمال شريرة. وهي تركّز بالكامل على التعاطف مع الكنيسة في سِمِيرْنَا، وتفهم وضعها إذ تواجه اضطهاداً عنيفاً على الأرجح من اليهود غير المؤمنين.

بالرغم من المشاكل التي سببها اليهود للكنيسة في سِمِيرْنَا، فقد حثّ يسوع أتباعه على الأمانة، وشجّعهم على الوثوق به لأنه غلب الموت.

  • برغامس. بعد ذلك خاطب المسيح الكنيسة في بَرْغَامُس في الرؤيا ٢: ١٢-١٧. في هذه الرسالة، قدّم يوحنا المسيح كالشخص “الَّذِي لَهُ السَّيْفُ الْمَاضِي ذُو الْحَدَّيْنِ”. كلمات يسوع هذه حادة مثل الشفرة، وقادرة أن تحكم بين ما هو صواب وما هو خطأ. وهذه الصفة مناسبة في وضعهم لأن تقييمه للكنيسة يتضمن إيجابيات وسلبيات. استمع إلى ما قاله يسوع في الرؤيا ٢: ١٣-١٤:

وَلَمْ تُنْكِرْ إِيمَانِي حَتَّى فِي الأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا كَانَ أَنْتِيبَاسُ شَهِيدِي الأَمِينُ الَّذِي قُتِلَ عِنْدَكُمْ حَيْثُ الشَّيْطَانُ يَسْكُنُ.‏ وَلكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ قَلِيلٌ.

أتبع يسوع مديحه بتوبيخ: فقد فشلت الكنيسة في رفض تعاليم النُ‍قُولاَوِيِّينَ بالإضافة إلى التعاليم التي ارتبطت ببلعام. وهؤلاء المعلمون الكذبة قادوا كثيرين إلى العربدة والفجور. وحذّر المسيح الكنيسة بأنه سيؤدبها في حال أَنها لم تتب.

  • ثِياتِيرا. وترِد الرسالة إلى كنيسة ثِياتِيرا في الرؤيا ٢: ١٨-٢٩. هنا، وصف يوحنا يسوع بالنار المطهِّرة، وعيناه كلهيب النار ورجلاه مثل النحاس النقي. وهذا الوصف يرتبط مباشرة بمحتوى الرسالة، لأن الكنيسة في ثِياتِيرا تحتاج أن تتطهر وتتنقى. في الرؤيا ٢: ١٩-٢٠، قال يسوع:

‏أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ وَمَحَبَّتَكَ وَخِدْمَتَكَ وَإِيمَانَكَ وَصَبْرَكَ، وَأَنَّ أَعْمَالَكَ الأَخِيرَةَ أَكْثَرُ مِنَ الأُولَى.‏ لكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ قَلِيلٌ: أَنَّكَ تُسَيِّبُ الْمَرْأَةَ إِيزَابَلَ الَّتِي تَقُولُ إِنَّهَا نَبِيَّةٌ، حَتَّى تُعَلِّمَ وَتُغْوِيَ عَبِيدِي.

على نقيض كنيسة أَفَسُس، لم يخسر الثِياتِريون محبتهم الأولى للمسيح، بل بالعكس، فقد زادت محبتهم. لكنهم تساهلوا مع التعليم المضّل لامرأة محدّدة، سمّاها يسوع بازدراء “إيزابل”.

ومثل الملكة الشريرة إيزابل التي نجدها في ملوك ١ و٢، استمالت هذه المرأة الشعب إلى الفجور الجنسي وعبادة الأصنام، وهما ممارستان مرتبطتان بقوة عند الوثنيين في آسيا الصغرى. وقد حذّر يسوع هذه الكنيسة بضرورة رفضها لهذه التعاليم الكاذبة وبقائها أمينة له.

  • سَارْدِس. ثم يلي ذلك الرسالة إلى كنيسة سَارْدِس، في الرؤيا ٣: ١-٦. هنا لمّح يوحنا إلى مظاهر الروح السبعة والكواكب السبعة في يد يسوع ليذكّر الكنيسة في سَارْدِس أن ليسوع كل القوة والسلطان. ولفت يوحنا الانتباه إلى سلطان يسوع لأن تقييمه لهذه الكنيسة كان صارماً جداً. وكما نقرأ في الرؤيا ٣: ١-٣:

أَنَّ لَكَ اسْماً أَنَّكَ حَيٌّ وَأَنْتَ مَيْتٌ.‏ كُنْ سَاهِراً وَشَدِّدْ مَا بَقِيَ، الَّذِي هُوَ عَتِيدٌ أَنْ يَمُوتَ، لأَنِّي لَمْ أَجِدْ أَعْمَالَكَ كَامِلَةً أَمَامَ اللهِ .‏.. فَإِنِّي إِنْ لَمْ تَسْهَرْ، أُقْدِمْ عَلَيْكَ كَلِصٍّ.

كانت مدينة سَارْدِس مشهورة بقلعتها القوية، لكن تمّ الاستيلاء على القلعة بغتة في مناسبتين. وقد أنذر يسوع الكنيسة أنه سيفعل أمراً مشابهاً ما لم يتوبوا. فسيأتي كلص، مهاجماً إياهم بشكل مباغت. أما الذين بقوا أمناء له، فقد وعدهم المسيح بالطهارة، والتبرير والمكافأة.

  • فِيلاَدَلْفِيَا. ورسالة يسوع إلى الكنيسة في فِيلاَدَلْفِيَا تظهر في ٣: ٧-١٣. في هذه الرسالة قدّم يوحنا يسوع شخصاً يحمل مفتاح داود، أي بإمكان يسوع أن يفتح أبواب مملكة داود ليُدخل من يشاء من رعاياها ويغلق الأبواب ليُبقي الآخرين خارجاً. اتصفت كلمات يسوع لهذه الكنيسة بالإيجابية لكنها انطوت أيضاً على تحذيرٍ ضمني. في الرؤيا ٣: ٨، أعطاهم تأكيداً:

أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ. هَنَذَا قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكَ بَاباً مَفْتُوحاً وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُغْلِقَهُ، لأَنَّ لَكَ قُوَّةً يَسِيرَةً، وَقَدْ حَفِظْتَ كَلِمَتِي وَلَمْ تُنْكِرِ اسْمِي.‏

وقد وضع المسيح أمام هذه الكنيسة باباً مفتوحاً، معطياً إياهم فرصة مواتية لينموا وينضجوا روحياً. فهم إن استفادوا من هذا الباب المفتوح، سيجعل المسيح أعداءهم يسجدون أمام أرجلهم، ويرث مؤمنو فِيلاَدَلْفِيَا أورشليم الجديدة. ويكتب عليهم اسم الله، أي أنهم سيكونون له إلى الأبد. لكن يمكننا أن نستنتج ضمناً أنهم إن لم يغتنموا هذه الفرصة، فلن ينالوا هذه البركات.

  • لاَوُدِكِيَّة. ثم تأتي رسالة يسوع إلى كنيسة لاَوُدِكِيَّة في الرؤيا ٣: ١٤-٢٢. في هذه الرسالة، وصف يوحنا يسوع كالشخص الذي كلمته هي الآمين النهائية، أي أن يسوع هو السلطة النهائية الموثوق بها. ووصف يوحنا أيضاً يسوع بالشاهد الأمين الصادق، ومُنشئ خليقة الله. وكان القصد من هذا الوصف أن يلفت نظر مؤمني لاَوُدِكِيَّة، إلى أن تقييمهم سيكون سلبياً جداً. استمع إلى ما قاله يسوع في ٣: ١٥-١٦:

أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ، أَنَّكَ لَسْتَ بَارِداً وَلاَ حَارّاً. لَيْتَكَ كُنْتَ بَارِداً أَوْ حَارّاً!‏ هكَذَا لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِداً وَلاَ حَارّاً، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي.‏

كانت لاَوُدِكِيَّة مدينة ثرية تقع بين مدينتي كولوسي وهيرابوليس. وكانت كلا كولوسي وهيرابوليس مشهورتَين بمصادر مياههما المميّزة. كان لكولوسي مياهها الباردة من ينابيع الجبال؛ أما هيرابوليس فكانت لها ينابيعها الحارة. وكان الاعتقاد السائد بأن لكلّ هذين المصدرين للمياه قوى تساعد على الشفاء. لكن المياه في لاَوُدِكِيَّة كانت فاترة، دون أي قوة تساعد على الشفاء. واستمد يسوع من هذه الوقائع المادية ليقدّم حقيقة روحية: فالكنيسة في لاَوُدِكِيَّة كانت غنية، لكن غناها سلب منها قوتها الروحية. كانت هذه الكنيسة بحاجة إلى أن تتوب وإلا فسيرفضها يسوع.

وهنا بعد أن تناولنا رؤيا المسيح، لننتقل إلى رُؤى يوحنا عن الأحداث القادمة، المدوَّنة في الرؤيا ٤: ١-١٦: ٢١.

 

الأحداث القادمة


وفق الرؤيا ٤: ١-٢، حصلت هذه الرؤى أمام العرش السماوي وكشفت عن الأحداث القادمة التي كانت لا تزال في المستقبل في أيام يوحنا. وهي تتوجه إلى كل الكنائس معاً، وتركّز بصورة خاصة على المستقبل كصراع كبير بين قوى الخير والشر. والقصد من هذه الرؤى هي تشجيع قرّاء يوحنا الأولين على البقاء أمناء خلال صراعهم مع الخطيّة والشيطان، لأن انتصار الله المستقبلي مؤكد.

والأمر الأول الذي يجب ملاحظته حول رؤى يوحنا عن الأحداث القادمة هو أنها تتألف من أربع سلاسل من رؤى أصغر متتالية: الختوم السبعة، الأبواق السبعة، القصص السبعة والجامات السبعة. ويؤمن بعض المفسّرين أن هذه السلاسل يجب أن تُقرأ بترتيب زمني، كما لو أنها تمثل حقبات متتالية في التاريخ. لكن يوحنا لم يشر إطلاقاً إلى أن هذه هي الحال.

فمن جهة، العلامات الزمنية التي تربط تلك السلاسل معاً، عبارات مثل بعد هذا، تشير إلى الترتيب الذي أُعطيت فيه الرؤى إلى يوحنا، وليس إلى ترتيب الأحداث في تلك الرؤى.

ومن جهة أخرى، يبدو أن هناك عدداً من الأحداث التاريخية في هذه الرؤى أشير إليها في سلسلة أو أكثر. لهذا السبب، سنتبنى في دراستنا النظرة التفسيرية المسمّاة أحياناً الإعادة المختصرة.

عموماً، تحدث الإعادة المختصرة عندما يعيد مقطع لاحق أو يصرّح من جديد بما قاله مقطع سابق. وبتطبيقها على كتاب الرؤيا فإن هذا التعبير يشير تحديداً إلى الفكرة بأن كل سلسلة من الرؤى تصف الفترة الزمنية الكاملة بين مجيء المسيح الأول ومجيئه الثاني، لكن بتفاصيلها وتشديداتها الخاصة.

الإعادة المختصرة هي في الواقع شائعة جداً في النبوة الكتابية. وغالباً ما استخدم أنبياء العهد القديم هذه الطريقة ليصفوا السلسلة ذاتها من الأحداث في مقاطع مختلفة. وأحياناً تكون هذه الإعادة المختصرة صوراً مجازية متشابهة، كما في إرميا ٣٠ و٣١، حيث تنبأ إرميا عن ردّ إسرائيل إلى الرب. في أوقات أخرى، استخدمت الإعادة المختصرة صوراً مجازية مختلفة لوصف الأحداث ذاتها، كما في إشعياء ٩ و١١، حيث تكلم إشعياء عن مجيء المسيح المنتظر.

ونرى الشيء ذاته في دعاوى الله ضد إسرائيل في هوشع ٩-١٤. وهناك أمثلة كثيرة أخرى. لذلك، عندما استخدم يوحنا هذه الطريقة في كتاب الرؤيا، كان يستخدم خطة كتابية تقليدية معروفة في إبلاغ رسالته.

ويشير عدد من الأدلة في الرؤى نفسها بقوة إلى أن يوحنا كان يصف السلسلة ذاتها من الأحداث من زوايا مختلفة. على سبيل المثال، تشير رؤى يوحنا ثلاث مرات مختلفة إلى ما نسمّيه الدينونة الأخيرة.

في الرؤيا ٦: ١٢-١٧، التي هي جزء من رؤيا الأختام السبعة، صارت الشمس سوداء، والقمر صار كَالدَّمِ،‏ ونُجُومُ السَّمَاءِ سَقَطَتْ إِلَى الأَرْضِ، والجميع على الأرض أخفوا أنفسهم من دينونة الله. في الرؤيا ١١: ١٥، وهو يقع ضمن الأبواق السبعة، أُعلن بصوت عال: قَدْ صَارَتْ مَمَالِكُ الْعَالَمِ لِرَبِّنَا وَمَسِيحِهِ، فَسَيَمْلِكُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ! في الرؤيا ١٥: ١، وهو جزء من رؤيا الجامات السبع نُخبَر أنه عندما سُكبت الضَّرَبَاتُ السَّبْعُ الأَخِيرَةُ، اكتمل بها غَضَبُ اللهِ.

كل من هذه المقاطع يصف أحداثاً مرتبطة بعودة المسيح ودينونة الله النهائية على الأرض. لكن كل سلسلة من الرؤى تتضمن أيضا تفاصيل أخرى يبدو أنها تسبق الدينونة الأخيرة. لهذا السبب، يبدو من الأفضل أن نقرأ كل سلسلة من الرؤى كوصف مستقل لكل تاريخ ملكوت الله قبل عودة المسيح.

رغم أن الإعادة المختصرة هي الرأي الشائع بين الإنجيليين، من المهم أن ندرك أن البعض لا يفسّر سفر الرؤيا بهذه الطريقة. لذلك، في هذا الدرس، لن نحصرَ تفسيراتنا بصورة ضيقة بالرأي القائل بالإعادة المختصرة. مع ذلك، يجب أن ندرك أن معظم المعلمين المسيحيين يؤمنون أن هذا الرأي يعطي المعنى الأفضل للبنية الأدبية لرؤيا يوحنا حول الأحداث الآتية، وكذلك بالنسبة لمحتوى تلك الرؤى.

كما رأينا سابقاً، تنقسم رؤيا يوحنا للأحداث القادمة، إلى أربعة أقسام رئيسية: رؤى الختوم السبعة، والأبواق السبعة، والقصص الرمزية السبع والجامات السبع. فلنفحص كل سلسلة من الرؤى، بدءاً من الختوم السبعة في الرؤيا ٤: ١-٨: ١.

 

1. الختوم السبعة

تتألف رؤيا الختوم السبعة من قسمين رئيسيين، بَدءاً بوصف بلاط الله السماوي في الرؤيا ٤ و٥. ويعرض لنا هذا الجزء سفراً هاماً مع سبعة ختوم، ويهيئ الأجواء لفتح تلك الختوم في الفصول ٦-٨.

يصف لنا الرؤيا ٤: ١-١١ المشهد في البلاط السماوي، وهو يشبه رؤى مماثلة في حزقيال ١، وإشعياء ٦، ومقاطع أخرى من العهد الجديد. الله جالس على عرشه وتعبده كائنات حية سماوية، من بينها أربعة وصفها يوحنا ببعض التفاصيل. وكان كل كائن حي من الكائنات الأربعة مملوءاً عيوناً وله ستة أجنحة. لكن مظاهرها الخارجية كانت مختلفة: واحد شبه أسد، وآخر شبه عجل، وآخر شبه إنسان وآخر شبه نسر. وهي على الأرجح تمثِّل كل الكائنات على الأرض التي تسبِّح الله.

ويظهر أيضاً في رؤيا يوحنا أربعة وعشرون شيخاً يحيطون بعرش الله، هم على الأرجح المعدودون وفق أسباط إسرائيل الإثني عشر في العهد القديم، والرسل الإثني عشر في العهد الجديد. وهؤلاء الشيوخ يرمزون إلى شعب الله عبر التاريخ. في كل مرة سبّحت الكائنات الحية الأربعة الله، سجد الشيوخ مقرّين بجلاله وسلطانه، وعاهدوه بالخضوع والطاعة والاحترام. علاوة على الشيوخ، كان هناك عدد ضخم من الملائكة الذين بسطوا تسبيحهم لله على كل الخليقة وسبّحوا حمل الله.

وهذا المشهد يتضمن أيضاً صوراً عديدة من أوصاف العهد القديم للمسكن والهيكل: فنرى هناك مصابيح تتوهج أمام العرش؛ وبخوراً هو صلوات شعب الله؛ وبحراً من الزجاج، أعظم من البحر النحاسي في العهد القديم؛ وتعالت تسابيح مثل تلك التي يقدّمها المرنّمون اللاويون. وتشير هذه الرمزية إلى أن يوحنا أُعطي أن يرى بلاط الله السماوي الذي منه يسود على الكون بكامله ويصدر أحكامه. وهذه المشاهد أوحت لقرّاء يوحنا أن الرؤيا تتناول مسائل بالغة الأهمية.

وتستمر الرؤيا السماوية في الرؤيا ٥: ١-١٤. حيث يحمل الله سفراً في يده يرمز إلى خطته حول مصير العالم. ولكن لا أحدَ من أفراد هذا البلاط تمكن من فتح السفر. بعبارة أخرى، ولا واحد منهم تمكن من إتمام خطته تعالى. ثم قال أحد الشيوخ ليوحنا: إن الأسد الذي من سبط يهوذا هو سيفّك ختوم السفر السبعة ويقرأه.

إن الإشارة إلى أسد سبط يهوذا مأخوذة من تكوين ٤٩: ٩-١٠، حيث نقرأ:

يَهُوذَا جَرْوُ أَسَدٍ … لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ.

أعلنت هذه النبوة أن يهوذا سيسود على أسباط إسرائيل، وسيأتي منه ملك يحكم العالم بأجمعه.

لكن عندما نظر يوحنا، فوجئ بأن أسد يهوذا كان في الواقع خروفاً بدا كأنه مذبوح. طبعاً، الخروف هو المسيح. وهو من سلالة يهوذا التي يأتي منها ملوك إسرائيل. وهو أصبح حمل الفصح الذي قدّم نفسه ذبيحة كفارية، كما نقرأ في يوحنا ١: ٢٩. وتشير قدرة يسوع على فتح السفر إلى أنه الشخص الذي من خلاله سيتمّم الله كل خططه للعالم.

 القسم الثاني من رؤيا الختوم السبعة هو فتح الختوم أنفسها في الرؤيا ٦: ١-٨: ١. في هذا القسم نجد فتح الختوم الستة، وتليها فترة فاصلة، ثم فتح الختم السابع.

أطلقت الختوم الأربعة الأولى فرسان الرؤيا الأربعة الشهيرين الذين جلبوا الكوارث على العالم. والصور المجازية للفرسان الأربعة مأخوذة من زَكَرِيَّا ٦، حيث خيلٌ لها الألوان ذاتها قيل عنها أنها أَرْوَاحُ السَّمَاءِ الأَرْبَعُ. عندما فُتح الختم الأول، أُعطيَ فارس على فرس أبيض غلبة على الشعوب. والختم الثاني أطلق فارساً على فرس أحمر، كرمز إلى القتل.

والحرب هي أوضح أشكال القتل، لكن الصورة واسعة بحيث تشمل أنواعاً أخرى من قتل البشر. أما الختم الثالث فأطلق فارساً على فرس أسود وهو يرمز إلى المجاعة. والختم الرابع أطلق فارساً اسمه الموت، يركب على فرس أخضر كرمز للموت بالسيف والجوع والطاعون ووحوش الأرض. وعلى الرغم من فظاعة هذه النكبات، فهي أثرت فقط على ربع الأرض. فالأكثرية نجت من هذا الجزء من دينونة الله.

وعندما فُتح الختم الخامس، رأى يوحنا رؤيا لشهداء مسيحيين في السماء. وهؤلاء القديسون قُتلوا بسبب تمسكهم بأمانتهم لله وكلمته. وهم صرخوا إلى الله ليعاقب قاتليهم، لكن قيل لهم إن الله لن يطبِّق كل عدالته الآن، وعليهم أن يصبروا حتى يَكمل عدد الذين سيستشهدون.

وعندما فُتح الختم السادس، وقعت الأرض كلها تحت دينونة الله. فحدث زلزال؛ والشمس صارت سوداء؛ والقمر صار كالدم؛ والنجوم سقطت على الأرض؛ والسماء انطوت؛ وَكُلُّ جَبَل وَجَزِيرَةٍ تَزَحْزَحَا مِنْ مَوْضِعِهِمَا. ويذكّرنا هذا الوصف بنبوات العهد القديم عن النقمة السياسية، مثل تلك التي نجدها في إشعياء ٣٤: ١-٤ ويوئيل ٢: ١٠-١١. وكانت هذه طريقة في القول إن الله يأتي بالدينونة النهائية التي ستدمر العالم الحاضر الشرير.

بين فك الختمين السادس والسابع، يوجد فترة فاصلة في الرؤيا ٧. وتصف هذه الفترة الفاصلة الكنيسة بطرق تشدّد على حماية الله لشعبه. أولاً، سمع يوحنا إعلاناً أن ١٢٠٠٠ من كل سبط من الأسباط الاثني عشر، أي ما مجموعه ١٤٤٠٠٠ شخص، ختمهم الله كشعبه الخاص. ورغم أن هؤلاء ١٤٤٠٠٠ فُسّروا بطرق مختلفة، فإن نص الرؤيا يقول إن يوحنا سمع إعلاناً عن ١٤٤٠٠٠، لكن عندما التفت ونظر، رأى شيئاً مختلفاً.

استمع كيف وصفهم يوحنا في الرؤيا 7: 9:

بَعْدَ هذَا نَظَرْتُ وَإِذَا جَمْعٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ، مِنْ كُلِّ الأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ وَالشُّعُوبِ وَالأَلْسِنَةِ، وَاقِفُونَ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الْخَرُوفِ.

كما تذكر فإن شيئاً مماثلاً حدث في الرؤيا 5: سمع يوحنا إعلاناً عن أسد، ثم نظر ورأى خروفاً. وأمر شبيه يحدث هنا. فقد سمع إعلاناً عن ١٤٤٠٠٠ يهودي، ثم نظر ورأى جمعاً كبيراً يتألف من يهود وأمم معاً. وفي الحالتين، سمع يوحنا كلمات مأخوذة من رموز العهد القديم، أسد وأسباط إسرائيل. لكن عندما التفت لينظر، رأى ما هو أعظم بكثير مما أُعلن. فرمزية الأسد قد تمّت في المسيح، ورمزية الأسباط تمّت في الجمع الكبير للمؤمنين من كل أمة.

بعد الفترة الفاصلة، نجد فتح الختم السابع وهو مدوّن في الرؤيا ٨: ١. لكن بدلاً من نهاية رائعة تصل إلى ذروتها في الخاتمة، كان هناك ببساطة سكوت. فالخليقة وقفت في رهبة. والسكوت خلق نوعاً من التوتر بالنسبة لقرّاء رؤى يوحنا الأوائل. فما هي هذه المرحلة النهائية الغامضة من التاريخ؟ والإجابة عن هذا السؤال ستُكشف في الرؤى التي تلت.

بعد أن تفحصنا الختوم السبعة، لننتقل إلى السلسلة الثانية من الرؤى التي تتعلق بالأحداث القادمة: الأبواق السبعة في الرؤيا ٨: ٢-١١: ١٩.

 

2. الأبواق السبعة

تتألف رؤيا الأبواق السبعة من سلسلة من الملائكة الذين يبِّوقون بالأبواق. في كل مرة بُوّق بوقٌ، نزلت دينونة جديدة على الأرض. من المهم أن نرى أن رؤيا الأبواق السبعة تشبه في بنيتها رؤيا الختوم السبعة. وتعرض هذه الرؤيا ستة أبواق، تتبعها فترة فاصلة، ثم البوق السابع. هذه الأبواق تذكّرنا بالأبواق في المقاطع النبوية في العهد القديم مثل هوشع ٥: ٨، ويوئيل ٢: ١، وعاموس ٢:٢ وزكريا ٩: ١٤. وهي أبواق تُبوَّق فيأتي الله بجنوده الملائكة، مستدعياً جيشه السماوي لمعاقبة أعدائه.

تشير الأبواق الأربعة الأولى في كتاب الرؤيا ٨: ٢-١٣ إلى الدينونات التي تمّت من خلال الجيوش الملائكية على المناطق الرئيسية الأربع في الخليقة. عندما بُوّق البوق الأول، حدث بَرَد ونار مخلوطان بدم وأُلقيا إلى الأرض. ثم بوّق البوق الثاني فإذا بشيء مثل جبل كبير أُلقي إلى البحر. بعد ذلك بوّق البوق الثالث فأُلقي من السماء كوكب ضخم على مصادر المياه العذبة، جاعلاً إياها مرّة وغير قابلة للشرب. ومع صوت البوق الرابع، تضررت السماء؛ وضُرب ثلثُ الشمس فأظلم ثلث النهار، والقمر فأظلم ثلث الليل. لكن على الرغم من قساوة هذه الدينونات، فقد دُمر ثلث كل منطقة فقط. مع ذلك، في ختام هذا الجزء، أنذر نَسر بقدوم دينونات أقسى.

أما نفخة البوق الخامس فهي مدوّنة في الرؤيا ٩: ١-١٢. فهي أطلقت العنان لجيش من الجراد الغريب. ووصف يوحنا هذا الجراد بشبه خيل مهيأة للحرب، وعلى رؤوسها أكاليل شبه الذهب، ووجوهها كوجوه الناس، وكان لها شعر كشعر النساء، وأسنان كأسنان الأسود وأذناب شبه العقارب. لكن قوتها كانت محدودة. فبإمكانها أن تؤذي الناس خمسة أشهر، وسُمح لها فقط أن تهاجم الأشرار.

أما نفخة البوق السادس فهي مدوّنة في الرؤيا ٩: ١٣-٢١. وقد أطلقت تلك النفخة أربعة ملائكة من نهر الفرات، شرعوا في قتل ثلث البشرية.

تبعت تلك الأبواق الستة فترة فاصلة في الرؤيا ١٠: ١-١١: ١٤. وفي سيناريو يشبه إعلان الله لحِزْقِيَالَ عن الدينونة في كتاب حِزْقِيَالَ ٢: ٩-٣: ٩، استلم يوحنا سفراً صغيراً يحتوي على رسائل نبوية وطلب منه أن يأكله. وقد كان طعمه حلواً مثل العسل، وهذه على الأرجح إشارة إلى الأخبار السارة بأن مخططات الله بالنسبة للعالم ستّتم دون تأخير. لكن السفر جعل أيضاً جوفه مرّاً، ما يشير على الأرجح إلى أن الألم سيلازم إتمام خطة الله.

أما القسم الثاني من الفترة الفاصلة فيدوّن لنا رؤية يوحنا لشاهدَين ماتا لأجل الإنجيل. فقد صنعا المعجزات، ودَعَا الناس إلى التوبة، وحذرا من الدينونة القادمة. لكن ما لبثا أن قُتلا على يد أعداء الله.

ألقت رؤيا يوحنا حول الشاهدَين الضوء على الصراع الأساسي الأبرز في التاريخ: ألا وهو الصراع بين يسوع المسيح وأعدائَهِ. فالشاهدان كانا قويين إلى درجة كبيرة، لكن خصومها كانوا أشد عداوة فقتلوا الشاهدان. وهذا التباين الصارخ يسلّط الضوء على حقيقة عدم وجود موقفٌ وسطيٌ في الصراع بين المسيح وأعدائه. فكل إنسانٍ إما للمسيح أو ضده.

بعد الفترة الفاصلة، بوّق الملاك السابع البوق السابع في الرؤيا ١١: ١٥-١٩، خاتماً سلسلة هذه الرؤى.

يدوّن لنا الرؤيا ١١: ١٥ هذا الإعلان في السماء عند صوت البوق السابع:

قَدْ صَارَتْ مَمَالِكُ الْعَالَمِ لِرَبِّنَا وَمَسِيحِهِ، فَسَيَمْلِكُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ.

يفتتح البوق السابع العبادة التي ستتّم في بلاط الله عندما يصبح انتصاره على كل ممالك العالم مُنجزاً، ويحقق دينونته النهائية على كل الخليقة. ويعود المسيح ليجدّد الأرض؛ وسيستعلن مجده بالكامل؛ وملك الله سيظهر بجلاء في كل الخليقة.

أما السلسلة الثالثة من الرؤى التي تتعلق بالأحداث المستقبلية فهي القصص السبع الرمزية في الرؤيا ١٢: ١-١٤: ٢٠.

 

3. القصص السبع

تشبه رؤيا القصص الرمزية السبع في بنيتها رؤى الختوم والأبواق: فالقصص الست الأولى مجموعة معاً، وتتبعها فترة فاصلة، ثم القصة الرمزية السابعة. لكن في الوقت الذي فيه ركزت رؤى الختوم والأبواق على الدينونات الإلهية، وصفت القصص السبع الصراع الروحي بين الشيطان وشعب الله. وتدور القصص في هذه السلسلة حول شخصيات رمزية رئيسية: المرأة، التنين، الوحش الطالع من البحر، الوحش الطالع من الأرض، و١٤٤٠٠٠ أَلْف مؤمن، ثم الملائكة المرسلون وابن الإنسان.

الشخصية الرمزية الأولى هي امرأة حامل متسربلة بالشمس. وقصتها موجودة في الرؤيا ١٢: ١-١٧، وتشبه هذه القصة قصة ولادة يسوع ومحاولة هيرودس قتله. والمرأة التي تمثل شعب إسرائيل المؤمن، ولدت يسوع، المسيح المنتظر. وأُخذ ولدُها إلى السماء، وهو ما قد يشير إلى قيامة يسوع وصعوده إلى السماء. لكن المرأة بقيت على الأرض واضطهدها تنين عظيم. لكن الله حماها فلم يقدر التنين أن يهزمها، لكنها عانت بسبب الصراع. وهذه القصة الرمزية تمثل حقيقة أن يسوع يتحدر من شعب الله الأمين، وأن المؤمنين الحقيقيين ما زالوا يتألمون بسبب الشيطان ومملكته. وقرّاء يوحنا الأولون فهموا أن هذا الصراع هو أساس مشاكلهم، واستمدوا التشجيع من حماية الله واعتنائه بالمرأة. كما لا بد أن يكونوا قد فهموا حاجتهم إلى الثبات، طالما أن صراعاتهم لن تنتهي في وقت قريب.

القصة الرمزية التي تلت تدور حول تنين أحمر ضخم، ووردت في الرؤيا ١٢: ٣-١٧. وهذه القصة قُدّمت في الوقت عينه مع قصة المرأة، لكن أشير إليها كآية مستقلة في الرؤيا ١٢: ٣. ويوصف التنين كتِنِّين عَظِيم أَحْمَر، لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ، وَعَلَى رُؤُوسِهِ سَبْعَةُ تِيجَانٍ. ويوصف في العدد ٩ كالشيطان نفسه. وفي رؤيا يوحنا ذنب التنين جرَّ ثُلْثَ نُجُومِ السَّمَاءِ وطَرَحَهَا إِلَى الأَرْضِ. وهذا العمل قد يشير إلى سقوط الملائكة وتحوّلهم إلى أرواح شريرة أو إلى اضطراب سياسي كما نجد في إشعياء ٣٤: ٤ ومرقس ١٣: ٢٥. وهجوم الشيطان على المرأة وابنها يسلّط الضوء على الصراع الشديد بين الشيطان وشعب الله.

في قصة التنين حصلت أيضاً حرب في السماء، فيها حارب ميخائيل وملائكته التنين. وطرح ميخائيل الشيطان وملائكته إلى الأرض. وبعد أن طُرح الشيطانُ إلى الأرض طارد المرأة ليضطهدها. لكن الله حفظها، فانتقل الشيطان إلى اضطهاد نسلها، أي المؤمنين الذين يطيعون المسيح ويحفظون شهادته. وأريدَ من هذه القصة الرمزية أن تساعد قرّاء يوحنا ليفهموا أنهم مضطهدون بسبب كراهية الشيطان لله، وهم في حرب روحية. لكن رغم ذلك، فإن الشيطان قد سبق وهُزم، وستواجه الكنيسة الاضطهاد فقط إلى حين انتهاء زمن التنين المحدود على الأرض.

القصة الرمزية الثالثة تدور حول الوحش من البحر وهي موجودة في الرؤيا ١٣: ١-١٠. وهذا الوحش له خصائص الأسد، والدب والنمر، ويشبه الحيوانات في دانيال ٧ التي تمثل ممالك وثنية. وهذا يشير إلى إن الوحش الذي من البحر يرمز إلى القوى السياسية التي تقاوم مملكة يسوع المسيح. كما كتب يوحنا أن للوحش ندبة رهيبة من جرح سابق مميت.

وأعطى التنين الوحش الذي من البحر قوة وسلطاناً على كل ممالك الأرض، وكل سكان الأرض سجدوا للوحش. حتى إنه أُعطيَ سلطاناً ليصنع حرباً مع القديسين ويغلبهم. وعلى الأرجح ربط قرّاء يوحنا الوحش بالإمبراطور الروماني أو بالإمبراطورية، وكذلك بعبادة الإمبراطور. وقد شعروا بالحاجة إلى مقاومة الوحش، وبالبقاء أمناء للمسيح.

أما القصة الرمزية الرابعة فتركّز على الوحش الثاني الذي طلع من الأرض. ونجد هذه القصة في الرؤيا ١٣: ١١-١٨. ولهذا الوحش قرنان مثل الخروف، لكنه يتكلم مثل التنين. وهو خدم الوحش الذي من البحر، وصنع معجزات ليجعل العالم يعبد هذا الأخير. كما ألزم الناس أن يقبلوا علامة الوحش على يدهم اليمنى أو على جبهتهم. وسعى هذان الوحشان أن يُخضعا العالم كله.

وقرّاء يوحنا ربطوا هذا الوحش الثاني بالعبادة الرومانية الرسمية التي فرضت عبادة الإمبراطور. وكما هي الحال بالنسبة للوحش الذي من البحر، فالغرض من هذه القصة هو حث القرّاء على مقاومة عبادة الأوثان والبقاء أمناء ليسوع.

القصة الرمزية الخامسة تتعلق بـ ١٤٤٠٠٠ مؤمن المنتمين إلى الله، وترد في الرؤيا ١٤: ١-٥. وانطلاقاً من حقيقة كون اسم الله مختوماً على جباههم، يبدو أنها الجماعة ذاتها المذكورة في الرؤيا ٧: ١-٨. وختم اسم الله على جباههم يتباين مع علامة الوحش على جباه الذين يطيعون الوحش على الأرض. وشاهد يوحنا في رؤياه هؤلاء ١٤٤٠٠٠ مؤمن واقفين على جبل صهيون يسبحون الله.

وهذه القصة الرمزية أكدت لقرّاء يوحنا أن المؤمنين الحقيقيين سينجون في النهاية من التنين والوحشَين وينالون بركة الله. وعلى الرغم من الاضطهاد الشديد، فسوف يوجد المؤمنون الأمناء طاهرون وبلا عيب.

القصة الرمزية السادسة هي رؤيا لثلاثة ملائكة مرسلين ونجدها في الرؤيا ١٤: ٦-١١. وفي رؤيا يوحنا، أعلن الملاك الأول البشارة الأبدية، داعياً كل الناس أن يخافوا الله ويعبدوه. وأعلن الملاك الثاني سقوط بابل العظيمة، عاصمة الذين يقاومون ملكوت يسوع المسيح. وأعلن الملاك الثالث الدينونة النهائية على جميع الذين تبعوا الوحش وعبدوه. وقد أعلن هؤلاء الملائكة أن إنجيل المسيح سينتصر على كل الممالك المعادية، وأنه عند عودة يسوع سيدان أعداؤه إلى الأبد.

ولا شك أن وصف يوحنا لهؤلاء الملائكة المرسلين قد شجّع قراءه أن يدركوا أنه على الرغم من أنه قد يبدو أحياناً أن الكنيسة تنهزم، فإن ملكوت المسيح سينتصر في النهاية على أعدائه. وإن كان أي من قرّاء يوحنا يفكر في عبادة الإمبراطور هرباً من الاضطهاد، فهذه القصة كانت بمثابة إنذار لمقاومة تلك التجربة.

بعد الملائكة المرسلين، أورد يوحنا فترة فاصلة في الرؤيا ١٤: ١٢-١٣. في هذه الفترة الفاصلة، حضّ يوحنا شعب الله على الثبات ومقاومة الحضارة الوثنية التي حولهم. وأعلنت أصوات من السماء أن الذين يبقون أمناء سينالون في النهاية بركة الله وراحته.

أما القصة الرمزية الأخيرة فتصف شخصاً “شبه ابن إنسان”، جالساً على سحابة بيضاء ويأتي ليجمع حصاده. ونجد قصته في الرؤيا ١٤: ١٤-٢٠. وعبارة “شبه ابن إنسان” مستخدمة أيضاً في الرؤيا ١: ١٣، حيث تشير هناك بالتحديد إلى يسوع. ومن الواضح من أحداث وسياق الرؤيا ١٤ أن ابن الإنسان هو المسيح. والصورة المجازية في هذه القصة مأخوذة من دانيال ٧: ١٣، حيث شخص “مثل ابن إنسان” يأتي على السحب ليدخل إلى بلاط الله السماوي.

في القصة الأولى في هذه السلسلة، قصة المرأة، يصوّر يسوع كطفل اختُطف إلى السماء. لكن في ذروة هذه القصص، يُصوّر يسوع كابن إنسان وهو يحصد حصاده من الأتباع الأمناء كما يحصد الحصَّاد الحبوب. ثم يظهر حصّاد ثان، وهذا الأخير هو ملاك، فيحصد سكان العالم الباقين ويعصرهم حتى يخرج دمهم في مَعْصَرَةِ غَضَبِ اللهِ الْعَظِيمَةِ. وهذه الرؤيا أعلنت الانتصار النهائي ليسوع. وهي تُظهر أن التاريخ يتحرك نحو أوج ذروته، حيث الأمناء ليسوع سيُبرَّرون ويكافؤون، لكن غير الأمناء سيهلكون.

لا شك في أن قرّاء يوحنا الأولين وجدوا ذلك مشجّعاً. ولا بد أنهم أدركوا أن ألمهم لا يجدر أن يقارن بالغضب الذي يسكبه الله على أعدائه. واستمدوا رجاء وثقة من حقيقة أنهم سيُبررون في النهاية ويتباركون.

لا شك في أنه من خلال سلسلة الرؤى للقصص الرمزية تَذكّرَ قرّاء يوحنا الأصليون أن المسيح قد سبق وغلب الشيطان على الصليب. وبما أن الشيطان فشل في أن يغلب المسيح في مجيئه الأول، يمكن للمؤمنين أن يكونوا واثقين تماما بأنه سيفشل هذه المرة أيضاً. ففي النهاية سيعود المسيح ويُهلك الشيطان ووحوشه. في غضون ذلك، سيعاني المؤمنون اضطهاداً من عدوهم المهزوم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.

وبعد أن فحصنا الختوم السبعة، والأبواق السبعة، والقصص الرمزية السبع، لننتقل إلى السلسلة الرابعة من الرؤى حول الأحداث القادمة: الجامات السبعة أو الكؤوس السبع لغضب الله في الرؤيا ١٥ و١٦.

 

4. الكؤوس السبع

تمثل رؤيا الكؤوس السبع سبعة ملائكة سكبت سبعة جامات ذهبية من غضب الله على الأشرار. وتتبع هذه الرؤيا البنية ذاتها التي للختوم والأبواق والقصص: ستة جامات تبعتها فترة فاصلة، وثم سُكب الجامُ السابع.

وهناك أيضاً نقاط تشابه ملفتة للنظر. على سبيل المثال، مثلُ الأبواقِ الأربعة الأولى، دمرت الجامات الأربعة المناطق الأربع الرئيسية في العالم: اليابسة، والبحر، والمياه العذبة والسماء. لكن فيما أصابت دينونات الأبواق ثلث الأرض، أثرت الجامات في العالم أجمع.

ضرب الجام الأول بوباء من القروح المؤلمة جميع الذين لهم سمة الوحش وسجدوا لاسمه. حوّل الجام الثاني البحر إلى دم. حول الجام الثالث مياه الأنهار وينابيع المياه إلى دم. وسبَّب الجام الرابع حرارة محرقة من الشمس. وعلى الرغم من هذه الضربات المدمّرة، لعن الناس الله ورفضوا أن يتوبوا.

وسُكب الجام الخامس على عرش الوحش. ويبدو واضحاً من الرؤيا ١٣ أن هذا الوحش هو الوحش الذي من البحر، الذي دعم بسلطانه الوحش الطالع من الأرض. وأغرق هذا الجام مملكة الوحش في الظلام، لكن أتباعه استمروا في لعن الله ورفضوا أن يتوبوا. عندما انسكب الجام السادس، نشف ماء نهر الفرات فاتحاً الطريق أمام ملوك الشرق أن يغزوا أرض الموعد.

وبحسب الرؤيا ١٦:١٦، كان هناك معركة حاسمة بين ملوك الشرق وشعب الله جرت في هرمجدون أي جبل مجّدو. كانت مجدو في إسرائيل القديمة مدينة رئيسية بمحاذاة طريق تجاري رئيسي بين مملكتَي بلاد ما بين النهرين ومصر. وكانت تحتشد عادة الجيوش الضخمة في وادي يزرعيل المجاور أو كما يطلق عليه في بعض الأحيان سهلُ زرعين. وقد حقق شعب الله في الماضي انتصارات عسكرية في مجدّو. لذلك، اعتبرت رمزاً مناسباً لوصف ذروة المعركة بين خدّام الله وأعدائه.

ثم توقفت رؤيا يوحنا لفترة فاصلة في الرؤيا ١٦: ١٥، حيث نقرأ هذا الإعلان:

هَا أَنَا آتِي كَلِصٍّ! طُوبَى لِمَنْ يَسْهَرُ وَيَحْفَظُ ثِيَابَهُ لِئَّلاَ يَمْشِيَ عُرْيَاناً فَيَرَوْا عُرْيَتَهُ.‏

مذكراً الكنيسة في سَارْدِس في الرؤيا 3 بالرسالة التي أرسلها إليهم، حيث يحث المسيح أتباعه على البقاء حذرين وأمناء في كل الظروف.

بعد الفترة الفاصلة، أَطلق الجام السابع الدمار النهائي للأشرار. فحدثت رعود وبروق، وحدثت زلزلة عظيمة، وشطر زلزال مدن الأمم، وغرقت الجزائر، وانهارت الجبال، وسحق بَرَد عظيم البشر. وكان ذلك نهاية الدهر، خراب الدهر الحاضر الذي سيحدث عند رجوع المسيح.

ختمت سلسلة الجامات السبعة رؤيا يوحنا عن الأحداث القادمة. فالختوم والأبواق والقصص والجامات كلها برهنت عن التزام الله بالتدخل في التاريخ ليضمن سلامة شعبه وبركتهم. في زمن يوحنا، بدت الإمبراطورية الرومانية منيعة أمام كنائس آسيا الصغرى. كذلك قد يبدو اليوم العديد من أعداء الكنيسة المعاصرين أقوياء. لكن الله مصمم على إبادة أعدائه وأعدائنا. ويجب أن يشجع ذلك كل مسيحي في كل عصر أن يبقى أميناً للمسيح، حتى عندما نواجه مقاومةً قاسيةً واضطهاداً.

وهنا بعد أن فحصنا رؤيتَي يوحنا الأولى والثانية، لننتقل إلى رؤياه عن عقاب الزانية العظيمة في الرؤيا ١٧: ١-٢١: ٨.

 

الزانية العظيمة


حدثت هذه الرؤيا في البريّة. وبحسب كتاب الرؤيا ١٧: ١ تركّز هذه الرؤيا بكاملها على عقاب الزانية العظيمة، بما في ذلك رجوع المسيح، ومعركة نهائية تنهزم فيها قوى الشر بالكامل، ومُلكِ الأوفياء للمسيح، والتجديدِ النهائي للسماوات والأرض. وقد صمم يوحنا هذا القسم ليلفت انتباه قرائه إلى البركات النهائية للأمناء للمسيح، واللعنات النهائية التي ستقع على غير الأمناء. والغرض من هذا التركيز الثنائي أن يحث قرّاء يوحنا على السعي وراء بركات الله وتجنب دينونته.

هناك سلسلتان أصغر من الرؤى ضمن رؤيا عقاب الزانية العظيمة. الأولى تتعلق بدينونة الله لبابل، وتركّز الثانية على مُلك القديسين. سننظر في كلتا السلسلتين، بدءاً بـدينونة بابل في الرؤيا ١٧: ١-١٩: ٢١.

 

1.دينونة بابل

مثل رؤى يوحنا للختوم، والأبواق والقصص والجامات، فرؤآه المتعلقة بدينونة بابل توجز تاريخ الكنيسة.

في الرؤيا ١٧: ١-٦، تُصوّرُ مدينة بابل كزانيةٍ ترتدي لباساً مغرياً، وَمُتَحَلِّيَةً بِذَهَبٍ وَحِجَارَةٍ كَرِيمَةٍ وَلُؤْلُؤٍ. ومظهرها وزناها يرمزان إلى كل الملذات المحرّمة التي تغوي شعب الله وتبعده عن العبادة الحقيقية والسلوك الأمين. لكن الملفت للنظر هو ظهورها في البرّية ما يعني أنها لا تستطيع تقديم عروض في الرفاهية والمتعة. ولتأكيد هذه الحقيقة، فهي تمسك بكأس مليئة بالأشياء البغيضة والقذارة من زناها.

وتجلس الزانية أيضاً على وَحْشٍ قِرْمِزِيٍّ لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ.‏ وهو الوحش الطالع من البحر الموصوف في الرؤيا ١٣. وهو مغطى بأسماء تجاديف، وهي ترمز إلى شر ووثنية الذين يتبعونه.

ومعنى هذه الصورة المجازية للزانية والوحش معلن في بقية السلسلة. فمثل السلسلة السابقة للختوم والأبواق والقصص والجامات فإن بنية هذه السلسلة تقدم ست رسائل دينونة ونواح، تتبعها فترة فاصلة. لكن عوضاً عن رسالة سابعة تصف القتال النهائي بين المسيح وأعدائه، فإن هذه السلسلة تنتهي برؤيا للمعركة نفسها.

الرسالة الأولى التي نجدها في الرؤيا ١٧: ٧-١٨، تشرح لنا تفاصيل رؤيا الزانية والوحش. يمكننا أن نلخص هذه الرسالة بقولنا إن الله سيُبيد بالكامل كل شخص أو شيء يقاومه.

الرسالة الثانية التي نجدها في الرؤيا ١٨: ١-٣، تعلن الهزيمة التامة لبابل وكل الأمم والملوك والتجار الذين أغوتهم.

أما الرسالة الثالثة المدوّنة في الرؤيا ١٨: ٤-٨، فتدعو شعب الله ليرفضوا بابل ويفصلوا أنفسهم عن فجورها.

أما الرسالة الرابعة المدوّنة في الرؤيا ١٨: ٩-٢٠، فتتضمن ثلاث مراثي لملوك وتجار وبحارة عبدوا الوحش واستفادوا من رفاهية بابل. من المؤسف، أن هذه المراثي لا توحي بالتوبة والإيمان بالمسيح. بل على العكس، فالملوك والتجار والبحارة نظروا بشوق إلى فترة ازدهارها السابقة.

تمثل بابل في كل من هذه الرسائل، كل أمة ومنظمة تناهض حكم المسيح. وتشجّع الرسائل أتباع المسيح عن طريق الإعلان أن الرب سيبيد كل هؤلاء الأعداء، وأن الأشرار سيكابدون خسارة ملذاتهم الفاجرة. لكن تحذّر هذه الرسائل أيضاً الكنيسة من اقتراف هذه الخطايا عينها، بحيث لا نسقط تحت تلك الدينونة عينها.

تظهر الرسالة الخامسة في دينونة بابل في الرؤيا ١٨: ٢١-٢٤، وتعلن خراب بابل الكامل والنهائي.

الرسالة السادسة في هذه السلسلة المدوّنة في الرؤيا ١٩: ١-٨، تتضمن التسبيح الحماسي لشعب الله في السماء، وتجاوباً مع الدينونة ضد بابل، فإن شعب الله الأمين يسبّحه. ويستمر تسبيحهم إذ يدركون أن الدينونة على بابل فتحت الطريق أمام زفاف الخروف الذي هو المسيح، وعروسه التي هي الكنيسة.

بعد ذلك، تقطع فترة فاصلة الرسائل في الرؤيا ١٩: ٩-١٠. في هذه الفترة الفاصلة، أُمِر يوحنا بأن يدوّن بركة لجميع المشاركين في عشاء عرس الخروف.

أخيراً، تنتهي هذه السلسلة من الرؤى بـالمعركة النهائية بين الله وأعدائه، المدوّنة في الرؤيا ١٩: ١١-٢١. ويظهر المسيح كالمحارب الإلهي ويشن حرباً ضد كل أعداء الله. ويقود هؤلاءِ الأعداءَ الوحشُ والنبيُ الكذاب، وهم على التوالي الوحش الذي من البحر والوحش الذي من الأرض الواردان في الرؤيا ١٣. والوحش والنبي الكذاب ينهزمان إلى الأبد دون قتال. استمع كيف يصف الرؤيا ١٩: ٢٠ سقوطهم:

فَقُبِضَ عَلَى الْوَحْشِ وَالنَّبِيِّ الْكَذَّابِ مَعَهُ، الصَّانِعِ قُدَّامَهُ الآيَاتِ … وَطُرِحَ الاثْنَانِ حَيَّيْنِ إِلَى بُحَيْرَةِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ بِالْكِبْرِيتِ.

وتختتم المعركة النهائية كل الحروب التي شنّها الله لصالح شعبه وتتمّم نصرة المسيح على الصليب.

وبعد أن تناولنا دينونة بابل، لنفحص السلسلة التي تتعلق بـمُلك القديسين في الرؤيا ٢٠: ١-٢١: ٨.

 

2.ملك القديسين

تتضمن هذه السلسلة حول مُلك القديسين ثلاثة أقسام، بدءاً بـملك الألف سنة للقديسين المسمّاة عامة الألفية في الرؤيا ٢٠: ١-١٠.

ملك الألف سنة. رأى يوحنا في هذا الجزء، ملاكاً نازلاً من السماء وربط التنين الكبير الذي هو الشيطان. وقد رأى يوحنا أنه للألف سنة المقبلة سيبقى الشيطان مربوطاً بينما يعود الشهداء المسيحيون الأمناء إلى الحياة ويملكون مع المسيح. وقد رأى يوحنا أيضاً أنه بعد الألف سنة، سيطلق الشيطان ليجمع الأمم لحربه النهائية ضد الله، ونجد وصفاً لهذه الحرب في الرؤيا ١٩. وفي نهاية هذه المعركة، سيباد أعداء الله إلى الأبد. حتى الشيطان نفسه سيطرح إلى الأبد في بحيرة النار والكبريت.

يدرك معظم المفسّرين أن رؤيا ٢٠، مثل بقية نبوّة يوحنا الرؤيوية، هي رمزية إلى حد بعيد. ويفسّر المؤمنون رموزه بطرق عديدة متفاوتة. في الواقع، من الصعب إيجاد نصوصٍ في كل سفر الرؤيا اختلف حوله المفسّرون مثل هذا النص.

يوجد عموماً أربع مدارس رئيسية في تفسير هذا المقطع. وكل مدرسة تسمى وفق فهمها للألفية أو الألف سنة المذكورة في هذا المقطع. وهذه المدارس الأربع هي: ما قبل الألفية التاريخية، ما قبل الألفية التدبيرية، اللاحق للألفية واللاألفية.

ما قبل الألفية التاريخية وما قبل الألفية التدبيرية هما منهجان يسمَّيان السابق للألفية، أي يؤمنان أن يسوع سيعود قبل بدء الألفية. بينما المنهج اللاحق للألفية فيعتقد أن يسوع سيعود بعد نهاية الألفية، ومنهج اللاألفية فيعتقد أن لا وجود لشيء اسمه الألف سنة، وأن يسوع يعود في نهاية الزمان. لننظر إلى كل واحد من هذه المناهج مع بعض التفاصيل الإضافية.

يُسمى ما قبل الألفية التاريخية تاريخي لأنه الموقف الذي يسبق الألفية وتتمسك به جماعات عديدة واللاهوتيون عبر تاريخ الكنيسة. وهو يعلّم أنه بعد عودة يسوع، سيُربط الشيطان ويدشن يسوع الألفية وهي فترة ألف سنة من السلام الأرضي والازدهار. وفي هذه الفترة سيستمر المؤمنون وغير المؤمنين بالعيش على الأرض. ثم عندما تنتهي الألفية، سيتمرّد الشيطان، وتتبعه الدينونة النهائية. ثم يبدأ مُلك الله الأبدي على السماوات الجديدة والأرض الجديدة. وهذا الرأي يعتبر أن الرؤيا ٢٠ يتبع زمنياً الرؤيا ١٩.

أما الرأي القائل بما قبل الألفية التدبيرية فقد بدأ التعليم عنه في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر. وهناك اختلافات ضمن هذا الرأي لا سيما بالنسبة لتوقيت الأحداث النهائية قبل الألفية. لكن بصورة عامة، يعلّم رأي ما قبل الألفية التدبيرية أنه عند عودة يسوع، سوف يردّ أمة إسرائيل ويملك بصورة ظاهرة على الأمم من عرشه في أورشليم. ونحو نهاية الألفية، سيقوم الشيطان بالتحريض على التمرّد، لكن الله سيهزم الشيطان وجيوشه بالكامل. وبعد ذلك ستتم الدينونة النهائية، ويبدأ ملك الله الأبدي على السماوات الجديدة والأرض الجديدة. ومثل موقف ما قبل الألفية التاريخية، يعتبر هذا الرأي أن الفصل ٢٠ من الرؤيا يتبع زمنياً الفصل ١٩.

على نقيض الموقف السابق للألفية التاريخية والتدبيرية، يعلّم رأي اللاحق للألفية أن يسوع سيعود بعد الألفية. ويعتبر الألفية ذاتها إما الفترة الكاملة بين المجيء الأول والثاني للمسيح، أو الألف سنة الأخيرة قبل عودته. في الحالتين، خلال الألفية يملك يسوع من السماء. وملكوته يمتد من خلال الإنجيل ليغطي الأرض كلها ويحسنها.

موقف اللاألفية يعني حرفياً “لا يوجد ألفية”. ويأخذ هذه التسمية من حقيقة رفضه أن تكون الألفية ألف سنة حرفية. وهو يعلّم أن الألفية تتألف من ملك المسيح على الأرض، من عرشه السماوي ومن خلال كنيسته؛ وأن يسوع سيعود في نهاية الدهر. وتتميّز اللاألفية عن اللاحقة للألفية في نواح عدة. فمن جهة، كل أشكال اللاألفية تؤكد أن الألفية هي الفترة الكاملة بين مجيء المسيح الأول ومجيئه الثاني. ومن جهة أخرى، لا تشدّد على أن الحكم الألفي ليسوع والقديسين سيوّسع الملكوت ويحّسن العالم. فمن وجهة النظر اللاألفية، سيختبر المسيحيون بركات الله والضيقة العظيمة على الأرض إلى وقت الانتصار النهائي الذي سيتحقق عند عودة المسيح.

من المهم لاتباع المسيح أن يدركوا أن المؤمنين الإنجيليين لا يتفقون دائماً، وأن مسألة الألفية كانت موضوع خلاف عبر التاريخ. لكن بغض النظر عن التفسير الألفيّ الذي نتبناه، يمكن أن يتفق كل المسيحيين الإنجيليين أن المسيح سيعود ويحقّق الانتصار النهائي على الشر، وأن الشيطان سينهزم في النهاية، وسيحيا شعب الله إلى الأبد تحت مُلك المسيح في خليقةٍ مجدّدةٍ. فنحن نتشارك جميعاً في القناعات ذاتها. ونتيجة لذلك، يمكننا جميعاً أن نجد تعزية كبيرة وتشجيعاً في تعاليم الكتاب المقدس حول الألفيّة.

يتناول القسم الثاني من السلسلة حول ملك القديسين، الدينونة النهائية لأعداء الله، في الرؤيا ٢٠: ١١-١٥.

الدينونة النهائية على أعداء الله. في هذا القسم من رؤياه، شهد يوحنا دينونة الله النهائية على كل البشر بحسب أعمالهم. وقد شملت هذه الدينونة جميع البشر الذين مرّوا بالحياة. أما المؤمنون الذين أسماؤهم مكتوبة في كتاب الحياة، فنجوا من غضب الله المريع، غير أن بقية البشر دينوا على خطاياهم. وهذه الناحية من الدينونة الأخيرة أزالت بالكامل حضور الخطية في العالم ونتائجها، وفتحت الطريق أمام السماوات الجديدة والأرض الجديدة.

أخيراً، يشدّد القسم الثالث، من هذه السلسلة حول مُلك القديسين، على الدينونة الأخيرة لشعب الله، في الرؤيا ٢١: ١-٨.

 الدينونة النهائية لشعب الله. رأى يوحنا أن الدينونة الأخيرة لشعب الله ستكون بركة عظيمة. فالسماوات والأرض ستصنعان من جديد، وأورشليم الجديدة ستنزل من السماء كعاصمة الأرض الجديدة. وتشير هذه الرمزية إلى حقيقة أنه في السماوات الجديدة والأرض الجديدة، سيسكن الله وسط شعبه. وقد فعل الله ذلك في القديم في جنة عدن، وفي المسكن وفي الهيكل. وهو الآن يسكن معنا في المسيح. لكن في السماوات الجديدة والأرض الجديدة، شركتنا مع الله ستكون حتى أعظم، لأنه سيعلن مجده بيننا، وسنعيش في حضوره الفعلي إلى الأبد.

بعد أن فحصنا رؤيا يوحنا لعقاب الزانية، لننتقل إلى رؤياه لامرأة الخروف. وهذه الرؤيا مدوّنة في الرؤيا ٢١: ٩-٢٢: ٥.

 

امرأة الخروف


في رؤياه الرابعة، أُصعد يوحنا إلى جبل عال. وبحسب الرؤيا ٢١: ٩، تتعلق هذه الرؤيا بالعروس، امرأة الخروف، التي هي أورشليم الجديدة. وتصف هذه الرؤيا الجمال والسلام والصحة والازدهار والمتع الأبدية التي ستوجد بعد أن يكون العالم قد تطهّر من وجود أعداء الله وتأثيرهم. ولا شك في أن قرّاء يوحنا الأصليين عندما قرأوا ذلك تشجعوا في السعي وراء بركات الله عن طريق العيش وفق مثله العليا منتظرين خلاصه الكامل الذي سيتمّ عند رجوع المسيح.

ويوجد وصف لأورشليم الجديدة في الرؤيا ٢١: ٩-٢٧. وقد أعدّ هذا الخلاصُ في السماء، ثم أُتي به إلى الأرض الجديدة. وكانت المدينة على شكل مكعب تام. في العهد القديم، كانت الأماكن الأقدس في المسكن والهيكل هي أيضاً مكعبة. وبطريقة مشابهة، كما أظهر الله حضوره المقدس في الأماكن الأكثر قداسة، سيعلن مجده لشعبه في أورشليم الجديدة.

كل من أبعاد أورشليم الجديدة وأوصافها، غالباً ما تشير إلى الرقم اثني عشر. وهذا الرقم مرتبط في العهد القديم بأسباط إسرائيل الاثني عشر، التي تمثل شعب الله في ذلك العصر. وفي العهد الجديد، يرتبط الرقم إثنا عشر بالرسل الإثني عشر الذين يمثلون شعب الله في العصر الحالي. وهذا يشير إلى أن أورشليم الجديدة، شعب الله موجودون بكل تنوعهم وحضاراتهم المتنوعة.

وفي داخل أورشليم الجديدة، يجري نهر الحياة من عرش الله إلى وسط المدينة. وهو يغّذي شجرة الحياة التي أوراقها تأتي بالشفاء إلى كل الأمم. وهذا يرمز إلى أنه في الأرض الجديدة ستستأصل لعنة الخطية من الخليقة، وسيتجدّد العالم بأسره، سيتجدّد بالكامل، ويُشفى من كل الصراعات مع الخطيّة التي ابتليت فيها البشرية الساقطة عبر التاريخ.

أخيراً، رأى يوحنا أورشليم الجديدة وهي تلمع بمجد الله. وعكست الجواهر والأحجار الكريمة في المدينة غناها وجمالها وبهاءها. وأكثر من ذلك، فإن إشراق الله ملأ المدينة، بحيث لم تحتج إلى أي مصادر أخرى للنور، بما في ذلك الشمس والقمر.

الآن بعد أن فحصنا مقدمة يوحنا لكتاب الرؤيا وسلسلة رؤاه السماوية، لننتقل إلى خاتمة الكتاب في الرؤيا ٢٢: ٦-٢١.

 

الخاتمة


ختم يوحنا كتاب الرؤيا بالتشديد على الرسائل الأساسية التي تكررت في رؤاه. وهو شدّد أن الرؤى التي استلمها موثوق بها، لأنها سلمت له من قبل ملاك الرب. وقد حثّ قراءه على المواظبة على الأعمال الصالحة لينالوا بركات عظيمة في السماوات الجديدة والأرض الجديدة. كما ذكّر يوحنا قراءه بأن تحقيق ملكوت الله والدينونة الأخيرة ما زالا في المستقبل. لذلك على المسيحيين أن يثابروا الآن بأمانة، وعلى الخطاة أن يغتنموا الفرصة ليتوبوا.

سفر الرؤيا هو رسالة لكل زمانٍ من الله لشعبه. بغض النظر عن وجهة نظرنا حول أزمنة وتحقيق رؤى يوحنا، فلا بد أن يتفق جميع المسيحيين على أن سفر الرؤيا مناسب لنا اليوم كما كان في أيام يوحنا. قد تختلف ظروفنا، لكن إلهنا لم يتغير. والقيّم والآراء التي علّمها يوحنا ما زالت مُلزِمةً لنا اليوم. ويمكننا أن نتشجع بصلاح الله في الماضي، والحاضر، والمستقبل. كما يمكننا أن نثق بحبه لنا وسيطرته على التاريخ. ويمكننا أن نتجاوب معه بالإيمان الآن وحتى نهاية حياتنا.

وبعد أن بحثنا عن قصد وتفاصيل كتاب الرؤيا، غدونا مستعدين أن نتناول موضوعنا الرئيسي الثالث: استراتيجيات تطبيق كتاب الرؤيا.

 


التطبيق


 

ينقسم بحثنا حول التطبيق الحديث للرؤيا إلى قسمين. أولاً، سنصف ونعقّب على أربع استراتيجيات شائعة في تطبيق كتاب الرؤيا. وثانياً، سنقترح استراتيجية متكاملة تستخدم عناصر من كل الاستراتيجيات الشائعة. لننظر أولاً إلى الاستراتيجيات الشائعة في تطبيق كتاب الرؤيا.

 

استراتيجيات شائعة


الأمر الأول الذي يجب أن نقوله هو أن كل واحدة من هذه الاستراتيجات الأربع لها أمرٌ مفيدٌ جداً تقدمه، لكن ولا واحدة منها كافية في حد ذاتها. وهذا يذكرني بالقصة القديمة لرجال عميان وفيلٍ، حيث يصف كل أعمى الجزء الذي يلمسه من الفيل، لكن لا يرى أي منهم الفيل بكامله. وهذه القصة موجودة في صيغ مختلفة في حضارات مختلفة. قد يلمس أحدهم رجل الفيل ويظن أن الفيل يشبه العمود. ويلمس آخر ذَيله ويظن أن الفيل يشبه الحبل. ويلمس آخر أذنه ويظن أن الفيل يشبه مروحة اليد. ويلمس آخر خرطومه ويستنتج أن الفيل يشبه أنبوب مياه، وهكذا. وتخمين كل واحد منهم صحيح، لكن ولا واحد منهم يرى الفيل الكامل.

وبطريقة مشابهة، هناك استراتيجيات شعبية كثيرة لتفسير كتاب الرؤيا. وتفحص كل استراتيجية رموز الرؤيا وتفك أسرارها من منظورها الخاص. لكن بما أن وجهات النظر هذه محدودة جداً، فإن كل رأي تفوته الصورة الكبيرة والمعنى الكامل الذي تقدمه الرؤيا.

يمكن الإشارة إلى الاستراتيجيات الشائعة في التطبيق التي سنفحصها في هذا الدرس كما يلي: الماضوي، المستقبلي، التاريخي والمثالي. ويختلف كل منها في طريقة تفسيره الفترة الزمنية التي يغطيها كتاب الرؤيا، والطريقة التي تحققت فيها رؤاه. وسننظر في الآراء الأربعة كل على حدة، بدءاً من الرأي الماضوي.

 

1.الماضوي

كلمة “الماضوي” تشير الى أمور حصلت في الماضي. لذلك فإن استراتيجية الماضوي تقول إن معظم النبوات في كتاب الرؤيا قد تمّت في الماضي البعيد.

أحد أشكال الرأي الماضوي يقول إن كتاب الرؤيا كتب قبل سقوط أورشليم في سنة ٧٠ م وأن معظم نبواته تمّت مع حلول تلك السنة. شكل آخر لهذا الرأي يشير إلى أن تلك الرؤى تمّت بسقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس للميلاد.

يساعدنا الرأي الماضوي بتشديده على قرّاء يوحنا الأولين. فهو يرى أهمية المعرفة المفصّلة للكنائس السبع في كتاب الرؤيا ٢ و٣. ويذكِرنا بالاضطهاد الحقيقي الذي واجهته تلك الكنائس. ويوفِر رابطاً بين المواضيع في الفصلَين ٢ و٣ وبقية كتاب الرؤيا. ويشدّد الرأي الماضوي بحق على أن يوحنا لم يكن يكتب بكل بساطة للأجيال المستقبلية، وأن اهتمام المسيح بقرّاء يوحنا الأولين وتشجيعه لهم يجب أن يفيد تطبيقنا العصري للكتاب. ومعظم أشكال الرأي الماضوي يمكن فهمها بأن الفصول الأخيرة من كتاب الرؤيا تتحدث عن عودة المسيح المستقبلية.

ويمكننا أن نستنتج العديد من التطبيقات المفيدة من هذه المقاربة لكتاب الرؤيا. على سبيل المثال، هي تعلمنا عن طبيعة الله، والطريقة التي يكافئ فيها البرّ ويعاقب الشر. وهي تساعدنا على فهم كيفية مواجهة الأزمات في عالمنا، وحتى تعطينا الأمل في المجيء المستقبلي للمسيح.

لكن على الرغم من هذه الأفكار القيّمة، فإن الرأي الماضوي لا يعطينا وجهة نظر متكاملة في الرؤيا. وأحد الأسباب وراء ذلك هو أنه يفترض خطأ أن الأدب الرؤيوي كتب فقط لزمنه، وليس للمستقبل البعيد. لكن الحقيقة هي أن العديد من المقاطع الرؤيوية في الأسفار المقدسة تشير إلى أحداث مستقبلية بعيدة، بما فيها دانيال ٧-١٢، متى ٢٤ و٢ تسالونيكي ١ و٢.

كذلك، الرأي الماضوي ضيّق جداً في تفسيره لجمل زمنية مثل الوقت قريب في الرؤيا ١: ١-٣ وأيضاً في نهاية الرؤيا ٢٢: ١٠. ويشدّد الرأي الماضوي على أن أقوالاً مثل هذه لا تشير إلى الفترة الزمنية كلها بين مجيئَي المسيح الأول والثاني، على الرغم من أن ذلك الزمن يقع مباشرة قبل الدينونة الأخيرة. بالإضافة إلى ذلك لا يقرّ الرأي الماضوي عادة بأن تسلسل الأحداث هذا يمكن أن يتغيّر بسبب حوادث تاريخية غير متوقعة. وكنتيجة لذلك، هو يميل إلى إغفال التحقيق المستقبلي البعيد للأحداث وينظر إلى التحقيق فقط في إطار القرّاء الأولين.

بسبب طبيعةِ تفسيره للرؤيا، لا يتحدث الرأي الماضوي كثيراً عن تطور ملكوت الله منذ القرن الأول. وهو لا يعدّ المسيحيين عبر التاريخ إلى الطرق التي يمكن لمعظم نبوات الرؤيا أن تتم في زمنهم. وهو لا يخلق حتى توقعاً بالاستشهاد المستمر والمقاومة المستمرة. في هذه الناحية وفي نواح أخرى، لا يقدّم لنا الرأي الماضوي كل مجالات التطبيق التي يمكن لسفر الرؤيا أن يقدّمها.

ومع هذا المفهوم للرأي الماضوي في ذهننا، لننتقل إلى الرأي المستقبلي.

 

2. المستقبلي

الرأي المستقبلي هو الرأي الذي يعتبر أن رؤى كتاب الرؤيا لن تبدأ تتحقق حتى الأزمة النهائية التي تسبق مباشرة مجيء المسيح ثانية. مثل الرأي الماضوي، الرأي المستقبلي له وجهة نظره. وهو يقول عن صواب إن كتاب الرؤيا ينظر بالدرجة الأولى إلى الأمام إلى الأحداث العظيمة المرافقة للمجيء الثاني للمسيح. ونرى هذا الاهتمام الرئيسي في مقاطع مثل الرؤيا ٢٢: ٢٠.

وينظر الرأي المستقبلي أيضاً بحق إلى يوم في المستقبل عند الدينونة النهائية، والتجديد النهائي للخليقة كلها الذي تدعمه مقاطع أخرى من الكتاب المقدس، مثل رسالة رومية ٨: ١٩-٢٥.

ويمكن تطبيق هذه التفسيرات بطرق عدة مفيدة. وهي تعطينا رجاء بعودة المسيح والدينونة وتجديد الخليقة في المستقبل. وهي تشجع المسيحيين في كل حقبات التاريخ أن ينتظروا ذلك الوقت.

لكن على الرغم من هذه الإسهامات الكبيرة، فإن الرأي المستقبلي يغفل النواحي التي يتكلم فيها كتاب الرؤيا إلى قرائه الأولين. في الواقع، هو يميل إلى التقليل من أهمية التطبيقات عبر الأجيال ما عدا التطبيق المتعلق بالجيل الذي يسبق عودة المسيح. وعلى الرغم من أن يوحنا أشار إلى سبع كنائس قديمة بأسمائها، وتوجه إلى واحدة منها بالتحديد، من الصعب بالنسبة للكنائس السبع المذكورة في الفصلَين ٢ و٣ أن تصدّق أن الكتاب كُتب دون أن يأخذ وضعهم بعين الاعتبار. بهذه الطريقة، يميل الرأي المستقبلي إلى جعل كتاب الرؤيا يبدو وكأنه غير مرتبط بمعظم القرّاء عبر التاريخ.

والان بعد أن بحثنا الرأيين الماضوي والمستقبلي، لننظر إلى الاستراتيجية الثالثة في التطبيق التي دعوناها بالرأي التاريخي.

 

3. التاريخي

يفترض الرأي التاريخي أن رؤى الرؤيا تقدّم موجزاً زمنياً لمسار تاريخ الكنيسة من القرن الأول إلى المجيء الثاني.

يقول الرأي التاريخي إن الفصول ٢-١٢ تتعلق بأحداث في القرون القليلة الأولى؛ أما الفصول ١٣-١٧ فتتعلق بفترة الإصلاح البروتستانتي؛ والفصول ١٨-٢٢ فتتعلق بالأحداث المحيطة بالمجيء الثاني.

ويقدّم الرأي التاريخي عدة أفكار قيّمة. فهو يرى عن صواب أن الرؤيا تبدأ بظروف السبع كنائس. وهو يربط عن صواب المشاهد النهائية بالمجيء الثاني. ويلاحظ بحق أن كتاب الرؤيا يتجه نحو ذروة، أي أن الأحداث تتطور أثناء قراءتنا للكتاب.

يقرّ الرأي التاريخي أن كتاب الرؤيا هو للكنيسة في كل العصور. ويشجّعنا على الثبات حتى عودة المسيح، ويقرّ بأنه عند رجوعه سوف يجدّد السماوات والأرض. وهو يذكّرنا بأن الله مسيطر على التاريخ، ولا بد أن تتمّ خطته بالكامل.

لكن للرأي التاريخي مشاكله في نواح أخرى. من بينها، هو يفترض أن كل النبوات في الرؤيا هي في ترتيب زمني دقيق. ويسد هذا الرأي الفجوات بين الكنيسة الباكرة، والإصلاح وعودة المسيح، عن طريق رسم ترتيب زمني من القرن الأول إلى الأخير، وربطه الرؤى بينها بأحداث تاريخ العالم.

لكن كما رأينا سابقاً في هذا الدرس، فإن بنية كتاب الرؤيا لا تتبع ترتيباً زمنياً ضيّقاً. ويمكن أن يعطي هذا المسيحيين شعوراً خاطئاً حول موقعهم في تاريخ الفداء، ويجعلهم يميلون أحياناً إلى تشاؤم غير مناسب أو إلى تفاؤل في غير محله. ويمكن حتى أن ينتج هذا الرأي شعوراً بأنه لا يمكننا الابتعاد عن الخط الزمني الذي نلاحظه في كتاب الرؤيا، كما لو أن أعمالنا عاجزة عن تغيير موقف الله وجعله يميل نحو الشفقة أو نحو الغضب، وعاجزة عن تغيير المسار الواضح للتاريخ.

مشكلة ثانية مع الرأي التاريخي هي اعتماده على الإصلاح البروتستانتي كنقطة رئيسية في كنيسة المسيح حول العالم. ويميل الرأي التاريخي إلى تجاهل الكنيسة الشاملة، حاصراً غالباً نبوات يوحنا بالأحداث ضمن المسيحية الغربية، وأحياناً بصورة أضيق بالأحداث ضمن المسيحية الأوروبية. وهذا الاتجاه يقلِل بطريقة غير مناسبة من دور الكنيسة في أجزاء أخرى من العالم. ويمكن أن يكون ذلك مُحبطاً جداً. وقد يدفع المؤمنين أن يفكروا في أن أعمالهم لا قيمة لها، وينتزع منهم حافزاً هاماً في السعي وراء النمو المستمر لملكوت الله في العالم أجمع.

بعد أن نظرنا إلى الآراء الماضوي والمستقبلي والتاريخي لننقل انتباهنا إلى الاستراتيجية الرابعة الشائعة في التطبيق: الرأي المثالي.

 

4. المثالي

عوضاً عن أن يدَّعي الرأي المثالي أن الرؤيا تصف أحداثاً في فترة زمنية معيّنة، يتمسك الرأي المثالي بأن المَشاهد في الرؤيا تصف أنماطاً عامة للحرب الروحية، وليست أحداثاً محدّدة أو فترات زمنية.

مثل الاستراتيجيات الشائعة الأخرى، يوفّر الرأي المثالي بصيرة قيّمة. فهو يعترف بالترتيب الموضوعي لبعض النبوات في كتاب الرؤيا. ويبرز حقيقة أن طرق إبليس هي في الحقيقة ثابتة عبر التاريخ، ما يجعل التنبؤ بها ممكناً.

ويميل الرأي المثالي إلى الاعتراف بالنمط العام للأمور الأخيرية المحققة التي سبق وبحثناها في هذه السلسلة. وهو يشدِّد على تطبيق الرؤيا على ظروفنا الحالية عن طريق التعميم أبعد من ظروف القرن الأول المحدّدة والأزمة النهائية. وهذه الأفكار تزيد من قدرتنا على قراءة واستخدام الرؤيا كما أرادها يوحنا. وهي تساعدنا على التركيز على طبيعة الله، وعلى طبيعة معاملاته مع العالم. وتعدّنا لنعيش له في كل فترات التاريخ، راجين عودة المسيح النهائية.

لكن للرأي المثالي أيضاً ضعفاته. ولعل ضعفه الأبرز هو عجزه عن ربط أي من الرموز في كتاب الرؤيا بأحداث تاريخية. وقد احتاج قرّاء يوحنا الأولون على الأقل إلى كتاب الرؤيا ليساعدهم على كشف معنى الأحداث التي كانت تدور في زمنهم. وكان كتاب الرؤيا مصمماً بصورة واضحة ليوفّر هذا النوع من الفهم عمَا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ. ونرى ذلك في بداية كتاب الرؤيا ١:١ وكذلك نحو نهاية الكتاب في الرؤيا ٢٢: ٦.

وكما نقرأ في الرؤيا ٢٢: ٦:

وَالرَّبُّ إِلهُ الأَنْبِيَاءِ الْقِدِّيسِينَ أَرْسَلَ مَلاَكَهُ لِيُرِيَ عَبِيدَهُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَرِيعاً.

وتوضح أعداد مماثلة أن كتاب الرؤيا متعلق مباشرة بأحداث عدة حقيقية حدثت في العالم الطبيعي. لكن الرأي المثالي لا يسمح لنا بأن نستمد هذا النوع من التطبيق المنطقي من هذه المقاطع.

والآن بعد أن نظرنا إلى الاستراتيجيات الشائعة الأربع في تفسير كتاب الرؤيا وتطبيقه على حياتنا العصرية، بتنا مستعدين لنقترح استراتيجية متكاملة.

 

استراتيجية متكاملة


وتبدأ استراتيجيتنا المتكاملة بالاعتراف بأن كلّاً من الآراء الماضوي والمستقبلي والتاريخي والمثالي، لها إسهاماتها البناءة في فهمنا للتأثير المعاصر لكتاب الرؤيا. من هنا، بدل أن نتجاهل بالكامل هذه الاستراتيجيات، فإن استراتيجيتنا المتكاملة توحّد الأفكار القيّمة لكل من هذه الآراء، بينما في الوقت عينه تتجنب عيوبها.

نحن نتفق مع الرأي الماضوي بأن نبوات كتاب الرؤيا وثيقة الصلة بالسبع الكنائس في آسيا الصغرى التي استلمت كتابه أولاً. لكننا نتفق أيضاً مع الرأي المستقبلي بأن بعض نبوات كتاب الرؤيا تتحدث عن أحداث تحيط بزمن رجوع المسيح ثانية والدينونة النهائية. ونتفق مع الرأي التاريخي بأن الله يسيطر على كل التاريخ، موجهاً إياه نحو ذروته عند عودة المسيح. ونتفق مع الرأي المثالي القائل بأن قوى الشر الشيطانية المرموز إليها في كتاب الرؤيا ما زالت تجربنا لكي نساوم على إيماننا.

يمكننا تلخيص الاستراتيجية المتكاملة في التطبيق على أساس أنها تتألف من قسمَين أو خطوتَين. أولاً، نحن نستخدم كل وسيلة متوفرة لنميّز بين المبادئ والحقائق في كتاب الرؤيا. ويمكن أن تكون هذه الحقائق عن طبيعة الله، حقائق عن تفاعله مع العالم، حقائق عن واجباتنا نحوه، حقائق حول مسار التاريخ، أو أي شيء آخر علمه يوحنا في كتاب الرؤيا. وثانياً، ننظر إلى أوجه الشبه بين ظروف قرّاء يوحنا الأولين وظروف حياتنا. وأوجه الشبه تلك تقود تطبيقنا.

الخطوة الأولى في التعرّف على المبادئ والحقائق في كتاب الرؤيا قد تكون معقّدة جداً، إذ إن الكتاب يعلّم حقائق عديدة. من هنا قد يكون من المفيد بالنسبة لنا أن نشير إلى بعض المواضيع الأهم التي شدّد عليها يوحنا. وهذه المواضيع يسهل تطبيقها على الحياة العصرية بطرق مناسبة.

على سبيل المثال، يمكننا النظر إلى حقيقة أن حياة المسيح وموته وقيامته وملكه السماوي جعلت منه مستحقُا لكل عبادة.

كما يمكننا التركيز على فكرة أن انتصار المسيح الكامل على الشر أكيد وان ملكوته لن ينتهي أبداً. ويمكننا أن نقف ضد القوى الشيطانية التي تعمل في هذا العالم وتسعى إلى خداعنا لنعبدها، عالمين أنها تستعبدنا وتلعن تابعيها بدل أن تباركهم. ويجب أن نتذكر أن أولئك الأمناء للمسيح في هذه الحياة سينالون المكافآت المجيدة في الحياة القادمة.

ويمكننا أن نتحفز لنتحمل المشقات، عالمين أن الاضطهاد الذي نتحمله صغير بالمقارنة مع غضب الله على أعدائه. ويمكننا أن نتعزى في حقيقة أن شعب الله الأمين سيُحفظ من هذه الدينونة الرهيبة. ونستمد الرجاء من معرفة أنه في يوم من الأيام ستُستأصل لعنة الخطية من هذا العالم، وسيسكن الله مع شعبه في سلام وخير كاملَين.

وفي هذه الأثناء، يمكننا أن نكون واثقين من أن الله سيبارك شهادة الكنيسة المستمرة، ويستخدمها لتجذب أناساً أكثر إلى الإيمان به.

الخطوة الثانية في إيجاد أوجه شبه بين قرّاء يوحنا الأولين وقرّاء اليوم يمكن أن تكون أيضاً معقّدة، إذ هناك الكثير من التفاصيل التي يجب أخذها بعين الاعتبار. من هنا يمكن أن يساعدنا وجود استراتيجية موثوق بها في إيجاد هذه الارتباطات.

إلى جانب أوجه الشبه الصغيرة العديدة التي يمكن ان نجدها بين أنفسنا وقرّاء يوحنا الأولين، هناك على الأقل ثلاث أوجه شبه بارزة يمكن أن تساعد على توجيه تطبيقنا.

أولاً، الإله ذاته الذي حكم الخليقة في القرن الأول، ما زال يحكم العالم اليوم. وهو ما زال يتحكم بالتاريخ ويحفظ شعبه ويسمع صلاتهم. وهو ما زال يستحق ولاءنا وشكرنا وتسبيحنا.

ثانياً، العالم ذاته الساقط والشرير الذي ضايق الكنائس في آسيا الصغرى، ما زال يضايق المسيحيين اليوم. وما زلنا نواجه القوى الروحية الشريرة ذاتها ونعاني من المشقات التي سببتها أحداث الطبيعة. وما زلنا نحارب ضد المرض والجوع.

وثالثاً، كذلك الكائنات البشرية ما زالت هي ذاتها. فنحن ما زلنا خطاة ونحتاج إلى الفداء، والشفاء، والى استرداد العلاقة مع الله. وتشبيهات مماثلة تجعل من كتاب الرؤيا مناسباً لنا اليوم كما كان في القرن الأول.

بطرق عديدة متنوعة يعطي كتاب الرؤيا الرجاء إلى كل المسيحيين في كل عصر، ورسائله أبدية مناسبة دائماً وقوية بالنسبة لنا كما كانت للكنائس السبع في آسيا الصغرى. ويمكن أن تشجعنا أن نبقى أمناء للمسيح في كل الظروف وتعطينا الأمل للمستقبل. ومهما بدت حياتنا سيئة أحياناً، فنحن في الحقيقة من الجهة الرابحة. وهذا الرجاء يمكن أن يسندنا، لأننا نعرف أنه في يوم من الأيام سيعود المسيح ليباركنا كورثة وحكّام في خليقته الأبدية الكاملة والثابتة.

 


الخاتمة


لقد قمنا في هذا الدرس بفحص القصد من كتاب الرؤيا من جهة عروضه للبركات وتهديداته باللعنات؛ كما فحصنا تفاصيل محتواه؛ ودرسنا تطبيقه المعاصر عن طريق النظر إلى بعض الاستراتيجيات الشائعة، والى استراتيجية أكثر تكاملاً في التطبيق.

رأينا خلال هذا الدرس، أن سفر الرؤيا يطمئننا من جهة انتصار الله النهائي، ويشجّعنا على الثبات، ويزيد من شوقنا إلى عودة المسيح. إن بركتنا المستقبلية مضمونة. ويمكن أن تعطينا التعزية والعزيمة في وقت التجربة أو حتى عندما نُضطهد. لم يقصد الله أبداً أن يكون هذا السفر سبباً في انقسام المسيحيين حول اختلافاتنا اللاهوتيّة. فقد قصد منه أن يشجّع كل مؤمنٍ في كل عصرٍ كي يعيشَ في طاعةٍ أمينةٍ له ويترجى العودة المجيدة لمخلصنا يسوع المسيح.


تم النشر بإذن من خدمات الألفيّة الثالثة.

شارك مع أصدقائك