التَعْرِيف
الكِتَابُ المُقَدَّسُ، بِعَهْدَيْهِ القَدِيمِ والجَدِيدِ معًا، هو القالبُ المَكْتُوب لإعلان الله الخاص لِشَعْبِهِ، والذي يُقَدِّمُ شهادَةً دائِمَةً وباقِيَةً، يوحِّدُ بها الرُّوحِ القُدُسِ شعبَ الله مع المَسِيحِ القائِم والصَّاعِد.
المُوجَز
الإِعْلانُ الإِلَهِيُّ، الذي يُعَدُّ عَطِيَّةً سَخِيَّةً جديرَةٌ بالانتباهِ، يأتي على شَكْلَيْن: إِعْلانٌ عامٌّ وآخر خَاصٌّ. ويَتَّسِمُ الإِعْلانُ العام المتاحُ للجميعِ في كلِّ مكانٍ بأنه واسِعٌ المدى (وإن كان بعيدًا عن أن يكون فارغَ المحتوى) بشأن ما يُعْلِنُه عن الله. هذا النَّوْعُ من الإِعْلانِ الإِلَهِيِّ موجودٌ في الخليقةِ وفي ضميرِ كلِّ إنسانٍ. أما الإِعْلانُ الإِلَهِيُّ الخاصِّ، فهو مُحَدَّدٌ في محتواه، وفعَّالٌ في تأثيرِهِ. وعن طريقِهِ يُعْلِنُ اللهُ لِشَعْبِهِ أسرارِ الإيمان والمعرفة الشخصية بالمسِيحِ. الكِتَابُ المُقَدَّسُ هو القَالِبُ المَكْتُوبُ للإِعْلانِ الخاص، الذي يُقَدِّمُ لِشَعْبِ الله شهادَةً دائِمَةً عن عَمَلِ اللهِ فِي المَسِيحِ، على أن هذا الكِتَابَ المُقَدَّسَ هو نَفْخَةٌ من الله بِرُوحِهِ، الذي سَاقَ الكَتَبَةَ وهم يكتُبُون أسفارَهُ.
الإِعْلانُ الإِلَهِيُّ فَائِقٌ
كمسيحيين، نتعامَلُ مع إعلانِ الله عن ذاتِهِ كأَمْرٍ مُسَلَّمٌ بِهِ. ولكن إن تَأَمَّلْنا هوية الله، فليس هناك أروع مما أَعْلَنَهُ. وهذا صحيحٌ لأسبابٍ عديدَةٍ. أولاً، الله هو الخَالِقُ غيرُ المحدود، الأزلي، غيرُ المُدْرَكِ. في المقابِلِ، نحن مخلوقاتٌ محدودَةٌ. والله ليْسَ أعظمَ في القَدْرِ فقط، كما لو أنه أكبر ومع ذلك لا يزالُ في مجالِ خبرتنا الحسِّيَّةِ كمخلوقاتٍ. كلا! هذا الإله من جهةِ الجوهرِ لا يُقَاسُ؛ إنه مُخْتَلِفٌ تمامًا. هذا التَّمْييزُ الأَسَاسِيُّ بين الخَالِقِ والمخلوقِ يَسُودُ قِصَّةَ الكِتَابِ المُقَدَّسِ، لأن هذا، كما يشيرُ الأنبياءُ مِرَارًا وتِكْرَارًا، هو ما يُمَيِّزُ يهوه عن الآلهة المُبْتَدَعَةِ للأمم المحيطة بِشَعْبِ الله. عبادة الأصنام هي خُلْطٌ بين المخلوقِ والخالِق. كُلُّ هذا يعني أن هناك مسافَةً لا نهائِيَّة بين الله والإنسانِ، لأن الله غيرُ مخلوقٍ.
يا لَهُ من أَمْرٍ مذهلٌ أن يتنازل هذا الخالِقُ غيرُ المُدْرَكِ ليُعرِّفَنا نَفْسَهُ، نحن المخلوقاتِ الهَشَّةَ، حَتَّى يَتَسَنَّى لنا أن نَعَرِفَهُ بالحقِّ، مع أننا لن نتمكن أبدًا من الإحاطةِ به تمامًا! عَبَّرَ چون كالفن ببلاغةٍ عن هذا الأمر بالقول: “اللهُ كالمُرَبِّيَّة التي تُثَرْثِرُ مع طفلٍ حديثِ الولادَةِ”. هذا التَّكَيُّف الخاص بالإعلان فائقٌ للطبِيعَةِ، إلا أنه مُناسِبٌ أيضًا لأن الله اخْتَارَ أن يَخْلُقَنا على صورتِهِ.
لكن هناك سَبَبٌ آخرٌ يجعَلُ الإِعْلانَ الإِلَهِيَّ فائقًا على نحوٍ استثنائيٍّ. قداسَةُ الله لا تُمَيِّزُهُ فقط باعتبارِهِ كائنًا سامِيًا غيرَ محدودٍ، بالأحرى تُمَيِّزُهُ بوصْفِهِ البَارُّ. لكن هذا الأمر يثيرُ مُشْكِلَةً. نحن لَسْنَا أبرارًا فقط، بل خطاةً، مُذْنبِين، فاسِدِين، ومَلَطَّخِين بالخَطِيَّة في كلِّ جُزْءٍ من كِيانِنَا. والمذهل بما يكفي ليس فقط أن الله الأَبَدِيَّ، وغيرَ المحدودِ قد خَلَقَ البشر وتَكَلَّمَ معهم، بل أنه اسْتَمَرَّ في التواصُلِ معهم حتى بعد أن سقطوا في قبضَةِ الخَطِيَّةِ. كان من الصَّائِبِ أن يَبْقَى صَامِتًا عندما تمرَّدَ عليه آدم وحوَّاء، فيؤَدِّي صَمْتُهُ إلى الانفصِالِ التَّام والدينونة. لكنه لم يبقَ صامِتًا؛ بل تَكَلَّم، وأَعْلَنَ كلمةَ الفداءِ للبشرية. وفي النهاية، بَلَغَتْ كلمةُ الوَعْدِ الأُولَى في التَّكْوِين 15:3 ذروتَها في الكلِمَةِ المُتَجَسِّدِ (يُوحَنَّا 1:1، 14)، الأَمْرُ الذي يُظْهِرُ أن إِعْلانَ اللهِ صارَ شخْصًا. فالكلمةُ ليس إلا الرَّبَّ يَسُوع نفسه، ابْنَ الله الأزلي المُتَجَسِّدِ من أجلنا ومن أجل خَلاصِنا. لهذه الأَسْبابِ، الإِعْلانُ عَطِيَّةٌ، بل هو عَطِيَّةٌ استثنائِيَّةٌ جدًّا.
السَّمَاواتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ الله: الإِعْلانُ العَامِ
لكن ينبغي التَّمِييزُ بين نَوعَي الإِعلانُ. أولاً، هناك الإِعْلانُ العَام. وَيُسَمَّى هكذا لأنه (١) مُوَجَّهٌ للجميعِ في كلِّ مكانٍ، ولأنه (٢) وَاسِعٌ المَدَى (وإن كانَ بعيدًا عن أن يكونَ فَارِغَ المحتوى) من جِهَةِ ما يَقُولُهُ عن الله، على سَبِيلِ المِثَالِ، لا يُعلِنُ الإِعْلانُ العام الثَّالُوثَ أو شَخْصَ يَسُوعَ المَسِيحِ وعَمَلَه، لكنه يُعلِنُ الله كَخَالِقٍ للكَوْنِ ويُظْهِرُ الكثيرُ من صِفَاتِهِ الإِلَهِيَّةِ كالسُّمُوِّ، الجَلَالِ، القُدْرَةِ، السَّيِادَةِ المُطْلَقَةِ، وما إلى ذلك (المَزْمُور 3:19-4؛ 4:29؛ 2:93؛ 1:93-5؛ 24:104؛ أَعْمَال الرُّسُل 15:14-17؛ 24:17-27؛ رُومِيَة 19:1-20، 32؛ 15:2-16). وهو لا يَفْعَلُ ذلك لِشَعْبٍ محدَّدٍ فقط، بل لجميعِ النَّاس عَبْرَ كلِّ الأزمان. والسَّبَبُ في نطاقِهِ الكَونِيِّ موجودٌ في وسيلَتِهِ ذاتِها.
بأيَّة وسيلَةٍ يَتَلَقَّى الإنسانُ هذا الإِعْلانَ العام؟ هناك طريقتان: (1) عن طريقِ الضَّمِيرِ الداخِلِيِّ في الإنسان، (2) عن طريقِ النظامِ المخلوقِ (أي الطَّبِيعَةِ).
خُلِقَ الإنسان على صورةِ الله (التَّكْوِين 27:1)، مما يعني أن البَصْمَةَ الإلهية تُمَيِّزُهُ. في كتابِهِ بعنوان: “أُسُس الدين المسيحي”، يقول كالفن إن: “بذور الدِّين كامِنَةٌ داخل عقولِنَا، حتى أن الإنسان يتَّسِمُ بحسٍّ يَشْعُرُ بالله (الكتابُ الأول 2:3). لا يستطيع الإنسان، مهما أُوتِي من قُوَّةٍ، أن يَهْرَبَ من الأخلاقِ المُتَأَصِّلَةِ في تَكْوِينِهِ كمخلوقٍ مصنوعٍ لِيُعَبِّرَ عن صُورَةِ خَالِقِهِ (رُومِيَّة 32:1؛ 14:2-16). إلا أن الخليقَةَ أيضًا تَحْمِلُ شهادَةً عن وجودِ الخالِقِ. اسْتَمِعْ إلى كلماتِ المَلِكِ داود في المَزْمُور 1:19-2:
السَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ. وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَمًا. وَلَيْلٌ إِلَى لَيْلٍ يُبْدِي عِلْمًا.
ينبغي أن يتأمَّل المَرْءُ أيضًا المزامير التي تقدِّمُ عباراتٍ بنفس المضمون (المَزْمُور ٨؛ ٩٣؛ ١٠٤). يؤكِّد الرَّسُول بُولُس أيضًا بِقُوَّةٍ على نَفْسِ الأَمْرِ وذلك بقولِهِ: “لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ” (رُومِيَة 20:1).
المشكلة هي أننا، كخطاةٍ، نحاول قَمْعَ الإِعْلانَ العام، مما يعني أنه يكفي فقط لإدانتنا (رُومِيَة 20:1-21؛ 14:2-16)، لكنه لا يكفي لخلاصِنا. إذًا، المطلوبُ إِعْلانٌ خاصٌّ، إِعْلانٌ لا يكون محدَّدًا في المحتوى فقط، بل فَعَالٌ تمامًا في تأثيرِهِ، ضارِبًا بجذورِهِ في شعبٍ محدَّدٍ بالإيمان. إننا نعْرِفُ الله كخالقٍ ودَيَّانٍ بفضلِ الإِعْلانِ العام، لكن إن لم يكُنْ هناك إِعْلانٌ خاصٌّ، لن نَعْرِفَ هذا الخَالِقَ كمُخَلِّصٍّ لنا.
من خالِقٍ إلى مُخَلِّصٍ: الإِعْلانُ الخاصُّ
من باب نِعْمَتِهِ، قَدَّمَ الله إِعْلانًا خاصًّا بطرُقٍ عَدِيدَةٍ. إن نظرَةً سرِيعَةً على الطَّرِيقَةِ، التي بها أَعْلَنَ الله نَفْسَهُ لِشَعْبِهِ، إِسْرَائِيل في العَهْد القَدِيمِ، تُظْهِرُ أن إِعْلانَ الله الخاص، والمرتبط بالفداء، هو غايَةٌ في الثَّرَاءِ، فقد جَاءَ عَبْرَ مجموعَةٍ متنوِّعَةٍ من الوسائِل كالتجَلِّيات الإِلَهِيَّةِ، الأحلامِ، الرُّؤى، الملائِكَةِ، الكلامِ المباشرِ، الآياتِ المعجِزِيَّةِ، وبشكلٍ نهائي بالمَسِيحِ نفسِهِ. في واقع الأمرِ، أشارتْ كلُّ أَشْكَالُ الإِعْلانِ السَّابِقِ إلى الإعلان الإلهي الذي لم يكُنْ شيئًا سوى ابْنَ الله نفْسَهُ. لم يأتِ يسوعُ المَسِيحُ، على غرار أنبياءِ العَهْدِ القَدِيمِ، لِيَنْقُلَ لنا إعلانًا من الله فقط، بل إنه بذاتِه إعلان الله عن نفسِهِ لأنه الإله المُتَجَسِّد (العِبْرانيِّين 1:1؛ يُوحَنَّا 1:1). يسوعُ المَسِيحُ لا يأتي برسالَةٍ فقط؛ بل هو نفسُهُ الرِّسَالةُ.
لكن على الرُّغم من أهميَّة هذه الوسائِلِ، فقد شَاءَ الله، بعنايتِهِ الحكيمَةِ، أن تأتي شهادَتُه الباقِيَةُ والدَّائِمَةُ عن نفسِهِ عن طريقِ كلِمَةٍ مَكْتُوبَةٍ، هي الأَسْفَارُ المُقَدَّسَة، أو ما نطلقُ عليه نحن المسيحيين الكِتَابَ المُقَدَّسَ. وإن كان المسيحُ قد صَعَدَ إلى السَّمَاواتِ بعد قيامته من بين الأموات، فإن الكِتَابَ المُقَدَّسَ هو هِبَةُ الرُّوح الدَّائِمَةُ والحاضرةُ دائمًا وسْطَ شَعْبِ اللهِ، والذي به يُوَحِّدُنا الرُّوح القُدُس مع ربِّنا يسوع المَسِيحِ القائم والصَّاعِد. نحن لا نَعْرِفُ المَسِيحَ بعيدًا عن كلامِهِ المَكتُوبِ؛ فعن طريق هذا النَّصِّ الموحَى به من الله يُعرِّفُنَا الرُّوح القُدُس بِالمَسِيحِ بطريقَةٍ تقودُنا للخلاصِ. ومع أن الكِتَابَ المُقَدَّسَ لا يبدو إلا قالِبًا واحدًا من قوالِبِ الإِعْلانِ الخاصِّ، إلا أنه القَالِبُ الدَّائِم الذي شاءَ الله لِشَعْبِهِ أن يمتلِكَهُ ويحيا بِهِ كمصدرٍ للإيمانِ والسُّلوكِ.
الكَلِمَةُ المُقَدَّسَةُ المَكْتُوبَةُ: الوَحْيُ
ومع ذلك، لا ينبغي أن نَنْسَى أن هذه الكلِمَةَ المكتوبةَ من إلهنا المثلث الأقانيم لم تَنْزِلْ علينا من السَّماءِ دَفْعَةً واحِدَةً، بل أعلنها الله تدريجيًّا على مَرِّ التاريخ وبأيادٍ بَشَرِيَّةٍ. فَخُطَّةُ الفداءِ الإِلَهِيِّ معلَنَةٌ عبرَ الأَسْفَارِ المُقَدَّسَةِ، كانَتْ في البدايَةِ على شَكْلِ بِذْرَةٍ، ازدَهَرَتْ أكثر بعد ذلك عندما اخْتَارَ الله إعلانَ الطرِيقَةِ التي تصلُ بها تلك الخُطَّةُ إلى ذُرُوَتِها في النهايَةِ بموتِ وقيامَةِ ابنِهِ يَسُوع المسيح. وقد تَحَقَّقَ هذا في سياقِ عُهُودِ اللهِ الخلاصِيَّة. على سَبِيلِ المِثَالِ، في سيناء، دَخَلَ الله في عَهْدٍ مع شعْبِهِ، إِسْرَائِيل. أُعْطِيَ دستورُ هذا العَهْدِ للنَّبِيِّ مُوسَى مكتوبًا بإصْبِعِ الله على لَوحَيْن من الحجارَةِ (التَّثْنِيَة 10:9)، فقد كَانَ هذا العَهْدُ اتفاقًا ينبغي على إِسْرَائِيل أن يحيا بِموجَبِهِ.
مع تَقَدُّمِ القِصَّةِ، يقَدِّمُ الله مَزِيدًا من الإِعْلانِ المكتوبِ عن طريقِ أنبيائِهِ. لم يَتَكَلَّمْ الأنبياء بِكلمَةِ الله إلى شعْبِهِ فقط، بل أحيانًا كان الله يُطَالِبُهُم بتدوينها، وذلك أثناء عَمَلِهِم كجِهَةِ دفاعٍ عن العَهْدِ ضدِّ شَعْبٍ عاكِفٌ على خيانَتِهِ (انْظُرْ عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ سِفْرَ إِرْمِيَا). لا عَجَبَ إذًا أنه بعد مجيءِ المَسِيَّا الموعود – الذي وَعَدَتْ به وتنبَّأت عنه أَسْفَارُ العَهْدِ القَدِيمِ – يَشْرَعُ هذا المَسِيَّا في الإعلانِ عن بُشْرَى الإنجيلِ السَّارَةِ إلى تلاميذِهِ. وبوصْفِهِم سفراءً عنه، قاموا بدورهم بِنَشْرِ بشارة خلاص المسيح أولاً بالمناداة بها (انْظُرْ سِفْرَ أَعْمَال الرُّسُلِ)، وبكتابَةِ الرَّسَائِلِ أيضًا، تلك الرَّسَائِل المُوحَى بها بالرُّوحِ القُدُسِ، لِتَعْلِيمِ الكنيسَةِ وبنائِها.
للتَّوضِيحِ، هذه الأَسْفَار المُقَدَّسَة، التي نُطْلِقُ عليها الآن العَهْدَيْن القَدِيمِ والجَدِيدِ (مدركين أن لفظَةَ “عَهْدٍ testament” بمعنى “أسفار” تعني “عَهْدًا” بمعنى “اتفاق، تحالف covenant“)، لم تخرجْ إلى الوجودِ بطريقَةٍ غيرِ حرفِيَّةٍ كالمعتادِ، كما لو أنَّ زَكَرِيَّا أو بُطْرُس، عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ، اضْطَرَّا إلى الصُّعودِ إلى جَبَلِ سيناء مثل النَّبِيِّ مُوسَى للإتيان بكلمَةِ الله المكْتُوبَةِ. من المؤكَّد حقيقةً أن حادِثَةَ جبل سيناء كانَتْ استثناءً لا يُمَثِّلُ قاعدةً عامة. غالبًا ما عَمِلَ الله بِطُرُقٍ عادِيَّةٍ عن طريق البشر العادِيِّين الذين خَصَّهم بِعَمَلِ وَحْيِهِ (عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ، كَتَبَ داود، الرَّاعي الصَّبِيُّ الذي صار مَلِكًا، المزامير؛ وكَتَبَ الصيادون الذي صاروا تلاميذًا، الرَّسَائِل إلى الكنائِس).
إن لفظةَ “وحيٍ” لفظةٌ مِفْتاحِيَّةٌ. لا تعني أن الكتبةَ البشريين للكِتَابِ المُقَدَّسِ قد قاموا فقط بتدوين خبراتِهِم الدينية، كما لو أنَّهم رأوا ما فعله الله، فانبهروا به حتى أنهم دوَّنوه من أجل أن يأتي الله ويتبناه كعملٍ له. ربما يكون هذا هو الاستخدام الشائع لِلَفْظَةِ “وَحْيٍ” اليوم، لكن هذا ليس ما يعنيه الكِتَابُ المُقَدَّسُ نفسُه بهذه اللفظةِ. عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ، تأمَّل مَلِيًّا كلماتِ الرَّسُول بُولُس لِتِيمُوثَاوُس عن الكِتَابِ المُقَدَّس، كلِّه لا بَعْضَ الأجزاءِ منه: “كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ الله θεόπνευστος ….” (2 تِيمُوثَاوُس 16:3). بتعبيرٍ آخر، لا يبدأ أصلُ الكِتَابِ المُقَدَّسِ بالكَتَبَةِ البشريين، بل باللهِ نَفْسِه.
الوَحْيُ بوصفه متزامنًا
كيفَ أَوْحَى الله بالأَسْفَارِ المُقَدَّسَةِ؟ ربما يكونُ هذا أمرًا غامضًا، إلا أن الرَّسُول بُطْرُس يُقَدِّمُ لنا نَظْرَةً خاطفةً تزيحُ هذا الغُمُوضَ عندما يقول: “لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ” (2 بُطْرُس 21:1). وَصَفَ وارفيلد B. B. Warfield هذا الأَمْرِ باسم “التزامن”، أي أن هناك عمليةً متزامنة بين الكاتِبِ البَشَرِيِّ والرُّوحِ، مع أن الأخير هو الأساسُ. وذلك جَلِيٌّ بِقَدْرٍ كبيرٍ عندما يُشِيرُ الرَّسُول بُطْرُس إلى أن الرُّوح القُدُس هو الذي “سَاقَ” أنبياءَ العَهْدِ القَدِيمِ. إن مضمون الفعل “سَاقَ” يشبِهُ سفينةً في البَحْرِ تسوقُها الرِّيحُ (أَعْمَال الرُّسُلِ 15:27، 17)، لقد اشْتَغَلَ الرُّوح القُدُس على الكتبةِ البشريين عاملاً فِيهِم بطريقَةٍ جَعَلَتْ ما قالوه هو عَيْنُ ما يقولُهُ اللهُ ويَقْصِدُهُ.
على أن الرَّسُول بُطْرُس ليس وحده في هذا الاعتقاد، إذ يمكِنُ رؤيتُهُ في تعاليمِ يَسُوع نفسُهُ كلَّما أَشَارَ إلى كاتِبٍ ما في العَهْدِ القَدِيمِ والرُّوح القُدُس كمرادِفَيْن (مَرْقُس 36:12-37). الافتراضُ السَّائِدُ عَبْرَ أسفار العَهْدِ الجَدِيدِ هو أن الأَسْفَار المقدَّسَة الخاصة بيسوع المسيح والرُّسُل (أيْ أسفارَ العَهْدِ القَدِيمِ) لَيْسَتْ إلا كَلِمَةُ الله المُوحَى بها بالرُّوح القُدُسِ لِشَعْبِهِ. كما سلَّمُوا بأن الأَسْفَارَ المقدَّسَةَ موحًى بها ليس فقط من جهة رِسَالَتِها العامة، بل في مُجْمَلِها، وصولاً إلى مفرداتِها (الوَحْيُ لَفْظِيٌّ تامٌّ).
يَقِينُ الوَحْيُ: الإِنْجِيلُ
بينما يقَرِّرُ الرَّسُول بُولُس هذا صَرَاحَةً في ٢ تِيمُوثَاوُس 16:3، يشير الرَّبُّ يسوع وكَتَبَةُ الإنجيلِ إلى نَفْسِ الشَّيءِ، لكن بإشاراتهم المتكَرِّرَةِ بشأن تحقيق أقوال الأَسْفَار المُقَدَّسَة في شخصِ المَسِيحِ وَعَمَلِهِ (لُوقَا 21:4؛ انْظُرْ أيضًا رواية الإنجيل بحسب البَشِيرِ مَتَّى الزاخرة بالتعبيرات: تَمَّ، يَتِمُّ، لكي يَتِمَّ). لقد تَحَقَّقَتْ في شخصِ وَعَمَلِ الرَّبِّ يسوع المسيح مواعيدُ الله العَهْدِيَّةِ في الأَسْفَارِ المقدَّسَةِ، وهذا التحقيقُ يُعَدُّ أعظمَ شهادَةٍ لأَصْلِها الإِلَهِيِّ. فإن تَعَيَّنَ على المَرْءِ البَحْثِ عن اليَقِينِ بأنَّ الكِتَابَ المُقَدَّسَ ليس إلا وَحْيًا إلهيًّا، لا يحتاجُ إلى شَيءٍ بعد سوى قراءة الإنجيل نفسِهِ. حينئذ سوف يكتشف أن الله قد وَفَى بكلِمَتِهِ.