التعريف
النعمة المُخلِّصة هي عمل شخص الله وحضوره المجاني الذي لا نستحقه، وهو ما يبدأ الحياة الروحية لشعب الله.
المُلَخّص
النعمة المُخلِّصة هي تَفضُّل الله غير المُستَحَق الذي يصنع به المُصالحة مع الخطاة بواسطة يسوع المسيح. وهي تختلف عن الرحمة؛ فالنعمة هي صلاح الله نحو الخطاة، بينما الرحمة هي صلاح الله نحو المتألمين. هذه النعمة ذات سيادة؛ فالله يمنح الحياة الروحية الجديدة لمن يشاء. وهذه النعمة غير مشروطة؛ فلا يمكن كسب نعمة الله المُخلِّصة. إن النعمة المُخلِّصة هي الأساس لعطايا الله التي هي بالنعمة والأساس لتمكين الحياة المسيحية، ولإنعاشنا، وتعضيدنا، وثباتنا. أخيرًا، النعمة المخلِّصة هي حضور الله ذاته في عهد مع شعبه.
إن عظمة الله أمر بديهي، يكاد لا يحتاج إلى تأكيد. ونحن نرى ذلك في صفاته مثل الأزلية، وفي كونه كُلّي المعرفة، وكُلّي القدرة، وكُلّي الوجود، وعديم التغير، وله وجود ذاتي استقلالي. ولكن مجرد القول بأن الله عظيم ليس كافيًا. يذكّرنا ميلارد إريكسون، بأنه “قد يتصور البعض أن الإله العظيم يمكن أن يكون كائنًا غير أخلاقي أو عديم الأخلاق، يمارس قوته ومعرفته بطريقة متقلبة أو حتى قاسية.” (راجع إريكسون، اللاهوت المسيحي، الجزء الأول: الصفحات 283-284). لكن الكتاب المقدس يصوّر إلهه دائمًا على أنه ليس فقط عظيمًا، بل أيضًا صالحًا. وعندما “يظهر صلاح الله تجاه من لا يستحقون سوى الشر، يُطلق على هذا اسم النعمة.” (هرمان بافنك، علم اللاهوت المُصلَح، المجلد الثاني: الله والخليقة، صفحة 214).
ولكن، علينا قبل أن ندقق في معنى تعبير نعمة الله هذا، أن نفهم ما المقصود بكلمة “المُخَلِّصة” أو “النعمة المخلِّصة”.
مصطلح “الخلاص” هنا لا يشير إلى تحقيق الذات أو اختبار التغلب على تدنّي احترام الذات. نحن غالبًا ما نتحدث عن “خلاصنا” من ظروف خطيرة، أو من اضطهاد سياسي، أو مجاعات وأوبئة، أو التهديدات المتنوعة التي تفرضها الكوارث الطبيعية. لكن تركيز الكتاب المقدس ينصب على خلاصنا أو نجاتنا من دينونة مُستَحَقة من إله قدوس وعادل بلا حدود. إن أعظم تهديد للنفس البشرية ليس الانهيار الاقتصادي أو التطرف المُسَلَّح أو الفوضى النفسية. فالكتاب المقدس يتحدث باستمرار عن حالتنا البائسة بعيدًا عن المسيح. نحن مغتربون عن الله (2 كورنثوس 5: 18-21)، خاضعون لغضبه العادل (يوحنا 3: 36؛ أفسس 2: 1-3)، في عداوة معه (رومية 3: 9-18). في الواقع، نحن أعداء الله (رومية 5: 10)، وتحت لعنة الناموس الإلهي (غلاطية 3: 13-14).
عندما نتحدث عن عمل نعمة الله للخلاص، فإننا نعني ما أشار إليه بولس في أفسس 2: 8-9، حيث قال عن كوننا قد تم خلاصنا ‘بِالنِّعْمَةِ… بِالإِيمَانِ’ بيسوع المسيح. والآن لنرجع إلى الحديث عن ‘النعمة’ التي ‘تُخلِّص’.
تعريف النعمة
عرَّف اللاهوتي الإصلاحي الهولندي هيرمان بافينك النعمة المُخَلِّصة لله بأنها: “تفضّل الله الإرادي، غير المُقيَّد، وغير المُستَحق تجاه الخطاة المذنبين، مانحًا إياهم التبرير والحياة بدلًا من عقوبة الموت التي استحقوها” (راجع بافينك، عقيدة الله، ص 208). أما لويس بيركوف فقد عرفها بأنها: “الإحسان الحُرّ لمن ليس له الحق فيه.” (بيركوف، اللاهوت النظامي، ص 71). من جانبه، قال جاي. آي. باكر: “نعمة الله هي محبة تظهر بحرية نحو الخطاة المذنبين، على عكس استحقاقهم، بل وتحديًا لعدم استحقاقهم. إنها تعبير عن صلاح الله تجاه أشخاص لا يستحقون سوى القسوة، ولم يكن لديهم أي سبب ليتوقعوا شيء سوى القسوة.” (راجع باكر، معرفة الله، ص 120).
رغم التشابه الواضح والعلاقة الوثيقة بينهما، فإن النعمة ليست هي نفسها الرحمة. فالنعمة هي صلاح الله تجاه الخطاة، بينما الرحمة هي صلاح الله تجاه المتألمين. ونتيجة لذلك، تبدو الرحمة أنها ليست مجانية بنفس قدر النعمة. يقول جون بايبر:
عندما نُظهر نحن الرحمة، يبدو كما لو أننا نتجاوب مع الألم ونُجبَر للتدخل بسبب حالة مؤلمة من خارجنا. إنه التزام جميل، لكن الرحمة لا تبدو مجانية بنفس قدر النعمة. أما النعمة، فتتأمل في قبح الخطية، وعلى عكس كل التوقعات، تتصرف بإحسان. هذا يبدو أكثر حرية وأكثر مجانية. الألم يبدو كأنه يقيد الرحمة، لكن الذنب لا يبدو أنه يقيد النعمة. النعمة تبدو أكثر حرية. ولا أعني أن رحمة الله في الواقع أقل حرية من نعمته. فلا أحد يستحق رحمة الله، والله ليس مجبرًا على أن يكون رحيمًا تجاه أي من مخلوقاته. ما أعنيه هو أن “الحرية” أو “المجانية” هي أقرب إلى جوهر معنى النعمة. إن النعمة، بحكم تعريفها، حُرّة وغير مُقَيَدة بأي شيء. إنها حتى تفتقر إلى التقييد (الارتباط) الظاهري الطبيعي الموجود بين الألم والرحمة. إذا كانت نعمة الله “طبيعية” في تعاملها مع الخطية، فهذا يعود بالكامل إلى شيء مدهش في الله، وليس إلى قوة تقييدية للخطية. إن الألم يثير الشفقة؛ لكن الخطية تُشعل الغضب. لذلك، فإن النعمة تجاه الخطاة هي أكثر أفعال الله حرية على الإطلاق” (بايبر، النعمة المستقبلية، ص 78)
إن النعمة تفترض مُسبقًا دائمًا وجود الخطية والذنب (ما يلي مقتبس من سام ستورمز، عظمة الله: دراسة لاهوتية وتعبدية لصفات الله الإلهية، ص 124-127). ليس للنعمة أي معنى إلا عندما يُنظر إلى البشر على أنهم ساقطون، غير مستحقين للخلاص، ومستحقون غضبًا أبديًا. ما يجعل إعلان بولس بأننا مخلصون “بالنعمة” ذا أهمية كبيرة هو إعلانه السابق بأننا كنا “أَمْوَاتًا بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا”، نتصرف ونعيش “فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ [غضب الله]” (أفسس 2: 1-3).
أو للتعبير عن النعمة بطريقة مختلفة قليلًا، يمكننا أن نقول أن النعمة لا تنظر إلى الخطاة فقط على أنهم غير مستحقين، بل على أنهم مستحقون للعقاب. المسألة ليست أننا لا نستحق النعمة فقط، بل نحن نستحق الجحيم. الإنسانية الساقطة وغير المفدية لا يمكن تصوُّرها على أنها مجرد عاجزة أو محايدة، بل معادية لله بشكل علني وشديد. إنه لأمر ما أن تكون بلا برّ يوافق الله. ولكن أن تكون بالكامل غير بارّ، وبالتالي هدفًا لغضب الله، فهذا أمر مختلف تمامًا. لذلك، يجب أن تُفهم النعمة الإلهية في سياق كوننا كنا يومًا ما أعداءً لله (رومية 5: 10).
لا ينبغي أن تُعتبر النعمة، بأي حال من الأحوال، معتمدة على استحقاق أو عدم استحقاق من تُمنَح لهم. ويمكننا التعبير عن ذلك بطريقتين: أولاً، تتوقف النعمة عن أن تكون نعمة إذا كان الله مُجبَرًا على منحها بسبب استحقاق بشري. وثانيًا، تتوقف النعمة عن أن تكون نعمة إذا كان الله مُجبَرًا على سحبها بسبب عدم استحقاق بشري. في الواقع، تظهر النعمة في أبهى مجدها فقط عندما تعمل، كما قال باكر، “بتحدٍ واضحٍ” لعدم استحقاق الإنسان. لذلك، النعمة لا تعني معاملة الشخص بأقل مما يستحق، أو بما يستحقه تمامًا، أو بأكثر مما يستحق. بل هي معاملة الشخص دون أدنى إشارة إلى استحقاقه على الإطلاق، ولكن بناءً على صلاح الله اللامتناهي وغرضه السيادي وحده.
من السمات الأخرى لنعمة الله أنها لا تخلق دينًا على من يستقبلها، بمعنى أنها غير قابلة للسداد أو التعويض. وبما أن النعمة هي عطية، فلا توجد أعمال يجب أن تُنفَّذ، ولا تقدمات يجب أن تُقدَّم، كوسيلة لسداد ورد فضل الله. إن التجاوب، بحسب الكتاب المقدس، للنعمة التي تُمنَح هو الإيمان لتلقي المزيد منها (راجع جون بايبر،النعمة المستقبلية).
فيما يتعلق بالتبرير، تقف النعمة في مواجهة الأعمال (رومية 4: 4-5؛ 11: 6). أما فيما يتعلق بالتقديس، فإن النعمة هي مصدر الأعمال. هذا يعني ببساطة أنه بينما نَخلُص بالنعمة وليس بالأعمال، فإننا نخلص بالنعمة لنقوم بالأعمال الصالحة. إن الأعمال الصالحة هي ثمرة النعمة المُخلِّصة لله، وليست هي منبع وجذر النعمة (انظر خاصة أفسس 2: 8-10).
لذلك، ليس من المفاجئ أن نجد في الكتاب المقدس أن النعمة والخلاص يسيران معًا كالعلاقة بين السبب والنتيجة. إنها نعمة الله التي “تجلب” الخلاص (تيطس 2: 11). نحن مخلصون بالنعمة من خلال الإيمان (أفسس 2: 8-9).
نعمة الله المُخلِّصة، مثل محبته، هي ذات سيادة. بمعنى أنها اختيارية في ممارستها ونطاقها. على الرغم من أن الله كريم في كيانه الأزلي، إلا أنه ليس مُلزَمًا بأن يكون كريمًا تجاه أي شخص أو أن يفيض بنعمته على أحد. إذا أصبحت النعمة في أي وقت واجبًا على الله، فإنها تتوقف عن أن تكون نعمة. لذلك، فإن نعمة الله مُمَيِزة، فهو يخلص البعض بنعمته وليس الجميع، وليس بناءً على أي شيء موجود في خليقته سواء كان شيئًا محتملًا أو فعليًا، منظورًا مُسبقًا أو مُعيَّنًا مُسبقًا، بل بالكامل بناءً على مَسَرته السيادية الصالحة.
بينما تكون النعمة بكل تأكيد مجانية، إلا أنها ليست دائمًا غير مشروطة. نعمة الاختيار غير مشروطة (رومية 9: 11). لكن العديد من أعمال الله وبركاته مشروطة. نرى هذا في نصوص مثل 2 أخبار الأيام 30: 9، وإشعياء 30: 19، ومزامير 33: 22 و103: 17-18، وأفسس 6: 24. يجب أن نلاحظ بشكل خاص ما ورد في يعقوب 4: 6: “وَلكِنَّهُ يُعْطِي نِعْمَةً أَعْظَمَ. لِذلِكَ يَقُولُ: «يُقَاوِمُ اللهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَة«” (يعقوب 4: 6؛ انظر أيضًا 1 بطرس 5: 5).
لكن النعمة المشروطة ليست نعمة مُكتَسبة. هذا التمييز جوهري وهام لفهمنا واختبارنا لصلاح الله. يوضح بايبر:
عندما تُوعَد بنعمة الله بناءً على شرط، فإن ذلك الشرط هو أيضًا عمل من أعمال نعمة الله…. حرية الله لا تتقلص عندما يجعل بعض هباته تعتمد على شروط يعطيها هو بحرية (النعمة المستقبلية، ص 79).
بعبارة أخرى، يوضح بايبر أن النعمة المشروطة هي حرة وغير مُستحقَة لأن الشرط الذي هو الإيمان، هو في النهاية عطيّة من عطايا النعمة. فالله بنعمته هو الذي يُمكّننا من تحقيق الشروط التي يطلبها (النعمة المستقبلية، ص 235).
لذلك، فهو يختتم بالقول:
إن هذا الشرط لحفظ العهد فيما يخص النعمة المستقبلية لا يعني أننا نفقد الأمان أو اليقين، لأن الله قد تعهد بإكمال العمل الذي بدأه في المختارين (فيلبي 1: 6). وهو يعمل فينا لكي نريد ونعمل من أجل مسرته (فيلبي 2: 12-13). إنه عَامِلًا فِيكُمْ مَا يُرْضِيه (عبرانيين 13: 21). وهو يُحقق شروط العهد من خلالنا (حزقيال 36: 27). إن أماننا مضمون بمقدار ما الله أمين (النعمة المستقبلية، ص 248).
إلى جانب الاستخدام العام لكلمة النعمة في السياق الخلاصي (soteriology)، يمكن أن تشير النعمة أيضًا إلى الأفعال المحددة التي يقوم بها الله، ويمنح من خلالها التمكين لخدمة ما أو التفويض لمهمة أو مسؤولية معينة (رومية 12: 3؛ 15: 15-18؛ 1 كورنثوس 3: 10). ليس من قبيل الصدفة أن كلمة “نعمة” ومشتقاتها تُستخدم في وصف ما نسميه “المواهب الروحية”. نقرأ في رومية 12: 6: “وَلَنَا مَوَاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلْمُعْطَاةِ لَنَا.”
أخيرًا، تُستخدم كلمة النعمة بطرق متنوعة في سياق مناقشة بولس للأمانة (الوكالة) المسيحية (2 كورنثوس 8-9). وتشير الكلمة إلى التمكين الفائق للطبيعة الذي يهبه الله، والذي يُمكّن الشخص من العطاء رغم الفقر (2 كورنثوس 8: 1، 9). كما تشير إلى خدمة العطاء (2 كورنثوس 8: 6، 7، 19)، وامتياز العطاء (2 كورنثوس 8: 4)، وحتى إلى العطية ذاتها (1 كورنثوس 16: 3).
هناك جانب غالبًا ما يُغفل من نعمة الله وهو الطريقة التي تأتينا بها النعمة كقوة للحياة اليومية. فالنعمة ليست مجرد المبدأ الذي نُخلَّص وننجو به من غضب الله، بل هي أيضًا قوة حضور الله في حياتنا. إنها أكثر من مجرد موقف أو توجّه في ذات الطبيعة الإلهية. فالنعمة هي قوة روح الله التي تحوّل وتغير النفس. إنها نشاط الله أو حركته التي بها يُخلِّص ويُبَرَّر الفرد بالإيمان (راجع خاصة رومية 3: 24؛ 5: 15، 17).
لذلك، فالنعمة ليست مجرد شيء نؤمن به فقط؛ بل هي أيضًا شيء نختبره في حياتنا. ومع ذلك، فالنعمة ليست فقط العمل الإلهي الذي به يبدأ الله حياتنا الروحية، بل هي أيضًا القوة التي بها نحيا، ونتقوى، ونتقدم في تلك الحياة. إن نعمة الله هي العمل المُحفِّز والمُقدِّس للروح القدس الساكن فينا. بعد أن صلَّى بولس ثلاث مرات ليُخلّصه الله من شوكته في الجسد، تلقّى هذا الجواب: “تكفيكَ نِعمَتي، لأنَّ قوَّتي في الضَّعفِ تُكمَلُ” (2 كورنثوس 12 :9). رغم أن بولس بلا شك استمد التشجيع والقوة لمواجهة تجاربه اليومية من تأمله في عظمة فضل ونعمة الله غير المُستَحَقة، إلا أنه في هذا النص يبدو أنه يشير إلى حقيقة اختبارية ذات طبيعة أكثر ديناميكية. إنها القوة الفاعلة للروح الساكن فينا التي يشير إليها بولس. هذه هي نعمة الله. وكون النعمة هي قوة حضور الله يفسّر لماذا يبدأ بولس رسائله بالقول: “نِعْمَةٌ لَكُمْ” وينهيها بالقول: “النِعْمَةُ مَعَكُمْ” (راجع رومية 1: 7؛ 1 كورنثوس 1: 3؛ 2 كورنثوس 1: 3؛ 13: 14؛ غلاطية 1: 3؛ أفسس 1: 2؛ فيلبي 1: 2؛ كولوسي 1: 2؛ 1 تسالونيكي 1: 1؛ 2 تسالونيكي 1: 2؛ تيطس 1: 4). هذه رغبة بولس الدائمة والأمينة لأجل المؤمنين حتى يواصلوا اختبار النعمة، وليعرفوا من جديد قوة الله المملؤة نعمة وهي تتحرك وتعمل في حياتهم، وليجدوا في تلك النعمة الموارد الروحية التي بها يعيشون حياة تُرضيه.