إعادة اكتشاف أوريجانوس

إذا كنتَ تعرف شيئًا عن أوريجانوس، العالِم واللاهوتي المسيحي المُبَكِّر، فمن المُرَجَّح أن يكون أَحَد أمرَيْن: أنَّه خَصَى نفسه في سعيه للنقاء الجنسي، وأنَّ لاهوته يُشَكِّل أساسًا يقوم عليه خلاص الجميع في النهاية، فيما يُعرف بالشموليّة. ببساطةٍ في نظر البعض، كان أوريجانوس زاهدًا على نحوٍ مؤذٍ وهَرْطُوقِيًّا على نحوٍ خطير.

لكنِّي أخشى أنَّ التَّصَوُّرات الحديثة عن أوريجانوس تتجاهل أنَّه كان رَجُلًا ذا غَيْرَةٍ غير عاديَّة يمتلك المزيج النادر من العبقريَّة الفكريَّة والتواضع الأصيل. يقول المُؤَرِّخ الكنسي وِيلِيسْتِن وُوكِر إنَّه لم يَكُنْ هناك في الكنيسة الأولى رَجُلٌ يمتلك روحًا أنقى أو أهدافًا أنبل من أوريجانوس. نَلقَى في أوريجانوس رَجُلًا رَغِبَ في تقديم الإيمان المسيحي في منظومته الباهرة من الحقائق العمليَّة التي تأسر أُناسًا بالكامل للمسيح.

اللاهوتي الفلسفي

يُعَدُّ نطاق أعمال أوريجانوس اللاهوتيَّة وحَيِّز تأثيرها لا نظير لهما في عصره، وهي تشمل: الهِكْسَابْلَا Hexapla (أو السُّداسِيَّة)، تفاسير وملاحظات على مُعظَم الكتاب المقدَّس، دفاعيَّات، عِظات غنيَّة من الناحية العمليَّة، واحدًا من أقدم كُتُب اللاهوت النظامي في العالم المسيحي، دِيه بْرِينْشِيبِيسْ De Principiis أو “في المبادئ”.

الملاحظة الضروريَّة الواجب ذكرها بشأن قائمة إنجازات أوريجانوس هي أنَّ أوريجانوس كان في الغالب مُتَّسِقًا مع تقليد الكنيسة وتعليمها الخاصَّيْن بعصره، وشمل ذلك عقيدة ثالوث بدائيَّة والنظرة القائلة بأنَّ الكتاب المقدَّس مُوحًى به.

ولكن لِكُوْنِه ابنًا للفكر السَّكَنْدَرِيّ؛ تأثَّر أوريجانوس تَأَثُّرًا شديدًا بالفلسفة الهِلِنِستِيَّة، وعَنَى هذا أنَّ أوريجانوس اعتقد أنَّ هناك معنى أكثر عُمْقًا وروحانيَّة وراء المعنى الحرفي للكتاب المقدَّس؛ لذلك أشاع أوريجانوس التفسير الرمزي. كان تشديد أوريجانوس على مكانة الفلسفة في اللاهوت، مقرونًا بالرغبة في إضافة المعرفة إلى الإيمان، هو الجانب الأقوى والأضعف في كتاباته.

يمكن كتابة تدوينة كاملة، وقد كُتِبَ الكثير منها على الأرجح، حول دراسة العلاقة بين اللاهوت المسيحي لأوريجانوس والفلسفة الأفلاطونيَّة، أو أفلوطين مُعَاصِره. سأترك الأمر لك لكتابة أو قراءة هذه التدوينات في مكان آخر، وسأكتفي بالقول إنَّ بنية أوريجانوس اللاهوتيَّة انهارت في النهاية لأنَّها كانت مبنيَّة إلى حَدٍّ كبير على الأفلاطونيَّة، فَقَدْ خَلَصَتْ نظرته الأفلاطونيَّة للإنسانيَّة إلى أنَّ حياتنا بأكملها، كمخلوقات سابقة الوجود تعاني في عالم الظِّلِّ (كهف أفلاطون)، هي نوع من المَطهَر؛ ولذلك يعني الخلاص العودة إلى الواقع الروحي. يُظهِر ذلك منهج أوريجانوس اللاهوتي الذي كثيرًا ما تغاضى عن الكتاب المقدَّس لصالح الفلسفة.

لقد قَدَّم نموذجًا للجوع للتَّعَلُّم

ليس من الصعب أن نستنتج، مع الكثير من المسيحيِّين اليوم، أن نزعة أوريجانوس التخمينيَّة والفلسفيَّة أخرجت نظامه اللاهوتي عن مساره وتستورد أفكارًا خطيرة إلى نظامنا اللاهوتي، لكنِّي أَوَدُّ أن أقترح استنتاجًا آخر للنظر فيه: يُظهِر أوريجانوس الشخصيَّة المُحِبَّة للاستطلاع اللازمة لِلَّاهوت.

يُجرَى اللاهوت المسيحي، الدراسة المُصَلِّيَة لإلهنا غير المحدود كما أعلن نفسه في الكتاب المقدَّس وفي ابنه، على يد مخلوقات ساقطة ومحدودة؛ لذلك، كما يقول كِلِي كَاپِكْ، يجب أن نتجنَّب طريق الكبرياء المُثقَل بالدفاعيَّة والثقة الجامدة بالنفس. حتَّى مسحٌ موجزٌ لتاريخ الكنيسة يكشف عن متاهةٍ من الأطروحات، والصياغات العقائديَّة، والنقاشات اللاهوتيَّة؛ مِمَّا يحثنا على الحَذَر من أن نكون مُتَعَصِّبين أكثر من اللازم.

بالطبع، يَظَلُّ الكتاب المقدَّس تأسيسيًّا ويجب أن يقود التفسير النَّصِّي للكتاب المقدَّس لاهوتنا النظامي، لكنَّنا نصير حمقى حين نضع التفكير المُحِبَّ للاستطلاع جانبًا بدافع التفضيل الجامد لِمَا هو قائم بالفعل.

القلوب قبل العقول

أعتقد أنَّ هناك درسًا قَيِّمًا آخر لنتعلَّمه عندما ندرس أوريجانوس. مع أنَّنا قد نختلف مع المواقف اللاهوتيَّة لمسيحيِّين آخرين -وهناك مجال لتَحَدِّي المدارس الفكريَّة المختلفة عَلَنًا- ينبغي أن نكون أبطأ في إدانة المسيحيِّين على أساس لاهوتهم وأن نلاحظ بدلًا من ذلك نعمة الله المُغَيِّرة في حياتهم. كان أوريجانوس رَجُلًا عظيمًا عاش أمام الله، سعى بنشاط إلى حياة طاعة ومات في النهاية من أجل مجد المسيح. كم ننسى سريعًا أنَّ الله يريد القلوب الصحيحة قبل اللاهوت الصحيح!

يكتب دونالد مِكْلَاوْدْ في كتاب The Person of Christ (أو شخص المسيح) أنَّ الإنجيليَّة أدركت دائمًا أنَّه “قد يكون لدى شخص ما معرفة قليلة بقوانين الإيمان العظيمة، ومع ذلك يكون لديه إيمان حقيقي وحَيّ بالمسيح”، بمعنى أنَّه بينما يكون من الضروري أحيانًا التنديد بالتعليم الهَرْطُوقِيّ لشخص ما، ينبغي علينا أيضًا أن نُوفِي تقواه حقَّها من الإشادة. هذا هو الطريق الصعب الذي يتعيَّن علينا أن نسلكه اليوم.

شارك مع أصدقائك

يعمل غراهام هيسلوب رئيسًا لتحرير "ائتلاف الإنجيل – إفريقيا" (The Gospel Coalition Africa)، ويُدرّس اللاهوت بدوام جزئي