التَعرِيف
مع ثِقَةٍ متنامِيَةٍ بالمُصَادَر الكِتَابِيَّة، تطوَّر البَحثُ عَنِ يَسُوع التَّارِيخِي عَلَى الأَقَلِّ عَبْرَ أَربَعَةِ مَرَاحِل، يسعَى جَمِيعُها بِطُرُق مُختَلِفَة إِلَى فَهُم العَلَاقَة بَينَ الشَخصِيَّة التَّارِيخِيَّة ليَسُوع النَّاصِرِيِّ وَيَسُوع الَّذِي نقرأ عنه فِي الكِتَابِ المُقَدَّس.
المُوجز
تطوَّر البَحثُ عَنِ يَسُوع التَّارِيخِي عَلَى الأَقَلِّ عَبْرَ أَربَعَةِ مَرَاحِل تَسعَى إِلَى فَهُم العَلَاَّقَة بَينَ الشَّخصِيَّة التَّارِيخِيَّة ليَسُوع النَّاصِرِيّ وَيَسُوع الَّذِي نقرأ عنه فِي الكِتَاب المُقَدَّس. حَاوَل البَحْثُ في مسعاه الأَوَّل الَّذِي يَعُود إِلَى القَرن 17م الوصف والتَّمييزَ بَينَ مَسِيح الإيمَان وَيَسُوع التَّارِيخي. الفَترَةُ التَالِيَةُ لذَلِكَ المسعى تُسَمَّى عَادَةً بفَترَة “عَدَمِ البَحْثِ”، وَهِيَ فترةٌ فِي أَوَائِلِ القَرنِ 20م حِينَ اعتَقَدَ كَثِيرُونَ أَنَهُ ما من شَيءٍ يمكِن الوصولُ إليه مِن اِتِّبَاع هَذَا المَسْعَى البَحْثِيِّ، لكن خَالَفَهُم آخَرُونَ وَواصلوا العَمَلَ فِي هَذَا المَجَالِ. وهكذا، في المَسْعَى الثَّانِي، بَدَأ البَحْثُ فِي خمسينِيَّات القَرْن العُشُرَينِ عِندَمَا حَاوَل إرنِسْت كِيزَمان Ernst Käsemann وآخرون تعديل المنهج الأدَبِيِّ لنظرية “نَقْد الشَّكل Form Criticism” في المُهَمَّة التَّارِيخِيَّة لِلبَحْثِ. أما المسْعَى الثَّالثُ فقد بَدَأ فِي الظُّهور فِي العَقْد التَّالِي مَعَ اِكتِشَاف وَنَشْر مَخطُوطَات قُمْرانِ. وفِي تَحَدٍّ لِأَسَالِيبِ مَسْعَى البَحْثِ الثَّانِي، بَدَأَ الباحِثُون في المَسْعَى الثَّالِث يَتساءلُونَ: كَيفَ يُمكِنُ فَهمُ أَعمَالِ يَسُوعَ وَتَعَالِيمِهِ؟ وهل تَنسَجِمُ بشكلٍ جيِّدٍ مَعَ سياقِها المجْتَمَعِيِّ واللَّاَهُوتيِّ؟
ينطوي جُزءٌ رَئِيسٌ مِنَ النقاش العَام عَن يَسُوع التَّاريخِي على دراسَتِهِ تَارِيخِيًّا. نشأتْ هَذِهِ الدِّرَاسَةُ بسبب الشَّكِّ في صِحَّةِ الكِتَابِ المُقَدَسِ، وَسَعَتْ لترسيخ ذلك بِاستِخدَام الوَسَائِل التي يسْتَعْمِلُها جَميعُ دَارِسِي التَّارِيخ. يمكن تَقيِيمُ هَذِهِ الوسائل بأصولِها المستمَدَّةِ من المَذهَب الطَّبِيعِي الذي ينتقِصُ من دَوْرِ الكِتَاب المُقَدَّس بِحدِّ ذاتِهِ. أما المُنفَتِحُونَ عَلَى عمل الله فَإِنَّ السَّعِيَّ وَرَاء ترسيخ الشَّكِّ يُمكِن أَن يَكُون مُفِيدًا فِي التَّعامُل مَعَ من يَفتَقِرُون إِلَى الاِلتِزَام الدِّينِيِّ أَو من تساوِرُهم الشُّكُوكَ. تَارِيخُ مَسَاعِي هَذَا البَحث مُختَلِطٌ، وقد نجَمَ عن هذه المساعي مَجمُوعَةٌ مِنَ الآرَاءِ عن يَسُوع، إضافةً إلى الجَدَلِ بشأن جَدْوَاها، وَيَعُود ذَلِكَ جُزئِيًّا بسبب تنوُّعِ الطُّرُقِ الَتِي يُقيِّمُ بها النَّاسُ المَصَادِرِ التي يَتَعَامَلُون معها عِند دراسة حَيَاةِ يَسُوع وَبسَبَبِ تَعقِيد العَوَامِل الَّتِي يُقَيِّمُهَا المَرْءُ عِندَ فحصِ المصَادِر.
بِدَايَة مَسَاعِي “البَحْثِ” عَن يَسُوع التَّارِيخِ
بَدَأ البَحْثُ عَنِ يَسُوع التَارِيخِي، كَمَا يُطْلَقُ عَلَيهِ غالبًا، عِندَمَا نادَى البَعض إِنَّ الصُّورةَ التي لدى الكَنِيسَة عن يَسُوع مُغَلَّفَةٌ بِقُوَّةٍ بعقائدٍ تَمَّتْ صِيَاغَتُهَا لَاحِقًا لِتُخْبِرُنَا عن هُوِيَّة يَسُوع بالفِعْلِ. لِذَلِكَ صاغ المتشَكِّكُون قَوَاعِد لِتَحَدِّي ما تَتَبَنَّاه الكَنِيسَةُ عَن يسوع. تَنْبُع هَذِهِ القَوَاعِد مِن مَزِيج مِنَ الأَدَوَات الَّتِي يَستَخدِمهَا مؤرِّخو حياة يَسُوع بِانتظامٍ عِندَ مُحَاوَلَة تَأكِيد حَدَثٍ تَارِيخِيٍّ أَو عند الصراع مَعَ القَضَايَا الَّتِي تُثِيرهَا طَبِيعَةُ مُصَادَرِنَا عَنهُ. في أيام البَحْثِ المُبَكِّرَة، وَحَتَّى الآنَ، سَاهَمَ الكَثِيرُ مِنَ الدِّرَاسَات التَّارِيخِيَّة عَن يَسُوع فِي تَحَدِّي إقرارِ إيمانِ الكَنِيسَة بِهِ.
على مائدة وَاحِدَة، يَجلِس أهلُ الإيمان، مع من يتحدُّون هذا الإيمان ليُنَاقَشُوا مِن هُوَ يَسُوع وَكَيفَ يُمكِننَا أَن نَعرِف من كَانَ بالفعل. بحسب المتوقَّع، يَكُونُ النِّقَاشُ في بعض الأحيانِ ساخنًا. هَل يُمكِن لدارسي يَسُوع التَّارِيخي بمختلف أنواعِهِم أن يكونَ لديهم حِوَارٌ لمناقشة من هو يَسُوع دُونَ الادِّعَاءِ بِأَنَ على المَرْءِ أن يَقْبَلَ كلَّ مَا تُؤمِنُ بِهِ الكَنِيسَةُ؟ هَذَا جُزْءٌ مِمَّا تحاوِلُ دِرَاسَةُ يَسُوع التَّارِيخِي القيامَ بِهِ.
المَسْعَى الأَوَّل في البَحْثِ وَخَنْدَق لِسِنج
يعودُ مَسْعَى البَحْثِ الأَوَّلِ عَنِ يَسُوع التاريخِي إِلَى أَوَاخِرِ القَرنِ 17م. بعد النَّظَرِ إِلَى الاِختِلافَات النَّصِّيَّة، وَالشَّكِّ في أن الكِتَابَ المُقَدَّس لا يُقَدِّم لَنَا التَّارِيخ وَحَدهُ، شَرَعَ الباحثون فِي التَّمييز بَينَ يَسُوع التَّارِيخِيِّ الحَقِيقِيِّ وَمَا أطلقوا عليه “مَسِيح الإيمان”، وهِي شَخصِيَّة قَال عنها الكثير مِنَ المُبتَدِعِين إِنَّها لَيْسَتْ يَسوع الحَقِيقِيَّ، بَل هي تَصَوُّرٌ لَاحِقٌ رَسَمَتْهُ الكَنِيسَةُ المُبَكِّرَة. كَانَ النِّقَاشُ الأَوَّلِيُّ مَبْنيٌّ عَلَى شَكٍّ عَمِيقٍ فيمَا يقوله الكِتَابُ المُقَدَّسُ عَن يَسُوع. والهَدَفُ مِن العَوْدَةِ بنا إِلَى يَسُوع التَّارِيخِي الحَقِيقِي يقودنا غالبًا إلى منعطَفٍ أَخْلاقِيٍّ يصيرُ فيه يَسُوع نَبِيًّا بَينَ أنبياءٍ كَثِيرِين. وهكذا، صار الجَدَلُ شائعًا بِأَنَ هناك فَرقًا هائلاً بَينَ مَسِيح الإيمَان ويَسُوع التَّارِيخي. هَذَه الفَجوَة أَضْحَتْ معروفةً لاحِقًا بـ “خَندَقِ لِسِنج Lessing’s ditch”، لِأَنَّ عَالِمَ التَّنوِير الألماني لِسِنج Gotthold Ephraim Lessing (1729-1781م) استَخْدَم صُورَة الخَندَق لِيَصِفَ الفَرْقَ بَينَ الصُّورَتَينِ المختلفتين ليسوع: الصورةِ الكِتَابِيَّةِ وَالصورة التَارِيخِيَّة.
يَتَمَثَّلُ هَدَفُ لِسِنج في العَودَةُ إلى يَسُوع كَمَا كَانَ، لَا إِلَى صُورَةٍ مُبَطَّنَّة بِأَفكَارٍ لَاحِقَةٍ عَنهُ. كَانَ الاِدِّعَاء بأَنَّ الأَنَاجيل لا تُقَدِّم لَنَا يَسُوع الحَقِيقِيَّ؛ ومن ثمَّ كَانَ لَا بَدَّ مِنَ انتزاعه مِن المصَادِر بِكُلِّ أنواعِ الأسئلةِ التي تستندُ على أُسُسٍ تاريخيَّةٍ. لَم يَعُد بِإِمكَان المَرءِ أَنَّ يَقُول بِبَسَاطَةٍ: “الكِتَاب المُقَدَّس يُخْبِرُني بذَلِكَ”. وَإِن فَعَلَ ذلك، مِن المُرَجَّح رَفْضُ ادِّعائِهِ بوصفِهِ ادِّعاءً سَاذِجًا أَو غَيْرَ عِلْمِيٍّ. لَم ينادِ خَندَق لِسِنج فقط بوُجُود فَجوَة بَينَ مَسِيحِ الإيمَانِ وَيَسُوع التَّارِيخي بَل خَلَقَ أَيضًا فَجَوَّةً هَائِلَةً بَينَ كلِّ من راحَ يتحدَّثُ عَمَّن كان يسوع، ومن يكُونُ.
لقد نادَى البَعضُ بأنه يستحيلُ علينا عُبُور خَندَق لِسِنج. كان هذا أَشهُر مَا قَالهُ رُدُولفُ بولتمان Rudolph Bultmann (1884-1976م)، الذي أكَّدَ بِأَنه لا يُمكِنُ العَودَةُ إِلَى يَسُوع كَمَا كَانَ (انظُر بُولتمَان: “يَسُوع والكَلِمَة Jesus and the Word“). بِالنِّسبَة إليه، وَإلى كثيرين غَيْرِهِ، كانَتْ لفظةُ “خَندَق” صَغِيرَةً للغايَةِ على أن تصِفَ مَا ادَّعَاهُ لِسِنج، إذ يشبِهُ الأَمْرُ إخدودًا عميقًا. نادَى بِأَنَّه لا يمكِن لنا الوصولُ إلى يَسُوع الحَقِيقِيِّ، عَلَى الأَقَلّ لَيسَ فِي مصَادَر الإنجيل التِي تُقَدِّمُهُ. إِن تَعَيَّنَ على يَسُوعُ أن يكون موجودًا، فَلا بُدَّ من إعادَةِ بنائِهِ تَارِيخِيًّا.
لَكِن لَم يَكُن الجَمِيعُ مُتَشَكِّكًا تمامًا؛ فقد حاولَ كَثِيرُون عبورَ الفَجوَةِ بَينَ مَسِيح الإيمَان وَيَسُوع التَّارِيخي. فقد نادى بناةُ الجسور بِوُجُود سَبِيلٍ ما لِعُبُور خَندَق لِسِنج، محاولين تشييد الطَرِيق إلى ذَلِكَ. لَيْسَ بِالضَرُورَةِ أن يكون كُلُّ شَكٍّ سَلبِيًّا، لأن الفَحصَ الجاد للمَصَادِرِ يُمكِنُ أَن يُؤَدِّيَ إِلَى أَسئِلَةٍ جيِّدَةٍ وَإِجَابَاتٍ جَدِيدَةٍ.
بَدَأَت هَذِهِ المُنَاقَشَات لأَوَّل مَرَّةٍ فِي أواخر القَرن 17م حِينَ بَدَأَتْ المُعجِزَات تُوَاجِه تَحَدِّيًا خَطِيرًا، كما لُوحِظَتْ الاِختِلَافَات بَينَ رِوَايَات نفس الأَحدَاث، وَأُثِيرَت قَضَايَا حَولَ ادِّعَاءَات يَسُوع. لَم تَكن هُنَاكَ قَوَاعِد لتقييم أَحدَاث الرِّوَايَات الكِتَابِيَّة، بَل مُجَرَّدَ أَحكَامٍ ذَاتِيَّة عمَّا يمكن أن يكون يسوعُ قد فَعَلهُ حقًّا. أَدَّى هذا الكَمُّ الهائِل من الصُّورِ عن يسوع إِلَى قِيَامِ أَلبِرت شوَايْتزَر سنة 1906م بِنَشرِ عَمَلٍ عَن هَذِهِ المَرحَلَةِ مِن دِرَاسَةِ يَسُوعَ وَنَقدِهَا عَلَى أَنَهَا كَانَت ذَاتِيَّةً لِلغَايَة وَمُنفَصِلَةً عَن السِّيَاقِ اليَهُودِيِّ الأَصلِيِّ لِعَمَلِ يَسُوعَ. كما نَادَى بِأَنَ الكَمَّ الكَبِيرَ مِن الصُّورِ المُتَمَيِّزَةِ الَتِي ظَهَرَتْ حَتَى ذَلِكَ الوَقتِ كَانَتْ مَعِيبَةً مَن النَّاحِيَة المنهجيَّة. وَافَقَتْ الأكثريَّة عَلَى تَحلِيلِ شوَايْتزَر للعَمَلِ البحثي الَذِي تَمَّ إنجازُهُ عبْرَ أَكثَرَ مِن قَرنٍ من الزَّمَانِ. كان كِتَابُ وَنَقدُ شوَايْتزَر علامةً تُمَيِّزُ نِهَايَةَ هَذِهِ الفَترَةِ الأُولَى من مساعي البَحْثِ في موضوع يَسُوعِ التَارِيخِي. على كلٍّ، ومِن نَواحٍ عَدِيدَةٍ، كانَتْ هذه الفَترَة الأولى ذات طابعٍ تَشكيكيٍّ كبيرٍ للغايَة.
فَترَةُ “عَدَمِ البَحثِ”
ثُمَ جَاءَتْ حَقْبَةٌ يُطلَقُ عَلَيها غَالِبًا فَترَةُ “عَدَمِ البَحثِ”، وقد امتَدَّتْ عَلَى مُدَى العُقُودِ الخَمْسَة الأولَى مِنَ القَرْن 20م. فِي حَقِيقَةِ الأمر، لا يعبِّرُ هَذَا الاسْمُ أَبَدًا عن هَذِهِ الفَترَةِ، لأن كُتاباتٌ كثيرةٌ قد خَرَجَتْ إلى الوجودِ عَن يَسُوع التَّارِيخِي في تلك الفترةِ. ومَعَ ذلِكَ، مَا بَدَا أَنَهُ غَائِبٌ، هو أَيَّة منهجيَّةٍ أو طريقَةٍ مُوَحَّدَةٍ لِلتَّعَامُلِ مَعَ القَضَايَا المطروحَةِ للبَحْثِ. فقد استمَرَّ كُلُّ كَاتِبٍ فِي رُؤيَةِ يَسُوع الَذِي أَرَادَ رؤْيَتَهُ، وفي إعادَةِ بنائِهِ عَلَى أَسَاسِ مَا بَدَا له أنه الأَفضَل. فِي هَذِهِ الفَترَةِ نادَى بولتمان بِأَنَّهُ ما من شيءٍ يُمكِنُنَا مَعرِفَتُة عَنِ يَسُوع التَارِيخِي. وبسَبَبِ تَأثِيرِهِ انْدَفَعَ البَعْضُ إِلَى تَسْمِيَة هَذِهِ الحَقْبَةِ بِفَترَةِ “عَدَمِ البَحْثِ”. فقد كانَتْ فَترَةً اعتَقَدَ فِيهَا الكَثِيرُونَ أَنَّهُ ما من شيءٍ يُمكِن الوصول إليه بالمُضِي عَبْرَ هَذَا المَسَار. لكن لم يَقْبَلْ آخرون بهذا الاعتقاد واستَمَرُّوا فِي العَمَلِ فِي هَذَا المَجَال.
المَسْعَى الثَّانِي في البَحْثِ
فِي عام ١٩٥٣م، تَغَيَّرَتْ منهجيَّةُ الشَّكِّ السَّائِدة. متجاوزًا ما ادَّعاهُ مُعَلِّمُهِ الشَّهِيرِ بُولتمَانَ Bultmann، فإن إرنِسْت كِيزَمان Ernst Käsemann، أَحَدَ طُلَّابِهِ، الذي صار نفسُه أُستَاذًا فيما بعد، نادى بِأَنَّنا يمكن أن نعرف عن يَسُوع التاريخِي. دافع كِيزَمان بالحجج عن مُحَاوَلَةِ فَصلِ الطَّبَقَاتِ اليُونَانِيَّةِ اللَّاحِقَةِ عَنِ الطَّبَقَاتِ الأَصلِيَّةِ ذَاتِ الطَّابِعِ العِبرِيِّ/الآرَامِيِّ لِلتَّقَالِيدِ. كَما نادى بأنَّ دِراسةَ تَطوُّرِ التَّقاليدِ كما رُوُيَتْ ثم أعيد سَردُها لأحداثٍ مُعَينةٍ يُمكِنُ أن تُقَدِّمَ دَلَائِلَ عمَّا هو أكَثرَ أصَالةً. وقد عُرِفَ هَذَا المَجَالُ في الدِّرَاسَةِ باسْم “نَقْدِ الشَّكْلِ Form Criticism”، الَذِي ظَهَرَ ما بَينَ عامي 1919-1921م، وقد نَادَتْ هذه الدِّرَاسَةُ بِأَنَّ القِصَصَ قد سُلِّمَت بالسَّرْدِ عَبْرَ مجموعةٍ متنوعةٍ من التراكيب (الأَشكَالٍ)، وغالبًا في قِطَعٍ صغيرةٍ. ربما تُقَدِّمُ اختلافات الأَشكَالِ دَلَائِلَ عَمَا كَانَ أَصلِيًّا فِي القِصَّةِ وَعَمَّا هو غَيْرُ أصْلِيٍّ. هذه الاستِخدَامُ التَّارِيخِيِّ لأسلوب “نَقْدِ الشَّكْلِ” كان دَائِمًا مَوضُوعَ جَدَلٍ فِي استِخدَامِهِ. فِي ثَلَاثِينَاتِ القَرنِ العِشرِينَ، كَتَبَ الباحث الإِنجِلِيزِيُّ فِنسِنت تيلُور Vincent Taylor أَنَ “نَقْدَ الشَّكْلِ” مفيدٌ بقدر ما هو أَدَاةٌ أَدَبِيَةٌ تساعد على تَحلِيلِ الخطوط العريضة لقِصَّةٍ ما، لَكِنَهُ عَدِيمَ القِيمَةِ كَأَدَاةٍ تَارِيخِيَةٍ، ومع هذا أَرَادَ الدَّارِسُون الجُدُد ليَسُوع التاريخي (أَو المنخرطون في المَسْعَى الثَّانِي للبَحْثِ) استخدامَه. فِي تلك الفَترَةِ، بَدَأَتْ القَوَاعِدُ المنظِّمَةُ في الظُّهُورِ كَوَسِيلَةٍ لإِضفَاءِ بَعْضِ الهَيْكَلِيَّةِ للجُهُودِ المَبذُولَةِ، وللتَّغَلُّبِ عَلَى الِانتقاد المُوَجَّه لِـ “نَقْدِ الشَّكْلِ”.
سُمِّيَت هَذِهِ القَواعِدُ “مَعايِيرُ الأَصالَةِ”. وَمِن أَهَمِّها: تَعَدُّدُ الشَّهَاداتِ، والاخْتِلافُ، والحَرَجُ، وَالتَّرابُط.
- يشيرُ مِعيَارُ الشَّهادات المُتَعَدِّدَةِ إِلَى أَنَّهُ كُلَّمَا اتَّسَعَ كَمُّ مَصْادر التَّقْلِيدِ لخيوطٍ روايةٍ أو مَوضُوع ما، ستبدو أغلبَ الظنِّ أَصِيلَةً. وخيوط مَصادر التقليد ليسَتْ فقط ما هو موجود فِي إِنجِيلِ ما، بَل يُنظَرُ إِلَيها عَلَى أَنَّها مَادَّةٌ مَرقُسِيَّة، أَو تَعلِيمٌ مُشتَرَكٌ بَينَ البشيرَيْن مَتَّى وَلُوقَا (مَصدَر يُعرَفُ بِـ Q)، أَو مَادَةٌ فَرِيدَةٌ فِي مَتَّى، أَو مَادَةٌ فَرِيدَةٌ فِي لُوقَا، أَو مُحتَوَيَاتٌ مُمَيَزَةٌ فِي إِنجِيلِ يُوحَنَا، وَمَجمُوعَة مِن مَصَادِرَ أُخرَى أَقَلَ شُمُولاً.
- ينادي مِعيَارُ الِاختِلَافِ بِأَنَّ أَيَّ شَيءٍ لَا يَأتِي مِنَ ثقَافَةِ المجتمع اليَهُودِيِّ وَلَا مِن تَعَالِيمِ الكَنِيسَةِ الأُولَى لَا بُدَّ أَن يَكُونَ يَسُوعُ. وهَذَا المِعيَارُ يتغيَّر أَحيَانًا لينادي بأنه (أي شيء) لَا يُشبِهُ تَمَامًا المُمَارَسَاتِ اليَهُودِيَّةِ وَلَا الكَنِيسَةِ الأُولَى.
- ينادِي مِعيَارُ الحَرَجِ أَنَ الكَنِيسَةَ لَن تبتدع أَبَدًا قصَّةً هَكَذَا، لِأَنَ شَيئًا فِيها سَيَكُونُ مُحْرِجًا لِلكَنِيسَةِ.
- يَزعُمُ مِعيَارُ التَّرابُطُ أَنَ كُلَّ شَيءٍ يَتَنَاسَبُ أو يترابط مَعَ مَا تُظهِرُهُ المَعَايِيرُ الأُخرَى يُمكِنُ أَن يَكُونَ أَصِيلاً أَيضًا.
يَسْتَمِرُ النَّاسُ فِي الجَدَلِ حول مَدَى فَائِدَةِ هَذِهِ المَعَايِيرِ وَغَيرِهَا مِنَ مَعَايِيرٍ مُشَابِهَةٍ، كما يواصلون مُنَاقَشَة مَن يَقَعُ عَلَيهِ عِبءُ الإِثبَاتِ (بِافتِرَاضِ صِحَّةِ أَو عَدَمِ صِحَّة النَّصِّ أَوَّلاً، أَو بِبَسَاطَةِ الحِيَادِ فِي هَذَا الشَّأنِ). يثيرُ الكمُّ الكبير من المُنَاقَشَاتِ المرتبطة بيَسُوع التَارِيخِي هَذِهِ الأَنوَاعَ مِنَ الإجراءات، على الرَّغمِ مِن عدم كفايتها فِي تَقيِيمِ المَصَادِرِ، لأنه بِدُونِ شيءٍ مثلها يَبقَى الأَمرُ مُجَرَّدَ آراءٍ شَخصِيَّة.
بِينَمَا كَانَ كِيزَمان يَقتَرِحُ نَظرَةً جَدِيدَةً في دِرَاسَةِ يَسُوع التَّاريخي، غَيَّرَتْ الاِكتِشَافَاتُ الأَثَرِيَةُ الجَدِيدَةُ الخَارِطَةَ وَفَهْمَ البِيئَةِ الدِّينِيَةِ لِلقَرنِ الأَوَّلِ الَذِي عَاشَ فِيه يَسُوع. ظَهَرَت اِكتِشَافَاتُ قُمرَان بالقرب من البَحْرِ المَيِّتِ، المَعرُوفَةُ بِاسْمِ لفائف البَحرِ المَيِّتِ Dead Sea Scrolls، في الفترة ما بين عامي ١٩٤٧ و١٩٥٦م، إلا أنها كانَتْ بطيئةً من جِهَةِ النَّشْرِ، وأكثرُ بُطْءً من جهة تَقيِيمِهَا بِالشَّكْلِ الأكمل. جَاءَت هَذِهِ المجموعة من النصوص مِن جماعةٍ انْفَصَلَت عَنِ اليَهُودِيَّةِ الرَّسمِيَّةِ وَالهَيكَلِ، وَانتَقَلَتْ للصَّحرَاءِ فِي مُنتَصَفِ القَرنِ الثَّانِي قَبلَ المِيلادِ فِي انتِظَارِ تبرير الله لَهُم. وَظَلُّوا هُنَاكَ حَتَّى اِجتَاحَهُمُ الرُّومَانُ فِي نَفسِ الحَربِ التِي أَدَّت إِلَى تَدمِيرِ الهَيكَلِ سنة ٧٠ مِيلاَدِية.
فِي نِهَايةِ المَطَافِ، عُثِرَ عَلَى اللفائفِ فِي أَحَد عَشَرَ كَهفًا مُختَلِفًا. وَقَد سَمَّاها الباحثون بِالحَرفِ Q مُسبُوقًا بِرَقمِ الكَهفِ، مُتبُوعًا بِرَقمِ مخطوط اللفافة، لِيَسْهُلَ تحديدها كَمَصَادِرَ قَدِيمَةٍ مِن قُمرَانَ. عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ، المُخطُوط 4Q174 يأتي رَقْمُه 174 مِنَ الكَهفِ الرَّابِعِ فِي قُمرَانَ. أَتَاحَتْ لَنَا هَذِهِ المُخطُوطَاتُ فَهمًا غَيرَ مُسبُوقٍ عن اليَهُودِيَّةِ فِي تِلكَ الفَترَةِ، فِي نَفسِ المَكَانِ الَّذِي عَمِلَ فِيهِ يُوحَنَّا المَعمَدَانُ وَيَسُوعُ أَيضًا. كَمَا أَضْعَفَتْ اللفائف من فِكرَةَ إِمكَانِيَّةِ فَصلِنا للأَفكَارِ اليُونَانِيَّةِ عَنِ اليَهُودِيَّةِ بِسُهُولَةٍ، وَهِيَ فَرضِيَّة أَسَاسِيَّة فِي البَحثِ الثَّانِي. وَالسَّبَبُ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ اليَهُودِيَّةَ المُنفَصِلَةَ – التِي كَانَتْ مُعَادِيَةً لِلثَّقَافَةِ اليُونَانِيَّةِ فِي التَّوجُّه الفِكْرِي – كَانَ لَدَيهَا العَدِيدُ مِنَ التَّعبِيرَاتِ الَّتِي كَانَ يُعتَقَدُ أَنَّهَا اِنعِكَاسٌ فَرِيد لِلثَّقَافَةِ اليُونَانِيَّةِ.
كَانَ لَا بُدَّ مِن إِيجَادِ وَسَائِلَ أخرَى لِتَقيِيمِ مَا لدينا من مواد عن يَسُوعَ.
المَسْعَى الثَّالِثُ في البَحْثِ
مَعَ نَشرِ أدراجِ لفائف البَحْرِ المَيَّتِ، اتَّضَحَ أَنَّ اليَهُودِيَّةَ فِي زَمَنِ يَسُوعَ كَانَت أَكثَرَ تَعقِيدًا مِمَّا كَانَ يُعتَقَدُ سَابِقًا. وَبِفَضلِ هَذِهِ الاِكتِشَافَاتِ، أَصبَحَ لَدَينَا الآنَ وَسَائِلُ أَكثَرَ لِدِرَاسَةِ هَذِهِ المَعتَقَدَاتِ القَدِيمَةِ فِي سِيَاقِهَا التَّارِيخِيِّ وَالحضاري. بالإضَافَةً إِلَى ذَلِكَ، أصبحتْ الأَعمَالُ اليَهُودِيَة الأُخرَى الأَقْدَمُ أَكثَرَ وُضُوحًا في الترجَمَةِ الإِنجِلِيزِيَةِ. نَتِيجَةٍ لِذَلِكَ، بَدَأَ الباحثون يُقَدِّرُونَ أَكثَرَ كَيفَ شَكَلَت هَذِهِ الأَعمَالُ المُنَاقَشَاتِ حَولَ الأسفار المُقَدَسَةِ العِبرِيَةِ. هَكَذَا ظَهَرَ مَسْعًى جَدِيدٌ في البَحْثِ (يُطلَقُ عَلَيهِ غالبًا مَسْعَى البَحْثِ الثَالِثِ) لمُحَاوَلَة فَهمِ يَسُوع فِي السِّيَاقِ المَعرُوفِ بِـ “يَهُودِيَّةِ الهَيكَلِ الثَّانِي”. هَذِهِ هِيَ اليَهُودِيَّةُ التِي كَانَ يَسُوعُ جُزءًا مِنهَا فِي نَشَأَتهُ. هَذِهِ اليَهُودِيَّةُ، بِتَنَوُّعِ آرائها النَّاشِئة، والظَّاهِرة فِي اكتشَافَاتِ البَحرِ المَيَّتِ وَغَيرِهَا مِنَ المَصَادِرِ القَدِيمَةِ، كانتْ تُمَثِّلُ السِّيَاقَ اللَّاهُوتِيَّ لِجُمهُورِهِ.
في عام 1945م، اكْتُشِفَتْ مَجمُوعَةٍ أُخرَى مِنَ النُصُوصِ فِي نَجع حَمَّادِي، مِصْر. ورُغْمَ احتِوَائِهَا عَلَى مَوَادٍ لَاحِقَةٍ، إلا أنها أَزَاحَتْ اللِّثَامَ عن نُصُوصٍ أُخرَى تَصِفُ يَسُوعَ. ولفَتَتْ أَيضًا الكَثِير مِنَ الانتباه وَأثرَتْ المناقشاتِ عنه، وعن طريقة نظرة الآخَرينَ له فِي القُرُونِ المبكِّرَة. في العموم، لَم تَكُن هَذِهِ النُّصُوصُ ذات أَهَمِّيَّةٍ بالنسبة إلى تَطَوُّرِ مَسْعَى البَحْثِ الثَّالِثِ، لَكِنَّهَا لَعِبَت دَورًا فِي التفكير عن يَسُوعَ مَعَ تَقَدُّمِ البَحثِ. لقد ساهم اكتِشَافُهَا في تَعميقِ النِّقَاشِ.
هَذِهِ الِاِكتِشَافَاتِ الجديدة والمُثِيرَةِ دَفَعَت مَسْعَى البَحْثِ الثَّالِثِ للأمام، الذي بَدَأَ ظُهُورُه فِي سِتِّينِيَّاتِ القَرنِ المَاضِي، لَا سِيَّمَا مَعَ تَزَايُدِ تَقدِيرِ لفائف البَحرِ المَيِّتِ. وَبِحُلُولِ ثَمَانِينِيَّاتِ القَرنِ المَاضِي، بَدَأَ بَعضُ البَاحِثِينَ يَكتُبُونَ مِن مَنظُورِ المَسْعَى الثَّالِثِ في البَحْثِ، مع تحَدٍّ لمنهجِ المَسْعَى الثَّانِي في البَحْثِ. وبخلاف بَاحِثِي المَسْعَى الثَّانِي في البَحْثِ، لَم يَبدَأُوا بِمُحَاوَلَةِ تَحلِيلِ نُصُوصِ الأناجِيلِ، بَل بِمُحَاوَلَةِ فَهمِ السِّيَاقِ التَارِيخِيِّ الذِي عَاشَ فِيهِ يَسُوع والاتساقِ فِي خَطِّ السَّرْدِ الكُلِّيِّ الذِي تَعبِّرُ عنه المَوَاد المُرتبطة بِيَسُوعَ. كان هَذَا يعني العَمَلَ ليس فقط بِالنَظَرِ إِلَى القَوَاعِدِ بَل أَيضًا إِلَى العَرْضِ المُتَمَاسِكٍ عن يَسُوع والمتناغِم مَعَ هَذَه الخَلفِيَّةِ النَّاشِئَةِ لِمَا كَانَ يَحدُثُ فِي القَرنِ الأَوَلِ. بَدَأَ دَارِسُو مَسْعَى البَحْثِ الثَّالِثِ يتساءلون: كَيفَ يمكن فهم أَعمالِ يَسُوعَ وَتَعَالِيمِهِ فِي هَذَا السِّيَاقِ؟ وَهَل يُمكِنُ أَن تَنسَجِمَ معًا بِشَكٍل جَيِّد فيه؟ هَذَا التحوُّل فِي نُقطَةِ الانطلاق تعود بنا أَيضًا إِلَى مَقدِمَةٍ كَتَبَها قبلاً شوَايْتزَر Schweitzer: إن تَعَيَّن عليك فهَمُ يَسُوع، لا بُدَّ أن يكون هذا الفهم نابعًا من بِيئَتِهِ اليَهُودِيَّةِ وَالجُمهُورِ الَّذِي تَحَدَّاهُ.
الوَضعُ الرَّاهِنُ
مَا زَالَ البَحْثُ عَنِ يَسُوعَ التَارِيخِي مُثِيرًا لِلجَدَلِ، وَيَرجِعُ ذَلِكَ جُزئِيًّا إِلَى كَونِهِ مَسْعًى مُعَقَدًا يَرتَبِطُ بِإِعَادَةِ تَشكِيلِ المَاضِي بِنَاءً عَلَى اختِيَارِ المَصَادِرِ الَتِي نجدها مع باحثين يُطَبِّقُون مَعَايِير مُتَنَوِّعَةً فِي طريقة تَقيِيمِهِم لِلرِّوَايَاتِ. مَعَ تَقَدُمِ الزَمَنِ عَبْرَ مَرَاحِلِ البَحثِ، تميل النَتَائِجُ إِلَى الثِّقَةِ بِالمَصَادِرِ أَكثَرَ مِمَا كَانَت عَلَيهِ المحاولات الأولى، حتى أن البَعْضَ ينادِي الآن بِأَنَ خَندَقَ لِسِنج Lessing’s ditch يُشَوِّهُ بِشِدَّةٍ مَا يُمكِنُ إِثبَاتُهُ. وَقَد شَارَكَ كُتَّابٌ مِنَ المَدَارِسِ الإِنجِيلِيَةِ وَغَيرِ الإِنجِيلِيَةِ فِي هَذِهِ المُنَاقَشَاتِ، وبصفةٍ خَاصَة فِي الآوِنَةِ الأَخِيرَةِ. ينادي بَعضُهُم بأن إِنجِيل يُوحَنَا يحتاج إلى مزيد من الانتباه فِي هَذِهِ المُنَاقَشَاتِ أكثر مِمَا حظي به تَارِيخِيًّا. وعلى غرار تأثير يَسُوع نَفسِهِ، تَبقَى هَذِهِ المُنَاقَشَةُ جُزءًا مِنَ الحِوَارِ العَام عَن يَسُوعَ بَينَ الباحثين وَهُم يُناقشون وَيَتَحَاوَرُون بشأن جَدَارَةِ مَا تُخبِرُنَا بِهِ المَصَادِرُ، وَتَبْقَى أيضًا وَسِيلَةً لِلتَعَامُلِ مَعَ شَكِّ الكَثِيرِينَ.
يمكنك تحميل كتيب يسوع التاريخي لداريل بوك من هنا.