تحدث الدكتور أوسم وصفي، في ڤيديو تم نشره يوم الجمعة ٣٠ إبريل،[1] عمَّا اسماه “الإيمان المسيحي القويم“. إذ أراد أن يُساعد الناس حسب قوله على التمييز بين الإيمان المسيحي التاريخي وبين “الدين الشعبي” الذي يتبناه المسيحيون اليوم في كل مكان. أكدَّ أوسم أن ما يريده هو مساعدة المسيحيين على الرجوع للإيمان القويم “بحسب الكتاب المقدس وبحسب قوانين الإيمان أو قانون الإيمان النيقاوي / القسطنطيني والذي يؤمن به كل المسيحيون من كل الطوائف في كل بلاد العالم“. لكن للأسف، عند متابعة ما قاله في باقي الفيديو، لا يسع أي دارس لكلمة الله وللعقيدة المسيحية إلا أن يحزن على كمَّ التعاليم التي تم عرضها في هذا الفيديو والتي لا تمت للمسيحية التاريخية القويمة بصلة ولا تُعبر عن رأى الله المُعلن في كلمته.
لكن قبل مناقشة بعض هذه التعاليم أودُّ التأكيد على عدة أمور هامة بخصوص مناقشة أفكار أحد الأسماء ذائعة الصيت مثل د. أوسم وصفي.
- أولاً، لمن يسأل ما إن كان من المفيد واللائق تسليط الضوء على تعاليم شخص مُحدد بعينه وذكره بالاسم، أو ما إذا كان هذا يتوافق مع السلوك والمحبة المسيحيّة. والإجابة بسيطة، أشجعك على قراءة تلك الشواهد في كلمة الله لتعرف الإجابة بنفسك (تيموثاوس الأولى ١: ١٩-٢٠؛ تيموثاوس الثانية ٢: ١٧-١٨؛ يوحنا الثانية ١٠-١١).
- ثانيًا، تعلمنا كلمة الله أهمية التمسك بالعقيدة السليمة، والسلوك السليم، كلاهما معًا. وقد أكدَّ بولس أن هدف خدمته يشتمل على “مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ، ٱلَّذِي هُوَ حَسَبُ ٱلتَّقْوَى” (تيطس ١: ١). لذلك، فمناقشة الحقَّ الكتابي أمرٌ لا مفر منه إنَّ كنَّا نريد أن نعيش بحسب التقوى.
- ثالثًا، ما سنناقشه في هذا المقال لا يشمل كل كتابات وأفكار د. أوسم وصفي، لكن فقط الڤيديو المذكور أعلاه. فإذا كان الدكتور أوسم وصفي يستطيع أن يُشير لأي جزء من هذا النقد ويقول إنه تم إساءة تمثيل رأيه في هذا المقال، أو أنه غيَّر رأيه فيما قاله، أو أنه لم يعبر عن رأيه في هذا الفيديو بدقة كافية، فالكاتب يُرحب بتصحيح نقده. والآن دعونا نتحدث عن بعض النقاط الهامة في الڤيديو.
1. الأقانيم ليسوا ثلاث أقنعة لشخص واحد
يقول أوسم “يؤمن المسيحيون أن الله مثلث الأقانيم وكلمة “أقنوم” هذه كلمة سريانية مشتقة من المسرح الذي فيه ممثل واحد، وبارتدائه قناع على وجهه، فهو يؤدي (يمثّل) شخصية ثم يتغير المشهد فيرتدي قناعًا آخر لشخصية أخرى وهكذا. إذًا، ثلاث شخصيات لكنهم في النهاية ممثل واحد. كما هو الحال مع الإنسان الذي تارة يكون طفلًا وتارة مراهقًا أو راشدًا أو والدًا، لكنه في النهاية إله واحد.”
هنا نجد خطأ في تعريف كلمة أقنوم أدى إلى خطأ جوهري في عقيدة الثالوث، وذلك للأسباب التاليّة:
- صحيح أن كلمة “أقنوم” كلمة سريانية، لكنها لا ترجع في أصلها إلى ما قاله أوسم. فما يُشير إليه أوسم في هذا المقطع في تعريفه لكلمة أقنوم هو الكلمة اليونانية prospon/ προσωπον، والتي تعني “وجه” (كورنثوس الثانية ٤: ٦) أو “قناع (mask)”. ولقد استخدم بعض اللاهوتيين الشرقيين المتحدثين باليونانية في القرون الأولى تلك الكلمة (أثناء تطور صياغة عقيدة الثالوث)[2] إلى أن رأوا أن الكلمة يُساء فهمها وتُسئ شرح عقيدة الثالوث الكتابيّة، فتوقفوا عن استخدامها.[3]
- أخذ سابيليوس (أسقف حُكم عليه بأنه مُهرطق في القرن الثالث) هذه الكلمة وطوّر ما دعته الكنيسة بالهرطقة السابلية أو المودالية. علَّم أصحاب هذه الهرطقة أن الله واحد وقد ظهر بثلاث شخصيات (أو أقنعة) في الزمن: ظهر الله في صورة الآب في الخلق وفي العهد القديم بشكل عام، ثم ظهر الله في صورة الابن في التجسد (العهد الجديد)، وأخيرًا ظهر الله في صورة الروح القدس في الكنيسة.
- أدركت الكنيسة مُبكرًا إن تعاليم السابلية يؤكد الوحدانية في جوهر الله الثالوث على حساب التضحية بالتمايز بين الأقانيم الثلاثة. الأمر الذي يفشل في شرح الكثير من الأجزاء الكتابية التي تُظهر أثنين أو أكثر من الأقانيم في نفس المشهد، مثل مشهد معمودية المسيح يسوع حيث نرى حضور للثلاثة أقانيم في وقت واحد (مرقس ١: ٩-١١)؛ ومشهد صلاة يسوع الكهنوتية حيث نرى الابن يتحدث مع الآب (يوحنا ١٧).
لكن ما الذي تعنيه كلمة أقنوم بشكل صحيح؟
- كلمة “أقنوم” مُترجمة عن الكلمة اليونانية [هيبوستاسس- ὑπόστασις]، وهي الكلمة التي اختار اللاهوتيين الشرقيين استخدامها بدلًا من كلمة prospon. ولأن كلمة ὑπόστασις ليس لها مرادف في اللغة العربية أو الإنجليزية، لذلك في بعض الأحيان تمت ترجمتها إلى “ذات” أو “نفس”، إلى أن استقرت بعض الترجمات الإنجليزية في استخدام كلمة “شخص – Person” بسبب عدم وجود كلمة أفضل من ذلك.[4]
- لكن فضَّلَ اللاهوتيون العرب استخدام كلمة “أقنوم” للتفريق بين ما يُمكن أن تعنيه كلمة “شخص” وما تُشير إليه كلمة “هيبوستاسس”. فكلمة “شخص” تُشير لكون الشخص منفصل عن أشخاص أخرين لا يُشاركهم نفس الطبيعة، بينما المقصود بكلمة “أقنوم”، كترجمة لὑπόστασις، حرفيًا هو “ما يقوم عليه الجوهر” الإلهي. فكلمة ὑπόστασις تُشير لكيان أو ذات أو شخص “يشترك مع أخر في الجوهر“[5]. كيان أو شخص لا ولن يوجد إلا في الاشتراك مع آخر (الأقنومين الآخرين) مساو له في الجوهر الواحد والطبيعة الواحدة، أي جوهر وطبيعة الله نفسه.
وبالرغم من وجود تمايز بين أقانيم الثالوث، يملك كل أقنوم كل الجوهر الإلهي، وكل الجوهر الإلهي قائم في الثلاثة أقانيم. ولذلك فكل أقنوم له كل صفات الجوهر الواحد. لذلك، فحتى التشبيهات التي كثيرًا ما تُستخدم، مثل القول بأن الثالوث مثل “الإنسان الذي تارة يكون طفلًا وتارة مراهقًا أو راشدًا أو والدًا لكنه في النهاية” شخص واحد، لا تصف الإله الثالوث كما يصفه الكتاب المقدس. وكل تشبيهات بشرية ستعجز عن وصف الإله الذي يفوق كل وصف. لذلك، في حديثنا عن “الثالوث الإله الواحد” علينا الاحتفاظ أولاً وأخيرًا بالشرح الكتابي، تابعين خطوات أباء الكنيسة، مرشدينا من القرون الأولى.
2. نعم، يسوع المسيح هو الله
يقول أوسم، “كنت قد التقيت بمريضة مسيحية وقلت لها: “تصدقي وتؤمني بالله وكنت متوقعًا أن تقول: “لا إله إلا الله.” لكنها قالت لي: “يسوع هو الله”. صُدمت قلت في نفسي[6]: “يسوع هو الله!” هل يؤمن المسيحيون أن يسوع هو الله؟! أو أن الله قد اُختزل في إنسان اسمه يسوع في القرن الأول الهجري[7]؟!”
هنا نريد الإشارة لمغالطة منطقية تُدعى “المنحدر الزلق: Slippery Slope”. هذه المُغالطة تشير لكون موقف أو افتراض معين غير مقبول لسبب أمور كثيرة غير مقبولة يُمكن أن تترتب عليه. فقد رفض أوسم القول “يسوع هو الله” لأن، بالنسبة له، قبول هذا الافتراض يعني بالضرورة “اختزال الله في إنسان اسمه يسوع في القرن الأول”. لكننا نرفض ذلك لعدة أسباب منها:
- أولاً، يجب ألا نفصل فصلًا تامًا بين اسم “يسوع” ولقب “المسيح”، وكأن الأول يُشير للطبيعة البشرية والثاني للإلهية. فقد استخدم الملاك عندما ظهر ليوسف اسم “يسوع” ليُشير لكونه هو نفسه الذي سيُخلص شعبه (الشخصي) من خطاياهم (متى ١: ٢١)، فيسوع هو الله الذي يُخلّص. كذلك، فإن لقب “المسيح” لا يعني الإله، بل يعني الممسوح من الله بالروح القدس ليكون ملكًا ونبيًا وكاهنًا. لذلك، بالرغم من وجود تمايز في الإشارات التي يهبها لنا كل اسم ولقب للمسيح، إلا أننا لا يجب أن نرفض أن “يسوع المسيح” كان هو الله الإنسان (شخص واحد له طبيعاتان متحدتان بغير امتزاج ولا انفصال ولا تغيير، كما يُقرَّ مجمع خلقيدونية ٤٥١م).
- ثانيًا، تؤكد كلمة الله بوضوح أن يسوع المسيح هو الله في عدة أماكن. على سبيل المثال لا الحصر، نقرأ في رومية ٩: ٥، “ٱلْمَسِيحُ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، ٱلْكَائِنُ عَلَى ٱلْكُلِّ إِلَهًا مُبَارَكًا إِلَى ٱلْأَبَدِ.” فبولس يقول بوضوح أن المسيح هو الإله الكائن فوق كل شيء. كما يؤكد في كولوسي ٢: ٩، “فَإِنَّهُ فِيهِ (في يسوع المسيح) يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللَّاهُوتِ جَسَدِيًّا.” نعم، كل اللاهوت، أي كل ما هو الله، كان في يسوع المسيح الإنسان. لكن يبدو أن أوسم يرفض هذه الحقيقة، أو على الأقل لا يقبل هذه اللغة في التعبير عن ألوهية يسوع المسيح. مثال أخير، نقرأه في يوحنا ١: ١، “كَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللهَ”. فإن كان الكلمة هو الذي صار جسدًا، فهذا يعني أن الله صار بشرًا في يسوع المسيح (يوحنا ١: ١٤)، ولذلك، يُمكننا القول أن “يسوع المسيح هو الله”.
- ثالثاً، لعل العدد في يوحنا ١: ١ يُمكن أن يُساعدنا للتعمق أكثر في تخوف أوسم: إن قلنا “أن يسوع هو الله” فنحن “نختزل الله في يسوع”. لذلك دعنا نكمل قراءة العدد: “فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللهَ.” وقد كان هذا العدد موضوع جدل كبير منذ ظهور البدعة الآريوسية في القرون الأولى وإلى يومنها هذا. إذ قد أخذ الآريوسيين حقيقة كون كلمة “الله” في اليونانية بدون أداة تعريف (θεοῦ بدلا من ὁ θεοῦ) في جملة “وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللهَ” وقالوا أن المسيح “إله” وليس “الإله” (ليس “الله”). هناك عدة أمور لغوية تمنعنا من الوصول لهذا الاستنتاج الآريوسي ليس لنا المجال للحديث عنها هنا.
- يكفي التأكيد على أن هناك عدة طرق في اليونانية (وفي أية لغة) لتعريف الاسم بجانب التعريف بأداة التعريف. لكن لاحظ أيضًا أنه يوحنا الرسول قد أشار لله الآب في نفس الأصحاح بكلمة “الله θεοῦ” بدون أداة تعريف (١: ٦، ١٢).
- وكذلك، استُخدمت كلمة “الله” بأداة التعريف (ὁ θεοῦ) للإشارة للمسيح يسوع في يوحنا ٢٠: ٢٨. لكن الأهم بالنسبة لموضوع حديثنا هنا هو أن هناك سبب تِقَني أخر يجعل يوحنا يقول ” وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللهَ (θεοῦ)” بدون استخدام أداة التعريف. فإذا كان قد استخدم أداة التعريف، كان يمكن أن تُترجم الجملة “وكان الله هو الكلمة“. الأمر الذي يعطي الإيحاء بأن “الله هو الكلمة فقط” أو أن “الكلمة هو كل ما يكونه الله“. فآنذاك، تكون المسيحية قد اختزلت “الله في أقنوم واحد”! لكن الرسول يوحنا في الحقيقة كان يريد أن يفرق بين الله الابن (الكلمة) والله الآب دون أن يعطى الإيحاء بأن الله أقنوم واحد.[8] لذلك، فعلى مثال يوحنا الرسول، يُمكننا أن نقول “يسوع المسيح هو الله“، ولكن من الأفضَّل ألا نقول “الله هو يسوع المسيح فقط“.
- أخيرًا، ربما كان تخوف أوسم وهو يقول “أن الله قد اُختزل في إنسان اسمه يسوع” هو أن يظن البعض أن المسيحية تُعلَّم أن الله الثالوث في حياة المسيح على الأرض قد توقف عن أن يكون الله وتوقف عن أن يُمارس كل صفاته وأعماله كالإله ليكون موجود في مكان واحد في أورشليم القرن الأول. لكن أي شخص يقرأ الكتاب المقدس بحرص لن يصل لهذا الاستنتاج، فالكلمة صار[9] جسدًا دون أن يتوقف عن أن يكون الله الحامل كل الأشياء بكلمة قدرته (عبرانيين ١: ٢-٣). الابن الوسيط كان على الأرض في مكان واحد، لكن في ألوهيته كان حاضرًا في كل مكان (يوحنا ٣: ١٣).
3. المسيح أيضًا أقام نفسه من الأموات
كان أوسم قد قال في أحد عظاته عن فيلبي ٢: ٩، يسوع الذي “رَفَّعَهُ ٱللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ ٱسْمًا فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ”، وتعجب من الشخص الذي اعترض قائلاً، “كيف تقول إن الله رفعه؟ فيسوع هو الله!”. ثم جاوب عليه بذكر أول عظة في المسيحية حيث قال بطرس “فَيَسُوعُ هَذَا أَقَامَهُ ٱللهُ” (هنا يُشير لأعمال ٢: ٣٢). بعدها يؤكد أيضًا أن الروح القدس أقام يسوع المسيح من الأموات (مُستشهدًا برومية ٨: ١١). لا شكَّ أن أوسم يُساعدنا هنا على رؤية عمل الآب والروح القدس في قيامة المسيح من الموت، وهذا كتابي وضروري. فالمسيحية الشعبية كثيرًا ما تتجاهل ذلك!
- لكن أوسم، أولاً، كان من المفترض أن يذكر أن يسوع المسيح تحدث عن كونه سيُقيم نفسه من الأموات مثلما نرى في يوحنا ١٠: ١٨، “لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا (حياتي) مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا.”
- ثانيًا، الآية التي استخدمها أوسم للإشارة لكون الروح القدس أقام المسيح من الموت (رومية ٨: ١١)، لا تتحدث عن دور الروح القدس بل دور الله الآب. فالآية تقول، “وَإِنْ كَانَ رُوحُ ٱلَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ سَاكِنًا فِيكُمْ”، وليس “وإن كان الروح الذي أقام”. نعم، قد أقام الروح القدس المسيح، لكننا نستنتج هذا لا من رومية ٨: ١١، بل من فهمنا لاشتراك الثلاث أقانيم في كل الاعمال الإلهية، ومن حقيقة كون الروح القدس هو روح الحياة (أيوب ٣٣: ٤)، ومن بعض الإشارات لعمل الروح في قيامة المسيح مثلما نجد في تيموثاوس الأولى ٣: ١٦؛ بطرس الأولى ٣: ١٨.[10] حقًا، قد كان الثالوث القدوس مُشترك في عمل قيامة المسيح يسوع!
- أخيرًا، فإن القراءة الدقيقة لسياق فيلبي ٢، وقراءة سريعة لأي ترجمة أخرى تُظهر أن المقصود بـ”رَفَّعَهُ ٱللهُ” ليس عن عمل الله الآب في القيامة (كما يتضح من الفيديو)، بل في إصعاد المسيح بعد قيامته ورفعه وإعطائه اسمًا فوق كل اسم. هذه الأخطاء التفسيرية تدعونا جميعًا إلى الرجوع للكلمة المقدسة وللسياقات المختلفة للآيات المقتبسة لتعضيد أي عقيدة عند سماعنا لأي تعليم.
4. الله ليس في كل شيء
يقول أوسم، “الله الروح القدس هو الله الذي في كل شيء وهنا يلتقي المسيحيون بالديانات الشرقية، البوذية والهندوسية.” لكن هناك فارق جوهري، وهو أن، الهندوسية مثلًا، أو البوذية، التي هي التطور اللاحق لها، كما هو الحال مع المسيحية واليهودية، تقول (الهندوسية) إن الله هو كل شيء. “مفهوم الروح القدس المسيحي يقول إن الله في كل شيء وليس هو كل شيء. ليس وحدة وجود (Pantheism) ولكن الحلولية (Panentheism) ليس كل شيء الله ولكن الله في كل شيء، به نحيا ونُوجد، ترسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض.”
هناك بالتأكيد صعوبة يُقرَّ بها الفلاسفة واللاهوتيين في تعريف “الحلولية (Panentheism)”.[11] لكن يُمكن إعطاء تعريف تقريبي للحلولية على أنها “الرأي القائل بأن الله في كل شيء. كما يرى هذا الرأي أيضًا أن العالم والله يعتمدان بشكل متبادل على إكمال بعضهما البعض،”[12] ولذا فالله أيضًا يُمكن أن يتغير بتغير العالم. هذا يقود مُعظم اتباع الحلولية لنفي حقيقة كون الله خلق الكون “من عدم ex nihilo“، إذ أن المادة دائمًا ما وجدت مع الله وهو موجود وحالُّ فيها باستمرار.
لكن المسيحية لا تُعلَّم “الحلولية (Panentheism)” كما يدَّعي أوسم. نعم الله كليَّ الحضور، وكل شيء في حضرة الله، والكل عريان ومكشوف أمامه (إرميا ٢٣: ٢٤؛ مزمور ١٣٩؛ عبرانيين ٤: ١٣). ولكن المسيحية ترفض “الحلولية” لأنها تُلاشي الفرق (الأنطولوچي أو الوجودي) بين الخالق والمخلوق.
على العكس من ذلك، تقرأ في إقرار إيمان ويستمنستر ٧: ١:
الُبعد بين الله والمخلوق سحيٌق جدا… لكنها (المخلوقات العاقلة) لا يمكن أبدا أن تحصل على أي تمتع به (بالله) كغبطتها وثوابها، إلا بواسطة بعض التنازل الطوعّي من جانب الله…
فإله الكتاب المقدس هو الإله العالي المرتفع والمُتسامي، الساكن في نور لا يُدنى منه (١ تيموثاوس ٦: ١٤-١٦)، كما أنه هو القريب لكل مَنْ يدعوه بالحق (مزمور ١٤٥: ١٨). وما قصده بولس بقوله “لِأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ” (أعمال ١٧: ٢٨) ليس التأكيد على أن الله في كل شيء، لكن أن كل شيء يستمد وجوده وقوة حركته من الله، وكل كائن حيَّ يستمد حياته واستمراريته منه. فكل ما هو مخلوق (جائز الوجود) مُعتمد بالكامل على الله (الواجب الوجود وحده) في كل شيء. هذا هو ما أكده بولس في نفس العظة في سفر أعمال الرسل عندما قال “ٱلْإِلَهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هَذَا، إِذْ هُوَ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلْأَرْضِ، لَا يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِٱلْأَيَادِي” (آية ٢٤). فالآب خلق كل شيء بالابن (الذي “كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ” يوحنا ١: ٣). كما أن الروح القدس هو الخالق مع الآب والابن (“رُوحُ ٱللهِ صَنَعَنِي وَنَسَمَةُ ٱلْقَدِيرِ أَحْيَتْنِي” أيوب ٣٣: ٤؛ مزمور ٣٣: ٦).
حتى عندما يقول الكتاب المقدس كل التعبيرات التي مُفاداها أن الله يسكن في المؤمنين (١ كورنثوس ٣: ١٦)، هذا لا يجب أن يؤخذ على أنه يُلاشي الفرق بين الخالق والمخلوق أو يجعل الله مثلنا ويجعل الله مُتغيرًا. فالله الذي قال “فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَ ٱللهَ، وَأَيَّ شَبَهٍ تُعَادِلُونَ بِهِ؟” (إشعياء ٤٠: ١٨) حاضر في خليقته لكنه مُتمايز عن (distinct from) كل الخليقة (راجع، مزمور ٥٠: ٢١؛ إشعياء ٤٠: ١٢-٢٦؛ ٥٧: ١٥). وكما قال أحد اللاهوتيين، الإيمان بالحلولية يقودنا للإيمان بأنه عندما جاء الله ليُخلص العالم فهو في الحقيقة قد جاء ليخلص نفسه!
5. واحد هو الله الظاهر في الجسد
يقول أوسم في نهاية الفيديو، “يسوع هو تجلي الله في إنسان بشكل خاص. باكورةً لأن يفعل ذلك في كل البشر بقدر إيمانهم به وبقدر انفتاحهم له!” هنا نجد مزيج بين المشكلة الثانية والرابعة اللاتي في فكر أوسم. فعندما يؤكد من جهة أننا لا يجب أن نقول “يسوع هو الله”، ومن جهة أخرى يُلاشي الفرق بين المخلوق والخالق، فمن السهل أن يتلاشى الفرق بين ما حدث في تأنس الله الابن وما يحدث في تبنى المؤمنين بالنعمة في عائلة الله.
أوافق مع أوسم أن المسيح قدَّم لنا صورة لما يجب أن يكون عليه الإنسان. كما أن كلمة الله تؤكد أننا سنكون مثل المسيح عندما سنراه كما هو (١ يوحنا ٣: ٢)، وأن هدف الفداء الإلهي هو أن نكون مُشابهين صورة المسيح (رومية ٨: ٢٩). لكن:
- أولاً، كلمة الله لا تُعلم أن يسوع المسيح هو مُجرَّد “تجَّلي الله في إنسان بشكل خاص”. نعم رأينا الله في المسيح كما لم نراه في أي شخص، لكن المسيح أعظم من تجلي لله، فهو “تأنس الله”، أي أننا في المسيح نُشاهد الله الكامل الذي أخذ طبيعة بشرية كاملة (فيلبي ٢: ٥-١١؛ كولوسي ٢: ٩).
- لذلك، نحن لا نستطيع أن نكون تجلي لله بنفس الطريقة التي كان بها المسيح. نحن مدعوين أن نكون مشابهين للمسيح، والله يعمل فينا لنكون مثله، لكن هذا لا يعني أننا سنكون آلهة، ولا يعني أننا سنصير ذوي طبيعتين (واحدة إلهية والأخرى بشرية) في شخص واحد مثلما هو الحال مع المسيح يسوع. فلا أحد منَّا يستطيع أن ينفتح على الله بالشكل الكافي للدرجة التي يقول فيها «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ»” (يوحنا ٨: ٥٨). ولا يستطيع أي إنسان أن يقول يومًا لقد آمنت بالقدر الكافي لذا فأنا “الله الظاهر في الجسد!”.
- المسيح ليس مُجرد مثال لنا، نؤمن لنكون مثله. المسيح هو مُخلص لنا من خطايانا، لأننا بالطبيعة فشلنا أن نعيش مثله. عاش هو الحياة التي لم يستطع أن يعيشها إنسان، لكي يفتدى كلَّ إنسان يؤمن به من عقوبة الموت الأبدي ومن سلطان الخطية، مُعطيًا للخطاة حياة جديدة تُمجد الله هنا على الأرض وإلى الأبد.
لذا فالله يدعونا لكي نؤمن به كالإله الواحد المُثلث الأقانيم، ولكي نرى خلاصنا لا في أنفسنا ولا في قدرتنا البشرية على الانفتاح علي الله، لكن في المسيح يسوع، وحده الله الظاهر في الجسد، وفي عمله الكفاري الذي أتممه في حياته وصلبه وقيامته. وليعطنا الرب أن نتمسك بكلمته، وبحقه، ونسلك في خطواته إلى أن نلقاه ونسجد عند أقدام الذي أغدق علينا من غنى نعمته وأعطانا نحن الخطاة أن نعرفه ونعبده ونخبر بمجده!
[1] يُمكن مشاهدة الفيديو من هذا الرابط،
https://www.facebook.com/AwsamWasfy/videos/3993392934073441/?sfnsn=scwspwa
أنا مدين بالشكر ليوسف مراد الذي قام بعمل نسخة مكتوبة (transcript) لكل الفيديو.
[2] يؤمن كاتب المقال أن عقيدة الثالوث مُفترضة في كل صفحات الكتاب المقدس بوضوح لكن تم صياغتها تدريجيًا في القرون الميلادية الأربعة الأولى. كما أن هناك الكثير من الأدلة التاريخية على أن العقيدة لم يتم تعليمها لأول مرة في مجمع نيقية حسب الرأي الخاطئ الشائع. لقارئ اللغة العربية يُمكن مراجعة: أمجد بشارة، الثالوث القدوس قبل نيقية (دار سلام للنشر والتوزيع، ٢٠١٧).
[3] كانت الكلمة المُستخدمة آنذاك في الكنيسة المتحدثة باللاتينية في الغرب هي persona والتي كانت تعني أيضًا “قناع”. وفي حين أن الكنيسة في الشرق أدركت خطورة هذه التعبير في لغتها اليونانية وتوقفت عن استخدام لفظ prospon προσωπον، واستبدلتها بكلمة “هيبوستاسس ὑπόστασις ، إلا أن الكنيسة في الغرب لم تتوقف عن استخدام persona لا لأنها تؤمن بالعقيدة السابلية، بل لعدم وجود مقابل في اللغة اللاتينية لكلمة ὑπόστασις. لكن بالرغم من إبقاء الكنيسة الغربية على كلمة persona إلا أنها لم تشرح الكلمة بالقول إن الله له “ثلاث أقنعة” بل أكدت (ما أكدته الكنيسة الشرقية في شرحها لكلمة ὑπόστασις) أن كل persona له كل صفات الله، وله صفاته الأقنومية المُميزة. لمراجعة بعض التطورات الأخرى في استخدام كلمة persona أنظر، Herman Bavinck, Reformed Dogmatics, 2: 300-301.
[4] لكن مع استخدام كلمة “شخص” ظلَّ اللاهوتيين الغربيين يؤكدون أنه لا ينبغي يُقصد بهذا التعبير أن الله به ثلاث أشخاص مُنفصلين لئلا يُظن أن المقصود أن هناك ثلاث آلهة (tritheism).
[5] وليس مجرد “شخص”، فالأقنوم لا ولم يوجد بغير اشتراك.
علمت الكنيسة تاريخيًا سرَّ الثالوث بالتأكيد على أن الله إله واحد، جوهر واحد وطبيعة واحدة، وهو قائم في ثلاثة أقانيم الآب والابن والروح القدس. وكانت مرجعيتها كتابية: “فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلْأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلْآبِ وَٱلِٱبْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ.” (متى ٢٨: ١٩؛ انظر ٢ كورنثوس ١٣: ١٤).
[6] الصوت غير واضح هنا ولكن عملية الTranscription متوافقة مع السياق.
[7] يقصد الميلادي كما أوضح بعد ذلك.
[8] The ‘Word does not by Himself make up the entire Godhead; nevertheless, the divinity that belongs to the rest of the Godhead belongs also to Him’ (Tasker, p. 45). ‘The Word was with God, God’s eternal Fellow; the Word was God, God’s own Self.’ Edmund P. Clowney, ‘A Biblical Theology of Prayer’, in D. A. Carson (ed.), Teach Us to Pray: Prayer in the Bible and the World (Paternoster/Baker, 1990).
[9] لم يتحول الابن الإلهي ليكون بشري، بل أخذ لنفسه طبيعة بشرية دون التوقف عن أن يكون الابن الإلهي.
[10] أن مدين في النقطة الثانية هنا للشيخ شريف عاطف والذي ساعد في إعطاء ملاحظات على هذه المقالة بشكل عام.
[11] أنظر مقال Roger Olson, “What’s Wrong with Panenthesim?” in Patheos.com, accessed in May 11, 2021: https://www.patheos.com/blogs/rogereolson/2012/08/whats-wrong-with-panentheism/
[12] Donald K, McKim. The Westminster Dictionary of Theological Terms, Second Edition: Revised and Expanded. Westminster John Knox Press. Kindle Edition.