في عام 2003 أصدر الروائي الأمريكي دان براون روايته الأشهر “شفرة دافنشي”[1]، والتي لاحقًا تم تبنيها في فيلم يحمل نفس الإسم من بطولة الممثل الحائز على الأوسكار توم هانكس عام 2006.[2] نَسَجَ دان براون روايته المثيرة حول نظرية مؤامرة تجعل من مجمع نيقية حدثًا محوريًا تم فيه قمع الأفكار البديلة حول حقيقة هوية يسوع، وحَصْر التسلسل الهرمي للسلطة في الكنيسة في أيدي الرجال. يصور براون المجمع كمشهد للمكائد السياسية والصراع على السلطة، يتم فيه الاقتراع حول هوية يسوع واختيار الأسفار المقدسة للعهد الجديد. بالرغم من أن أطروحة الرواية هي خيالية في الأساس، وتفتقر إلى الأدلة التاريخية، إلا أنها استحوذت على الخيال الشعبي العام، ولازالت أفكارها يتم تبنيها من قِبَل دوائر كثيرة من مهاجمي المسيحية وأتباع نظريات المؤامرة خصوصًا مع تحولها إلى فيلم سينمائي.
لكن، وبينما تبتعد الرواية عن الحقائق التاريخية، يبقى السؤال قائمًا: ما الذي تُخبرنا به المصادر التاريخية عن مجمع نيقية؟
يمثل عام 325 م لحظةً فارقةً في التاريخ المسيحي، حيث انعقد مجمع نيقية الأول بغْية إنهاء الانحراف الخريستولوجي الآريوسي. وهو الخلاف البارز الذي سيشكل مسار اللاهوت المسيحي لقرونٍ قادمةٍ. سَعَى مجمع نيقية، الذي عقده الإمبراطور قسطنطين الكبير إلى معالجةِ الخلاف اللاهوتي الذي هدَّدَ وحدة الكنيسة والإمبراطورية.
يسعى هذا المقال المُوجَز إلى تقديم تحليل تاريخي ولاهوتي عام للمواقف اللاهوتية التي تبناها آريوس ومجمع نيقية من خلال المصادر الأصلية التي وصلتنا.
المصادر التاريخية عن بداية الخلاف الآريوسي
تتنوع المصادر التاريخية التي وصلتنا عن بداية الخلاف الآريوسي. وبالرغم من مُعاصَرة بعض منها للأحداث، إلا أن البعض الآخر قد كُتب في القرنين اللاحقين. على سبيل المثال لا الحصر:
- لدينا عمل ابيفانيوس أسقف سلاميس “باناريون Πανάριον” وهو عمل كَتبَه ضد الهرطقات في النص الأخير من القرن الرابع، وقد ناقش ضمن ما ناقش هرطقة آريوس.
- لدينا من المؤرخين الكنسيين: يوسابيوس القيصري (القرن الرابع) والذي كان مُعاصرًا وحاضرًا في المجمع وقد ناقش الأمر في أعماله “حياة قسطنطين” و”ضد ماركلينيوس”.
- من المؤرخين الآخرين: ثيؤدريت في عمله “حياة قسطنطين”(القرن الخامس)؛ وسوزومين “تاريخ الكنيسة”(القرن الخامس)؛ وسقراط “تاريخ الكنيسة” (القرن الرابع والخامس)؛ وفيلوستورجيوس “تاريخ الكنيسة” وهو مُعارض لمجمع نيقية ورافض لمصطلح “من نفس جوهر الآب” (القرن الرابع والخامس).
- أيضًا أعمال أثناسيوس الرسولي رئيس أساقفة الأسكندرية وخليفة ألكسندروس (القرن الرابع) هي في غاية الأهمية، ليس فقط لأن أثناسيوس كان له الفضل في القضاء على الآريوسية لكن أيضًا، لأنها احتفظت لنا بشذرات عديدة مما كتب آريوس.
- هناك أيضًا أعمال أقل أهمية وهي تاريخ منسوب إلى جلاسيوس أسقف سيزيكوس (القرن الخامس)؛ كذلك هيلاري أسقف بواتييه في عمله عن “الثالوث” (القرن الرابع). بالإضافة لكتاب أمبروسيوس “عن الإيمان” (القرن الخامس)؛ وجيروم (ايرونيموس، القرن الخامس) في “الحوار ضد لوكيفرانوس”؛ وروفينوس (القرن الخامس) في “تاريخ الكنيسة”، وغيرهم من الكُتاب الكنسيين. كما يُمكن أيضًا العثور على مصادر أخرى متأخرة لكنها لا تحتل نفس أهمية تلك المصادر المُبكرة.
لم يصلنا أيًا من أعمال آريوس بصورة مُستقلة، لكنها وصلتنا في صورة شذرات في المصادر السابقة. تُرجمت معظم هذه المصادر المذكورة أعلاه إلى اللغة العربية، بالإضافة لوجودها جميعًا في نشرات نقدية إنجليزية وألمانية ولغات أخرى مُعاصرة.
آريوس كاهن بوكاليس
تُجمع المصادر المسيحية المُبكرة أن الأزمة قد بدأت من قسٍ سكندري يُدعى آريوس Ἄρειος. يشير ابيفانيوس أن آريوس، والذي وُلد في ليبيا؛ كان قسًا على كنيسة تدعى بوكاليوس.[3] لكن، يشير فيلوستورجيوس أن بوكاليوس كان لقبًا يطلق على ألكسندروس أسقف الاسكندرية (تاريخ الكنيسة 1. 4).[4] ويبدو أن فيلوستورجيوس قد أساء فهم الكلمة خطأ على أنها βαύκαλιϲ والتي تعني وعاءً مُنتفخًا لحفظ النبيذ، ربما كإشارة ساخرة من مظهر الأسقف ألكسندروس.[5]
وبعيدًا عن التباس فيلوستورجيوس، تُعد منطقة “بوكولوس Βουκóλος” أو “بوكولو Βουκóλου” من أكثر مناطق الإسكندرية القديمة التي يَصعُب تحديدها جغرافيًا في الإسكندرية الحالية. لم يأت ذكر لهذه المنطقة في النصوص القديمة ما قبل المسيحية، لكنها ظهرت في النصوص المسيحية مثل نص “أعمال واستشهاد مرقس Acta Marci” (وهو موجود في مخطوطتين يونانيتين من القرن العاشر والحادي عشر، بالإضافة للعديد من المخطوطات العربية والقبطية)؛ بالإضافة لظهورها بالارتباط مع مكان كنيسة دُعيت كنيسة “بوكولوس” نسبة إلى المنطقة.
يبدو أن كلمة “Βουκóλου” هي من الكلمة اليونانية “Βουκóλος” والتي تعني “راعي البقر”، ويبدو أن الكُتاب المسيحيين قد فهموها بهذه الطريقة.[6] يقول نص أعمال واستشهاد مرقس أنه حين قبضوا على مرقس “ربطوا حبلاً على عنقه وجروه، قائلين: لنجر الجاموس في بوكولو Βουκóλου”، في إشارة أن كلمة “بوكولوس/بوكولو” ربما تعني بالفعل مرعى البقر (أعمال واستشهاد مرقس 9).[7] ويُضيف نص “أعمال واستشهاد مرقس” أنه تم إقامة مزار في موضع استشهاد مرقس في منطقة “بوكوليا Βουκóλια “، شرق الميناء الجديد.[8]
لكن، يقترح روان ويليامز أمرين: الأول هو أن الكلمة اليونانية “βαυκᾰλις” والتي تعني “وعاء النبيذ”، قد تكون اشارة لمكان لصناعة النبيذ قد حل المزار محلها لاحقًا.[9] وتم تحريف الكلمة عند النقل بالخطأ لاحقًا إلى Βουκóλου و Βουκóλοςوالتي تعني “راعي/مرعى البقر.” [10]
وعليه، فالاقتراح الثاني، هو أنه يُحتمل أن تكون منطقة بوكاليس βαυκᾰλις المقصودة هي بالقرب من منطقة المقابر الشمالية في شرق الإسكندرية. الجدير بالذكر أن سترابون قد أشار إلى أنه عند بحيرة مريوط والتي يصف أنها تقع على “مسافة سبعين ستاديا” (أي حوالي 11كم) من منطقة المقابر الغربية، هناك مكان لصناعة النبيذ (سترابون، الجغرافيات 17. 1. 14-15).[11] ربما يكون هذا الاقتراح مقبولاً، خاصة وأنه كثيرًا ما يتم نقل أسماء الأمكنة والأشخاص بصورة خاطئة، لكن لا يوجد دليل يؤكد أنه هذه هي المنطقة التي أشار إليها سترابون خاصة وأنه لم يذكر المكان باسم محدد.
لكن لماذا تحديد بوكولوس/ بوكاليوس/ بوكاليس بهذه الأهمية؟ ارتباط هذه الكنيسة بقصة استشهاد مرقس الرسول ومزاره، تشي بأهميتها، مما يعني أن آريوس لم يكن قسًا لكنيسة مغمورة، بل لكنيسة مهمة في الإسكندرية. وبحسب إشارات ابيفانيوس ورسالة قسطنطين لآريوس عام 333م يبدو أن آريوس كان قسًا متقدمًا في السن (باناريون 69. 3. 1).[12]
بداية الأزمة
يُشير سقراط إلى أسباب بداية الأزمة بين ألكسندروس أسقف الاسكندرية وآريوس. فقد اعتقد آريوس أن ألكسندروس يُعلِّمُ نفس تعاليم سابيليوس،[13] وذلك في عظة ألقاها ألكسندروس عن الثالوث في حدود عام 318م. بحسب المؤرخ سقراط، كان الموقف هكذا: “[كان] آريوس ذا فطنة منطقيَّة لا يُستهان بها … فقال آريوس [ردًا على عظة ألكسندروس]: “فإذا كان الآب وَلَدَ الابن، فالذي وُلِدَ يتحتم أن يكون لوجوده بداية. إذًا، فالإبن كان غير موجود في زمن ما، ومن ثم فالإبن مخلوق من لا شيء” (تاريخ الكنيسة 1. 5. 1-2).[14]
من المُستعبد أن يكون ألكسندروس قد عَلَّمَ تعليمًا خاطئًا، فلم يتم اتهامه بهذا الاتهام من قِبَل أيِ من المجتمعين في نيقية أو حتى قبل انعقاد المجمع. لكن من المُرجح أن آريوس ربما قد يكون أساء فهم شيئًا قاله ألكسندروس. وأيًا كان ما فهمه آريوس على أنه تعليمًا سابيليًا، فما قدمه آريوس كردٍ مُقابلٍ كان مُفارقًا للكريستولوجيا الأرثوذكسية القويمة.
قد تكشف تلك العبارات المُقتضبة التي أوردها سقراط عن كريستولوجيا آريوس عن سبب اتهامه لألكسندروس بالسابيلية. خطأ آريوس اللاهوتي يكمن في خلطه بين ما هو زمني وما هو وجودي. فهو يفسر مصطلح “الولادة” بمعنى زمني بحت، مما يعني بالضرورة وجود علاقة متعاقبة -وبالتالي زمنية- بين الآب والابن، حيث يبدأ وجود الابن في نقطة معينة من الزمن. يفشل هذا الفهم في إدراك الأطروحة الثالوثية الأرثوذكسية للعلاقات الأزلية بين أشخاص الثالوث، حيث في ذات الوقت يكون أشخاص الآب والإبن والروح القدس هم ألوهة واحدة.
بجانب هذا الاتهام لألكسندروس بالسابيلية من جانب آريوس، يُقدم ثيودوريت سبباً إضافيًا لبداية الأزمة، فآريوس إلى جانب كونه قسًا كان حافظاً مؤتمناً على مخطوطات الكُتب المُقدَّسة، لكن تملكه الحسد تجاه ألكسندروس جعلته “يعارض التعاليم الرسولية التي لألكسندروس” (تاريخ الكنيسة 1. 1).[15] لكنه يُشير أيضًا إلى أن آريوس قد ظهر كمثير للمشكلات منذ زمن أخيلاس Αχιλλάς (أرشيلاوس) رئيس الأساقفة السباق لألكسندروس (ثيؤدريت، تاريخ الكنيسة 1. 1).
تصاعد الأزمة
بطريقة ما انتشرت أفكار آريوس بسرعة. ومن غير الواضح السبب الذي جعلها سريعة الانتشار هكذا. يُشير سقراط إلى أن آريوس “آثار بذلك الكثيرين للتفكير في المسألة. وهكذا من شرارة صغيرة اندلعت نار كبيرة. لأن الشر الذي بدأ في كنيسة الإسكندرية قد انتشر في سائر أرجاء مصر وليبيا وطيبة العليا، وأخيرًا امتد إلى باقي المقاطعات والمدن. وتبنى آخرون كثيرون آراء آريوس، وبصفة خاصة يوسيبيوس أسقف كنيسة بيرتس، ثم إلى حد ما اسقفية نيقودميديا في بيثنية.” (تاريخ الكنيسة 1. 6. 1)
ويُضيف ثيؤدريت أن آريوس كان قسًا منوطًا به شرح الأسفار المقدسة (تاريخ الكنيسة 1. 1)، وتبعه حوالي سبعمائة عذراء مُكرَّسة من الكنيسة و سبعة قسوس وإثنى عشر شماساً و بعض أساقفة ليبيا مثل سيكوندس و بتوليمس.[16]
أسباب الانتشار السريع لأفكار آريوس
من الممكن عزو هذا الانتشار السريع لعدة أسباب:
- قدم آريوس نظرة أبسط عن الله. جادل آريوس أن يسوع المسيح هو كائن مخلوق، ووسيط بين الله والبشر. هذه النظرة، تجنبت اللاهوت الأكثر تعقيدًا الموجودة في أطروحة الثالوث الأرثوذكسية القويمة، وربما بدت أكثر منطقية للعوام. كان مُنْطَلَق آريوس هو أن الله متعالٍ ولا يمكن إدراكه، وجوهره فريد تمامًا وفائق للإدراك لا يمكن معرفته أو تمييزه، ووجود الإبن كمساو وأزلي مع الآب كان يعني بالنسبة له أن جوهر الله قابل للتقسيم أو التعددية، وهو ما تكشفه رسائله والشذرات التي بقيت لدينا من الثاليا.
- بالإضافة إلى هذا، قدّم آريوس وجهات نظره اللاهوتية بطريقة متماسكة وسهلة المنال، جاذبة كلاً من النخبة المتعلمة -من الأساقفة مثل يوسابيوس النيقوميدي والتجمعات الرهبانية- وكذلك الجمهور المسيحي الأوسع من العوام على حد سواء. وعلى الرغم من أن حججه معيبة في نهاية المطاف، إلا أنها كانت تتمتع بما يشبه التماسك المنطقي والبساطة التي لاقت صدى لدى الكثيرين.
- يشير سقراط وسوزومين أن آريوس كتب أفكاره في أنشودة أو ترنيمة دُعيت بالثاليا Θαλεία. ويصفها سقراط أن “سمة كتابتها مهلهلة وباطلة وتماثل في أسلوبها ووزنها أناشيد سوداس Σωτάδης” (سقراط، تاريخ الكنيسة 1. 9. 4).[17] وسوداس هو شاعر يوناني عاش في الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد، وكان رائد لهذا النمط من الشعر الفاحش والساخر المعروف باسم Κίναιδοι. ويبدو أن سُقراط عن طريق تشبيهه لقصيدة آريوس بأعمال سوداس قد قصد اهانته. في حين يشير فيلوستورجيوس أن آريوس كتب أناشيد تناسب البحارة، وعمال الطحن، والسفر، وغيرها. ووضع الموسيقى التي تليق بها. ومن خلال تلك المتعة التي أعطتها الموسيقا اختلس الرعية البسيطة لصالح هرطقته (تاريخ الكنيسة 2. 2.).
وأنشودة الثاليا مفقودة بوصفها عملا متكاملا، لكن لدينا منها شذرات في صورة اقتباسات في كتابات أثناسيوس وآخرين. بحسب ما وصلنا منها، فهي تُقدم الإبن بصفته كائنًا غير أزليّ، أقل من الله الآب ومنفصل عنه.
وبينما لم يتجاهل آريوس فكرة الثالوث تمامًا، إلا أنه قلل من مساواة الآب للإبن واعتبره غير أزلي “مولود” من الله الآب لذا لا يُشاركه طبيعته، بل تقوم بينهما علاقة “تبني”. يقول آريوس في الثاليا “إذاً هناك ثالوث، لكن غير متساوٍ في (من نفس) المجد، كياناتهم ليست مختلطة فيما بينهم.”[18]
لاهوت آريوس
بحسب الشذرات الباقية من أعمال آريوس، خصوصًا الثاليا. فالله “الذي بلا بداية جعل للابن بداية. وعليه، فالابن “ليس لديه شيء خاص من جوهر الله. لأنه ليس مساويًا له ولا من نفس الجوهر.”[19] هذه هي الأطروحة الأساسية لكريستولوجيا آريوس.
قُدمت عدة محاولات لتفسير الخلفية التي بَنَيَ عليها آريوس أطروحته. اقترح ر. د. ويليامز، بناء على إشارة في مرسوم قسطنطين ضد الآريوسيين أن أريوس قد بنى أطروحاته مُتأثرًا بفلسفة بورفريوس،[20] وهو من أهم فلاسفة الأفلاطونية المُحدثة، وقد عاش من منتصف القرن الثاني الميلادي وحتى أوائل القرن الثالث الميلادي، وقد كتب أحد أعماله “ضد المسيحيين Contra Christianos“. يقول المرسوم قسطنطين:
“بما أن آريوس كان مقلدًا للأشرار والأشرار، فمن الصواب أن يعاني من نفس العار الذي يعانون منه. بورفريوس، الذي كان معاديًا لكل من يتقي الله، ألف كتابًا يتعدى على ديننا، ووجد مكافأة مناسبة: وهي أنه قد تعرض للعار منذ ذلك الوقت فصاعدًا، وسُمعته فظيعة تمامًا، وكتاباته الشريرة قد تم تشويهها، ودمرت. وبنفس الطريقة يبدو من المناسب أن يُطلق على آريوس ومن هم على شاكلة فكر آريوس من الآن فصاعدًا اسم بورفيريين، حتى أن أسماءهم مأخوذة من أولئك الذين قلدوا طرقهم” (سقراط، تاريخ الكنيسة 1. 9. 8).
بالرغم من وجود بعض التشابه بين الأفلاطونية المُحدثة (بورفريوس) والآريوسية فيما يخص التسلسل الهرمي للوجود، ودور الكائنات الوسيطة (الإبن كائن إلهي تابع، ووسيط بين الله والمخلوقات) ؛ يظل موضوع هذا التأثير هو مجرد فرضية تخمينية لا يوجد عليها أي دليل.[21]
هناك اقتراحات أخرى، اقترح تي.اي. بولارد ان آريوس يجب فهمه من خلال التأثير الأنطاكي للوكيان الأنطاكي[22]، حيث خاطب آريوس في رسالته ليوسابيوس النيقوميدي مُلقبًا آياه بـ”الرفيق-اللوكياني” (ابيفانيوس، باناريون 69. 6. 5). أيضًا اقترح ليزلي بَرنارد أن الآريوسية ببساطة تضرب بجذورها في “الثنائية الفلسفية” التي تقترح وجود مبدأين في العالم الإلهي[23]، واستبعد في مقال آخر أي تأثير أرسطي على أطروحة آريوس.[24]
من الصعب الوصول لأي استنتاجات بخصوص الخلفية المُؤسسة لأطروحة آريوس. فما نعرفه عن الفلسفة في الإسكندرية في أوائل القرن الرابع هو قليل جدًا، وبالكاد نعرف شيئًا عن الأفكار الدينية والفلسفية في منطقة ليبيا في أي وقت.[25] لكن المؤكد أن الإسكندرية كانت بوتقة انصهرت فيها فلسفات الأفلاطونية المُحدثة، مع المسيحية، والهرمسية، واليهودية.
حرمان آريوس
حاول ألسكندروس إثناء آريوس عن أفكاره، إلا أن الأخير لم يستجب. وعليه، قام ألكسندروس بعقد مجمع في الإسكندرية في وقت ما بين أعوام 318-324م، والذي بحسب رسالة ألكسندروس، التي ضْمّنَهَا سقراط، شمل مائة أسقف من الإسكندرية وليبيا (تاريخ الكنيسة 1. 6. 3).
وفي نفس الوقت قام ألسكندروس بكتابة رسالة الي الأساقفة “الثابتين في المدن العديدة” (تاريخ الكنيسة 1. 6. 3) مهاجمًا آريوس ويوسيبيوس أسقف نيقوميديا وأتباعهم الذين أسماهم “أخيلاس، أثالس، كربونس، آريوس آخر، سارماتس، يوزيوس، لوكيوس، جوليان، ميناس، هيلادس، جايوس. وإلى جانب هؤلاء يمكن أيضًا إضافة سيكوندس وثيوناس اللذين كانا ذات مرة أساقفة” (تاريخ الكنيسة 1. 6. 3). وفي رسالته هذه شرح ألكسندروس أفكار آريوس واتباعه كالآتي:
“أما العقائد التى ابتدعوها وأكدوا عليها ضد الكتاب المقدس فهى كالآتى: أن الله لم يكن دائما آبًا، ولكن كان هناك وقت لم يكن فيه آب. وأن “كلمة الله” لم يكن منذ الأزل، ولكنه مصنوع من العدم لأن الله الدائم الوجود (“أنا هو”، الأزلى) صَنع من العدم ذاك الذي لم يكن له وجودٌ سابق. لذلك كان هناك وقت لم يكن موجودا فيه، ومن ثم الإبن مخلوقٌ ومصنوع. وأنه ليس مثل الآب بالنظر إلى جوهره. ولا هو، من حيث الطبيعة، كلمة الآب الحقيقى. ولا الحكمة الحقيقى. ولكنه فى الحقيقة أحدُ أعماله وخلائقه. وأنه دُعِىَّ “كلمة” و”حكمة” على نحوٍ غير صحيح من حيث إنه هو نفسه قد صُنِع من كلمة الله وحكمة الله التى بها صنع اللهُ جميعَ الأشياء، وهو أيضا. ولذلك هو من حيث الطبيعة متقلبٌ وخاضع للتغير مثل باقى المخلوقات العاقلة. ومن ثم الكلمة غريبٌ عن جوهر الله ومختلف عنه، والآب لا يمكن للإبن أن يعرفه، فهو غير مرئى له. لأن الكلمة لا يعرفُ الآب بالكمال وعلى وجه الدقة، ولا يمكنه أن يراه بتدقيق. والإبن لا يعرف طبيعة جوهره، لأنه صُنِع من أجلنا، لكي يخلقنا الله به، كما بأداة، وما كان ليوجد قط ما لم يكن الله قد أراد أن يخلقنا. ولمّا سألهم شخص ما هل يمكن لكلمة الله أن يتغير مثلما حدث للشيطان؟ فلم يخشوا من القول: نعم يمكنه، لأنه مخلوق وخاضع للتغير” (سقراط، تاريخ الكنيسة 1. 6. 3) وإختتم رسالته بإعلان حرم آريوس: ” لذلك اجتمعنا نحن أساقفة مصر وليبيا، حوالي مائة بالعدد، وحرمنا آريوس لنطقه بلا خجل بهذه البدع….” (سقراط، تاريخ الكنيسة 1. 6. 3)
حاول آريوس الدفاع عن نفسه في سلسلة من الرسائل. وتكشف رسالة آريوس إلى يوسيبيوس النيقوميدي عن نفس الأطروحة اللاهوتية التي عارضها البابا ألكسندروس . كتب آريوس: “نحن نُضَطهد لأننا نقول إن الابن له بداية، ولكن الله ليس له بداية… وأيضًا لأننا نقول إنه من العدم. ونحن نقوله ذلك لأنه ليس جزءًا من الله ولا من أي كائن جوهريًا.” (ثيؤدوريت، تاريخ الكنيسة 1. 4)
في مقابل مجمع ورسائل ألكسندروس ، كتب يوسيبيوس النيقوميدي عدة مرات الي ألكسندروس طالبا منه أن يضع جانبًا المنازعات مع آريوس وأن يقبله هو وأتباعه في الشركة مرة أخرى (سقراط، تاريخ الكنيسة 1. 6. 7). لكن، وبسبب عدم تراجع آريوس وأتباعه عن أفكارهم، لم تنتهِ هذه المراسلات إلى شئ.
سنتناول في المقال التالي أهم الوثائق التي لدينا حول أحداث ومحاضر مجمع نيقية.
[1] Dan Brown, The Da Vinci Code, First Edition (New York: Doubleday, 2003).
[2] The Da Vinci Code, Mystery, Thriller (Columbia Pictures, Imagine Entertainment, Skylark Productions, 2006).
[3] Panarion 68.4.2; 69.12; 69.24; Frank Williams, The Panarion of Epiphanius of Salamis, Books II and III. De Fide, Second Edition, Nag Hammadi and Manichaean Studies 79 (Leiden: Brill Academic, 2013), 334, 326.
[4] ὅτι Ἀλέξανδρόν τινα πρεϲβύτερον Βαύκαλιν ἐπονομαζόμενον. See, Bruno Bleckmann and Markus Stein, Philostorgios Kirchengeschichte. Band 1: Einleitung, Text und Übersetzung (Paderborn: Ferdinand Schöningh, 2015), 132–33.
[5] Bruno Bleckmann and Markus Stein, Philostorgios Kirchengeschichte. Band 2: Kommentar (Paderborn: Ferdinand Schöningh, 2015), 39.
[6] Henry George Liddell and Robert Scott, A Greek-English Lexicon (Oxford: Clarendon Press, 1940).
[7] Allen Dwight Callahan, “Acts of Saint Mark: An Introduction and Translation,” Coptic Church Review 14, no. 1 (1993): 7.
[8] PG 18, 461 cited in Rowan Williams, Arius: Heresy and Tradition (Grand Rapids, Mich.: William B. Eerdmans, 2002).
[9] Liddell and Scott, A Greek-English Lexicon, 311.
[10] Williams, Arius, 2002, 288 n. 107.
[11] Horace Leonard Jones, trans., Strabo: Geography (Book 17. General Index), Loeb Classical Library 267 (Cambridge: Harvard University Press, 1967), 57–59.
[12] Williams, The Panarion of Epiphanius of Salamis, Books II and III, 335; Rowan Williams, Arius: Heresy and Tradition, Revised Edition (Grand Rapids, MI: W.B. Eerdmans, 2001), 30.
[13] سابيليوس هو قس من أصل ليبي، عاش في روما في القرن الثالث وعلَّم أن الله واحد وغير قابل للتجزئة، وأن الآب والابن والروح القدس هم ثلاثة أشكال أو مظاهر πρόσωπα (persona) لشخص إلهي واحد.
[14] Schaff Philip, ed., Socrates and Sozomenus Ecclesiastical Histories, vol. 2, Nicene and Post-Nicene Fathers 2 (Grand Rapids, MI: Christian Classics Ethereal Library, n.d.), accessed February 22, 2023.
[15] Philip Schaff and Henry Wace, eds., A Select Library of Nicene and Post-Nicene Fathers, Volume III: Theodoret, Jerome, Gennadius, Rufinus: Historical Writings (Grand Rapids, MI: W.B. Eerdmans, 1953), 34.
[16] و رُبّما يكون دعم أساقفة ليبيا له دليلاً كبيراً على أصله الليبي.
[18] مينا فؤاد توفيق، نظرة على تاريخ الكنيسة المُبكرة، عرض لبعض الجوانب التاريخية واللاهوتية في مصادرها الأولى (القاهرة: مدرسة الاسكندرية، 2018)، 23–27.
[19] توفيق، نظرة على تاريخ الكنيسة المُبكرة، 23–27.
[20] R. D. Williams, “The Logic of Arianism,” The Journal of Theological Studies 34, no. 1 (1983): 59–60.
[21] Antony C. Lloyd, The Anatomy of Neoplatonism (New York: Clarendon Press, 1990); Svetla Slaveva-Griffin and Pauliina Remes, eds., The Routledge Handbook of Neoplatonism (New York: Routledge, 2014).
[22] See: T. E. Pollard, “The Origins of Arianism,” The Journal of Theological Studies 9, no. 1 (1958): 103–11.
[23] See: Leslie W. Barnard, “The Antecedents of Arius,” Vigiliae Christianae 24 (1970): 172–88.
[24] See: Barnard Leslie William, “What Was Arius’ Philosophy?” Theologische Zeitschrift 28, no. 2 (1972): 110–17.
[25] Leslie William, 110.