عندما يدعو صديقنا الكاثوليكي أو الأرثوذكسيّ مريم “أُمّ الإله“، قد يدفعنا ذلك، مع نسطور، إلى النفور أو الرَّدِّ قائلين: “ليس لله أُمٌّ!”؛ وهكذا قد نميل إلى القَوْل بأنَّ مريم ولدت مُجَرَّد إنسان، يسوع؛ أنَّها أُمُّ إنسان كان هو المسيح، لكن ليس الله. يرى آخرون أنَّ مثل هذه المحادثات غير مُهِمَّة، فَهُم يقولون: “المُهِمُّ هو أن نؤمن بيسوع من أجل خلاصنا، أمَّا الباقي فهو تَماحُك حول فروق تافهة”، لكنَّ الكنيسة الأولى كانت ترى الأمر بشكل مختلف، بل بشكل شديد الاختلاف في الواقع، فَقَدْ جادلت الكنيسة الأولى بأنَّ خلاصنا يعتمد على هُوِيَّة الطفل الذي في رَحِم مريم، وأَصَرَّت على أنَّنا لا يمكن أن نَخلُص إلَّا إذا كان الله، الابن الأزلي، قد وُلِدَ ابنًا لمريم.
نسطور: “الله لم يُولَد”
كان نسطور أحد قادة الكنيسة الأوائل، وكان يعتقد أنَّ مريم ولدت إنسانًا، وليس الله.
في أبريل من عام 428م، أصبح نسطور أسقف القسطنطينيَّة (اسطنبول حاليًّا)، وفي نوفمبر من هذا العام، تناول سؤالًا مُلِحًّا أثناء وعظه. كان البعض في أَبْرَشِيَّته يتساءلون عمَّا إذا كانت مريم “والدةً للإله” (أي أُمّ الإله) أم مُجَرَّد والدة إنسان آخر. لم يَكُنْ هذا السؤال مُتَعَلِّقًا بمريم، بل بِهُوِيَّة طفلها. هل كان ابن مريم الله أم مُجَرَّد إنسان؟
في هذه العِظَة، انتقد نسطور مَنْ يَتَجَرَّؤُونَ على الاعتقاد بأنَّ مريم ولدت الله، وبِحِسٍّ بلاغيٍّ تساءل: “هل لله أُمٌّ؟ يُقَدِّم اليونانيّ من دون لوم أُمَّهات للآلهة!”؛ لذلك يرى نسطور أنَّ مريم “لم تَلِد الخالق، وإنَّما ولدت الإنسان”. عندما سعى الله إلى تخليص الخطاة، كَوَّن إنسانًا في رَحِم مريم بدون زَرْع ذَكَرٍ “وبكائنٍ بشريّ أعاد إحياء الجنس البشريّ”.
بالنسبة لنسطور، الله الابن لم يُولَد. لم يَكُنْ ذلك ممكنًا.
وإنَّما أَصَرَّ نسطور على أنَّ الله دخل في شراكة مع ابن مريم ليُخَلِّصنا. يمكنك التفكير في هذا الأمر كأنَّه شَرِكَةٌ: شخصان لهما هدف مشترك يُكَوِّنان شَرِكَةً، والتي تصير بِمُوجِب القانون شخصًا، ومن خلال هذه الشَّرِكَة يُحَقِّق الاثنان أهدافهما. وبالمثل، بالنسبة لنسطور، دخل الله الابن في اتِّحاد شخصي بابن مريم ليُخَلِّصنا. ولدت مريم الشريك البشري، وليس الله الابن، فهي على نحوٍ مناسبٍ أُمُّ المسيح، وليس الله.
الكنيسة الأولى: صار الله إنسانًا ليُخَلِّصنا
لكنَّ الكنيسة الأولى أَصَرَّت على أنَّ مريم ولدت الله.
لم تقصد الكنيسة بهذا أنَّ الله بدأ وجوده في رَحِم مريم، بل قصدت أنَّ الله وُلِدَ كإنسان من أجلنا. الذي لا بداية له صار إنسانًا بالولادة مع بقائه الله، فهو لم يُغَيِّر طبيعته ولا دَخَلَ في إنسان آخر. الْكَلِمَةُ، الذي كَانَ اللهَ فِي الْبَدْءِ (يوحنَّا 1: 1، 2)، صَارَ إنسانًا (يوحنَّا 1: 14). ليس هناك شخصان في شراكة، بل شخصٌ واحد، الله الابن، الذي كالله لم يَكُنْ بحاجةٍ إلى ولادة، لكن كإنسان وُلِدَ من مريم.
لِمَ يُعَدُّ هذا الأمر مُهِمًّا؟ من بين أسباب أخرى كثيرة، إليك أربعة أسباب:
1. الإنسانيَّة وحدها لا تستطيع أن تُخَلِّص نفسها
أوَّلًا- آمَنَت الكنيسة الأولى أنَّ الله نفسه لا بُدَّ أن يصير مثلنا لكي يَسْتَرِدَّ ما انكسر فينا.
جادل غريغوريوس النِّزْيَنْزِي، وهو أَبٌ من آباء الكنيسة عَاصَر نسطور، بأنَّ الله لم يَشْفِ ما لم يَتَّخِذه. مثلما تُشير (1بطرس 2: 24): “ٱلَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ”؛ وهكذا “بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ”. وَحَّد الله الابن طبيعتنا بنفسه بحيث أنَّه من خلال جسده يشفينا من مرض الخطيَّة الذي يجلب الموت. من خلال جسده منح الرَّبُّ حياة لأولئك المرضى المُشرِفين على الموت، حياة أبديَّة الآن، والوعد بقيامة جسديَّة في المستقبل (رومية 6: 5؛ كولوسي 2: 12، 13؛ 3: 1؛ 2كورنثوس 4: 14؛ 1تسالونيكي 4: 14).
2. الله بَذَلَ نفسه على الصليب
ثانيًا- لو لم يُولَد الله، لا يكون قد مات لأجلنا.
اعتقد نسطور أنَّ “الذي دُفِن في القبر لم يَكُنْ في حدِّ ذاته الله”، لكن لو لم يَمُت الله، لا يكون قد اقتنانا بدمه (أعمال الرُّسُل 20: 28)، ولكنَّ خطايانا عظيمةً جدًّا حتَّى أنَّه لا يستطيع أحد أن يُخَلِّصنا سوى الله النازف دمًا، “ٱلْأَخُ لَنْ يَفْدِيَ ٱلْإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلَا يُعْطِيَ ٱللهَ كَفَّارَةً عَنْهُ. وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِمْ، فَغَلِقَتْ إِلَى ٱلدَّهْرِ. حَتَّى يَحْيَا إِلَى ٱلْأَبَدِ فَلَا يَرَى ٱلْقَبْرَ” (مزمور 49: 7-9). إنْ كان الدم الذي يَقْطُر من الصليب هو دم مُجَرَّد إنسان، فنحن بَعْدُ أموات في خطايانا.
3. كل البشر محكوم عليهم بالموت، لكنَّ الله هَزَمَ الموت
ثالثًا- لو لم يَكُن الله قد وُلِد، لَمَا هزم الموت في جسده لأجلنا. وحده الله السرمدي، المولود كإنسان، يستطيع أن يقول: “لَا تَخَفْ، أَنَا هُوَ ٱلْأَوَّلُ وَٱلْآخِرُ، وَٱلْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتًا، وَهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ ٱلْآبِدِينَ! آمِينَ. وَلِي مَفَاتِيحُ ٱلْهَاوِيَةِ وَٱلْمَوْتِ” (رؤيا يوحنَّا 1: 17، 18). يُهزَم الموت على يد الله الذي مات وقام.
اجتذب الرَّبُّ الموت والظُّلْمَة إلى جسده وَوَجَّه إليهما ضربة قاتلة حتَّى لا يعيش مَنْ يؤمنون به في خوف فيما بَعْدُ. في تلك الساعة من الظُّلمَة الشديدة، اخترقت أَشِعَّةُ الابن الظُّلمَة وأَشَعَّتْ نور الحياة على أولئك المحكوم عليهم بالموت. ليس للموت سلطان علينا لأنَّ القبر لا يمكن أن يحتوي رَبَّ الحياة!
4. الخلاص هو من الله للإنسان، وليس العكس
أخيرًا، يرى كيرلس السَّكَنْدَرِيّ أنَّ هُوِيَّة ابن مريم تُحَدِّد ما إذا كان الله قد جاء ليُخَلِّصنا بنعمته أم يَتَعَيَّن علينا الارتقاء إليه بأعمالنا، فإمَّا أن يكون الله قد نزل إلينا في بؤسنا وصار مثلنا وبَسَطَ رحمةً إلينا، أو أنَّنا يجب أن نصعد سلالم من صنع الإنسان لِنَجِدَه. يقول الإنجيل إنَّ الله نزل ورفعنا إلى نفسه بنعمةٍ لا تُقاس (أفسس 2: 3-9). إنَّنا لم نذهب للبحث عن الله، بل هو مَنْ وجدنا.
مسألة ابن مريم مسألةٌ حاسِمَة
هُوِيَّة ابن مريم ليست مسألةً هَيِّنَةً. يجب أن تكون مريم والدة الإله، وإلَّا فلا يمكننا أن نَخلُص. إنَّ انتصارنا على الخطيَّة والموت يعتمد على ولادة الله كإنسان. لا يمكن لأحد أن يدفع تكلفة خطيَّتنا سوى الله النازف دَمًا. إمَّا أن يكون الله قد جاء إلينا بنعمته وبَدَّد اللعنة وهزم الموت وبَسَطَ لنا حياته وشَرِكَته الداخليَّتَيْن، أو أنَّنا يجب، عَبَثًا، أن نَشُقَّ طريقنا إليه. ابن مريم يجب أن يكون الله.