التعريف
إنَّ اللاهوت السرديَّ (القصصيّ) المعاصر، ما بعد الليبراليِّ، هو حركة تسعى بحقٍّ إلى تبنِّي معايير الحقِّ والمنطق التي في السرد الكتابيِّ نفسه، وغالبًا ما يخطئ في رفض الموقف الكتابيِّ للحقِّ الموضوعيِّ وينحرف إلى النسبيَّة، من خلال فصل الحقِّ الذي تمَّ تصويره في السرد، عن الحقِّ الأبديِّ الذي أنشأ سرد الكتاب المقدَّس.
الموجَز
إنَّ الكتاب المقدَّس، ككتاب به أنواع أدبيَّة مختلفة، يتكوَّن إلى حدٍّ كبير من السرد. في الواقع، إنَّ الهيكل الرئيسيَّ للكتاب المقدَّس نفسه هو السرد، فهو ينطلق من قصة الخلق، والسقوط، والفداء إلى التتميم. ولقد سعت حركة لاهوتيَّة معاصرة تسمَّى اللاهوت السرديَّ إلى تجنُّب التركيز الإنجيليِّ على الحقِّ الموضوعيِّ، الذي يرون أنَّه يقع فريسة لنظريَّة المعرفة الأساسيَّة، وللإنكار الليبراليِّ للحقِّ الموضوعيِّ من خلال السعي لتبنِّي معايير الحقِّ والمنطق من السرد الكتابيِّ نفسه. وفي أثناء السعي إلى جعل اللاهوت بسيطًا عن طريق السرد، غالبًا ما يخطئ اللاهوت السرديُّ ما بعد الليبراليِّ عن طريق إنكار أهمِّيَّة الحقِّ والانحراف إلى النسبيَّة. لأنَّ كلَّ ما يهمُّ هو الحقُّ الذي تمَّ تصويره من خلال السرد، ويولي القليل من الانتباه للحقِّ الأبديِّ الكامن وراء ذلك السرد والذي ينطبق بشكل موضوعيٍّ على كلِّ فرد، بغضِّ النظر عن قبولهم لصحَّة السرد أم لا.
يتضمَّن الكتاب المقدَّس أنواعًا مختلفة للأدب: اللاهوت والشعر والنبوَّة والرؤى النبويَّة والرسائل وغيرها. لكن يمكن القول إنَّ الهيكل الرئيسيَّ للكتاب المقدَّس -متضمِّنًا في داخله هذه الأنواع الأخرى- يُفضَّل وصفه على أنَّه سرد: بيان لسلسلة من الأحداث المهمَّة. يعرض الكتاب المقدَّس قصَّة تداخل الله مع العالم، بدءًا من الخلق (تكوين 1: 1)، ونهايةً بخليقة جديدة، السماوات الجديدة والأرض الجديدة (رؤيا 21: 1). وفي السرد، تعلن قصَّة سقوط الجنس البشريِّ (تكوين 3: 1-24) عن المشكلة التي سيتمُّ حلُّها من خلال بقيَّة التاريخ. إنَّ حلَّ المشكلة، أي فداء شعب الله، يأتي من خلال ابن الله، يسوع المسيح، الذي تجسَّد، وتحدَّث بكلمات الله الموثوقة، ومات على الصليب بسبب الخطيَّة، وقام من بين الأموات، وصعد إلى السماء، وسيأتي مرَّة أخرى في الوقت المعيَّن من الله. وعندما يعود، سيجلب الدينونة النهائيَّة على الشرِّ، والبركة النهائيَّة لشعبه. إنَّ روح الله القدُّوس يدخل كثيرًا إلى السرد؛ في الخلق (تكوين 1: 2)، في الوحي للأنبياء (أفسس 3: 5)، في الحَبَل بيسوع (لوقا 1: 35)، وفي تمكينه (لوقا 4: 1-2، 14)، في قيامته (رومية 8: 11)، وفي تجهيز الكنيسة (أعمال الرسل 1: 8) لكي تنفِّذ وكالتها (متَّى 28: 18-20)، وتعلن الخبر السار، السردي، لجميع الذين في العالم.
بحكم التعريف، قد يصف السرد الحقيقة أو الخيال. وما هو ملحوظ في السرد الكتابيِّ أنَّه يحتضن كلَّ تاريخ العالم ويدَّعي أنَّه صحيح تمامًا (2 تيموثاوس 3: 16-17).
كنوع من التقليد، سعى معظم اللاهوت إلى تحليل ووصف وإعلان السرد الكتابيِّ، لكنَّه لم يكن في حدِّ ذاته في شكل سرد (أو قصة سرديّة). أحيانًا يشتكي الناس من أنَّه بينما يروي الكتاب المقدَّس نفسه “قصَّة” رائعة، إلاَّ أنَّ اللاهوت نادرًا ما يروي القصص. وبدلاً من ذلك، فإنَّه يميل إلى أن يكون مكتوبًا بشكل نثر أكاديميٍّ. ووفقًا لهذا النقد، فإنَّه في كثير من الأحيان يميل إلى وضع الحقائق الخالدة والعامَّة (وبالتالي اللا تاريخيَّة)، في شكل سلسلة من الأفكار المقترحة.
بسبب هذا النقد، حاول بعض اللاهوتيِّين الكتابة بطريقة تؤكِّد الطابع السرديَّ التاريخيَّ لرسالة الكتاب المقدَّس. هذا الاهتمام واضح في كتابات إيريناوس (تقريبًا 130-202 ميلاديًّا)، وفي بعض أعمال المصلحين البروتستانتيِّين (لا سيَّما في شرحهم للاَّهوت العهديِّ)، وفي كتاب جوناثان إدواردز “تاريخ عمل الفداء“، والذي قدّمه في سلسلة عظات في عام 1739. وفي الآونة الأخيرة، تطوَّر الاهتمام بالتركيز على السرد في حركة “علم اللاهوت الكتابيِّ” أو “تاريخ الفداء”. ويصفها جرايم جولدزورثي على النحو التالي:
إنَّ علم اللاهوت الكتابيِّ، كما هو موصوف هنا، هو علم ديناميكيٌّ وليس ثابتًا. أي إنَّه يتبع حركة وإعلان الله في الكتاب المقدَّس. وهو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعلم اللاهوت النظاميِّ (إذ يعتمد الاثنان على بعضهما البعض)، ولكن يوجد اختلاف في مجال التركيز. لا يهتمُّ علم اللاهوت الكتابيُّ بذكر العقائد النهائيَّة التي تشكِّل محتوى الإيمان المسيحيِّ، بل بالأحرى يهتمُّ بوصف العمليَّة التي من خلالها يتكشَّف الوحي ويتحرَّك نحو الهدف الذي هو إعلان الله النهائيُّ عن مقاصده في يسوع المسيح. يسعى علم اللاهوت الكتابيِّ إلى فهم العلاقات بين العصور المختلفة في عمل الله الإعلانيِّ المسجَّل في الكتاب المقدَّس. يهتمُّ عالم اللاهوت النظاميِّ بشكل أساسيٍّ بالفكرة النهائيَّة؛ بيان العقيدة المسيحيَّة. بينما يهتمُّ اللاهوت الكتابيُّ، من الناحية الأخرى بالتكشُّف التدريجيِّ للحقِّ. وعلى أساس اللاهوت الكتابيِّ، يعتمد اللاهوتيُّ النظاميُّ على نصوص الكتاب المقدَّس السابقة ليوم الخمسين كجزء من المادَّة التي يمكن أن تُصاغ منها العقيدة المسيحيَّة (انظر The Goldsworthy Trilogy، 1: 45-46).
لكنَّ “علم اللاهوت السرديِّ” المعاصر يأخذ هذا الاهتمام خطوة إلى الأمام. غالبًا ما يُطلق على علم اللاهوت السرديِّ “ما بعد الليبراليَّة”، لأنَّه لا يركِّز فقط على السرد الكتابيِّ، ولكنَّه يرى هذا التركيز على أنَّه طريق يتجاوز الانقسامات اللاهوتيَّة بين التشدُّد والليبراليَّة. يرفض ما بعد الليبراليِّين كلاًّ من الفهم المتشدِّد للكتاب المقدَّس (أنَّه كتاب معصوم يعطينا سردًا إلهيًّا موثوقًا للتاريخ الفدائي) والنظرة الليبراليَّة (التي برزت في فترة “التنوير” 1650-1800)، التي مفادها أنَّ علم اللاهوت يجب أن يذعن للعقلانيَّة البشريَّة المستقلَّة، كما يحدث تحديدًا في العلوم والفلسفة العلمانيَّة.
يناقش ما بعد الليبراليِّين بديلاً ثالثًا: أنَّ الكتاب المقدَّس يقدِّم لنا لغة يحكمها منطق مسيحيٌّ مميَّز، والذي يحكم التفكير المسيحيَّ عن الله وعن الممارسات المسيحيَّة (يمكن للمرء أن يقارن هذا بفلسفة “ألعاب اللغة” للكاتب لودفيج فيتجنشتاين، الذي قال إنَّ معنى اللغة هو طريقة استخدامها في الممارسة البشريَّة). تتركَّز هذه اللغة في قصَّة الخلق والسقوط والفداء. لكن ليس من المهمِّ، بحسب هذا الرأي، ما إذا كانت هذه الرواية صحيحة أم خاطئة من الناحية الموضوعيَّة. فمناقشة أشياء مثل “العصمة” أو “الحقيقة الموضوعيَّة”، التي يؤكِّدها المتشدِّدون وينكرها الليبراليُّون، يعني فرض (إقحام) نظريَّات الحقِّ التي تدين للتنوير بأكثر ممَّا للقصَّة المسيحيَّة على الكتاب المقدَّس. ومن وجهة نظرهم، فإنَّ الدفاع عن الحقِّ الموضوعيِّ للكتاب المقدَّس يفترض وجود نظريَّة المعرفة “التأسيسيَّة”؛ الفكرة القائلة بأنَّ كلَّ المعرفة تستند إلى مقدِّمات معيَّنة تمامًا، ومتاحة عالميًّا للعقل البشريِّ. لكنَّ الحقَّ الكتابيَّ، وفقًا لما بعد الليبراليَّة، يأخذ ببساطة السرد كنموذج للكلام والعمل اللاهوتيِّ، دون التقيُّد بافتراضات العقيدة أو الليبراليَّة التنويريَّة. يؤكِّد ما بعد الليبراليِّين أنَّه يجب علينا أن نفهم اللاهوت من دون افتراضات فلسفيَّة (سواء الوجوديَّة أو المعرفيَّة)، باستخدام أشكال من التفكير المنبثقة من السرد نفسه.
من وجهة نظري، فإنَّ علماء اللاهوت السرديِّ على حقٍّ في البحث عن معايير للحقِّ والمنطق من السرد الكتابيِّ نفسه، وليس من المصادر الفلسفيَّة التي تدَّعي الحياد الدينيَّ. لكن في بحثهم الإيجابيِّ عن الحقِّ، غالبًا ما ينحرف هؤلاء اللاهوتيُّون بحدَّة إلى النسبيَّة بينما يسعون إلى تجنُّب الصياغات التأسيسيَّة. على الرغم من أنَّ عبارة “الحقُّ الموضوعيُّ” ليست واردة في الكتاب المقدَّس، فإنَّ الفكرة موجودة، وهذه الفكرة غير قابلة للتفاوض. يقدِّم الكتاب المقدَّس قصَّته على أنَّها حقٌّ أعلنه الله (على سبيل المثال، يوحنَّا 17: 17؛ 2 تيموثاوس 3: 16-17). فبالنسبة لكُتَّاب الكتاب المقدَّس، من المهمِّ جدًّا أن تكون أحداث التاريخ قد حدثت حقًّا وبصدق. في 1 كورنثوس 15: 12-20 على سبيل المثال، يقول بولس إنَّه إذا لم يقم المسيح، فإنَّ إيماننا ميِّت وأنَّنا ما زلنا في خطايانا. من المهمِّ أن تكون أحداث القصَّة الكتابيَّة قد حدثت حقًّا وصدقًا، تمامًا كما ذكرها كتَّاب الكتاب المقدَّس وفسَّروها.
يوجد شيء يجب أيضًا أن يُقال عن عزل “السرد” عن “الحقِّ الأبديِّ” الذي يسمعه المرء في كتابات ما بعد الليبراليَّة. قد تتعامل القصص مع التسلسل الواقعيِّ أو الخياليِّ للأحداث. إذ يوجد في الكتاب المقدَّس بعض القصص الخياليَّة (مثل أمثال يسوع). لكنَّ الكتاب المقدَّس يقدِّم القصَّة الرئيسيَّة للخلق، والسقوط، والفداء، والتتميم ليس كخيال بل كحقيقة، بل إنَّها الحقيقة الأكثر أهمِّيَّة التي نعرفها كبشر. تقدِّم القصَّة هذه الأحداث في تسلسل زمنيٍّ. لكنَّ تسلسل الأحداث هذا حقٌّ. وسيظلُّ هذا التسلسل صحيحًا دائمًا، وإلى الأبد. علاوةً على ذلك، فإنَّ أحداث القصَّة تفترض المزيد من الحقائق، حقائق الحقِّ الأبديِّ. فعمل المسيح يفترض خطَّة الله الأبديَّة (أفسس 1: 11). وعناية الله تفترض قدرته الأبديَّة ومعرفته المطلقة (مزمور 139). يعطينا علم اللاهوت سببًا للسرد، لكنَّه يعطينا أيضًا الحقَّ الأبديَّ الذي وراء السرد. إنَّ علم اللاهوت لا يعلن الحقَّ فحسب، بل يعمل أيضًا كمعيار لكلِّ الحقائق الأخرى، كمعيار للمعرفة البشريَّة.
وهكذا، فإنَّ علم اللاهوت النظاميِّ وعلم اللاهوت الكتابيِّ ليسا بعيدين عن بعضهما البعض كما يظنُّ البعض أحيانًا. قدَّم كلُّ عالِم لاهوت نظاميِّ سببًا لتاريخ تجسُّد يسوع وموته وقيامته وصعوده ومجيئه الثاني المؤكَّد. ويقدِّم كلُّ عالِم لاهوت كتابيِّ عمل الله الثالوث في التاريخ، ذاك الإله ذاتيِّ الوجود السرمديِّ غير المتغيِّر. عادةً ما يولي علماء اللاهوت النظاميِّ مزيدًا من الاهتمام للاختيار الإلهيِّ، وعادةً يعطي اللاهوتيُّون الكتابيُّون مزيدًا من الاهتمام للعهود، لكنَّ هذه مسألة تركيز. وليس هناك سبب من حيث المبدأ يمنع اللاهوتيِّين من أحد الفرعين من ذكر الموضوعات التي أكَّدها الآخر. بشكل عامٍّ، إنَّ السرد هو مجموعة فرعيَّة من الحقائق، والحقُّ الأبديُّ هو افتراض مسبَّق للسرد. ولا يمكنك فهم السرد دون الحقِّ الأبديِّ، والعكس صحيح. يجب على أيِّ عالِم لاهوت نظاميِّ مؤهَّل أن يقدِّم السرد، وأيُّ سبب للسرد يجب أن يقدَّم كقصَّة يحدِّدها حقُّ الله الأبديُّ.