التعريف
لا يستحق كُلُّ لاهوتِيِّي العصور الوُسطَى الثناء، إلَّا أنَّ الشيء المشترك بينهم جميعًا كان هو الرغبة في توجيه كل الحياة لله في المسيح على نحوٍ صحيح.
الموجز
ومع ذلك فإنَّ تجاهُل لاهوت العصور الوُسطَى يعني تجاهُل الحكمة. في الواقِع، كيف يمكننا أن نحمل مثل هذا التقدير الكبير للمُصلِحين من ناحية، بينما نتجاهل من الناحية الأخرى حقيقة اعتماد المُصلِحين الشديد على أسلافهم من العصور الوُسطَى للحصول على البصيرة والفهم والحق؟ فالمُصلِحون، إلى جانب آباء الكنيسة، نَافِعون لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ، وكذلك أيضًا أعمال أولئك الذين دعاهم الرب لقيادة الكنيسة في أوروبا بعد أوغسطينوس وقبل لوثر. ما هي إذًا المعالم الرئيسيَّة التي تستحق الاهتمام للاهوت العصور الوُسطَى؟
الكتاب المقدس وتفسيره
سيكون من السهل الاعتقاد بأنَّ الكلمة المكتوبة لم تَكُن بهذه الدرجة الكبيرة من الأهميَّة في العصور الوُسطَى؛ ففي نهاية الأمر كانت مستويات القراءة والكتابة منخفضةً إلى حدٍّ ما بالمقارنة بالتأكيد مع المعايير الغربيَّة الحديثة، وكانت اللاتينيَّة هي لغة النُّخبَة المُثَقَّفة. لكن في حين أنَّه يُعَدُّ أمرًا صحيحًا بالتأكيد أنَّ القراءة لم تَكُن تسليةً شائعة بين غالبيَّة الناس، ينبغي علينا أن نحرص على عدم استنتاج أنَّ معنى هذا أنَّ الكلمة المكتوبة كانت غير مُهِمَّة؛ فقد كانت ليتورچِيَّة الكنيسة تُدار بالكلمات: كلمات تُقرَأ، كلمات تُصَلَّى، كلمات يُوعَظ بها، وكلمات يُرَدُّ بها. حتَّى إذا كان الكثير من الناس غير قادرين على القراءة في ذلك الوقت، فإنَّهم عَلِموا أهميَّة الكلمات، فكل الزجاج المُلَوَّن الذي يُزَخرِف جميع الكاتدرائيَّات في أوروبا لا يستطيع أن يُضاهي القوة المُغَيِّرة التي تحملها كلمة الله، وهنا يَكمُن التركيز الأساسي بالنسبة لدراسة كلمة الله خلال هذه الفترة، ألا وهو التغيير.
في أوائل العصور الوُسطَى عندما كان الرُّهبان هُم المُوَرِّدون الرئيسيُّون للتدريب (التهذيب) الكتابي واللاهوتي، حدث تَحَوُّل مثير للاهتمام في الطريقة التي تحدَّث بها الناس عن المُعَلِّمين والوُعَّاظ، فبالإضافة إلى الإشارة إليهم بما فعلوه، بدأوا في الإشارة إليهم باعتبار مَن هُمْ، فهو تَحَوُّل من الفِعْل إلى الكينونة، فأصبح من الشائع التَّحَدُّث عن قادة الكنيسة باعتبارهم “وثائق”. بالنسبة للطريقة التي نُفَكِّر بها نحن، يُعَدُّ من الغريب، بل ورُبَّما من المُسِيء بعض الشيء، أن ندعو شخصًا ما كتابًا، غير أنَّ القصد من ذلك لم يَكُن السُّخرِيَة من شخصٍ ما لأنَّه لا يعرف سوى المذاكرة أو لأنَّه مُولَع بالكُتُب، بل كان القصد هو مدحهم على تشكيل محتوى الكلمة المكتوبة، ولا سِيَّما كلمة الله، لشخصيَّاتهم بحيث كانت حياتهم مختلفة بشكل واضِح للعِيَان. لقد كانت الفكرة بالنسبة لأولئك الذين لم يستطيعوا القراءة هي أنَّه ينبغي أن يكون نَصُّ الكتاب المقدس قابِلًا للقراءة في حياة القَسِّ؛ ومن ثَمَّ لم تَكُن الكلمة المكتوبة مُهِمَّة لقيادة العبادة فحسب، بل كانت ضروريَّة أيضًا لتشكيل العبادة من الداخِل.
لقد كانت عمليَّة التغيير هذه شخصيَّة بالتأكيد، بقدر ما كان يُعاد توجيه مَحَبَّات الفرد وبُوصلَته الأخلاقيَّة، إلَّا أنَّها لم تَكُن أبدًا عمليَّة فرديَّة؛ فقد كانت دراسة الكتاب المقدس نشاطًا مُجتَمَعِيًّا تبدأ خطوته الأولى على انفراد بـ lectio أو القراءة، حيث كانت الفكرة هي أن يقضي الواعِظ (على سبيل المثال) وقتًا يُصارِع فيه مع جزءٍ من الكتاب المقدَّس. يقوم الواعِظ بفحص هذا الجزء في ضوء طريقة تفسير مُكَوَّنة من ثلاث أو أربع طبقات يُفَسَّر فيها النَّصُّ حَسَب معناه الحرفي ومعناه الأخلاقي وحَسَب معنى رمزي أيضًا، أمَّا المعنى الرابع فكان معنًى فَوْقِيًّا (بمعنى أنَّه ينظر إلى ما فوق، أي إلى المعنى النهائي في السماء) أو أُخْرَويًّا، ولكن ظَلَّ هذا المعنى مَحَل نِزاع بعض الشيء، وغالبًا ما تم استبعاده.
من الجدير بالذِّكْر أنَّه على الرغم من الصورة النمطيَّة لتَحَوُّل لاهوتِيِّي العصور الوُسطَى سريعًا وغالبًا إلى الرمز باعتباره الجانب التفسيري الأكثر أهميَّة في نَصٍّ مُعَيَّن، فإنَّ هناك عددًا وافِرًا من الأدِلَّة على أنَّ أفضل اللاهوتِيِّين رَكَّزوا بشكل ثابت ومستمر على المعنى الحرفي باعتباره تأسيسِيًّا ومعيارِيًّا. ترجِع تلك الصورة النمطيَّة رُبَّما إلى أنَّ بعض المُفَسِّرين قد انجرفوا بالفعل في حماستهم إلى حد أنَّهم رَكَّزوا بقوة على الحاجة إلى رَبْط كل جانب من جوانب التفسير ومن جوانب التفكير اللاهوتي بالمعنى الحرفي للنَّصِّ.
رجوعًا إلى واعِظنا الذي يقوم بدراسة الكتاب المقدَّس، فبمجرد أن يكون قد قَضى وقتًا في lectio (القراءة)، ينبغي عليه بعدها أن ينخرط مع الآخرين في disputatio أو في بحث ومناقشة عمله، ويُعَدُّ هذا خطوة حيويَّة في العمليَّة؛ حيث يتطلَّب الأمر تواضُعًا من جانب المُفَسِّر حتى يُخضِع عمله لتقييم الآخرين، ولكن من شأن هذا الأمر أيضًا أن يكون قد شَحَذَ فَهْمه ونَقَّاه. وبعد هذه المرحلة الثانية يعود الواعِظ حينها إلى lectio لإجراء أيَّة تغييرات ضروريَّة، وعِنْدَئِذٍ، وفقط عِنْدَئِذٍ يكون قد أصبح مُستَعِدًّا لـ predicatio أو للوعظ. من المُثير للاهتمام والفضول في الأمر هو أنَّه لم يتم اعتبار أي شخص أنَّه قد تعامل بشكل كامل مع جزء من الكتاب المقدس إلَّا عندما يكون قد وَعَظَه أو عَلَّمَه، وفي حين أنَّ هذا قد يبدو غريبًا على مسامعنا، فإنَّ أي شخص قد سَبَق له أن عَلَّم أو وَعَظَ سيكون مُدرِكًا للقوة المُنَقِّحة الموجودة في هذه الممارسة.
وبينما كانت تلك العمليَّتان -الجديلة التفسيريَّة ذات الطريقة المُكَوَّنة من ثلاث طبقات والجديلة التعليميَّة المُكَوَّنة من lectio [القراءة] وdisputatio [البحث والمناقشة] وpredicatio [الوعظ]- تَنْضَفِران، ارتبطتا ببعضهما البعض من خلال تركيزٍ ذي طبيعة كريستولوچِيَّة مُتَغَلغِلَة؛ حيث اقتنع لاهوتِيُّو العصور الوُسطَى بأن خطة الفداء التي تجد أصولها في ابن الله كانت هي الموضوع الذي رَبَطَ كل الكتاب المقدَّس معًا. من هنا يبدو من المُلائِم تمامًا أن ننتقل إلى أحد القِمَم في تفكير العصور الوُسطَى اللاهوتي في شخص الرب يسوع وعمله.
من شخص المسيح إلى عمله
إذا شَكَّلَتْ مبادئ التفسير الكتابي وممارساته أساس لاهوت العصور الوُسطَى، فما هي الأمور التي كانت بمنزلة بعض اللَّبِنات الأساسيَّة؟ كانت العقيدة التي تُعْتَبَر حجر الزاوية خلال تلك الفترة هي عقيدة الكفَّارة، وقبل أن ندخل في تفاصيل الكفَّارة، من المُثير للاهتمام ملاحظة أنَّ هذا يُمَثِّل تَحَوُّلًا في التركيز عن الكنيسة القديمة؛ ففي تلك القرون القليلة الأولى انْصَبَّ أغلب التركيز على شخص المسيح، هل كان كامِل الأُلُوهِيَّة؟ هل كان كامِل الإنسانِيَّة؟ كيف ارتبطت هاتان الطبيعتان ببعضهما البعض؟ إلَّا أنَّنا عندما ننتقل إلى فترة العصور الوُسطَى نكتشف أنَّ هذه الأسئلة إلى جانب الهَرَاطِقَة الذين اعتنقوا وجهات نظر مضادَّة تختفي بالكامل تقريبًا حتى حوالي القرن الثاني عشر.
ولا يعني قولنا إنَّ أغلب التركيز في الكنيسة القديمة قد انْصَبَّ على شخص المسيح أنَّ عمل المسيح قد تم إهماله. عندما ننظر إلى كيف كَتَب اللاهوتيُّون في تلك الفترة عن الكفَّارة، فإنَّ ما يجذب انتباه المرء هو تنوُّع النماذج المُستَخدَمَة لشرحها، فقد جادَل البعض بأنَّ كفارة المسيح ينبغي أن يُنظَر إليها في الأساس من منظور الذبيحة، بينما اعتقد آخرون أنَّ الموضوع المُسَيطِر كان هو هزيمة إبليس، وكان هناك آخرون أيضًا آمنوا بأنَّ التركيز البارز لعمل المسيح الكفَّاري كان هو تأسيس العهد الجديد.
لكن على الرغم من تَنَوع الآراء العلميَّة بعض الشيء حول هذه المسألة، لا يبدو أنَّه كان هناك نموذج للكفَّارة سائِد ومُسَيطِر في الكنيسة القديمة، ولكن في أواخِر القرن السادس وأوائل القرن السابع وَضَعَ البابا غريغوريوس الكبير مسارًا في التفكير أصبح هو التفسير القياسي حتى القرن الثاني عشر. لقد عَلَّم البابا أنَّه عندما أخطأت البشريَّة استطاع الشيطان أن يُطالِب بسيادة شرعِيَّة علينا، ولأنَّه كان سيُعَدُّ من الخطأ أن يَستَرِد الله البشريَّة من الشيطان بالقوة، كان عليه أن يبتكر طريقةً ما لإلغاء سُلطَة الشيطان القضائِيَّة، وتَمَّ ذلك من خلال اتِّخاذ ابن الله جسدًا بشريًّا وتقديم نفسه فِديَةً لإبليس بدلًا من البشريَّة، وابتلع الشيطان الطُّعْم من خلال قَتْلِهِ يسوع، غَيْرَ قادِرٍ على مقاومة مثل هذا التبادُل الذي لا يُصَدَّق، ولكن ما فشل الشيطان في وضعه في الحُسبان كان عدم امتلاكه سُلطَةً قضائِيَّة شرعِيَّة على يسوع؛ لأنَّ يسوع لم يَكُنْ قد أخطأ أبدًا؛ ومن ثَمَّ فَقَدَ الشيطان في النهاية سيادته على البشريَّة، وفَقَدَ كذلك يسوع عندما قام من الموت لعدم امتلاك الموت سُلطانًا على حياته ولا حقًّا في المُطَالَبَة بها.
كان لهذا المنظور عن الكفَّارة جاذبيَّة واسعة لأنَّه تَحَدَّث عن حكمة الله وقُوَّته بالإضافة إلى هزيمة إبليس، غير أنَّه مع مرور الوقت أصبحت أَوْجُه قُصُوره ظاهِرة أكثر فأكثر حتَّى قَرَّر راهِبٌ شجاعٌ أنَّ الوقت قد حان لتَحَدِّي الرأي السائِد.
كَتَب أنسلم كانتِربِري (1033-1109)، رئيس أساقفة كانتِربِري، والذي كان يكتب في أواخِر القرن الحادي عشر، كتابًا بعنوان Cur Deus Homo (وهي كلمات لاتينيَّة تعني “لماذا الله الإنسان؟” ) جادَل فيه بأنَّ الكفَّارة تَتَعَلَّق في الأساس بالإرضاء لا بالسُّلطَة القضائيَّة الشيطانيَّة. كان اختلاف أنسلم مع نموذج الفِديَة في الكفارة هو أنَّ هذا النموذج قد أعطى إبليس أهميَّة أكثر من اللازم، وذلك بغَضِّ النظر عن أنَّه نَسَبَ لإبليس نوعًا من القوة اخْتَزَلَ الله إلى مُجَرَّد شريك في المفاوضات. اقترح أنسلم بدلًا من ذلك أنَّ القضيَّة الحقيقيَّة التي على المحك في الكفَّارة هي أنَّ البشريَّة فشلت في إعطاء الله ما ندين به له، وما تدين به البشريَّة لله هو الطاعة والمحبة ونفوسنا بالكامل، وبعدم إعطائنا هذا الذي ندين به (أي بخطيتنا) نحن نُهين الله. ولكن إلى أي درجة قد تَعَرَّض الله للإهانة؟ يُجادِل أنسلم بأنَّ درجة الإهانة تتناسب مع طبيعة الشخص المُهَان، وفي حالة الله، يعني هذا أنَّ البشريَّة مَدِينَة بِدَيْنٍ غير محدود، ومَنْ يستطيع أن يدفع دَيْنًا كهذا سِوى الله؟ ومَنْ يستطيع أن يُمَثِّل البشريَّة في دَفْع هذا الدَّيْن سوى إنسانٍ؟ وهكذا يُجمِل أنسلم بصورة مُوجَزة نِسبِيًّا نموذجًا للكفَّارة يتعامل مع خطيتنا وذنبنا على نحوٍ شديد الجِدِّيَّة، ويستبعد إبليس باعتباره خصمًا قويًّا على الله أن يُصارِع معه، ويشرح الأساس المنطقي وراء الحاجة إلى إله إنسان يُمَثِّل البشر جميعهم إذا ما كانت هناك رغبة في تحقيق الكفَّارة بين الأُلُوهِيَّة والإنسانِيَّة.
إنَّ حقيقة كَوْن ما فعله أنسلم من إعادة تنسيق التفكير حول الكفَّارة قد تَأَصَّل في العقود التالية تتجلَّى في عددٍ من الطُّرُق لم يَكُنْ أَقَلّها تَجَلِّيها في لاهوت پيتر أبيلارد (1079-1142). في حين أنَّ هناك الكثير من الاهتمام بلاهوت أبيلارد والكثير من التَّآمُر في حياته، يُعَدُّ أبيلارد طريقًا جيِّدًا لتقديم مركز مُهِم آخر في لاهوت العصور الوُسطَى: الإيمان والعقل.
الإيمان والعقل
يجب أن يتضمَّن أي نقاش حول الإيمان والعقل في العصور الوُسطَى إشارةً على الأقل إلى كتاب Proslogion (وهي كلمة لاتينيَّة تعني خطاب أو حوار لأنَّه كُتِبَ على هيئة صلاة مُوَجَّهة إلى الله ) الذي كَتَبَه أنسيلم، والذي يكشف فيه أنَّه هو ورُهبانه كانوا يبحثون عن ratione fidei، وقد فُسِّرَت هذه العبارة بأشكال مختلفة، مثل: “الأساس العقلاني للإيمان” أو “معنى الإيمان” أو “سبب الإيمان” أو “أساس الإيمان”. ترتكز الفكرة الأساسيَّة في أنَّ أنسلم آمن بأنَّ جوهر الإيمان ومحتواه كانا هُما السياق الذي يعمل فيه العقل، ولكن عندما ظَهَرَ أبيلارد بعد ذلك بسنوات قليلة بدأ يتلاعب بفكرة قَلْبِ الاتجاه: بمعنى أن يكون العقل هو السياق الذي يعمل فيه الإيمان.
نُظِرَ إلى أبيلارد في يومه على أنَّه يتجاوز الحدود، و –في نظر برنارد كليرڤو (1090-1153) [مُؤسِّس ورئيس دير كليرڤو] على الأخَصّ- يَشُطُّ. بِغَضِّ النظر عن الطريقة التي اختار بها أبيلارد صياغة بعض مواقفه العقائديَّة، كان برنارد منزَعِجًا بشدة من منهج أبيلارد اللاهوتي، وللتوضيح، لم يَكُن برنارد مُعارِضًا للعقل وأبيلارد مُؤيِّدًا له، وإنَّما انشغل برنارد بالحفاظ على العقل في مكانه الصحيح بالنسبة للإيمان، وكان السؤال عن ماهِيَّة المكان الصحيح هو ما تَسَبَّب في التَّوَتُّرات بين الرَّجُلَيْنِ، فكان برنارد أنسلمِيًّا (على نفس نهج أنسلم) في نهجه على نحوٍ أكبر بكثير من أبيلارد الذي لم يَكُنْ كذلك.
اشتدَّت حِدَّة مسألة العلاقة بين الإيمان والعقل بمرور السنين، وخاصَّةً لأنَّ أعمال أرسطو أصبحت مُتاحَة على نطاقٍ أوسع. بينما ننتقل إلى القرن الرابع عشر نلتقي بعقلٍ لا يقل عن توما الأكويني الذي نشأ مع هذه الجدالات باعتبارها أمرًا مألوفًا. إنَّ أهم أعمال توما الأكويني كما يقول التاريخ هو بلا شك كتابه الخُلاصَة اللاهوتيَّة Summa Theologiae، والذي كُتِب ليكون بمنزلة مَرجِعٍ لإخوته الدومينيكان (الرهبنة الدومينيكانيَّة) الذين كانوا يتدرَّبون على السفر عَبْر القارَّة للوعظ بالإنجيل والدفاع عن الإيمان.
من الواضح أنَّنا لا يمكننا أن نُوفي كتاب الخُلاصَة اللاهوتيَّة Summa Theologiae حَقَّه في بضع جُمَلٍ فقط، ولكنَّ الأمر يستحق التَّوقُّف عند الذي يقوله توما الأكويني في 1. 1. 10 (الكتاب الأول، السؤال الأول، البند العاشر)، فبينما يُصارِع توما الأكويني مع مسألة المعنى يُجادِل بأنَّ الله هو الشخص الذي بمقدوره “أن يُبَيِّن معناه، لا بالكلمات فحسب، بل بالأشياء نفسها”، ويُعَدُّ هذا التصريح جديرًا بالملاحظة لأنَّه يقودنا في اتجاه منهج الأكويني اللاهوتي، فعلى غِرار أنسلم، ولكن على نحوٍ أكثر تفصيلًا ودِقَّةً بكثير، آمن الأكويني بأنَّ الله هو مُؤلِّف كُلٍّ من الأحداث ومعناها، وبناءً على ذلك يكون مَدخَل الفَهْم هو الإيمان؛ حيث إنَّه فقط من خلال الخضوع لله بالإيمان يمكن لأي شخص أن يستوعب بشكل صحيح ما هو حَقٌّ، وبعبارةٍ أخرى، ليس الله مُؤَلِّف الخليقة فحسب، بل إنَّه أيضًا مُؤلِّف المعنى. بالنظر إلى هذا، فإنَّ الأكويني كان مُقتَنِعًا بأنَّ الإيمان هو السياق الذي يعمل فيه العقل، غير أنَّ ذلك لا يُعيق العقل أو يُعَرقِله، بل على العكس من ذلك، يمنح الإيمانُ العقلَ حُرِّيَّته الأعظم؛ لأنَّ الإيمان هو الوسيلة التي بها يُوضَع العقل في علاقة صحيحة مع الله.
بينما ننظر إلى موقف توما الأكويني نَجِد أنفسنا مُجَدَّدًا أمام أساس لاهوت العصور الوُسطَى الذي يدور حول الله. فقد كان الشيء المشترك بينهم جميعًا هو الرغبة في توجيه كل الحياة لله في المسيح على نحوٍ صحيح.