ملكوت الله في العهد الجديد

YouTube player

 


المقدمة


 في كلِ مرةٍ نقرأُ قصةً معقّدة يكونُ من السهلِ أن نتوهَ في تفاصيلِها. لكن أحد السُبل لتجنّبِ هذه المشكلة هو في التعرّفِ على الأجزاءِ الأكثرِ أهمية في القصةِ، ثم الرجوعِ إليها مراراً وتكراراً. وبإبقاءِ العناصرِ الأساسيّة في ذهنِنا، يُمكنُنا أن نرى كيفَ تنسجمُ تلك التفاصيلُ معًا. من عدةِ نواحٍ، ينطبقُ الأمرُ نفسَه على فهمِ لاهوتِ العهدِ الجديد. فعندما نبدأُ بالبحثِ في تلك النصوص الكتابيّة نكتشفُ الكثيرَ من التفاصيلِ بحيثُ يصبحُ من السهلِ أن نضلَ الطريقَ بسببِها. من هنا، يجبُ أن نكونَ حذرينَ في تحديدِ الأفكارِ الرئيسيّة في العهدِ الجديد والعودةِ إليها مرةً تلو الأخرى.

هذا هو الدرس الثاني في سلسلتنا الملكوت والعهد في أسفار العهد الجديد. وقد وضعنا عنوانًا لهذا الدرس هو: “ملكوت الله”. نتناول في هذا الدرس أحد أبرز تعاليم العهد الجديد: ملكوت الله.

كما سنرى لاحقًا، موضوع ملكوت الله مهم جدًا في العهد الجديد بحيث إن فُهم بصورة صحيحة، فإن لاهوت العهد الجديد هو لاهوت الملكوت. بعبارة أخرى، كل ما كتبه كُتّاب العهد الجديد كان، إلى حد ما، مكرّسًا لشرح ملكوت الله وتعزيزه.

ندرس أهمية ملكوت الله في لاهوت العهد الجديد من زاويتَين. أولاً، سننظر فيما يسمّيه كُتّاب العهد الجديد البشارة، أو إنجيل الملكوت. وثانيًا، سنشير كيف ترك مجيء الملكوت أثره على كل ما كتبوه. وهذان الموضوعان يساعداننا في أن نرى كيف أن عقيدة ملكوت الله تدعم كل أبعاد العهد الجديد. لنبدأ ببشارة الملكوت.

 


البشارة


يعلمُ كلُ شخصٍ على درايةٍ بالعهدِ الجديد أنَّ لاهوتَه مُعقّدٌ جداً. لكن إن كانَ هناك تعليمٌ واحدٌ للعهدِ الجديد، والذي يجبُ على الجميعِ أن يَسعوا لفهمهِ وتطبيقهِ على حياتِهِم، فإنه يجبُ أن يكونَ بشارةُ الإنجيل. في الواقع، يتّفقُ كثيرٌ منّا على أنه إن كنّا لا نفهمُ بشارةِ المسيح، فإن قدرتَنا على فهمِ أي جانبٍ آخر من لاهوتِ العهدِ الجديد تبقى محدودةً للغاية. وهذا الأمرُ يطرحُ سؤالًا مهمًا. لماذا يعتبرُ الإنجيل، أو البشارة، مهمٌ لهذهِ الدرجة في لاهوتِ العهدِ الجديد؟ لماذا يتّضحُ أنه أكثرَ من مجرّدِ تعليمٍ من بين تعاليمٍ عديدة موجود في العهدِ الجديد؟ وكما على وشكِ أن نرى، فإن الإنجيلَ مهمٌ جدًا في لاهوتِ العهدِ الجديد بسببِ ارتباطِه بالتعليمِ الأوسع نطاقاً عن ملكوتِ الله. وهذا التعليمُ عن بشارةِ ملكوتِ الله يُشكّلُ كلًّ أبعادِ لاهوتِ العهدِ الجديد.

سنتناول بشارة الملكوت على ثلاث مراحل. أولاً، ندرس معنى البشارة. ثانيًا، نفحص المفهوم الأساسي لملكوت الله. وثالثًا، سنتتبع تطوّر أهمية هذا الموضوع في التاريخ الكتابيّ. لنبدأ بمعنى بشارة ملكوت الله.

المعنى

 إنجيل الملكوت هو تعبير آخر للتحدّث عن البشارة المعلنة لنا عن الملك، الرب. لا سيّما تصريحات العهد الجديد عن يسوع، والإعلان أن “الملك قد أتى”. لكن ليس فقط “أن الملك قد أتى”، بل أيضًا الإعلان عن ربوبية يسوع ومُلكه؛ فموت يسوع وقيامته كانا بمثابة التـأكيد على مُلكه. فالبشارة إذًا هي إعلان عن شيء قد سبق وحدث. ولهذه البشارة نتائج تتعلق بطريقة عيشنا. وتعلن هذه البشارة أن يسوع قد جاء وغلب الموت من خلال موته. من أجل ذلك يُعلن الله لنا هذه البشارة على أنها قد سبق وتمت. لكنَّ هناك وعودًا في هذه البشارة لم تتحقق بعد وتتضمن نتائج أبدية.

د. ريتشارد لِنتس

 في لوقا 4: 43 لخّص يسوع قصد خدمته بهذه الطريقة:

إِنَّهُ يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّرَ … بِمَلَكُوتِ اللهِ. (لوقا 4: 43)

بالرغم من أن كلمة “بشارة” تظهر مرة واحدة فقط في لوقا 4: 43، فإن مفهوم البشارة مشار إليه في الواقع مرتين في هذا العدد. والكلمة “بشارة” مشتقة من الكلمة اليونانية “إفنجليون” (εὐαγγέλιον) وهو مصطلح يرد حوالي 76 مرة في العهد الجديد. ودراسة أصل الكلمة “إفنجليون” يبيّن أنها تعني الإعلان السار أو الخبر السار.

ونلاحظ أن يسوع قال في هذا العدد “إِنَّهُ يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّر” والكلمة اليونانية المترجمة “أُبَشِّر” هي “إفنجليزو” (εὐαγγελίζω). وهو فعل مشتق من ذات الكلمة اليونانية “إفنجليون”، ويعني “يبشّر أو يبلّغ الخبر السار“. وقد ورد هذا الفعل 54 مرة في العهد الجديد. وتكرار هذه العبارات يبيّن مدى أهمية مفهوم البشارة بالنسبة لكُتّاب العهد الجديد.

ينظر الكثير من الإنجيليين اليوم إلى البشارة أو الإنجيل كتفسير للخطوات التي يجب على الفرد أن يتّخذها ليجد الخلاص في المسيح. لكن ليست هذه الفكرة التي كانت في ذهن يسوع. وبقدر ما يجب علينا أن نكون مستعدين لنخبر الناس كيف يصبحون أتباعًا للمسيح، فإن البشارة في الكتاب المقدس هي عن شيء أهم بكثير. وكما سيتبيّن لنا، الإنجيل هو أكثر من خلاص فرد أو مجموعة من الناس، الإنجيل هو بشارة انتصار ملكوت الله.

ولكي نفهم ذلك علينا أن ندرك أن كتّاب العهد الجديد أخذوا هذه العبارة “أبشّر” من الترجمة السبعينية، وهي الترجمة اليونانية للعهد القديم. وتستخدم السبعينية الفعل نفسه الذي أشرنا إليه سابقًا، “إفنجليزو” (εὐαγγελίζω) حوالي عشرين مرة. وهذه الكلمة هي ترجمة للكلمة العبرية “بَسَر” (בָּשַׂר) وتعني “إيصال أو إعلان الخبر السار”. لكن مقاطع مثل 1 صموئيل 31: 9، و2 صموئيل 18: 19 تشير إلى أنه عندما كانت تُستخدم هاتَين الكلمتَين للإشارة إلى الملوك والممالك، فهما تعنيان بشارة الانتصار في المعركة. وهذه الملاحظة هامة لأن “البشارة” في العهد الجديد غالبًا ما تقترن بانتصار ملكوت الله.

في الواقع، في لوقا 4: 43، عندما قال يسوع:

 إِنَّهُ يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّرَ … بِمَلَكُوتِ اللهِ. (لوقا 4: 43)

يمكننا أن نترجم هذا التصريح بصورة مشابهة:

إِنَّهُ يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّرَ [بانتصار] مَلَكُوتِ اللهِ. (لوقا 4: 43)

عندما يتحدّث العهد الجديد عن بشارة انتصار ملكوت الله، فهو يشير إلى نوع خاص جدًا من الانتصار كما سنرى لاحقًا في هذا الدرس. فحتى لو بدا الأمر غريبًا في البداية، يجب أن نعترف بأن المفهوم الأساسي للبشارة أو الإنجيل في العهد الجديد هو بشارة انتصار ملكوت الله.

بعد أن رأينا أن بشارة الملكوت تعني بشارة انتصار ملكوت الله، بتنا الآن مستعدين أن نستكشف المفهوم الأساسي لملكوت الله نفسه.

ملكوت الله

اقترن ملكوت الله تحديدًا بالإنجيل سبع مرات على الأقل في العهد الجديد. ونجد عبارة “بِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ” مع بعض الاختلافات البسيطة في متى 4: 23؛ وفي 9: 35؛ و24: 14؛ وكذلك في لوقا 4: 43؛ وفي 8: 1؛ و16: 16؛ كذلك في أعمال الرسل 8: 12. ويشير هذا التكرار إلى أهمية الربط بين الإنجيل – أو رسالة الانتصار – وملكوت الله. لكن لكي نفهم ذلك، يجب أن نفهم أولاً ما قصده يسوع وأتباعه عندما تكلّموا عن ملكوت الله.

ملكوت الله هو حُكم الله على شعب الله في مكان يخصّ الله. ونرى ذلك في بداية الكتاب المقدس في التكوين الفصلَين الأول والثاني حيث شعب الله، آدم وحواء، هما في علاقة مع الله، والله هو الحاكم، وهما في المكان الذي يخصّ الله في جنة عدن. ثم بسبب الخطيّة، تبعثر كل شيء، لكن الله أعاد تكوين ملكوته، أولًا من خلال إبراهيم، ومن ثم من خلال ذريّة إبراهيم، ثم بعد الخروج من خلال موسى مع أمة إسرائيل. هذا هو حُكم الله على شعب الله، إسرائيل، وفي النهاية في مكان يخصّ الله في أرض كنعان. ثم نرى ذلك المسار يتحقق بصورة أكمل من خلال مجيء المسيح. ونرى الله يحكم من خلال المسيح، ملكه المختار، ونرى شعب الله المؤلف من يهود وأمم، من كل قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَأُمَّةٍ، أما مكان الله فسيكون أورشليم الجديدة، بيتنا السماوي، وليس موقعًا جغرافيًا في الأرض. وهكذا في العهد الجديد نرى أن ملكوت الله موجود الآن من خلال مُلك المسيح على شعبه من كل قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَأُمَّةٍ، المنتشرين في العالم أجمع وليس في مكان جغرافي واحد، بل موجودون في السماء، بيتنا الروحي. ثم يعطينا العهد الجديد أيضًا نظرة خاطفة عن ملكوت الله عندما يعود يسوع، فالملكوت الآن مخفيٌ في هذا العالم، لكنه سيظهر بوضوح عند عودة المسيح؛ عندما ستجثو كل ركبة، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح رب، وسيملك الله بالتمام من خلال مَلكه، المسيح، على شعبه الذي يعرفه ويدعوه كل واحد “يا أبي” في أورشليم الجديدة السماوية.

د. كونستنتين كامبل

يشير الكتاب المقدس إلى ملكوت الله بطريقتَين رئيسيتَين. فمن جهة، يتحدّث الكتاب عن ملكوت الله كسيادة الله التي لا تتزعزع أو سلطانه الذي لا يتغيّر على كل الخليقة. كذلك يشير ملكوت الله إلى ملكوته المعلن والطريقة التي أعلن فيها الله مُلكه عبر التاريخ البشري. لننظر أولًا إلى سيادته التي لا تتزعزع.

السيادة التي لا تتزعزع

تتحدّث مقاطع مثل 1 أخبار الأيام 29: 11 و1 تيموثاوس 6: 15 عن كل الخليقة كملكوت الله لأن الله هو الملك الدائم على كل ما صنعه. ويجب أن نُبقي في أذهاننا أن الكتاب المقدس يتحدّث عن سيادة الله على مستويين: سيادته في السماء وسيادته على الأرض.

بالنسبة إلى سيادته في السماء، يتحدّث الكتاب المقدس عن مُلك الله في السماء في أماكن مثل 1 ملوك 8: 27. في هذا العدد أوضح سليمان أن “السَّمَاوَاتُ وَسَمَاءُ السَّمَاوَاتِ” هو مكان مخلوق لا يمكنه أن يحتوي الله “لاَ تَسَعُكَ”. لكن رغم ذلك يتنازل الله ويعلن نفسه أمام خلائقه هناك.

وتشير مقاطع مثل إشعياء 6: 1؛ و2 أخبار الأيام 18: 18؛ وأيوب 1: 6؛ والمزمور 82: 1؛ ودانيال 7: 9-10، بالإضافة إلى مقاطع من العهد الجديد مثل لوقا 22: 30؛ والرؤيا 4-6 أن السماء هي قصر الله فوق العالم المنظور حيث يقوم الله بكل أنواع النشاطات. فالله بينما هو متربع على العرش في السماء، يقوم باستلام التقارير، ويسمع الصلوات، ويتشاور مع الابن والروح القدس، ويخطط، ويصدر قراراته الملكية. وهو يوجه خلائقه الروحية لتطيع أوامره على الأرض. أحيانًا، يسمح الله لبعض البشر الذين اختارهم بالدخول إلى قصره من خلال الرؤى ويفوضهم ليخدموه. وهو يصرّح من بلاطه السماوي بالذنب والبراءة، ويحكم على المخلوقات الروحية، والبشر، والشعوب بحسب عدله ورحمته. ولا تقتصر نشاطات الله على توجيه ملكوت الله في السماء، بل هو سيد مطلق في المجالات الأدنى لخليقته، أي على الأرض.

مع أن الكتاب المقدس يتحدث عن ملكوت الله كسيادة الله التي لا تتزعزع في السماء وعلى الأرض، فإنه عندما يشير يسوع وكتّاب العهد الجديد إلى ملكوت الله على الأرض فهم يعنون بذلك ما سمّيناه ملكوت الله المعلن. ونحن نرى في هذا العالم الأرضي كيف يعلن الله ملكوته في التاريخ البشري.

ملكوت الله المُعلن

وكما قلنا للتو، كان الله ويبقى دائمًا السيد المطلق المسيطر بشكل كامل على خليقته. لكن ملكوت الله المُعلن يشير إلى طريقة محدّدة يعلن الله من خلالها سيادته المطلقة على الخليقة عبر التاريخ، ويُظهرها ويبرهن عنها. وبينما يدعم الكتاب المقدس كيف يُعلن الله مُلكه في السماء، أولى كتّاب الأسفار المقدسة جلّ اهتمامهم ليشرحوا كيف أعلن الله مُلكه على الأرض.

في البداية، أظهر الله مُلكه للعيان في جنة عدن. ووضع أول رجل وامرأة في تلك الجنة المقدسة وفوّضهما ليبسطوا ملكوته المرئي في كل العالم. وكان على البشر أن يملؤوا الأرض ويُخضعوها بصفتهم صورة الله ملوكًا وكهنة. لكن الشيطان أغوى آدم وحواء ليتمردا مسببًا أول نكسة للملكوت. وردًّا على ذلك لعن الله خليقته وجعل مهمة البشر أكثر صعوبة. كما أنه قسم البشر إلى فئتين متنافستَين: من خدموا الله، ومن واصلوا انضمامهم إلى تمرّد الشيطان ضد الله.

وقد أخذت هذه المنافسة أشكالًا عدة في تاريخ الكتاب المقدس، وأدت إلى الكثير من التحديات أمام ملكوت الله. لكن الكتاب المقدس أشار تَكْراراً إلى أن الله سينتصر في النهاية على كل الذين قاوموه. وسينجح الإنسان صورته في ملء الأرض والتسلّط عليها، وستظهر عجائب ملكوت الله في كل مكان. في ذلك الوقت، سيكون انتصار الله على كل عصيان عظيمًا جدًا بحيث يعترف كل مخلوق بالله ملكًا على الخليقة. وكما وصف الرسول بولس في فيلبي 2: 10-11:

لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ. (فيلبي 2: 10-11)

هذه الرؤيا المجيدة لغاية التاريخ هي الانتصار الذي أعلنه يسوع وأتباعه وهي بمثابة “بشارة ملكوت الله”.

والآن بعد أن أوجزنا المفهوم الأساسي لبشارة الملكوت عن طريق النظر إلى البشارة وملكوت الله، لننتقل إلى تطوّر أهمية هذا الإعلان عن انتصار ملكوت الله.

 

تطوّر الأهمية

بشارة انتصار الملكوت تنسجم تمامًا مع نسيج لاهوت العهد الجديد بحيث تظهر بشكل واضح أو ضمني في كل العهد الجديد. وفي الزمن الذي سبق كتابة العهد الجديد، تنامت أهمية الرجاء بانتصار ملكوت الله بحيث تغلغلت في كل أبعاد لاهوت العهد الجديد.

توجد عدة طرق يمكننا من خلالها أن نتتبع تطوّر أهمية ملكوت الله في لاهوت العهد الجديد، لكن من أجل أغراضنا سننظر إلى ناحيتَين فقط: أولاً، النظر في إخفاقات إسرائيل قبل زمن العهد الجديد. وثانيًا، فحص آمال إسرائيل في الملكوت قبل مجيء المسيح. لننظر أولاً في إخفاقات إسرائيل.

إخفاقات إسرائيل

بعد أن جلبت الخطيّة اللعنة على الخليقة والجنس البشري، اختار الله إبراهيم وذُرِّيَته لإتمام مأمورية الملكوت التي كلّف بها آدم وحواء في البداية. ووعد الله أن يكثّر عائلة إبراهيم. وأعطى ذُرِّيَة إبراهيم أرض الموعد كنقطة انطلاق نحو نشر بركات الله في العالم. وفي أيام موسى ويشوع، زاد الله امتيازات إسرائيل ومسؤولية شعبها عندما انتصروا على الكنعانيين وعلى الأرواح الشريرة التي خدمها الكنعانيون. وفي وقت لاحق، نجح داود وسليمان وعدد قليل من ملوك إسرائيل ويهوذا نجاحات هامة في بسط ملكوت الله إلى الأمم الأخرى. في الواقع، في ذروة حكم سليمان، برزت إسرائيل كواحدة من الممالك الأكثر تألقًا في العالم.

ورغم هذه الامتيازات، فإن كل جيل من أجيال ذُرِّيَة إبراهيم أخفق في علاقته مع الله بطريقة أو بأخرى. لكن الله أظهر طول أناته نحوهم ومكّنهم من المضي قُدمًا على الرغم من خطاياهم. ومع الأسف، ما إن صار لشعب الله مملكته الخاصة، وسلالة حاكمة، وهيكلًا في العاصمة، باتت إخفاقات إسرائيل فاضحة لدرجة دفعت الله إلى إنزال عقابه بهم. فدعا الإمبراطوريتَين الشريرتَين أشور وبابل لتهزما إسرائيل في الحرب وتُخضعاها. وهذه الهزائم القاسية أدت في النهاية إلى إقصاء بيت داود عن المُلْك، وخراب الهيكل، وتدمير أورشليم، وإرسال معظم بني إسرائيل إلى السبي. أما أرض الموعد فباتت خرابًا. وفي ختام العهد القديم، بدا كما لو أن كل إنجازات ملكوت الله قد ذهبت سدى. وقبل زمن العهد الجديد، عانى ملكوت الله في إسرائيل من طغيان حكم الأمم الوثنية والآلهة الشيطانية المزيفة التي خدموها لأكثر من خمسمئة عام.

مع الأسف، إن المسيحيينْ المعاصرينْ بعيدونَ كلَّ البعدِ عن تلك التجارب، بحيثُ أن معظمَنا، غيرُ مدركٍ إلى أي مدى، تركت هزيمةُ ملكوتِ الله في إسرائيل، أثرَها على لاهوتِ العهدِ الجديد. لكن، خضوعُ إسرائيل للأممِ الوثنية شَكّلَ عِبئًا كبيرًا على أذهانِ اليهود في القرنِ الأول، بمن فيهِم أتباعُ المسيح. فقد تساءلَ يهودُ القرنِ الأول، هل كانَ السبيُ نهايةَ ملكوتِ الله المنظور؟ هل كانَ هناك أيُّ أملٍ بأخبارٍ سارة حولَ ملكوتِ الله؟ وقد قادَ هذا الجو من الإحباطِ كُتّابَ العهدِ الجديد إلى الإصرارِ على أنَّ ملكوتَ الله لم ينتهِ. فلم يذهبَ كلُّ شيءٍ سُداً. فقد بَشّرَ يسوعُ الناصري بأن السبيَ سينتهي. وسوفَ يَتوطّدُ الملكوتُ الظافرِ لله في جميعِ أنحاءِ العالم بالمسيح، على الرغمِ من إخفاقاتِ إسرائيل.

والآن بعد أن نظرنا في تطوّر أهمية الملكوت بسبب إخفاقات إسرائيل، بتنا مستعدين أن ننظر في آمال إسرائيل بملكوت الله بعد السبي.

 آمال إسرائيل

تكلم الله في العهد القديم، من خلال أنبيائه ليحذّر إسرائيل من إخفاقهم الوشيك وسبيهم بسبب عدم أمانتهم. لكنه بدافع من رحمته، أوحى للأنبياء لكي يدعوا الذين في السبي، ليتوبوا ويأملوا بانتصار عظيم. كانت تلك النبوات عسرة الفهم لكن بصورة عامة كان شعب إسرائيل يتوق إلى الوقت الذي فيه سيهزم الله أعداءه ويدخل شعبه إلى بركات ملكوته العالمي المجيد.

ويمكننا أن نجد هذه الآمال في عدة مواضع في نبوات العهد القديم، لكن اختصارًا للوقت سننظر إلى عددَين فقط من نبوة معروفة جيدًا في إشعياء الفصل الثاني والخمسين. أولاً نقرأ في إشعياء 52: 7:

مَا أَجْمَلَ عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَيِ الْمُبَشِّرِ، الْمُخْبِرِ بِالسَّلاَمِ، الْمُبَشِّرِ بِالْخَيْرِ، الْمُخْبِرِ بِالْخَلاَصِ، الْقَائِلِ لِصِهْيَوْنَ: “قَدْ مَلَكَ إِلهُكِ!”. (إشعياء 52: 7)

هذا العدد مهم بالنسبة إلينا لأنه يتحدّث بوضوح عن بشارة انتصار ملكوت الله. وهو يشبه كثيرًا إشعياء 40: 9 حيث يقول إشعياء شيئًا مماثلاً. والقرينتان الأوسع لهذَين المقطعَين تشيران إلى أن “البشارة” تشير إلى انتصار غير مسبوق لملكوت الله بعد انتهاء سبي إسرائيل. وهذه النبوات المفعّمة بالأمل تغلغلت في الأفكار اللاهوتيّة للأكثريّة الساحقة من اليهود في القرن الأول. ويجب ألا نتفاجأ أنها نفذت أيضًا إلى لاهوت العهد الجديد.

يهيمن موضوع السبي على وقائع العهد القديم. وهو يعود بنا إلى الوراء إلى جنة عدن مع آدم وحواء، ونرى خلاصة عن هذا الموضوع في تاريخ إسرائيل. وبالتالي، هذا النوع من التحوّل الحزين للأحداث، الذي يظهر على نطاق واسع في رواية العهد القديم، لا بد أن يضرم الرجاء في الشعب بعد السبي. وهكذا عندنا الكثير من النبوات القريبة المدى، لا سيما في إشعياء، تتحدّث عن ردّ الله لشعبه، لكن عندما نربط هذه النبوات بوقائع الخليقة، ندرك أن الرجوع إلى الأرض لن يكون أبدًا كافيًا لإبطال الأذية الرئيسية التي حدثت في البداية، أو بعد البداية بوقت قصير. وهكذا، من الطبيعي أن نجد في أنبياء العهد القديم شوقًا إلى خلاص قريب لإسرائيل وقد يكون على يد ملك موهوب بشكل مميز، أمــَّا الخلاص النهائي فيكون على يد ممثل ملكي نهائي لشعب الله.

د. شون ماكدونَف

نظرة عن قرب إلى إشعياء 52: 7 تسلط الضوء على أربع ميزات متعلقة بآمال إسرائيل في انتصار ملكوت الله.

أولًا، قال إشعياء إن المُرسلين “سيحملون البشارة” و”يبشرون بالخير” لصهيون. وهاتان العبارتان هما ترجمة للكلمة العبرية “بَسَر” (בָּשַׂר) التي تترجمها السبعينية “إفنجليزو” (εὐαγγελίζω). وكما سبق ورأينا، هذا المصطلح نفسه مستخدم في العهد الجديد للإشارة إلى بشارة انتصار ملكوت الله في المسيح.

ثانيًا، يقتبس بولس من إشعياء 52: 7 في رومية 10: 15. هنا، يشير بولس إلى أن الكرازة المسيحية تمّمت نبوة إشعياء عن المرسلين الذين يعلنون البشارة في نهاية سبي إسرائيل.

ثالثًا، تنبأ إشعياء بأن البشارة ستكون إعلان “سلام” و”خلاص”. في أفسس 6: 15، أشار بولس إلى “إِنْجِيلِ السَّلاَمِ” المسيحي، وفي أفسس 1: 13 أشار إلى “إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ”.

ورابعًا، يلخّص الشطر الأخير من هذا العدد البشارة عندما يعلن: “قَدْ مَلَكَ إِلهُكِ!”. وهذه الرسالة تشكّل أساس الإنجيل الذي أشار إليه يسوع وكُتّاب العهد الجديد تكرارًا كـ”بشارة الملكوت”، أو ملك “الله”.

والآن بعد أن رأينا كيف تنبأ إشعياء عن تحقيق آمال إسرائيل في إشعياء 52: 7، لننظر إلى العدد 10 من الفصل نفسه. هنا، تنبأ إشعياء عن جهتَي الانتصار الذي تاقت إسرائيل لتراه. أولًا، ترقب هزيمة أعداء الله. تظهر هزيمة أعداء الله بوضوح في النصف الأول من إشعياء 52: 10 حيث قال إشعياء:

 قَدْ شَمَّرَ الرَّبُّ عَنْ ذِرَاعِ قُدْسِهِ أَمَامَ عُيُونِ كُلِّ الأُمَمِ. (إشعياء 52: 10)

هنا نرى أن الله قَدْ شَمَّرَ عَنْ ذِرَاعِ قُدْسِهِ، أي ذراع قوته في الحرب ليهزم أعداءه.

طبعًا، كل من هو ملمّ بالعهد القديم يعرف أن الله غلب أعداءه مرات عدة. وبالتالي، ما الذي جعل هذه النبوة عن انتصار الله مميزًا إلى هذه الدرجة؟ في هذا العدد، تنبأ إشعياء أن الله سيهزم أعداءه “أَمَامَ عُيُونِ كُلِّ الأُمَمِ”. بكلمات أخرى، تنبأ إشعياء أنه بعد سبي إسرائيل، سيهزم الله كل أعدائه بصورة كاملة وفي كل مكان. وهو سيجرّدهم من سلطتهم، ويقصيهم عن الأرض، ويرسلهم إلى الدينونة الأبدية.

ثانيًا، يرد في الشطر الثاني من إشعياء 52: 10 أن انتصار الله سيؤدي إلى خلاص شعب الله ودخوله إلى بركات ملكوته. استمع إلى هذا الجزء من إشعياء 52: 10:

… تَرَى كُلُّ أَطْرَافِ الأَرْضِ خَلاَصَ إِلهِنَا. (إشعياء 52: 10)

نحن نعلم أن الله أنقذ شعبه مرارًا في العهد القديم. لكن الخلاص الذي تنبأ عنه إشعياء هنا، ستَرَاه “كُلُّ أَطْرَافِ الأَرْضِ”. تمامًا مثلما كانت هزيمة أعداء الله شاملة، فخلاصه سيكون شاملاً ونهائيًا. في النهاية، الله سيخلّص شعبه ويُدخِله إلى ملكوت الفرح والمحبة والبرّ والسلام والازدهار والسرور الأبدي في حضوره المجيد. 

سننظر عن قرب أكثر إلى هاتَين الناحيتَين لانتصار الله لاحقًا في درسنا، ولكن كما يتضح من هذه الأعداد، يمكننا أن نرى النبوات عن مجيء الملكوت في كل العهد القديم.

مع الأسف، لأكثر من ألفَي سنة، عتَّم اللاهوت المسيحي التقليدي على أهمية الملكوت في العهد الجديد. وفي أوقات مختلفة في تاريخ الكنيسة، شدّد المسيحيون عن حق على مجموعة من الآراء اللاهوتية المتنوعة في ردّهم على قضايا متنوعة. لكن يجب أن نذكّر أنفسنا باستمرار أنه عندما كُتب العهد الجديد، كانت هزيمة ملكوت الله في إسرائيل قد ألقت بثقلها على أتباع يسوع الذين جاؤوا بعدها. لم يكن أي شيء بالنسبة إليهم أهم من الإيمان بأن ملكوت الله سينهض ويحقّق انتصارًا غير مسبوقٍ بيسوع. ولهذا السبب، تم سكْب لاهوت العهد الجديد ضمن إطار البشارة بملكوت الله.

إلى هنا في هذا الدرس حول ملكوت الله، عرضنا الموضوع البارز بشارة الملكوت في لاهوت العهد الجديد. والآن ننتقل إلى موضوعنا الثاني الرئيسي وهو: كيف شكّل مجيء الملكوت لاهوت العهد الجديد.

 


المجيء


 جميعُنا اختبرنا أوقاتًا آمنّا فيها بأنَّ أمورًا مُعيّنة كانت على وشكِ الحدوث. ولكن بمرورِ الوقت، كانَ ما حدثَ في الواقعِ مخالفٌ تمامًا لما كُنّا نتصوّرُه. ويَصحُّ هذا من عدةِ نواحٍ على ما اختبَرَه كُتّابُ العهدِ الجديد. فالأغلبيةِ العُظمى من اليهودِ، الذين كانوا يعيشونَ في القرنِ الأول، كانت لهم تَوقّعاتٌ راسخةٌ حولَ الطريقةِ، التي سيتمُّ بها انتصارُ ملكوتِ الله. لكن أتباعُ المسيحِ الأوّلين تَعلّموا تدريجيًا، أن ذلك لن يتمّ بالطريقةِ التي تصوّروها. من هنا، وبطرقٍ مختلفة، رَكّزَ لاهوتُ العهدِ الجديد على شرحِ الطريقة التي سيتحقق بها انتصارُ الملكوت بالفعل.

لكي نفهم تأثير مجيء ملكوت الله على لاهوت العهد الجديد، سنتطرّق أولًا إلى التوقعات حول مجيء ذلك الملكوت. ثم ننظر في آراء العهد الجديد حول ما نسميه الانتصار الثلاثي للملكوت. لننظر أولاً إلى التوقعات المتعلقة بمجيء الملكوت.

 

التوقعات

 في القرن الأول للميلاد، تاق جميع اليهود، حتى الذين لم يتبعوا إيمان أجدادهم تمامًا، تاقوا إلى مجيء ملكوت الله وانتصاره. وقد أملوا جميعًا بأن الله سيهزِم أعداءهم ويُدخِل شعبه إلى بركات ملكوته. وقد انطبق ذلك على أتباع يسوع أيضًا، لكن كانت هناك فروق هامة حول الطريقة التي توقعوا فيها مجيء ملكوت الله وزمنه.

من جهة، عندما كان الرابيّون أو أحبار اليهود، والقادة الآخرون في إسرائيل يعلّمون عن تحقيق الانتصار النهائي لملكوت الله، كانوا يشيرون إلى مصطلحات مألوفة في العهد القديم مثل “الأيام الأخيرة” و”يوم الرب”. لكنهم تحدثوا أيضًا عن دهرين عظيمين في التاريخ. وكان الرابيّون غالبًا يشيرون إلى الدهر الحالي، دهر الخطية والألم، والموت بـ”هذا الدهر” – “عولام هَاذِ” في العبرية – ويشيرون إلى الدهر المستقبلي، دهر البرّ والمحبة والفرح والسلام الذي سيتبع السبي بـ”الدهر الآتي” – “عولام هابَا” في العبرية.

وقد علّموا أن “هذا الدهر” وصل إلى مستواه الأدنى مع العقاب الذي لحق بإسرائيل بالسبي من أرض الموعد. طبعًا، الله هو السيد المطلق الذي يسود على هذا الدهر، وهو من وقت لآخر يعلن نفسه كملك، وبرهن عن ذلك بطرق مدهشة. لكن بحلول القرن الأول كان قد مضى على شعب الله مئات السنين وهو مضطهدٌ ومظلومٌ ومحرومٌ من بركات ملكوت الله. وكان التوقع الشائع أنه في “الدهر الآتي” ستتم هزيمة أعداء الله بالكامل ويُزالون من الأرض. أما شعب الله فسينجو ويتمتع بالبركات التي لا تُحصى لملكوت الله العالمي.

عند قراءة الأدب الكتابي أو عند البحث حول الكتاب المقدس، نجد أحيانًا هذين التعبيرَين: “هذا الدهر” و”الدهر الآتي”. والمقصود بهذين التعبيرَين هو التالي: “هذا الدهر” هو الدهر أو الفترة الزمنية، أي الحقبة أو العصر الذي يعيش فيه البشر منذ خطيئة آدم. هو الحياة في عالم ساقط. أما “الدهر الآتي”، كما توقعه أنبياء العهد القديم، فهو زمن يعيد فيه الله بمعنى ما تشكيل الجنة. وسيكون هناك سماوات جديدة وأرض جديدة، ويُزال القلب البشري الحجري، ونحن جميعًا سنتبع بشكل كامل إرادة الله ونطيعها. ولن يكون هناك عنف بين البشر، ولن يكون هناك عنف حتى بين الحيوانات.

د. إكهارد شنابل

في القرن الأول تبنّت شيَع يهودية مختلفة آراء متفاوتة حول ما سيحدث قبل أن ينتقل التاريخ من “هذا الدهر” إلى “الدهر الآتي”. لكن معظم الفِرَق وافقت على أن الانتقال من دهر الهزيمة هذا إلى دهر ملكوت الله الظافر سيحدث من خلال حرب كارثية. فقد آمنوا أن المسيح المنتظر، وريث عرش داود، سيقود ملائكة السماء وشعب الله الأمين وينصرهم على أعداء الله البشريين والروحيين.

والاعتقاد بأن الله سيهزم ليس فقط الأعداء البشريين، بل أيضًا الأعداء الروحيين، نجد ما يدعمه في كل العهد القديم. على سبيل المثال، في الخروج 12: 12، تحدّث الله لا عن هزيمة المصريين فحسب، بل أيضًا عن هزيمة آلهة المصريين. في 1 صموئيل 5: 1-12 شنّ الرب حربًا على الفلسطيين، وهزم أيضًا إلههم المزيّف، داجون. لهذا السبب، ربط إشعياء 21: 9 بين هزيمة بابل وتدمير آلهة بابل.

ومقاطع من العهد القديم مثل حَجَّي 2: 6-9، وزكريا الفصول 9-12، وحزقيال الفصلَين 38 و39 فسّرها الأدب الرؤيوي اليهودي كنبوات عن الحرب الكونية العظيمة التي فيها سيقود المسيح المنتظر جيوش الله إلى الانتصار على كل الأمم والأرواح الشريرة التي تسود على تلك الأمم. بهذه الطريقة، سيهزم المسيح المنتظر كل أعدائه ويُخلص شعب الله ويُدخلهم إلى ملكوته العالمي المجيد.

من جهة أخرى، مع الانتشار الواسع لهذه الآراء اليهودية، بدأ أتباع يسوع يتوقعون تحقيق انتصار ملكوت الله بطريقة مختلفة. ومثل أغلبية معاصريهم، آمن كُتّاب العهد الجديد بأن التاريخ ينقسم إلى دهرَين عظيمَين. كذلك تبنوا الرأي بأن المسيح المنتظر سيهزم أعداء الله البشريين والروحيين وسينّجي شعب الله المفدي وينقله من “هذا الدهر” إلى بركات “الدهر الآتي”. لكن أتباع يسوع توصلوا إلى القناعة بأن الانتقال من هذا الدهر إلى الدهر الآتي سيحدث بطرق مختلفة عما اعتقده معظم اليهود في عصرهم.

في المقام الأول، وبشكل مغاير عن معظم اليهود، آمن كُتّاب العهد الجديد أن يسوع هو المسيح الموعود به، ابن داود المختار، الذي سيأتي بالانتصار العالمي الشامل لملكوت الله. وهذا الالتزام بيسوع باعتباره المسيح المنتظر شكّل كل ما كتبوه في العهد الجديد.

ويمكننا أن نرى هذا الولاء للمُلك المسيانيّ ليسوع في الألقاب الملوكيّة التي يعطيه إياها العهد الجديد. على سبيل المثال، يشير العهد الجديد إلى يسوع باللقب الملوكي “المسيح” حوالي 529 مرة. والكلمة اليونانية “خريستوس” (Χριστός) تُترجم الكلمة العبرية في العهد القديم “مشيَّح” (מָשִׁיחַ) التي منها اشتُق مصطلحنا “المسيا”. في الأصل هاتان الكلمتان عنيتا ببساطة “الممسوح”. ففي أزمنة العهد القديم، كان الأنبياء والكهنة والملوك يُمسَحون بالدهن أو الزيت عند تولي مناصبهم في إسرائيل. لكن قبل زمن العهد الجديد، كان لقب “الممسوح” أو “المسيا”، قد صار مرادفًا تقريبًا للملك العظيم من بيت داود الذي سيحقق الانتقال إلى الدهر الآتي.

لقبٌ ملكيٌّ ثانٍ نُسِب ليسوع في العهد الجديد هو “ابن الله”. وهذه العبارة، أو مع بعض الاختلاف مثل “الابن” أو “ابن العلي” تظهر حوالي 118 مرة في العهد الجديد. ويشير هذا المصطلح في بعض استعماله إلى أن يسوع كان الملك الشرعي لإسرائيل. استمع إلى يوحنا 1: 49 حيث قال نثنائيل ليسوع:

 أَنْتَ ابْنُ اللهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ! (يوحنا 1: 49)

وكما استخدمه بطرس في متى 16: 16 عندما أقرّ بإيمانه بيسوع:

 أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ! (متى 16: 16)

وهذه العبارة تشبه لقبًا ملكيًّا ثالثًا ليسوع: “ابن داود”. وترد في أناجيل متى ومرقس ولوقا 20 مرة على الأقل كإشارة إلى يسوع الوريث الشرعي لعرش داود، المعيّن من الله.

على سبيل المثال، في لوقا 1: 32 و33، قال الملاك جبرائيل لمريم عندما بشّرها بولادة المسيح:

[يَسُوع] هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِـيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ. (لوقا 1: 32-33)

تحدّث جبرائيل هنا عن يسوع مستخدمًا اللقب الملكي “ابن العلي. ثم أوضح أن يسوع سيجلس على “كُرْسِيّ دَاوُدَ أَبِيهِ”. ودوّن لوقا أن يسوع “يَمْلِكُ … إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ”. وكابن العلي، يسوع هو من سيحقق الانتصار النهائي الأبدي لملكوت الله.

كل هذه المقاطع تشير إلى تعليم جوهري في لاهوت العهد الجديد وهو: يسوع هو المسيح المنتظر الذي سيحقّق ملكوت الله على الأرض بكل ملئه.

في المقام الثاني، آمن أتباع يسوع الأولون أنه سيتمّم الانتقال من هذا الدهر إلى الدهر الآتي بطرق لم يتوقعوها، ولا توقعها سواهم.

استمع إلى الطريقة التي من خلالها كشف يسوع هذا التغيير في توقعات ملكوت الله في متى 13: 31-32:

قَدَّمَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ قَائِلاً: “يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَل أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ، وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ. وَلكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ الْبُقُولِ، وَتَصِيرُ شَجَرَةً، حَتَّى إِنَّ طُيُورَ السَّمَاءِ تَأْتِــي وَتَــتَآوَى فِي أَغْصَانِهَا”. (متى 13: 31-32)

في هذا المثل، علّم يسوع أن الملكوت الظافر يبدأ صغيرًا، مثل “حَبَّة خَرْدَل”، ثم ينمو مع الزمن، ليصل إلى ذروته النهائية.

غالبًا دعا اللاهوتيون المعاصرون وجهة نظر يسوع حول مجيء الملكوت المسيانيّ لله بـ”الأخرويات المُبْتَدَئة”. والفكرة وراء هذه العبارة تشير إلى أن عمل المسيح قد سبق وظهر على الأرض، لكن الانتصار “النهائي” لم يتحقق بعد. وهم يتحدّثون أيضًا عن “الآن، لكن ليس بعد” وبكلمات أخرى، انتصار ملكوت الله قد تمّ “بالفعل”، لكن “ليس بعد” في ملئه. ووجهة النظر هذه حول انتصار ملكوت الله الآتي تفتح آفاقًا لا تُحصى في لاهوت العهد الجديد.

أحد الأسئلة الهامة حول ملكوت الله هي: هل الملكوت قد جاء في المسيح؟ أم أنه يتعلق بالمستقبل؟ في الواقع يتحدّث علماء اللاهوت عن “الملكوت المُبْتَدأ لله”. و”المُبْتَدأ” يعني أن الملكوت قد حضر ويمتد تحقيقه إلى المستقبل في آن معًا. أعلن يسوع الملكوت بأقواله وأفعاله، ومن خلال موته وقيامته. وبالتالي يكون الملكوت قد ابتدأ، لكنه يكتمل أو يتحقق في المستقبل حين يظهر بالكامل على الأرض، وننال عندها أجسادًا ممجدة. وهكذا، نحن نعيش في اليوم الحاضر بين زمنَين، بين ابتداء الملكوت، واكتماله أو تحقيقه. نعيش في عالم ساقط، لكن مع ذلك المسيح يملك عن يمين الآب وفي قلوبنا. فالملكوت جاء، إنه “حاضر” الآن، لكنه لم يكتمل بشكل تام بعد.

د. مارك ستراوس

يساعدنا بصورة عامة أن ننظر إلى وجهة نظر العهد الجديد حول مجيء الملكوت كانتصار ثلاثي. أولا، في التأسيس، استهل الله انتصار الملكوت من خلال حياة يسوع وموته وقيامته وصعوده، ومن خلال الخدمات التأسيسية لرسله وأنبيائه في القرن الأول. بعد ذلك، من خلال الاستمرارية، وطّد يسوع انتصار ملكوت الله من عرشه في السماء. ويستمر يسوع في تعزيز الملكوت عبر تاريخ الكنيسة. وأخيرًا، عند عودة يسوع بمجد سيتمم اكتمال الملكوت ليحققه بالكامل. هذا هو الانتصار النهائي لملكوت الله عندما سيتم القضاء على كل شر ويمتد ملكوت الله المجيد إلى كل أنحاء العالم.

وإذ كرّس كُتّاب العهد الجديد أنفسهم لتفسير قضايا لاهوتية متنوعة، قاموا بذلك إلى حد بعيد على ضوء هذه المراحل الثلاث في العمل المسيانيّ للمسيح.

كما رأينا، فإن مجيء الملكوت غيّر توقعات أتباع يسوع في القرن الأول. لننظر الآن إلى الدور الحيوي الذي شغله الانتصار الثلاثي لملكوت الله في لاهوت العهد الجديد.

 

الانتصار الثلاثي

حقيقةُ أن انتصارَ ملكوتِ الله يَتحقّقُ في تأسيسِ العملِ المسيّاني للمسيح، واستمرارهِ، واكتمالهِ، أثارت العديدَ من الأسئلةِ في الكنيسةِ الأولى. فما الذي أنجزَه المسيحُ بالفعل؟ وما الذي سيُنجزَه عبرَ تاريخِ الكنيسة؟ وما الذي سيفعَلَه عندَ عودتِه؟ كانَ هذا النوعُ من الأسئلةِ مهمٌ جدًا في القرنِ الأول، وقد شَكّلَ بعمقٍ لاهوتَ العهدِ الجديد. فقد اعتمدَ كُتّابُ العهدِ الجديد على حقيقةِ أنه قد بدأت هزيمةُ أعداءِ الله، وخلاصُ شعبِ الله في المجيءِ الأول للمسيح. وسوف يَستمرُ هذين الحدثين طوالَ تاريخِ الكنيسة، ويكتملانِ في النهاية عند المجيءِ الثاني للمسيحِ ظافراً.

لا يسمح لنا الوقت سوى بالإشارة إلى بعض الطرق التي من خلالها شكّل هذا الانتصار الثلاثي لاهوت العهد الجديد، لكن من المفيد أن ننظر في اتجاهَين. أولاً، نلاحظ كيف يشرح العهد الجديد هزيمة أعداء الله في مراحل الملكوت الثلاث. ثم نفحص تعاليم العهد الجديد عن خلاص شعب الله في المراحل الثلاث كذلك. لننظر أولاً إلى هزيمة أعداء الله.

الهزيمة

تمسّك اليهود غير المؤمنين بأن المسيح المنتظر سيهزم أعداء الله الروحيين والبشريين. آمن كُتّاب العهد الجديد بهذا الأمر كذلك. لكنهم آمنوا أن يسوع سيقوم بذلك بطرق تتلاءم مع كل مرحلة من الملكوت.

وقد ركّز لاهوت العهد الجديد أن استراتيجية يسوع كانت ثنائية في تأسيس الملكوت. فهو من جهة أنزل دينونة الله على أعداء الله الروحيين. خلال خدمته جرّد يسوع الأرواح الشريرة من قوتها طاردًا إياها من مراكز قوتها. لكن من جهة أخرى، بسط يسوع رحمة الله على أعداء الله البشريين. بالتأكيد، رحمة المسيح نحو الشعب أدّت إلى منحهم الكثير من البركات، لكنها أيضًا عززت هزيمة الأرواح الشريرة بسلبها خدَّامَها البشريين.

في متى 12: 28-29، شرح يسوع نفسه هذه الاستراتيجية عندما قال:

وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ اللهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ! أَمْ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ الْقَوِيِّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ، إِنْ لَمْ يَرْبِطِ الْقَوِيَّ أَوَّلاً، وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ؟ (متى 12: 28-29)

جاء يسوع وربط الشياطين، أو ربط القوي، لكي “يَنْهَب بَيْتَهُ”. بكلمات أخرى، أخرج يسوع الشياطين وحرّر أولئك الذين كانوا تحت سيطرتهم.

يمكننا أيضًا أن نرى هذه الاستراتيجية الثنائية في أماكن مثل يوحنا 12: 31-32 حيث قال يسوع:

اَلآنَ دَيْنُونَةُ هذَا الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هذَا الْعَالَمِ خَارِجًا. وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ. (يوحنا 12: 31-32)

مرة أخرى، في تأسيس الملكوت، هاجم يسوع الأرواح الشريرة مباشرة، أو “رئيس هذا العالم” الشيطان. وقد هزمه وجرّده من قوته. لكن إلى جانب هذا الهجوم على الشيطان، عرض يسوع الخلاص على البشرية.

يتساءل الناس أحيانًا كيف يمكن لهذا الرأي حول المسيح المنتصر “خريستوس فيكتور”، أن يتلاءم أو يرتبط بفكرة المسيح كالشخص الذي مات عن خطايانا، ككفارة بديلية؟ في إنجيل يوحنا، في المرة الثالثة التي يتحدّث فيها يسوع عن رفع ابن الانسان مثلما رُفعت الحية في البرية – في يوحنا الفصل الثاني عشر- يربط بين هذا الرفع بالتحديد مع تصريحه “اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هذَا الْعَالَمِ خَارِجًا”. من هنا أخذ يسوع مكان حية البرية، فتوجه نحو الموت ليدمّر الموت من الداخل. من هنا، هذا العمل الأول لـ”خريستوس فيكتور” هو تدمير الموت من الداخل بارتفاعه على الصليب.

ق. مايكل جلودو

إن هزيمة أعداء الله الروحيين كانت مهمة جدًا بالنسبة إلى خدمة يسوع الافتتاحية في مقاطع مثل العبرانيين 2: 14-15، وقد دوّن كُتّاب العهد الجديد عن موت المسيح الكفاري على الصليب بعلاقته بهذه الاستراتيجية الثنائية. وقد أوضحوا أنه من خلال موته، كسر يسوع سلطة الشيطان على البشر. ومن خلال تكفيره عن خطايا البشر، حرّر يسوع الذين كانوا عبيدًا للخطية والموت.

تظهر هذه الأفكار بوضوح في كولوسي 2: 15 حيث كتب الرسول بولس:

إِذْ جَرَّدَ [المسيح] الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَارًا، ظَافِرًا بِهِمْ فِيهِ. (كولوسي 2: 15)

فالأرواح الشريرة أو الرياسات، والسلاطين، خسرت مراكزها البارزة عندما أطلق يسوع شعبه أحرارًا من سلطة الخطية بموته على الصليب.

وعلى ضوء هذه الحقيقة، يجب ألا نتفاجأ أنه في أفسس 4: 8، تُوصف قيامة المسيح وصعوده بمثابة سلب الشيطان من خُدّامه البشريين:

إِذْ صَعِدَ إِلَى الْعَلاَءِ سَبَى سَبْيًا وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا. (أفسس 4: 8)

وكما يشير هذا المقطع، عندما يؤمن رجال ونساء بالمسيح، يكون الأمر مثل سلبهم من ملكوت الشيطان.

تظهر أيضًا هذه الاستراتيجية لهزيمة أعداء الله الروحيين في بداية خدمة رسل المسيح في سفر أعمال الرسل. فعن طريق اتّباعهم مثال يسوع، قام الرسل تكرارًا بطرد الشياطين أثناء كرازتهم بالإنجيل بين الأمم وأخرجوا الشيطان من الكثير من خدّامه البشريين.

ليس من المستغرب، عندما نأخذ بعين الاعتبار استمرار ملكوت المسيح عبر تاريخ الكنيسة، أن نجد أنه على أتباع المسيح أن يواصلوا الاستراتيجية التي اتبعها يسوع عند تأسيس الملكوت. فبدل أن ننتصر على أعداء الله البشريين، يجب أن نركّز انتباهنا على الأرواح الشريرة التي تقاوم طرق الله.

وعلى الرغم من أن العديد من المسيحيين المعاصرين لا يدركون ذلك، فإن لاهوت الملكوت في العهد الجديد يذكّرنا باستمرار بأن كنيسة يسوع ليست في حرب مع البشر، بل مع الشيطان والأرواح الشريرة الأخرى، وإنها مسؤوليتنا أن نناضل ضد هؤلاء الأعداء الروحيين لله.

لهذا السبب نرى العهد الجديد في مقاطع مثل أفسس 6: 11-12 ينسب الصعوبات والصراعات التي نواجهها إلى النزاع مع الأروح الشريرة. هنا نقرأ:

الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ. فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ. (أفسس 6: 11-12)

كثيرا ما ينظر المسيحيون في عصرنا إلى الصراعات في حياتهم كنزاعات مع بشر عاديين. لكننا نرى هنا أن النزاع الذي تواجهه الكنيسة هو في الواقع مع “إبليس”، و”الرؤساء والسلاطين”، و”وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ”، و”أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ”. ومن خلال لبسنا سلاح الله الكامل يمكننا أن نجرّد تلك القوى الروحية التي تقاوم ملكوت الله من قوتها.

هذا المقطع ليس استثنائيًا في تشديده على أن الحرب الروحية هي أحد جوانب ملكوت المسيح خلال تاريخ الكنيسة. والنزاع المستمر الذي نختبره مع الشيطان والأرواح الشريرة يمكن أن نجده في عدد من المقاطع مثل أفسس 4: 27؛ و1 تيموثاوس 3: 7؛ و2 تيموثاوس 2: 26؛ ويعقوب 4: 7؛ و1 بطرس 5: 8؛ و1 يوحنا 3: 8؛ ويهوذا 9.

لكن في الوقت نفسه، كما نقرأ في 2 كورنثوس 5: 20، يجب أن نبسط رحمة الله إلى أعدائه البشريين.

إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ. (2 كورنثوس 5: 20)

ونحن تابعين مثال بولس، “كسفراء عن المسيح”، كممثلين لملكوت الله، نستمر في هزم أعداء الله الروحيين عن طريق السعي إلى المصالحة بين الله وأعدائه البشريين.

يربط لاهوت العهد الجديد أيضًا هزيمة أعداء الله باكتمال ملكوت المسيح وحضوره. لكن من المهم أن نلاحظ أن تغييرًا دراماتيكيًّا يحدث في خطة يسوع عند تحقيق الملكوت. فعندما يعود المسيح، لن يقوم ببسط رحمته على أعداء الله البشريين كما كان يفعل في السابق، بل سيقود معركة ضد أعداء الله الروحيين والبشريين فيُلحق بهم هزيمة كاملة، ويُقصيهم من الأرض، فينالون عقابهم الأبدي.

استمع كيف يصف الرؤيا 19: 13-15 هزيمة أعداء الله البشريين عند تحقيق الملكوت:

وَيُدْعَى اسْمُهُ “كَلِمَةَ اللهِ”. وَالأَجْنَادُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ … وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ الأُمَمَ. (رؤيا 19: 13-15)

بطريقة مشابهة، يصف الرؤيا 20: 10 عودة المسيح المجيدة كزمن الدينونة النهائية على الأرواح الشريرة والشيطان:

وَإِبْلِيسُ الَّذِي كَانَ يُضِلُّهُمْ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ وَالْكِبْرِيتِ، حَيْثُ الْوَحْشُ وَالنَّبِيُّ الْكَذَّابُ. وَسَيُعَذَّبُونَ نَهَارًا وَلَيْلاً إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. (رؤيا 20: 10)

بالطبع نحن قدّمنا فقط ملخّصًا موجزًا عن هذه المسائل. لكن يمكننا أن نرى من هذه الأمثلة أن كُتّاب العهد الجديد وجدوا من الضروري إيضاح هذه الناحية من انتصار الملكوت مرة تلو المرة. وقد ركّزوا على أوليَّة التصدّي للأرواح الشريرة كما أكّدوا على لطف الله نحو أعدائه البشريين في فترة تأسيس الملكوت واستمراره. لكنهم أشاروا أيضًا إلى أنه في النهاية عند عودة المسيح، ستنزل دينونة الله الأبدية على أعداء الله البشريين والروحيين. وهذه التأكيدات توضّح أن هزيمة أعداء الله هي سمة هامة في لاهوت الملكوت في العهد الجديد.

الملكوت قد بدأ، وهو حاضر هنا، لكنه ما زال يتابع طريقه ويتقدّم إلى الأمام، حتى زمن اكتماله. ويُطرح السؤال، بأي طرق انتصر يسوع على أعدائه؟ أولاً، الانتصار الأعظم هو الذي تمّ في الصليب حيث هُزم الشيطان. بهذا المعنى، المعركة المصيرية قد تم خوضها ورُبحت. ولهذا السبب، على سبيل المثال، في الرؤيا الفصل الثاني عشر، جاء ردّ القديسين على المشتكي على الإخوة، وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ الْخَرُوفِ. فقد غلبوا الشيطان – المصوّر بصورة مجازية في الرؤيا الفصل الثاني عشر – غلبوه بدم الخروف. وهكذا قد تمّ حسم هذه المعركة، لكن كما كان الحال مع هتلر نحو نهاية الحرب العالمية الثانية، في الوقت الذي كان واضحًا له أن الحرب قد انتهت، لم يستسلم. بل امتلأ غضبًا عالمًا أن وقته بات قصيرًا. وهذا ما قيل عن الشيطان. فالشيطان بات أكثر خبثًا الآن، وفي كل مرة يتقدّم الإنجيل، والمزيد من الناس يقبلون إلى المسيح، ويترسخ البرّ في حياة الناس، في الكنيسة المحلية، في أي نوع من البيئة الحضارية، فهذا يشكّل في الواقع هزيمة مستمرة للشيطان، ولكل الذين يحبون الظلمة. والمسار النهائي نحو الانتصار الأخير، هو عندما تصبح ممالك هذا العالم ممالك الله ومسيحه، وهو يملك إلى الأبد. المسألة هي أن المسار قد ثبت في مكانه بحيث كما جاء في الفصل الثاني من فيلبي، ستجثو كل ركبة، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ رَبٌّ، فالمعركة الأساسية قد رُبحت. طبعًا هذا لم يتحقق بالكامل، لكنه يتحقق في حياة الكثيرين الذين يسجدون بفرح بقوة الروح القدس. لكن في اليوم الأخير لا بد أن يحني الجميع ركبهم أمام الله.

د. دون كارسون

والآن، بعد أن رأينا كيف أن الانتصار الثلاثي لملكوت الله يتضمن هزيمة أعداء الله، يجب أن نبيّن كيف أن خلاص شعب الله يلعب دورًا بارزًا في لاهوت العهد الجديد.

الخلاص

إن كانت هناك ناحية لتأسيس ملكوت الله تبرز أكثر من سواها لمعظم القراء، فهي خلاص شعب الله ودخولهم إلى بركات الملكوت. على سبيل المثال، أحد أهم الأسباب وراء تركيز الأناجيل كثيرًا على معجزات يسوع، هو بسبب كون تلك المعجزات تجسّد بركات الملكوت الذي جاء به يسوع إلى الأرض. فمعجزات يسوع كانت بمثابة العربون لبركات الملكوت التي سيتمتع بها شعب الله إلى الأبد في الدهر الآتي. علاوة على ذلك، فإن اهتمام يسوع بالعدالة الاجتماعية نحو الفقير، والمحتاج، والذين كانوا يتألمون على يد الآخرين شكّلت أيضًا بركات هامة في الملكوت.

وشكلّت معجزات يسوع والرسل والأنبياء والعدالة الاجتماعية التي أظهروها بركات مدهشة. لكن البركة الأعظم في تأسيس ملكوت الله كانت هبة الخلاص الأبدي الذي أعطاه المسيح لجميع الذين آمنوا به.

لهذا السبب، يصف بولس في كولوسي 1: 13-14 نيل الخلاص في المسيح كانتقال من ملكوت إلى ملكوت آخر.

الَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ، الَّذِي لَنَا فِيهِ الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا. (كولوسي 1: 13-14)

موضوع الدخول الى بركات الملكوت يساعدنا كي نفهم لماذا يشدّد العهد الجديد على عمل الروح القدس. فمع انتهاء خدمة الرسل كان انسكاب الروح القدس على أتباع المسيح إحدى بركات الدهر الآتي التي منحت لكل مؤمن. وكما نقرأ في 2 كورنثوس 1: 21-22:

وَقَدْ مَسَحَنَا، هُوَ اللهُ الَّذِي خَتَمَنَا أَيْضًا، وَأَعْطَى عَرْبُونَ الرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا. (2 كورنثوس 1: 21-22)

يشبه هذا العدد الى حد كبير أفسس 1: 14. فكلا المقطعَين يشيران إلى أن الله “ختمنا” بختم الروح القدس كعلامة لامتلاكه إيانا. وهذا الروح هو “عربون” ما سنناله في المستقبل. بكلمات أخرى، الروح القدس، قوة الله في حياتنا اليوم، هو القسط الأول للميراث العظيم الذي سيناله أتباع المسيح عندما يعود المسيح بمجده.

كذلك يتناول العهد الجديد عملية إنقاذ شعب الله في فترة استمرار ملكوت الله. في حياة الكنيسة المستمرة، يشجّع كُتّاب العهد الجديد أتباع المسيح ليتذكروا كيف أن الله سبق وأنقذهم ونقلهم إلى بركات ملكوته. ويشدّد لاهوت العهد الجديد على أن الله لم ينقذنا فقط من دينونة خطايانا، بل هو يستمر في منح هبة الروح القدس إلى كنيسته. على سبيل المثال، استمع إلى 1 كورنثوس 4: 20:

لأَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ لَيْسَ بِكَلاَمٍ، بَلْ بِقُوَّةٍ. (1 كورنثوس 4: 20)

هنا كما في أماكن أخرى عديدة، “القوة” التي يشير إليها بولس هي قوة الروح القدس.

روح الله هو الحقيقة المدهشة وسبب بركات الله لشعبه التي نختبرها يومًا بعد يوم. فهو يقدّسنا، ويُثمر في حياتنا، ويملأنا بالفرح، ويقوّينا على أعدائنا. وعلى الرغم من حقيقة أن العديد من فروع كنيسة المسيح اليوم يقللون من أهمية دور الروح القدس في حياة المؤمنين، فهو بركتنا العُظمى في فترة استمرار ملكوت المسيح.

ويشجّع لاهوت العهد الجديد أتباع المسيح الذين يعيشون خلال فترة استمرار الملكوت أن يُبقوا أمالهم مثبتة على بركات أعظم سينالونها في الملكوت الآتي. تدعو رسالة العبرانيين 12: 28 أتباع المسيح ليبقوا أمناء متشجعين في ضوء بركات الملكوت الآتي:

لِذلِكَ وَنَحْنُ قَابِلُونَ مَلَكُوتًا لاَ يَتَزَعْزَعُ لِيَكُنْ عِنْدَنَا شُكْرٌ بِهِ نَخْدِمُ اللهَ خِدْمَةً مَرْضِيَّةً، بِخُشُوعٍ وَتَقْوَى. (عبرانيين 12: 28)

ونقرأ في يعقوب 2: 5:

اسْمَعُوا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ: أَمَا اخْتَارَ اللهُ فُقَرَاءَ هذَا الْعَالَمِ أَغْنِيَاءَ فِي الإِيمَانِ، وَوَرَثَةَ الْمَلَكُوتِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ؟ (يعقوب 2: 5)

طلب يعقوب من الكنيسة أن تتوقف عن إظهار التحيّز نحو الأغنياء لأن ليس اصحاب الثروات هم من يدخلون الملكوت، بل الذين هم “أَغْنِيَاء فِي الإِيمَانِ” و”الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ” هؤلاء هم “وَرَثَة الْمَلَكُوتِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ”.

أدخل يسوع شعبه الى بركات الملكوت عند تأسيسه له. وقد استمرت بركات الملكوت في حياة الكنيسة عبر التاريخ. لكن الكتاب المقدس يعلّم أن الخلاص الكامل لشعب الله ودخوله إلى بركات ملكوت الله، لن يتمّ إلى حين تحقيق الملكوت واكتماله. وعند الاكتمال سيختبر شعب الله كل بركات الملكوت الموعود بها بشكل كامل. وكما نقرأ في الرؤيا 11: 15:

قَدْ صَارَتْ مَمَالِكُ الْعَالَمِ لِرَبِّنَا وَمَسِيحِهِ، فَسَيَمْلِكُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. (رؤيا 11: 15)

عند رجوع المسيح، سيحلّ ملكوت الله الظافر مكان ممالك هذا العالم بصورة كاملة.

استمع إلى الرؤيا 5: 9-10:

مُسْتَحِقٌ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا ِللهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لإِلهِنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ عَلَى الأَرْضِ. (رؤيا 5: 9-10)

 عند اكتمال الملكوت يتم خلاص شعب الله ويصبحون “مُلُوكًا وَكَهَنَةً” و”سيملكون على الأرض”.

 عندما نفكّر بمجيء يسوع ثانية وفوزه بمعركته النهائية، لا نريد أن ننظر إلى هذه المسألة ببساطة كسحق يسوع لأعدائه كما من قوة عُظمى، أي مجرد استخدام للقوة. فنحن نقرأ في الرؤيا عن سيف خارج من فم يسوع، والمقصود بالتأكيد سيف الكلمة، سيف العدالة، فتلك الدينونة النهائية تتعلق بكشف النوايا أكثر من أي شيء آخر. كذلك بالنسبة للقديسين، لاسيما في سياق العهد الجديد، فتزكيتهم هو أحد المواضيع الرئيسية. فقد استمر القديسون في إيمانهم بيسوع، وتحملوا الاضطهاد، وأحبوا أعداءهم، وقاموا بما يجب عليهم، في الوقت الذي يعتبر العالم تصرفهم هذا غباء مطلقًا. ففي الدينونة، كل الأمور ستتضح، كل الأمور ستصبح شفافة؛ والحقيقة ستظهر، وهذا سيكون بمثابة خبر سار بالنسبة للقديسين، وخبر سيء بالنسبة للأشرار وبخاصة الذين يقوم شرّهم بالتحديد على مقاومة يسوع ورسالته.

د. شون ماكدونَف

ومن الملاحظ أن كُتّاب العهد الجديد لفتوا الانتباه إلى هزيمة أعداء الله وخلاص شعبه ودخولهم إلى بركات الملكوت في كل مرحلة من خدمة يسوع المسيانيّة. وفي الوقت الذي تبدو فيه تلك العناصر غير مترابطة في البداية، فهي مرتبطة معًا ومشدَّد عليها في لاهوت العهد الجديد لأنها تمثّل موضوعًا حاسمًا وهو: تحقيق انتصار ملكوت الله في المسيح.

 


 الخاتمة


نظرنا في هذا الدرس إلى أهمية ملكوت الله في لاهوت العهد الجديد. هذا الموضوع ليس تعليمًا ثانويًا أو هامشيًا في العهد الجديد، بل يشكّل ملكوت الله لب ما علّمه كُتّاب العهد الجديد. وقد استكشفنا كيف صحّ ذلك مع بشارة الملكوت، كما رأينا كيف أن لاهوت العهد الجديد يركّز على مجيء الملكوت في تأسيس ملكوت المسيح واستمراره واكتماله.

كما رأينا، ليسَ من المبالغةِ القول إن إيمانَ العهدِ الجديد يتمحور كلَه حولَ ملكوتِ الله. فيركّزُ لاهوتُ العهدِ الجديد على بشارةِ انتصارِ ملكوتِ الله وكيفَ جاءَ هذا الانتصار، وهو قائمٌ الآن، وكيف سيأتي، في المراحلِ الثلاث لملكوتِ المسيح. وتُمثّلُ هذه المفاهيم الأساسيّة للملكوت بعضَ المواضيعِ الأكثرِ أهميّة في العهدِ الجديد. وإبقاءُ هذه الأفكارُ في ذهنِنا سيُساعدُنا كثيرًا على فهمِ لاهوتِ العهدِ الجديد. وسَنَكتشفُ مغزىً جديداً في تعاليمِ العهدِ الجديد. إنَ موضوعَ ملكوتُ اللهِ في المسيح، من دونِ شك، يُمثّلُ الأساسَ لكلِ جوانبِ لاهوتِ العهدِ الجديد.

شارك مع أصدقائك