كآباء وأمهات، نُعلم أطفالنا الكثير مِن الأشياء. نعلمهم أن يكونوا أقوياء، وشجعان، يقظين، ونعلمهم أيضًا أن يتحلوا بالصبر، واللطف والوداعة. ولكن، نادرًا ما نعلمهم كيفية الانكسار، في حين أن الانكسار أمام الرب هو منبع كل تلك البركات. فالوداعة والشجاعة يفيضان مِن القلب المنكسر والمتواضع.
منذ بضعة سنوات، كنت أجمع بهمة كل الكتب المصورة لقصة يونان مِن جميع المكتبات الموجودة في ولاية إلينوي. بدأ شغفي عندما كنت أبحث عن نسخة مُخلِصَة للكتاب المقدّس أقدمها لأولادي. ومِن بين عشرات الكتب التي اقتنيتها، زعَمَت جميعها تقريبًا أن يونان صلى طالبًا المغفرة في جوف الحوت. لقد وجدت هذا التفسير مقلقًا بعض الشيء. ففي قراءاتي للإصحاح الثاني، ومِن خلال التعليم الذي تسلمته مِن أساتذتي في كلية اللاهوت، لم يتُب يونان. بل ولم يعترف أنه ارتكب أي خطأ أيضًا.
سرعان ما تحول شغفي بالكتب المصورة إلى شغف بسِفر يونان نفسه. لقد عانيت الكثير لأفهم صلاة يونان. كنت أقول في نفسي: ماذا فاتني هنا؟ لماذا لا أرى في صلاته كلمات تُشير إلى الاعتراف بالخطية والتوبة؟ بالرغم مِن استخدامه لآيات مِن المزامير، إلا أن صلاة يونان كانت لها طابع مختلف.
وبعد أن صارعت كثيرًا، اكتشفت أخيراً أين أخفقت. فلكي أفهم صلاة يونان، كان يجب أن أدرك أولًا معنى التوبة. وتحديداً، كيف يجب أن تنشأ التوبة مِن قلب مُنكسر ومُنسحق. وكان قلب يونان لم ينكسر بعد.
في نهاية الإصحاح الأول، أمر الرب حوت أن يبتلع يونان وينقذهُ مِن الموت. حدث ذلك بعد أن تجاهل يونان أمر الرب بالذهاب إلى نينوى، وبعدما رفض أن يُصلي إلى الله عندما صرخ الملَّاحون إلى آلهتهم، وبعدما فضَّل الموت على التوبة، وبعدما طلب مِن الملَّاحين ارتكاب جريمة قتل برميه مِن على متن السفينة. بعبارة أخرى، إن إنقاذ الله له مبني على رحمته الخالصة. الشيء الوحيد الذي كان يستحقهُ يونان بحق كان الدينونة، ولكن الله، قرر في رحمته، أن يُنقذهُ. فقد صلى يونان في جوف الحوت إلى يهوه، الرب الههُ.
ويلٌ لي
بدأ يونان صلاته باقتباس الآية الأولى مِن المزمور 120 التي تقول: “إلَى الرَّبِّ في ضيقي صَرَختُ فاستَجابَ لي.” ولكن، قرر يونان تغيير ترتيب الكلمات، فصَلَّى قائلًا: “دَعَوْتُ مِنْ ضيقي الرَّبَّ، فاستَجابَني” (يونان 2: 2). لقد ذَكَر أعماله في المقدمة ونقل اسم الرب إلى نهاية الجملة. نَصَب يونان كل تركيزه على نفسه وكل ما يفعلهُ. قد يبدو ذلك وكأنه تغيير بسيط، ولكنه يُحدِّد نغمة ونمط الإصحاح بأكمله.
ففي نظر يونان، هو الذي اقترب مِن الرب. ولذا نراه يُشدد على “دعوَتهُ” و “صُراخهُ” و “صوته”. لقد آمن أن الرب سَمع صوته واستجاب إليه، وكان على حق. ومع ذلك، لم يستجب يونان إلى الرب عندما أمَرهُ بالذهاب إلى نينوى.
كان الجزء الأكبر مِن صلاة يونان يُركز على ويلاته. وقد روى أحداث قصتهُ باستخدام أجزاء مختلفة مِن مزامير داود التي تتحدث عن الخلاص والرثاء (المزمور 5، 31، 69). كانت هذه المزامير صلوات داود في الفترات التي كان هاربًا فيها مِن أعدائه. ولكن في النسخة المُقتبسة مِن تلك المزامير ليونان، استثنى تسبيح نعمة الرب ومحبته الثابتة – التي كانت في الأساس جوهر تلك المزامير.
اتهم يونان الله بطرحه في العمق. ولكن، ألم يطلب يونان مِن الملَّاحين أن يلقوه في البحر؟ هل كان يلوم الله عندما قال إن تيارات الرب ولججه جازت فوقه؟ لقد شعر أنه “طُرد” مِن أمام عين الرب، ولكن، ألم يكن يونان في الأساس هو الذي قرر الهروب “مِن وَجه الرب” (1: 2-3)؟
عظيمة هي أمانتي
ختم يونان ويلاته بإعلانهِ عن خلاص الرب (2: 6). ولكنه أعلنهُ بطريقة تُظهر أنه يُعطي لنفسه الفضل في ذلك الخلاص قائلًا: “حينَ أعيَتْ فيَّ نَفسي ذَكَرتُ الرَّبَّ، فجاءَتْ إلَيكَ صَلاتي إلَى هَيكلِ قُدسِكَ” (2: 7).
مَيَّز يونان نفسه عن عابدي الأوثان الذين تخلوا عن نعمة الله. بطريقة ما، كان يونان على حق – فالملَّاحون كانوا بالفعل لا يشبهونه. ففي الإصحاح الأول، صلوا وعبدوا يهوه الرب وقدموا الذبائح على متن حطام سفينتهم الفارغة (1: 14، 16). وفي جوف الحوت، نرى يونان يعد الله بأنه سيُقدم الذبائح. بينما في الواقع، استمر في مقاومته بعدم الذهاب على نينوى، ولم يذهب سوى بعد أن أتته كلمة الرب مرة ثانية وكان يجب أن تأتيه (3: 1).
ولكن من أمانة الرب أنه أمر الحوت أن يقذف يونان. في الواقع، كان مِن الممكن أن يستخدم كاتب السفر العديد مِن الكلمات الأخرى. فكان مِن الممكن أن يقول مثلًا: “بصق” الحوت يونان، أو “أخرجه” مِن جوفه، ولكن، استخدم الكاتب كلمة “قذف” للتأكيد على أن ما فعله الحوت جاء طاعة لأمر الرب.
المُعلّم العظيم
قدم لنا الرب شخصية يونان كنموذج نتعلم منه. يُذكرنا عناد يونان وعدم انكسارهُ أمام الرب بمزمور آخر لداود هو المزمور 51.
الإصحاح الثاني مِن يونان والمزمور 51 يعتبران وجهان لعملة واحدة. فقد ساعدنا يونان على رؤية حاجتنا إلى التوبة؛ بينما صاغ لنا داود كلمات التوبة. نشتَم في صلاة يونان رائحة البِر الذاتيّ؛ ونشعر بالفساد الظاهر في صورة جحود وقلة امتنان لله. ولكن في صلاة داود، نرى كيف تعزى في وسط حزنه. فقد كان مُنكسراً بحق مِن الشر الذي ارتكبه، وتضرع أمام الرب طالبًا رحمة وقلبًا نقيًا جديدًا.
لقد أرغم كل من داود ويونان الخطاة أن يأتوا إلى الله. ساجدون على ركبتينا بوجوهنا ناظرة إلى الأرض حيث مكاننا المناسب. هنا فقط نصبح في أمان، بل ونجد الراحة الحقيقية أيضًا. وباستخدام أنفسهم كأمثلة مؤسفة، ساعدونا على رؤية حقيقة فساد قلوبنا. وفي اعترافهم بفشلهم وعدم استحقاقهم، أعلنوا بوضوح عن نعمة الرب وإخلاصه.
إن الندم والشعور بالذنب أمران ذوي شأن عظيم، لكنهما ليسا كافيين لكسر القلب المتفاخر. فنحن ننكسر فقط مِن خلال نعمة الله الثابتة وإدراكنا لثِقل مجده. القلب المُنكسر والمُنسحق هو عمل الروح القُدُس وحده. بالنسبة ليونان، ظهرت رحمة الرب بوضوح مِن خلال عاصفة شديدة، وحوت مفترس، وقذف مِن جوفه.
لذلك، ولكي نعلم أطفالنا أن يتحلوا بالشجاعة والوداعة، يجب أن نبدأ بتعليمهم عن الله. ويجب أن نُعطيهم مفهوم دقيق عن الانكسار أمام الله.
لا ينسى الله أولاده أبدًا. فهو يُخلّصنا نحن الخطاة ليس بسبب صلواتنا أو حفظنا لآيات الكتاب المقدّس، بل بسبب نعمته الثابتة ورحمته الكثيرة. لا يفرح الرب بوعود فارغة لتقديم ذبائح، بل بالحق الذي يملأ قلوبنا. فالذبيحة لله هي روح منكسرة؛ والقلب المُنكسر والمُنسحق لن يحتقره قط.