هل من السذاجة أن تحب عدوك؟

يظن البعض أن التسامح، والغفران، والمحبة هي مظاهر من السذاجة، أو أنها ضربٌ من ضروب المثالية غير الواقعية. لكن هذه النظرة القاصرة هي ما قاد شعوبنا، في كثير من الأحيان، إلى الانهيار والدمار. ولا حاجة بنا إلى الرجوع بعيدًا في التاريخ، فحسبنا أن نتأمل ما حلَّ بعالمنا منذ أحداث “الربيع العربي” حتى يومنا هذا!

إننا نحيا، للأسف، في عالم يشرعن قتل المعارضين، ويبيح سحق المخالفين، بل يجيز ذبحهم باسم حماية الدين. وفي خضم هذا الواقع الدموي، جاء المسيح ليقدم العلاج الحقيقي، علاجًا لم يكن مجرد وصية أخلاقية، بل دعوة إلهية إلى صناعة السلام حتى مع ألدّ الأعداء، كما قال في موعظته على الجبل:

طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون” (متى 5: 9).

لقد أوضح المسيح أن أصل مشكلة القتل والكراهية لا يكمن في الخارج، بل في القلب البشري. فقال:

لأنه من الداخل، من قلوب الناس، تخرج الأفكار الشريرة: زنى، فسق، قتل…” (مرقس 7: 21).

ولذلك، لا عجب أن يحثنا سليمان النبيّ والملك بقوله: “فوق كل تحفظ احفظ قلبك، لأن منه مخارج الحياة” (أمثال 4: 23).

فكم من أناس يبدون للناس طيبين ومُسالمين، بينما تضجّ قلوبهم بالشر والغضب والرغبة في الانتقام. ولهذا شدّد المسيح في تعاليمه على أن الامتناع عن القتل لا يكفي، بل لا بد أن نتطهر من الغضب والحقد من الداخل، فقال:

قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجب الحكم. وأما أنا فأقول لكم: إن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم” (متى 5: 21-22).

ويُعمِّق الرب يسوع مفهوم وصية “لا تقتل”، فيُحرِّم حتى الإيذاء بالكلمات، قائلًا:

من قال لأخيه: رقا، يكون مستوجب المجمع، ومن قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم” (متى 5: 22).

فكثيرًا ما تكون الإهانة والشتيمة أشد وقعًا من القتل الجسدي، وكم من جريمة ارتُكِبت بسبب كلمة جرحت وأشعلت نار الحقد! ولهذا، علّمنا المسيح أن الله لا يقبل العبادة من إنسان يحمل في قلبه ضغينة تجاه أخيه، فقال:

إن قدّمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكّرت أن لأخيك شيئًا عليك، فاترك هناك قربانك قدّام المذبح، واذهب أولًا اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعال وقرّب قربانك” (متى 5: 23-24).

وبكل بساطة، يضع الرسول يوحنا القاعدة الواضحة:

إن قال أحد: إني أحب الله وأبغض أخاه، فهو كاذب. لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره، كيف يقدر أن يحب الله الذي لم يبصره؟!” (1 يوحنا 4: 20).

وقد وجّه السيد المسيح أتباعه إلى المبادرة بإصلاح ما بينهم قبل أن تتفاقم الخلافات، طالبًا منهم أن يترفّقوا بعضهم ببعض، ويغفروا كما غفر لهم الله.

وحين أرسل المسيح تلاميذه للتبشير، لم يأمرهم باستخدام السيف أو فرض الإيمان بالقوة، بل قال:

وأما أي مدينة أو قرية دخلتموها، فافحصوا من فيها مستحق، وأقيموا هناك حتى تخرجوا. وإذا دخلتم البيت فسلموا عليه. فإن كان البيت مستحقًا، فليأتِ سلامكم عليه. ولكن إن لم يكن مستحقًا، فليرجع سلامكم إليكم. ومن لا يقبلكم ولا يسمع كلامكم، فاخرجوا خارجًا من ذلك البيت أو من تلك المدينة، وانفضوا غبار أرجلكم” (متى 10: 11-14).

فلم يدعُ المسيح أتباعه إلى السعي لإخضاع الأمم بالإكراه، بل دعاهم إلى تقديم السلام، والانسحاب بسلام إن رُفِضوا. ورغم أن المسيح أخبرهم أن أتباعه سيواجهون الرفض والاضطهاد حتى من أقرب الناس إليهم (متى 10: 34-36)، فإنه لم يحرّضهم أبدًا على القتال أو الانتقام، بل دعاهم إلى الاستعداد لاحتمال الألم والموت لأجل الإيمان:

سيخرجونكم من المجامع، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله” (يوحنا 16: 2).

ومتى رُفِض في إحدى القرى، اقترح عليه تلميذاه أن يُنزل نارًا من السماء لتعاقبهم، فقال لهما:

لستما تعلمان من أي روح أنتما، لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليهلك أنفس الناس، بل ليخلّص” (لوقا 9: 55-56).

فإرادة الله هي أن يرجع الشرير عن طريقه فيحيا، لا أن يُهلك (حزقيال 33: 11).

أما وصية “عين بعين وسن بسن” في العهد القديم، فلم تكن دعوة للانتقام، بل تشريعًا يضبط القاضي فلا يُفرِط في العقوبة. فهي مبدأ للعدالة لا للثأر.

الخلاصة:

لم يُوصِنا المسيح فحسب بعدم قتل الكفار أو إيذائهم جسديًا أو معنويًا، بل قدّم نفسه مصدرًا للحياة الأفضل، إذ قال:

أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل” (يوحنا 10: 10).

لم يأتِ المسيح ليوقف بحور الدم فحسب، بل ليملأ القلوب بالحياة، والحياة الأفضل.

YouTube player

شارك مع أصدقائك

مينا م. يوسف

يدرس حاليًا درجة الدكتوراة (Ph.D) في الإرساليات والأديان المقارنة في الكليّة المعمدانيّة الجنوبيّة، بولاية كنتاكي الأمريكيّة. كما حصل على درجة الماجستير (M.A) في الدراسات الإسلاميّة من جامعة كولومبيا الدوليّة، بولاية ساوث كارولاينا الأمريكيّة. ويعمل كمدير مشروعات الشرق الأوسط في خدمات الألفيّة الثالثة، وكمساعد أستاذ للدراسات العربيّة والإسلامية بالكليّة المعمدانية الجنوبية. كما شارك في تأليف كتاب Medieval Encounters باللغة الإنجليزيّة.