رسالة يعقوب (1): مقدمة الرسالة

YouTube player

 


المقدمة


 

تَخَيَّلْ أَنَّك نَشأْت مَعْ أَخٍ أَو صَدِيق مُقرَّب إِلَيك. كُنْتُم تَلْعَبون مَعًا، وَتَتَعَلَّمون مَعًا، وكَبرتُم مَعًا. وكان هَذا الشَّخْص قَرِيبًا مِنْك مُعْظَم حَيَاتِك. ثُمَّ فِي يَوْم مَا، ادّعَى صَدِيقُك أَوْ أَخُوك أَنَّهُ “مُخْتارُ” الله. بِالنِّسْبَة ليَعْقُوب، أَخْو يَسُوع، لَمْ يَكُنْ هَذا مجرد سيناريو خيالي. فَفِي سنين حَيَاتِه الأُولَى كَانَ يَشُك في كون يَسُوع هُوَ المُخلِّص. ولكنْ فِي وَقْت لاحِق مِنْ حَيَاتِه، لَمْ يُصْبِحْ مجرد تَابِع لِيَسُوع، بَلْ صَارَ أيضًا قَائِد كَنِيسَة أُورُشَلِيم، وَكَتَبَ سِفْرًا فِي العَهْد الجَدِيد يَحْمِل اسْمَهُ.

هَذا هُوَ الدَّرْسُ الأَوَّلُ فِي سِلْسَلَتِنا عن رِسَالَةُ يَعْقُوبَ، وَقَدْ أَعْطَينَاهُ العُنوَانَ “مُقدِّمَةٌ إِلَى رِسَالَةِ يَعْقُوبَ”. سَنَتَطَرَّقُ فِي هَذا الدَّرْسِ إِلَى عَدَدٍ مَنَ القَضَايَا التمهيديّة التي من شَأْنِها أَنْ تُمَكِّنَنَا مِنَ الوصول إلى تَفْسِيرٍ أَمِينٍ لِهَذا الجُزْءِ مِنَ العَهْدِ الجَدِيدِ.

سنُغَطّي مَوْضُوعَ “مُقدِّمَةٌ إِلَى رِسَالَةِ يَعْقُوبَ” مِنْ نَاحِيَتَينِ. سنَبحَثُ أَوَّلًا في خَلْفيّةَ الرسالة، وَثَانِيًا سَنَدرِسُ بنيَةَ وَمحتَوَى الرِّسَالةِ. وَلْنَبْدَأْ بخَلفيّةِ رسالة يَعْقُوبَ.

 


الخلفية


 

فِي دِرَاسَةِ أَيّ سِفْرٍ كِتَابيٍّ، يَنبغي أَنْ نَفهم السّياقُ الَّذي أَحَاطَ بِكِتَابَةِ السِّفْرِ بقدرِ الإمكان. فَقَدْ كُتِبَتْ أَسْفارُ الكِتَابِ المُقدَّسِ المُخْتَلِفَةِ فِي ظروفٍ تَارِيخِيَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ من قبلِ أُنَاسٍ لَدَيْهِمْ دَوَافِعُ وَاهْتِمَامَاتٌ مُحَدَّدَةٌ. وَلِذَا، فِإنَّ دِرَاسةَ هَذهِ القَضَايَا المُتَعَلِّقَةَ بِالخَلْفِيَّةِ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُسَاعِدَنَا فِي فَهْمِ الأَسْفَارِ أَنْفُسِهَا. حِينَ نَنْظُرُ إِلَى الظروفِ وَالدَّوَافِعِ المُرْتَبِطَةِ برسالةِ يَعْقُوبَ، فَإِنَّنَا نَكُونُ أَكْثَرَ تأهّبًا وَاسْتِعْدَادًا لِفَهْمِ مَا عَنَتْهُ الرِّسَالَةُ حِينَ كُتِبتْ أولًا. وبالتالي نستطيع تَطْبيقِ كَلِمَاتِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ بِفَاعِلِيَّةٍ أَكْبرَ عَلى حيَاتِنا اليَومِ.

لِفَهْمِ خَلْفِيّةِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ، سَنَبْحَثُ أَوَّلًا في مَوْضُوعِ هَوِيَّةِ كاتبٍ الرسالةِ. ثُمَّ سَنَنْظُرُ إِلَى القُرّاءِ الأَصْليِّينَ للرِسَالَةِ. وَأَخِيرًا، سَنَبْحَثُ فِي مناسبةِ كتابةِ رِسالَةُ يَعْقُوبَ. وَلْنَبْدأْ بِمَوْضُوعِ هَوِيَّةِ كاتبِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ.

 

هوية الكاتب

 مَعْ أنَّنَا نَعْرِف أنَّ الرُّوح الْقُدُس هُوَ مَنْ أوْحَى بالْكِتَاب الْمُقَدَّس، لكن تُشِير أيضًا أسْفَار عَدِيدَة فِي الْكِتَاب الْمُقَدَّس، مِثْل رِسَالَة يَعْقُوب، إلَى كُتّابِها من البشر. وَكُلَّمَا ازْدَادَتْ مَعْرِفَتنَا بِكُتَّاب أسْفَار الْكِتَاب الْمُقَدَّس، صِرْنَا أكْثَر قُدْرَة وَاسْتِعْدَادًا لِفَهْم وَتَفْسِير مَا كَتَبُوه. ولذلك، يَنْبَغِي أنْ نَدْرُس وَنَعْرِف كُل مَا نَسْتَطِيِع مَعْرِفَتَه عَنْ هُويّة كَاتِب رِسَالَة يَعْقُوب.

في بحثِنا حولَ هَوِيَّةِ كَاتِبِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ سنتناول مَوْضُوعَيْنِ: أوَّلًا، سَنَتَعَرَّفُ عَلَى الرَّأيِ التَّقْلِيدِّيِّ بأن يَعْقُوبَ، الأخ الأصغر ليسوع، هُوَ مَنْ كَتَبَ الرِّسَالَةَ. وَثَانِيًا، سنتعرّف على التَّارِيخَ الشَّخْصِيَّ لِلْكَاتِبِ. وَلِنَبْدَأ بِالنَّظَرِ إلَى الرَّأيِ التَّقْلِيدِيِّ بِشَأنِ هَذِهِ الْأُمُورِ.

الرأي التقليدي

تَبْدَأُ الرِسَالَةُ، فِي رسالة يَعْقُوبَ 1: 1، بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الْبَسِيطَةِ:

 يَعْقُوبُ، عَبْدُ اللهِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، يُهْدِي السَّلاَمَ إِلَى الاثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا الَّذِينَ فِي الشَّتَاتِ. (يعقوب 1: 1)

كَمَا نَرَى هُنَا، فَإنَّ هَذِهِ الرِّسَالَةَ تُشِيرُ بوضوح إلَى رجلٍ اسمه “يَعْقُوب” بصفتهِ الكاتب. وَلَكِنَّ هَذِهِ التَّحِيَّةَ لَا تحسم بِشَكْلٍ دَقِيقٍ هُويّة هَذَا الرَّجُلُ. يَذُكُرُ الْعَهْدُ الْجَدِيدِ خَمْسَةَ رِجَالٍ يَحْمِلُونَ الْاِسْمَ يَعْقُوبَ، بِمَنْ فِيهِمْ اثْنَانِ مِنْ تَلامِيذِ يَسُوعَ الْاِثْنَيْ عَشَرَ. وَلَكِنَّ اثْنَيْنِ فَقَطْ مِنْ هَؤلَاءِ الْخَمْسَةِ رجال كَانَ من شأنِهِما أن يَمتلِكَا سُلْطَةٌ كَافِيَةٌ فِي الْكَنِيسَةِ الْأولَى لِكِتَابَةِ رِسَالَةٍ كَهَذِهِ.

أَوَّلُ هَذَيْنِ الرجلين هُوَ “يَعْقُوبُ ابْنُ زَبَدِي” وَأخُو يُوحَنَّا. وَلَكِنْ بِحَسَبِ سِفْرِ أَعْمَالِ الرُّسُل 12: 2، اِسْتُشْهِدَ يَعْقُوبُ هَذَا في عهدِ هِيرُودِسَ أَغْرِيبَاسَ الْأوَّلِ حَوالِي الْعَامِ 44 مِيلَادِيَّةَ. وَكَمَا سَنَرَى لاحِقًا، فَإنَ ثَمَّةَ أسْبَابًا وَجِيهَةً لِلْاعْتِقَادِ بِأنَّ رِسَالَةَ يَعْقُوبُ كُتِبَتْ بَعْدَ مَوْتِ هِيرُودِسَ هَذَا. وَلِذَا، فَإنَّه من المستبعد جداً أنْ يَكُونَ يَعْقُوبُ بْنُ زَبَدِي هُوَ الْكَاتِبُ. أمَّا يَعْقُوب الثَّانِي فَهْوَ أخُوْ يَسُوعَ الأصغر. كما أنه كَانَ قَائَدُ الْكَنَيسَةَ الْأولَى فِي أُورْشَلِيم. كَانَ يَعْقُوبُ هَذَا الْأَبْرَزَ بَيْنَ الْاِثْنَيْنِ، وَالرَّجُلُ الَّذِي نَسَبَ إلَيْهِ الْلاهُوتِيُّونَ عَبْرَ الْقُرُونِ كِتَابَةَ هَذِهِ الرِّسَالَةَ.

ثَمَّةَ قدرٌ كبيرٌ من التأييد لِلرَّأيِ التَّقْلِيدِيِّ الْقَائِلِ إنَّ يَعْقُوبَ أخَا يَسُوعَ هُوَ مَنْ كَتَبَ هَذِهِ الرِّسَالَةَ. لَكِنْ هُنَاكَ أيضًا بضعة اِعْتِرَاضَاتِ. وَلَكِنْ لِنَبْدَأ بِالنَّظَرِ إلَى التأييد لهَذَا الرَّأيَ.

 التأييد. في المقام الأول، لم يقدم الْكَاتِبُ فِي 1: 1 أي ألقاب أَكْثَرَ مِنْ قَوْلِهِ إنَّهُ “عَبْدُ اللهِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.”. فَقَدْ افْتَرَضَ بِبَسَاطَةٍ أنَّ اسْمَهُ وَحْدَهُ كَافٍ لِيُعَرِّفَ عَنْهُ، وَأنه يَحْمِلُ مَا يَكْفِيَ مِنْ السُّلْطَةِ. وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ السُّلْطَةِ تَحْتَوِي رِسَالَتَهُ عَلَى وَصِيَّةٍ قَوِيَّةٍ بعد الأخرى. وَبِهَذَا، فَإنَّ هذه التحية الافْتِتَاحِيَّةَ تُقدِّمُ دَلِيلًا قَوِيًّا عَلَى كَوْنِ يَعْقُوبَ أخِي يسوع هُوَ الْكَاتِبُ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَا تَمَتَّعَ بِهِ مِنْ مَكَانَةٍ فِي الْكَنِيسَةِ الْأولَى فِي أُورْشَلِيمِ.

 في العصرِ الرسولي للكنيسةِ، كَانَ مَوْضُوعُ هَوِيَّةَ الْكَاتِبِ بَالِغَ الْأَهَمَّيَّةِ. فَمَنْ لَدَيْهِ سُلْطَةٌ كي يُعَلِّمَ وَيَقُودَ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ الْجَدِيدَةِ مِنْ أَتْبَاعِ يَسوعَ الْمَسِيحِ؟ كَانَتْ هُنَاكَ كِتَابَاتٌ عَدِيدَةٌ مُتَدَاوَلَةٌ آنذاك، وادّعاءاتٌ عديدةٌ بالسلطة، وَأحَدُ الْمَعَايِيرِ الهامة الَّتِي نشأت فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ هُوَ أنْ يَكُونَ الْكَاتِبُ شَاهِدَ عَيَانٍ عَلَى خِدْمَةِ يَسوعَ الْمَسِيحِ. فمن كَانُوا شُهُودَ عَيَانٍ على خدمة الرب، إذْ قَضُوا وَقْتًا مَعَه، كَانَوا يُعتبرون مستحقين أن تكونَ لهم سلطةُ التعليم فِي الْكَنِيسَةِ الْأولَى. وَطَبْعًا كَانَ يَعْقُوبُ أخُو يَسوعَ شَاهِدَ عَيَانٍ عَلَى خِدْمَته، وَالْأَكْثَرَ مِنْ هَذَا أنَّهُ كَانَ شَاهِدَ عَيَانٍ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى كُلِّ حَيَاةِ يَسوعَ، وَقَدْ كَانَ لِذَلِكَ دَوْرٌ كبيرٌ فِي الأهميّة الخاصة التي أُوليت لِتَعْلِيمِ يَعْقُوبَ، ورسالته فِي الْكَنِيسَةِ الْأُولَى.

ق. د. مايكل واكر

في المقامِ الثاني، تؤيّدُ شَهَادَةُ الْكَنِيسَةِ الْأُولَى هَذَا الرَّأيَ بِشَأَنِ هَوِيَّةَ كَاتِبِ هَذِهِ الرِّسَالَة. فَكلا من رِسَالَةُ اكْلِيمِنْدُس الْأُولَى، الَّتِي كُتِبَتْ حوالي الْعَامِ 96 مِيلادِيَّةَ، وَكِتَابُ الرَّاعِي لِهِرْمَاسَ، الَّذِي كُتِبَ حَوَالِي الْعَامِ 140 مِيلادِيَّة، إما يُشِيرَانِ إلَى رِسَالَةِ يَعْقُوبَ أوْ يَقْتَبِسَانِ مِنْهَا. كما اقتبس أيضًا أُورِيجَانُوسْ، الَّذِي مَاتَ عَامَ 254 مِيلادِيَّةَ، مِنْ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ مَرَّاتٍ عَدِيدَةٍ فِي كِتَابِهِ “تَفْسِيرَ الرِّسَالَةِ إلَى أَهْلِ رُومِيَةَ”. وَقَدْ كَانَ لِاسْتِخْدَامِ أُورِيجَانُوسْ لرسالةِ يعقوب أَهَمِّيَّةٌ خَاصَّةٌ لِأَنَّهُ فِي “الْكِتَابِ الرَّابِعِ، وَالْفَصْلِ الثَّامِنِ” مِنْ تَفْسِيرِهِ أشَارَ إلَى كَاتِبَ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ باعتباره أخُو الرَّبِ. كَمَا نعلمُ أَنَّ الْكَنِيسَةَ الشَّرْقِيَّةَ، وَلاحِقًا الْكَنِيسَةَ الْغَرْبِيَّةَ، قَبِلَتَا هَذِهِ الرِّسَالَةَ بِاعْتِبَارِهَا صَادِرَةً عَنْ أَخِي يَسُوعَ.

وَبِالرَّغْمِ مِنْ هذا التأييد الكبير لِلرَّأيِ التَّقْلِيدِيِّ بأنَّ يَعْقُوبَ أخَا يَسُوعَ هُوَ كَاتِبُ الرِّسَالَةَ، كانت هُنَاكَ بَعْضَ الْاِعْتِراضَاتِ.

 الاعتراضات. اقْتَرَحَ المُفَسِّرُون النقديون بَدِيلَيْنِ على الأقل لِهَوِيَّةِ الْكَاتِبِ. فَبَحَثَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ شَخْصٍ غَيْرَ مَعْرُوفٍ فِي الْكَنِيسَةِ الْأُولَى يَحْمِلُ الْاِسْمَ يَعْقُوبَ. فَيَقُولُونَ إنَّ ذَلِكَ الشَّخْصُ الَّذِي كَتَبَ الرِّسَالَةَ كَانَ يُدْعَى يَعْقُوبَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ابْنَ زَبَدِي وَلا أخَا يَسُوعَ. وَقَدْ ظل مَجْهُولًا لِأنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي أيٍّ مِنْ الْكِتَابَاتِ الْأُخْرَى للْكَنِيسَةِ النَّاشِئَةِ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ. وَلَكِنَّ هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ مستبعَدة. إذْ كَمَا سَبَقَ فَأشَرْنَا، إنَّ بَسَاطَةَ الطَّرِيقَةُ الَّتِي بِهَا يُقَدِّمُ الْكَاتِبَ نَفْسَهُ فِي بِدَايَةِ الرِّسَالَةِ تُشِيرُ إلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا جِدًا. وَلِذَا مِنَ الْمَشْكُوكِ بِهِ جِدًّا ألا يَكُونَ هُنَاكَ شَيءٌ آخر كُتِبَ عَنْهُ.

وَثَمَّةَ نَظَرِيَّةٍ ثَانِيَةٍ يُقَدِّمُهَا المفسرون النقديون وَهُوَ كَوْنُ الرِّسَالَةَ مَنْحُولَة. يُقْصَدُ بِـالنَّحْلِ ممارسة اسناد وَثَائِقَ مَكْتُوبَةٍ إِلَى شَخْصٍ غَيْرُ كَاتِبِهَا الْحَقِيقِيِّ. انْتَشَرَتْ هَذِهِ الْمُمَارَسَةَ وَسَطَ الْيَهُودِ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ لِأَسْبَابٍ عَدِيدَةٍ. وَأحَدُ أبرز أَسْبَابِ مُمَارَسَةَ النَّحْلِ هُوَ أنْ إضفاء ثقل أوْ سُلْطَةٌ لِسفْرٍ مُعيَّنٍ أوْ رِسَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ. وَفِي حَالَةِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ، يَقُولُ المفسرون النقديون إنَّ شَخْصًا مَا غَيْرَ يَعْقُوبَ استغلّ اسْمَهُ لِتَحْظَى رِسَالَتَهُ بِقُبُولٍ أَوْسَعَ فِي الْكَنِيسَةِ. وَلَكِنْ، بِحَسَبِ نصوص نظير رسالة 2 تَسَالُونِيكِي 2: 2، فقد كَانَ يُزدرى بهَذِهِ الْمُمَارَسَةَ فِي الْقَرْنِ الْمِيلادِيِّ الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِهَا خِدَاعًا وَغِشًّا. وَلَكِنْ بِرَغْمِ هَذَا لا يزال عُلَمَاءُ النقد يقدمون ثَلاثَ حُجَجٍ على الأقل لصالح هَذَا الْاِعْتِراضِ:

أوَّلًا، يَقُولُونَ إنَّهُ لم يرد ذِكْر لِعَلاقَةِ الْكَاتِبِ بِيَسُوعَ. وَيَقُولُونَ إنَّهُ من غير الوارد أنْ يَكْتُبَ أخُو يَسُوعَ إلَى الْكَنَائِسِ دُونَ أنْ يعلن عن هذه العَلاقة الْعَائِلِيَّةِ حِينَ عرّف نفسه فِي بِدَايَةِ الرِّسَالَةِ. وَلَكِنَّ يَهُوذَا، كَاتَبَ رِسَالَةَ يَهُوذَا، كَانَ أيْضًا أخَا يَسُوعَ، وَلَمْ يَذْكُرْ البتة رَابِطَةَ الدَّمِ الَّتِي لّهُ بِيَسُوعَ فِي رِسَالَتِهِ. وَلِذَا، فَإنَّ أَفْضَلَ مَا يُمْكِنُ قَوْلَهُ هُوَ أنَّ حُجة “النَّحْلِ” هذه ضَعِيفَةٌ.

ثانياً، يَفْتَرِضُ بَعْضُ عُلَمَاءَ النقد النَّحْلَ لِأنَّ الرسالة تُشِيرُ إلَى أنَّ الْكَاتِبَ كَانَ عَلَى دراية بالثَّقَافَةِ الْهِيلِينِيَّةِ، أو الْيُونَانِيَّةِ، فِي حِينِ كَانَ يَعْقُوبُ يَهُودِيًّا مِنْ فِلَسْطِينَ. صَحِيحٌ أنَّ كَاتِبَ رِسَالَةَ يَعْقُوبَ كَانَت لَدَيْهِ بَعْضَ الدراية بِالثَّقَافَةِ الْيُونَانِيَّةِ. فَمَثَلًا، فِي 3: 6 مِنْ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ، يَسْتَخْدِمُ الْكَاتِبُ عِبَارَةَ “دَائِرَةَ الْكَوْنِ”، أيْ كامِلَ مَسَارِ الْحَيَاةِ. وَقَدْ كَانَت هذه العبارة شائعة الْاِسْتِخْدَامِ فِي الْفَلْسَفَةِ وَالدِّيَانَةِ اليونانيّة. وَلَكِنْ فِي زَمَنِ كِتَابَةِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ كَانَ كَثِيرُونَ مِنْ الْيَهُودِ الْمُتَعَلِّمِينَ فِي فِلَسْطِينِ لَدَيْهِمْ مَعْرِفَةٌ تتجاوز كونها سَطْحِيَّةً فِي الْفَلْسَفَةِ وَالدِّيَانَةِ الهيلينيّة.

وَبِالْإضَافَةِ إلَى هَذَا، فِي حِينَ أنَّ اللُغَةَ الْيُونَانِيَّةِ لرِسَالَةِ يَعْقُوبَ أكثر تعقيدًا مِمَّا نَجِدَهُ فِي بَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْأُخْرَى فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، لكنها لَيْسَتْ الْأَكْثَرَ تَعْقِيدًا فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ، هَذِهِ الرِّسَالَةَ كَثِيرَةُ الشَّبَهِ فِي أُسْلُوبِهَا بكتب مثل “شَهَادَاتُ الْآبَاءِ الْاِثْنَيْ عَشَرْ” وَكِتَابَاتٍ يَهُودِيَّةٍ هِيلِينِيَّةٍ أُخْرَى تَعُودُ إلَى تِلْكَ الْفَتْرَةِ.

وَتَتَعَلَّقُ الْحُجَّةَ الثَّالِثَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِكَوْنِ الرِّسَالَةَ مَنْحُولَةً بِالتناقضات بينها وبين آراء يعقوب اللاهوتيّة التي نجدها فِي سفرِ أعمال الرسل وَرِسَالَةِ غَلاطِيَّةَ. يشير هَذَا الرَّأيُ إلى أنَّ بَعْضَ الْأَفْكَارِ الواردة في رِسَالَةِ يَعْقُوبَ لا تطابق الآراء الْلاهُوتِيَّةِ الْمَنْسُوبَةِ لِيَعْقُوبٍ فِي هَذَيْنِ السفرين فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. فَمَثَلاً، يُشِيرُ المُفَسِّرُون النقديون إلَى مَقَاطِعَ مِثْلَ سفر أعْمَالِ الرُّسُل، 21: 17-25، وَرسالة غَلاطِيَّة 2: 12. فَيَقُولُونَ إنَّه في هَذِهِ الآيات يبدو أن يَعْقُوبَ هو المتحدث الرَّسْمِيُّ عَنْ مَوْقِفٍ يهودي مَسِيحِيِّ مُحَافِظِ فِيمَا يَخْتَصُّ بالناموس. وَلَكِنْ فِي رِسَالَةِ يَعْقُوبَ 1: 25، وَفِي 2: 12، يَبْدُو أنَّ الْكَاتِبُ يَتَّخِذُ مَوْقِفَاً متساهلاً نوعاً ما تجاه الناموس، إذ يصفه بأنه “نَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ”.

وَلَكِنَّ هَذِهِ الْاِخْتِلافَاتِ لَيْسَتْ بِالْحَجْمِ الَّذِيْ يَدَّعِيهِ عُلَمَاءُ النقد. فبالنظرة الفاحصة إلَى الآيات الْمُشَارَ إِلَيْهَا فِي سفر أعمال الرسل وَرِسَالَةُ غَلاطِيَّةَ، يظهر أنَّهَا لا تُصَوِّرُ مَوْقِفَاً يَهُودِيّاً مَسِيحِيّاً مُتَطَرِّفاً. كما أن مَوْقِفُ يَعْقُوبُ بِشَأنِ الناموس فِي سفر أعْمَالِ الرُّسُلِ وَرسالة غَلاطِيَّةَ يَتَوَافَقُ فِي الْحَقِيقَةِ تَمَامَاً مَعَ لاهُوتِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ.

وكَمَا نَرَى، فَإن الْحُجَج الْمُقَدَّمَة ضِد كَوْن يَعْقُوب، أخِو يَسُوعْ، هُوَ الكَاتِب ضَعِيفَة، على أفضل تقدير. أمَّا الْحُجَج الَّتِي تُؤَيِّد أنَّ يَعْقُوب هُوَ الكاتب فَهِيَ أقْوَى وَأكْثَر إقْنَاعَاً. وَلِهَذَا السبب، يُؤَكِّد مُعْظَم الْعُلَمَاء الإنْجِيلِيِّونْ عَلَى أنَّ يَعْقُوب، أخِو يَسُوع، هُوَ كَاتِب الرِّسَالَة الَّتِي تَحْمِل اسْمَهُ.

لقد بحثنا في مَوْضُوعِ هَوِيَّةَ كَاتِبِ رِسَالَةَ يَعْقُوبَ بِالنَّظَرِ إلَى الرَّأيِ التَّقْلِيدِيِّ. وَلِنَنْتَقِلْ الآنْ إلَى النَّظَرِ عَنْ قُرْبٍ أكْثَرَ إلَى التَّارِيخِ الشَّخْصِيِّ لِيَعْقُوبَ.

التاريخ الشخصي

يُشِيرُ إنْجِيلُ مَتَّى 13: 55 إلَى كَوْنِ يَعْقُوبَ أحَدَ أبْنَاءِ مَرْيَم، وَبِالتَّالِي أحَدَ إخْوَةِ يَسُوعَ غَيرَ الْأشِقَّاء. وَقَدْ تُفَسِّرُ هذه القرابة الْعَائِلِيَّةُ التَّشَابُهَاتِ الْكَثِيرَةَ مَا بَيْنَ رِسَالَةَ يَعْقُوبَ وَتَعَالِيمَ يَسُوعُ الْمُدَوَّنَةَ فِي الْأنَاجِيلِ. وَلَكِنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ يُوضِّحُ أنَّ يَعْقُوبَ وَإخْوَتَهُ الْآخَرِينَ لَمْ يَكُونُوا فِي الْبِدَايَةِ يُدْرِكُونَ مَنْ كَانَ أخُاهُمْ الْأَكْبَرَ فِي الْحَقِيقَةِ. فَيَقُولُ إنْجِيلُ يُوحَنَّا 7: 5:

لِأَنَّ إِخْوَتَهُ [إخْوَةَ يَسُوعَ] أَيْضًا لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ. (يوحنا 7: 5)

وَلَكِنْ فِي مرحلةٍ مَا فِي حَيَاةِ يَعْقُوبَ، اخْتَبَرَ الْإيمَانَ الْخَلاصِيَّ بِيَسُوعِ، وَقَبِلَهُ رَبّاً. وَفِي الْحَقِيقَةِ، ارْتَقَى يَعْقُوبُ لِيَشَغَلَ مَكَانَاً بَارِزَاً فِي الْكَنِيسَةِ الْأولَى، حَتَّى إنَّ بُولُسَ دَعَاهُ فِي رِسَالَةِ غَلاطِيَّةَ 2: 9 أحَدَ “أعْمِدَةِ” الْكَنِيسَةِ. وَبِالْإضَافَةِ إلَى هَذَا، فَإنَّنَا نَعْرِفُ بِحَسَبِ رِسَالَةِ 1 كُورُنْثُوسِ 15: 7، أنَّ يَسُوعَ ظَهَرَ لِيَعْقُوبَ بَعْدَ قِيَامَتَهِ.

إن سُلْطَةُ يَعْقُوبَ مُوَثَّقَةٌ جَيْدَاً فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. فَمَثَلاً، يَظَهَرُ ثَلاثَ مَرّاتٍ فِي سفرِ أعمالِ الرسل بِصِفَتِهِ قَائدَ كَنِيسَةِ أورُشَلِيمَ. وَنَرَاهُ فِي سفرِ أعْمَالِ الرسل 15 المتحدث الرَّسْمِيَ بِاسْمِ ْمَجْمَعِ الرسل. وحتى غير المسيحيين أقروا بأهميّة يعقوب في الكنيسة. فإحْدَى الرِّوَايَاتِ الشَّهِيرَةِ الَّتِي تَحْكِي قِصَّةَ قَتْلِ يَعْقُوبَ بِعُنْفٍ فِي الْعَامِ 62 مِيلادِيَّةَ تَأتِينَا مِنْ سِجِّلاتِ الْمُؤَرِّخِ الْيَهُودِيِّ يُوسِيفُوسَ.

اسْتَمِعْ إلَى مَا يَقُولُهُ مجلد “الْعَادِيَّاتِ، الكتاب الْعِشْرُونَ، الْفَصْلُ 9، الْقِسْمُ 1″، الَّذِي كَتَبَهُ يُوسِيفُوسَ فِي الْعَامِ ثَلاثَةٌ وَتِسْعِينَ مِيلادِيَّةَ، حَيْثُ يَصِفُ الظُّرُوفَ الَّتِي أحَاطَتْ بِمَوْتِ يَعْقُوبٍ:

 جَمَعَ [أنَانُوسُ] قُضَاةَ مَجْمَعِ السِّنْهِدْرِيمِ، وَأحْضَرَ أمَامَهُمْ أخَا يَسُوعَ، الَّذِي يَدْعُونَهُ الْمَسِيحُ، وَكَانَ اسْمُهُ يَعْقُوبَ، وَأحْضَرَ آخَرِينَ أيضًا، وَوَجَّهَ إلَيْهِم تُهْمَةَ التَّعَدِّي عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالرَّجْمِ.

رُبَمَا لَمْ يُدْرِكْ يَعْقُوبُ فِي سِنِي طُفُولَتِهِ وَشَبَابِهِ الْأولَى مَنْ كَانَ أخُاهُ الْأكْبَرُ فِي الْحَقِيقَةِ. وَلَكِنَّنَا نَسْتَطِيعُ أنْ نَرَى مِنْ رِوَايَةِ يُوسِيفُوسَ، وَمِنْ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ وَالرِّوَايَاتِ التَّارِيخِيَّةِ الْأُخْرَى أنَّ يَعْقُوبَ فِي سِنِي رشده لاحِقَاً كَانَ لديه ووَلاء لا يلين نَحوَ يَسُوعَ بِاعْتِبَارِهِ الْمَسِيحُ. وَقد كَتَبَ يُوسَابِيُوسُ فِي مجلده “التَّارِيخِ الْكَنَسِيِّ، الْكِتَابِ الثاني، الْفَصَلِ 23” مُقْتَبِسَاً مِنْ مُؤَرِّخٍ قَدِيِمٍ لِلْكَنِيسَةِ الْمَسِيحِيَّةِ اسْمُهُ هِيجْسِيبُوسَ، فَقَالَ:

 صَارَ [يَعْقُوبُ] شَاهِدَاً حَقِيقِيّاً لِلْيَهُودِ وَالْيُونَانِيِّينِ عَلَى أنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ.

بعد أن بحثنا خَلْفِيَّةِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ بالنظر إلى بَعْضِ الْقَضَايَا المحيطة بِهَوِيَّةِ الْكَاتِبِ، لِنَنْتَقِلَ الْآنَ إلَى دراسة هَوِيَّةِ الْقُرَّاءِ الْأصْلِيِّينَ لِهَذِهِ الرِّسَالَةِ.

 

القرّاء الأصليين

في كثير من الأحيان، يبذل علماء اللاهوت قدراً كبيراً من الوقت والجهد فِي مُحَاوَلَة اكْتِسَاب أكْبَر قَدْرٍ مِنْ الْمَعْرِفَة حول كَاتِب سفر مُعَيَّن مِنْ أسفار الْكِتَاب الْمُقَدَّس. وَلَكِن اكْتِشَاف هُوِيَّة الْقُرَّاء الأصْلِيِّين أمْر لَا يَقِل أهَمِيَّة عن ذلك. فإنْ أرَدْنَا تفسيراً صحيحاً لمَا يَقُولُه أحَد كُتّاب الأسفار المقدسة، فَإن مَعْرِفَة الْقُرَّاء الأصْلِيِّين، وَمَا كَانُوا يُوَاجِهُونَهُ فِي تِلْكَ الْفَتْرَة مِنَ التَّارِيخ، تُسَاعِدْنَا فِي تَحْقِيق ذَلِك. وَكَمَا رَأيْنَا سَابِقَاً، في رسالة يعقوب 1: 1، عَرَّفَ يَعْقُوبُ قُرّاءهِ على النحو التالي:

الاثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا الَّذِينَ فِي الشَّتَاتِ. (يعقوب 1: 1)

ويبدوا أن ذلك إشارة إلى اليهود الذين كانوا يعيشون خارج إسرائيل. وَفِي 2: 1، يُخَاطِبُ يَعْقُوبُ قُرَّاءَهُ بِاعْتِبَارِهِم:

إِخْوَةً فِي رَبِّ المَجْدِ يَسُوعَ المَسيحِ. (يعقوب 2: 1)

هَذَانِ الْعَدَدَانِ مَعاً يُشِيرانِ إلَى أنَّ قُرّاءَ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ الْأصَلِيِّينَ كَانُوا يَتَألَّفُونَ بِشَكْلٍ رَئِيسِيٍّ مِنْ مَسِيحِيِّينَ مِنْ أصْلٍ يَهُودِيٍّ يَعِيشُونَ خَارَجَ فِلَسْطِينَ.

فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةِ فِي هذه الرسالة، يُخَاطِبُ يَعْقُوبُ قُرّاءَهُ بمحبةٍ بِصِفَتِهِم “إخْوةٌ”. وَلَكِنً، كَيْفَ كان يَعْقُوبُ، الَّذِي كَانَ يعيش في أورُشَلِيمَ، يعرف قُرَّاءَهُ جيداً كي يخاطبهم على هذا النحو؟ نَعْرِفُ مِنْ سفر أعْمَالِ الرُّسُلِ 8: 1-4 أنَّهُ فِي مَوْجَةِ الْاِضْطِهَادِ الَّتِي تَبِعَتْ اسْتِشْهَادَ اسْتِفَانُوسَ، تَشَتَّتْ أعْضَاءُ كَنِيسَةِ أورُشَلِيمَ فِي كُلِّ أرْضِ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ. وَلَرُبَّمَا كَانَ يَعْقُوبُ، بِصِفَتِهِ قَائِدَ كَنِيسَةِ أورُشَلِيمَ، يَكْتُبُ إلَى هَؤلاءِ الْأعْضَاءِ المشتتين الَّذِينَ يَنْتَمُونَ إلَى “الْاِثْنَيْ عَشَرَ سِبْطَاً”. وَلَكِنْ، حَتَّى لَوْ لَمْ تَكُنْ الرِّسَالَةَ مُوَجَّهَةً إلَى هَؤلاءِ الْمُؤمِنِينَ بِشَكْلٍ خَاصٍّ، فيَبْدُو أنَّ قُرَّاءَ رِسَالَةُ يَعْقُوبَ كَانُوا يَتَألَّفُونَ مِنْ مَسِيحِيَّينَ مِنْ أصْلٍ يَهُودِيٍّ يَمُرُّونَ فِي ظُرُوفٍ شَبِيهَةٍ.

وَتدعم الْمُفْرَدَاتُ الَّتِي يَسْتَخْدِمُهَا يَعْقُوبُ فِكْرَةَ أنَّ قُرَّاءَهُ الْأصْلِيِّينَ كَانُوا يَهُودَاً من أتباع يَسُوعَ. فَمَثَلاً، فِي 2: 2، اِخْتَارَ يَعْقُوبُ الْكَلِمَةَ [συναγωγη] سوناجوجيه، أو “مجمع” لِوَصْفِ اِجْتِمَاعَاتِ قُرَّاءِ رِسَالَتِهِ. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ طَرِيقَةً اِعْتِيَادِيَّةً لِلْإشَارَةِ إلَى تَجَمُّعَاتِ الْيَهُودِ. وَفَي 5: 4، يَسْتَخْدِمُ يَعْقُوبُ عِبَارَةَ “رَبِّ الْجُنُودِ”، وَفِي الْيُونَانِيَّةِ [Κυρίου Σαβαὼθ] كوريوس ساباوث. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَأتِي مِنَ اسم شائع الاستخدام فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ لإله إسرائيل، أي [יְהוָה צְבָאוֹת] يَهْوَهْ صَبَاؤوتْ. ومصطلحات كهذه تكون مفهومة أكثر إنْ كَانَ مُتَلَقِّي الرِّسَالَةَ لهم جُذُورٍ يَهُودِيَّةٍ قَوِيَّةٍ.

إن مَعْرِفَةُ خَلْفِيَّةَ قُرَّاءِ رِسَالَةَ يَعْقُوبَ الْأصْلِيِّينَ أمْرٌ بَالِغُ الْأهَّمِيَّةِ لِأنَّهُ يُسَاعِدُنَا فِي تَحْدِيدِ الْمَسَارِ الَّذِي سَنَتْبَعُهُ فِي فَهْمِ الرِّسَالَةِ الَّتِي يُحَاوِلُ تَقْدِيمُهَا لِقُرَّائِهِ. فقُرَّاءُ يَعْقُوبَ، بِصِفَتِهِم جَمَاعَةً يَهُودِيَّةً، هُمْ مستلمو تَقْلِيدٍ دِينِيٍّ طَويلٍ عن تَوْرَاةُ مُوسَى وَرِسَالَةُ الْأنْبِيَاءِ وَالْكِتَابَاتِ. ويعتمد يَعْقُوبُ عَلَى هَذَا التَّقْلِيدِ الغني فِي حَدِيثِهِ مَعَهُمْ عَنْ حَيَاةِ الْإيمَانِ وَالعَيْشِ بِحِكْمَةٍ. فهُمْ بِحَاجَةٍ لِأنْ يَفْهَمُوا كَيْفَ يَنْبَغِي لَهُمْ أنْ يُطَبِّقُوا هَذَا التَّقْلِيدَ وَهَذِهِ الْحِكْمَةَ فِي حَيَاتِهِمْ فِي ضَوْءِ قِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.

د. سكَت رِد

حِينَ نَقُولُ إنَّ يَعْقُوبَ كَتَبَ رِسَالَتَهُ إلَى مَسِيحِيِّينَ مِنْ أصْلٍ يَهُودِيٍّ، لا نَقْصِدُ أنَّهَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَسَيحَيُّونَ مِنْ أصْلٍ أمَمِيٍّ فِي الْكَنَائِسِ الَّتِي وَجَّهَ يَعْقُوبُ رِسَالَتَهُ إلَيْهَا. فَفِي وَقْتٍ مُبَكِّرٍ فِي سفر أعْمَالِ الرُّسُلِ 8، نَقْرَأُ عَنْ حَبَشِيٍّ آمَنَ بِالْمَسِيحِ. وَكَمَا نَرَى فِي سفر أعْمَالِ الرُّسُلِ 10، كَانَ هُنَاكَ كَثِيرُونَ مِنَ الْأُمَمِيّيِنَ الَّذِينَ كَانُوا يخافون اللهَ وَقَدْ تَحَوَّلُوا إلَى الْيَهُودِيَّةِ وَكَانُوا يَحْضُرُونَ فِي الْمَجَامِعِ. وَلِذَا، فَإنَّهُ لَيْسَ من المثير للدهشة أنْ نَجِدَ عَلَى الْأقَّلِ بَعَضَ الْمُؤمِنِينَ الْأُمَمِيِّينَ فِي هَذِهِ الْكَنَائِسِ أيْضًا. وَمَعَ هَذَا، فَإنَّهُ بِحَسَبِ رسالة رُومِيَّةَ 9: 8، كَانَ الْمُؤمِنُونَ مِنْ الْأُمَمِ يُعْتَبَرُونَ “نَسْلَ إبْرَاهِيمَ”. وَهَكَذَا، بطريقة مماثلة كَانُوا يُعْتَبَرُونَ جُزْءاً مِنْ أسْبَاطِ إسْرَائِيلِ الْاِثْنَي عَشَرَ مِثْلَ أيِّ يَهُودِيٍّ بِنسب الدَّمِ.

لقد تناولنا خَلْفِيَّةَ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ بالبحث في هَوِيَّةِ كَاتِبِ الرِّسَالَةِ، وَقُرَّائِهَا الْأصْلِيِّينَ. وَهَكَذَا، فَإنَّنَا الْآنَ مُسْتَعِدُّونَ لدراسة مُنَاسَبَةِ كِتَابَةِ الرِّسَالَةِ.

 

المناسبة

سنبحث في مُنَاسَبَةَ كِتَابَةِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ فِي خَطَواتٍ ثَلاثٍ: أوَّلاً، سنتطرق لمَوْضُوعَ الموقع الجغرافي لكلٍ من الْكَاتِبِ وَالْقُرَّاءِ. وَثَانِيَاً، سَنَنْظُرُ إلَى تَارِيخِ كِتَابَةِ الرِّسَالَةِ. وَثَالِثاً، سَنُفَكِّرُ بِشَأنِ الغرض من رِسَالَةِ يَعْقُوبَ. وَلِنَبْدَأ بِالنَّظَرِ إلِى الموقع الجغرافي لكلٍ من الْكَاتِبِ وَقُرَّاءِ الرِّسَالَةِ.

الموقع

لا يَصْعُبُ تَحْدِيدَ موقع الكاتب. فَالْعَهْدُ الْجَدِيدُ وَآبَاءُ الْكَنِيسَةِ الْأولَى يقترحان أنَّ يَعْقُوبَ عَاشَ وَخَدَمَ فِي أورُشَلِيمِ. وَقَدْ بَقِيَ فِي أورُشَلِيمَ إلَى يَوْمِ اِسْتِشْهَادِهِ فِي الْعَامِ 62 مِيلادِيَّةٍ. وَلِذَا، فَإنَّهُ لَيْسَ مِنْ سَبَبٍ يدعو لِلْاِعْتِقَادِ بِأنَّهُ كَتَبَ رِسَالَتَهُ مِنْ أيِّ موقعٍ آخَرٍ.

كما أن موقع القراء الأصليين أيْضًا وَاضِحٌ إلى حد مَا. فَكَمَا ذَكَرْنَا للتو، كان مُتَلَقِّو الرِّسَالَةِ على الأرجح مُؤمِنِينَ مِنْ أصْلٍ يَهُودِيٍّ تَشَتَّتُوا فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ بَعْدَ مَقْتَلِ اسْتِفَانُوسَ. وَيُخْبِرُنَا سِفْرُ أعمال الرسل 11: 19 أنَّ هَؤلاءِ الْمُؤمِنِينَ الَّذِينَ تَشَتَّتُوا اِرْتَحَلُوا حَتَّى إلَى فِينِيقِيَّةِ وأنْطَاكِيَّةِ وَقُبْرُس بَحْثَاً عَنْ مَكَانٍ آمِنٍ يَعِيشُونَ فِيهِ. لا يُمْكِنُنَا أنْ نَجْزِمَ بِأنَّ يَعْقُوبَ كَتَبَ رِسَالَتَهُ لِمُؤمِنِينَ كَانُوا فِي هَذِهِ الْأمَاكِنِ. وَمَعْ هَذَا، فَإنَّهُ بِنَاءً عَلَى تَحِيَّةِ يَعْقُوبَ فِي بِدَايَةِ رِسَالَتِهِ إلى “الاثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا الَّذِينَ فِي الشَّتَاتِ”، ثَمَّةَ اِحْتِمَالٌ قَوِيٌّ أنَّ قُرَّاءَ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ الْأصْلِيِّينَ كَانُوا فِي هَذِهِ المناطق.

نَعْتَقِدُ فِي الْحَقِيقَةِ أنَّ هَؤلاءَ كَانُوا أسْبَاطاً مشتتين فِعْلاً، أيْ مُؤمِنِي كَنِيسَةَ أورُشَلِيمَ الَّذِينَ تَشَتَّتُوا فِي فِينِيقِيَّةِ وَقُبْرَصَ وَأنْطَاكِيَّةَ بسبب الْاِضْطِهَادِ الَّذِي وقع عَلَى إثْرِ اِسْتِشْهَادِ اِسْتِفَانُوس. ومن المُمْكِنٌ تَمَامَاً، وَفِي الْحَقِيقَةِ أظُنُّ أنَّ مِنَ الْمُحْتَمَلِ جِدّاً أنَّ يَعْقُوبَ كَانَ يَكْتُبُ إلَى هَؤلاءِ بِصِفَتِهِمْ مِنْ شَعْبِ كَنِيسَتِهِ. وَسَبَبُ اِعْتِقَادِي هَذَا هُوَ أنَّهُ، ومما يثير دهشتنا، لا يُقَدِّمُ لَنا أيَّ تَعْلِيمٍ لاهُوْتِيٍّ، عَلَى الْأقَّلِ على نحو صريح. فَهُوَ لا يَتَكَلَّمُ بمفردات بنية بِشَارَةِ الْإنْجِيلِ. ثَمَّةَ أُمُورٌ قَلِيلَةٌ لا يذكرها، وَإذْ أُفَكِّرُ كَرَاعٍ هُنَا، فأرَى أنَّهُ فِي الْغَالِبِ غَطَّى تِلْكَ الأمور فِي وَقْتٍ سَابِقٍ فِي خِدْمَتِهِ، وَهُوَ الْآنَ يُكَلِّمُ قُرَّاءَهُ الْمَعْرُوفِينَ لَهُ جَيْدَاً كَمَا يُكَلِّمُ الرَّاعِي كَنِيسَتَهُ. وَمِنْ شَأنِ هَذَا أنْ يكونَ له تأثيرٌ كبيرٌ عَلَى فَهْمِنَا لِرِسَالَةِ يَعْقُوبَ، أن نَنْظُرُ إلَى قُرَّاءِهِ المشتتين الَّذِين كَانَ قَدْ خَدَمَهُمْ ونَرَاه يُعَالِجُ قَضَايَا رِسَالَتِهُ على هذا النحو.

د. مايكل كِنِسِن

بعد أن تناولنا الموقع الجغرافي للْكَاتِبِ وَالْقُرَّاءِ، الَّذِي يُشَكِّلُ الجانب الْأولَ من مُنَاسَبَةِ كِتَابَةِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ، لنَنْتَقِلُ إلَى النّظَرِ إلَى تَارِيخِ كتابة الرَّسَالَةِ.

التاريخ

يَسْهُلُ تَقْرِيرَ الَّتَارِيخَيْنِ الْأقْدَمَ وَالْأحْدَثَ الْمُحْتَمَلَيْنِ لِكِتَابَةِ هَذِهِ الرِّسَالَةَ. أوَّلاً، أقْدَمَ تَارِيخٍ مَمْكِنٍ لِكِتَابَةِ الرِّسَالَةَ هُوَ الْعَامُ 44 مِيلادِيَّةً. فَنَعْرِفُ أنَّ يَعْقُوبَ كَتَبَ رِسَالَتَهُ هَذِهِ بصفته قَائِد الْكَنِيسَةَ الْأولَى فَي أورُشَلِيمِ. وَيُشِيرُ سفر أعْمَالَ الرُّسُلِ 12: 17 إلَى أنَّ يَعْقُوبَ صَارَ قَائِدَاً بَارِزاً فِي كَنِيسَةِ أورُشلِيمَ فِي وَقْتِ إطلاق سراح بُطْرُسَ مِنْ السِّجْنِ. وَبِحَسَبِ سفر أعْمَالِ الرُّسُلِ 12: 19-23، تم إطلاق سراح بُطْرُسَ فِي السَّنَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا هِيرُودُسُ أغْرِيبَاسَ الْأوَّلَ، في عام 44 مِيلادِيَّةَ.

ثَانِياً، أحْدَثُ تَارِيخٍ مُمْكِنٍ لِكِتَابَةِ هَذِهِ الرِّسَالَةَ هُوَ الْعَامُ 62 مِيلادِيَّةَ، وَهِيَ سَنَةُ اسْتِشْهَادِ يَعْقُوبٍ. فَكَمَا رَأيْنَا سَابِقاً، فَإنَّهُ بِحَسَبِ يُوسِيفُوسَ، مَاتَ يَعْقُوبُ عَلَى يَدَيْ الْكَاهِنِ أنَانُوسَ تقريباً في ذلك الوقت. وَهَذَا يُزَوِّدُنَا بِشَيءٍ مِنَ النُّورِ بِشَأنِ تَارِيخِ كِتَابَةِ الرِّسَالَةِ.

لا تحتوي الرِّسَالَةُ نَفْسُهَا عَلَى إشَارَاتٍ مُحَدَّدَةٍ إلَى الْأحْدَاثِ التَّارِيخِيَّةِ التي من شأنها أن تُسَاعِدُ فِي تَحْدِيدِ تَارِيخِ كِتَابَتِهَا بشكل أكثر تحديداً. وَلَكِنَّ ثَمَّةَ سَبَبَانِ عَلَى الْأقَّلِ لِلْاعْتِقَادِ بِأنَّ تَارِيخَ كِتَابَةِ الرِّسَالَةِ كَانَ مُبَكِّراً وليس مُتَأخِّراً.

أولًا، كَمَا قُلْنَا سَابِقاً، في 2: 2 اسْتَخْدَمَ يَعْقُوبُ الْكَلِمَةَ [συναγωγη] سوناجوجيه، أو مجمع لِوَصْفِ اِجْتِمَاعَاتِ قُرَّائِهِ.

يَبْدُو أنَّ اسْتِخْدَامَ كلمة “مَجْمَعَ”، يُشِيرُ إلَى مَرْحَلَةٍ مُبَكِّرَةٍ فِي تَطَوُّرِ الْحَرَكَةِ الْمَسِيحِيَّةِ. وَلِذَا، رُبَّمَا كَتَبَ يَعْقُوبُ رِسَالَتَهُ قَبْلَ إكراه الْمَسِيحِيّينَ عَلَى الخروج من الْمَجَامِعِ. أوْ عَلَى الْأقَّلِ كَتَبَ رِسَالَتَهُ فِي وَقْتٍ كَانَ الْمَسِيحِيّونَ فِيهِ مازالوا يَدْعُونَ اِجْتِمَاعَاتِهِمْ “مَجْمَعاً”.

بِالْإضَافَةِ إلَى هَذَا، لم يرد فِي رِسَالَةِ يَعْقُوبَ ذكر للنزاعات بين اليهود والأمم، الَّتِي نَرَى كِتَابَاتِ بُطْرُسَ وَبُولُسَ تولي لَهَا اهْتِمَاماً كبيراً.

فَفِي الْكَنِيسَةِ الْأولَى، حِينَ أتَى الْأُمَمُ إلَى الْإيمَانِ بالْمَسِيحِ بِأعْدَادٍ كَبِيرَةٍ، نشأت صراعات حول ما إذا كان عَلَى الْمُؤمِنِينَ الْجُدُدِ أنْ يَعِيشُوا بِحَسَبِ العادات الْيَهُودِيَّةِ أم لا. وَرُبَّمَا اِخْتَارَ يَعْقُوبُ بِبَسَاطَةٍ ألَّا يتناول هَذِهِ النزاعات. وَلَكِنَّ الْأمْرَ الْأكْثَرَ اِحْتِمَالاً هُوَ أنَّهَا لَمْ تَكُنْ بعد قَضِيَّةً أسَاسِيَّةً فِي الْكَنَائِسِ الْحَدِيثَةِ الَّتِي خاطبها يَعْقُوبُ.

بَعْدَ أنْ نَظَرْنَا إلَى مَنَاسَبَةِ كتابة الرِّسَالَةِ مِنْ حيث كل من الموقع الجغرافي وَتَارِيخِ الْكِتَابَةِ، لِنَنْظُرْ الْآنَ إلَى غرض يَعْقُوبَ مِنْ وَرَاءِ كِتَابَتِهِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ.

الغرض

إحْدَى الطُّرُقِ الْمُفِيدَةِ جِدَّاً لِتَلْخِيصِ الغرض الرَّئِيسِيِّ ليعقوب هِيَ النَّظَرُ إلَى رسالة يَعْقُوبَ 1: 2-4. إذ يقول فِي كَلِمَاتِهِ الافتتاحية الَّتِي وَجَّهَهَا إلَى قُرَّائِهِ:

اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْرًا. وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ. (يعقوب 1: 2-4)

وَكَمَا يُشِيرُ هَذَا الْمَقْطَعُ، كَانَ قُرَّاءُ رِسَالَةَ يَعْقُوبَ يُواجِهُونَ تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ. وَلَكِنَّ يَعْقُوبَ دَعَاهُمْ إِلَى أنْ يَكُونَ لهم كل فَرَحٌ فِي تَجَارِبِهِم. كما يقول إن هَذِهِ التَّجَارِبِ تنشئ صَبْراً. ومن يَصْبِرُونَ سَيَصِيرُونَ تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ. وَلَكِنّ الْمُفْتَاحَ الْحَقِيقِيَّ لِفَهْمِ رِسَالَةَ يَعْقُوبَ يَرِدُ فِي الْعَدَدِ التَّالِي بالتحديد. فَفِي الْعَدَدِ 5، يُكْمِلُ يَعْقُوبُ فِكْرَتَهُ بهذه الكلمات:

وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ، فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ. (يعقوب 1: 5)

سنناقش هَذِهِ الْأعْدَادَ بِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيلِ فِي وَقْتٍ لاحِقٍ مِنْ هَذَا الدَّرِسِ، وَلَكِنْ نُشِيرُ الْآنَ إلَى أنَّ هَذَا الْمَقْطَعَ يُرِينَا لب الرِّسَالَةِ كَامِلَةً. فَلِاخْتِبَارِ كل فَرَحٍ وَسَطِ التَّجَارُبِ، اُطْلُبْ مِنَ اللهِ حِكْمَةً، وَسَيُعْطَى لَكَ. آخِذِينَ هذا بعَيْنِ الْاِعْتِبَارِ، يُمْكِنُنَا أنْ نُلَخِّصَ غرض رِسَالَةِ يَعْقُوبَ الرَّئِيسِيَّ كمَا يَلِي:

دَعَا يَعْقُوبُ قُرَّاءَهُ أن يَطْلُبُوا الْحِكْمَةَ مِنَ اللهِ ليكون لهم الْفَرَح فَي تَجَارِبِهِم.

كَانَ يلزم أنْ يَسْمَعَ قُرَّاءُ يَعْقُوبَ هَذِهِ الرِّسَالَةَ. فَكَمَا قُلْنَا سَابِقاً، لم يعد قُرَّاءُ يَعْقُوبَ في فِلِسْطِينَ. وَكَانُوا يَعِيشُونَ “مُشَتَّتِينَ وَسَطَ الْأُمَمِ” بَعِيداً عَنْ أوْطَانِهِم. لا شَكَّ أنه لم يكن من السهل عليهم أن يجدوا الفرح في وسط تجاربهم. وَيَبْدُو أنَّ هَذَا قَادَ بَعْضَهُمْ لِلتَّخَلِّي عَنْ وَلائِهِم لِلْمَسِيحِ، ليذهبوا وراء مَا دَعَاهُ يَعْقُوبُ “مَحَبَّةَ الْعَالَمِ”. اِسْتَمِعْ إلَى مَا تَقُولُهُ رِسَالَةُ يَعْقُوبَ 4: 4 حَيْثُ يَسْتَخْدِمُ يَعْقُوبُ كَلِمَاتٍ قَاسِيَةٍ:

أَيُّهَا الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي، أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْعَالَمِ عَدَاوَةٌ ِللهِ؟ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِلْعَالَمِ، فَقَدْ صَارَ عَدُوًّاِ للهِ. (يعقوب 4: 4)

وَاضِحٌ أنَّ بَعْضَ قُرَّاءِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ كَانُوا قَدْ اِنْحَرَفُوا عَنْ الْإيمَانِ. فحذّرَ يَعْقُوبُ مَنْ يُحّبُ الْعَالَمَ بأنَّهُ يَصِيرُ “عدوًا للهِ”.

وَلِذَا لا عَجَبَ أنَّ يَعْقُوبَ مَارَسَ سُلْطَانَهُ كَأحَدِ قَادَةِ الْكَنِيسَةِ. أمَرَ يَعْقُوبُ قُرَّاءَهُ بِشَكْلٍ مُتَكَرِّرٍ بِأنْ يَحْيُوا كما يليق باعتراف صَّادِقِ بِالْإيمَانِ. وَقَدْ اسْتَخْدَمَ أكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ فِعْلَ أمْرٍ أو وصية مباشرة فِي الرِّسَالَةِ ذَاتِ الْمِئَةِ وَثَمَانِيَةِ عددٍ. وَاستخدم كَثِيراً صِيَغاً نحويّة أُخْرَى تَعْمَلُ عَملِ فِعْلِ الْأمْرِ ضِمْنَ سِيَاقَاتِهَا.

وَلَكِنَّ الْحَلَّ الرَّئِيسِيَّ الَّذِي قَدَّمَهُ يَعْقُوبُ للمشكلاتِ الَّتِي كَانَ قُرَّاؤهُ يُوَاجِهُونَهَا لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ أن يأمرهم بِعَمَلِ هَذَا أوْ ذَاكَ. فَبِالنِّسْبَةِ إلَيّهِ، كَانَ لُبُّ الْقَضِيَّةَ هُوَ أنَّهُمْ كَانُوا بِحَاجَةٍ لِأنْ يطلبوا الْحِكْمَةَ مِنَ اللهِ. كَانَتْ الْحِكْمَةُ الْآتِيَةَ مِنَ اللهِ هِيَ الْمُفْتَاحَ لِنَوَالِ الْفَرَحِ بَيْنَمَا يَحْتَمِلُونَ تَجَارِبَهُمْ الْكَثِيرَةَ. اِسْتَمِعْ إِلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الشَّهِيرَةِ مِنْ 4: 8-10 الَّتِي فِيهَا يَقُولُ يَعْقُوبُ لِقُرَّائِهِ:

 اِقْتَرِبُوا إِلَى اللهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ … اتَّضِعُوا قُدَّامَ الرَّبِّ فَيَرْفَعَكُمْ. (يعقوب 4: 8-10)

وجّهَ يَعْقُوبُ المؤمنين إلى أن يتّضعوا لكي يرفعَهُم الله. كما علّم هُنَا أنَّ الاتّضاع أمَامَ اللهِ هُوَ الطَّريِقُ إلَى الْحِكْمَةِ. فحِينَ يَقْتَرِبُ أتْبَاعُ الْمَسِيحِ إلِى اللهِ في خُضُوعٍ متّضعٍ، فَإنَّ الْحِكْمَةَ الَّتِي يَنَالُونَهَا تجلبُ لهم الْفَرَحَ، حَتّى فِي أثناءِ مثابرتهُم في التَّجَارِبِ.

إلى هنا في دراستنا لِمُقَدِّمَةِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ، نَظَرْنَا إلَى خَلْفِيَةِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ. وَلِذَا، فَإنَّنَا الْآنَ على استعداد لدراسة بُنْيَةِ ومحتوى الرِّسَالَةِ.

 


البنية والمحتوى


 

أشرنا قَبَل قَلِيل إلى أن رِسَالَة يَعْقُوب تركز بشكل كبير على مَوْضُوع الْحِكْمَة بِاعْتِبَارِهَا الطَّرِيق لإيجَاد الْفَرَح فِي أوْقَات التَّجَارِب. وَلَكِن هَذَا التركيز عَلَى الْحِكْمَة يُسَاعِدْنَا أيضًا فِي فهم مَا هو أكثر من مجرد هدف الرسالة. فقد تحدّث العديد من المُفَسِّرُين عَنْ رِسَالَة يَعْقُوب بِاعْتِبَارِهَا سفر الْحِكْمَة فِي الْعَهْد الْجَدِيد. وَيَسَاعِدْنَا هَذَا الْمَنْظُوُر فِي فَهْم بُنْيَة وَمُحْتَوَى الرِّسَالَة ذات الطابع غير المألوف.

حِينَ كَتَبَ يَعْقُوبُ رِسَالَتَهُ، كَانَ هناك تَارِيخٌ طَوِيلٌ مِنْ أدَبِ الْحِكْمَةِ ينبع من الْعَهْدِ الْقَدِيمِ. تَشْتمَلُ كِتَابَاتِ الْحِكْمَةَ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ على أسفار أيُّوبَ وَالْجَامِعَةِ، بِالْإضَافَةِ إلَى سفر الْأمْثَالِ، والبعض مما يطلَق عليه مَزَامِيرَ الْحِكْمَةِ وَأقْوَالَ الْحِكْمَةِ النَّبَوِيَّةِ. وَيتضح أن يَعْقُوبَ مَدِينٌ لهذا النوع من أدب الْعَهْدِ الْقَدِيمِ مِنْ نَوَاحٍ عِدَّة. فَمَثلاً، فِي 5: 11 يَسْتَخْدِمُ يَعْقُوبُ مِثَالَ أيُّوُبَ، الَّذِي هُوَ الشَّخْصِيَّةُ الرَّئِيسِيَّةُ فِي سفر أيُّوبَ، مِنْ أجْلِ التَّشْجِيعِ عَلَى الاحتمال وَالثَّبَاتِ. كَمَا تَطَرَّقَ يَعْقُوبُ لِمَوَاضِيعَ مِثْلِ الْكَلامِ، وَمُعَامَلَةِ الْأرَامِلِ وَالْيَتَامَى، وَالْفَقْرِ، وَالْمُحَابَاةِ. وَهَذِهِ الْمَوَاضِيعُ لَهَا مَا يُوَازِيهَا فِي محتوى سفر الْأمْثَالِ.

إنَّ أحَدَ الْأُمُوُرِ الَّتِي نَرَاهَا كَخَيْطٍ مشترك فِي كُلِّ رِّسَالَةِ يعقوب هُوَ الْكَلِمَةُ “حِكْمَةٌ”. وهو يقدر الْحِكْمَةِ بشدة – الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقٍ في مُقَابِلِ الْحِكْمَةِ الَّتِي مِنْ أسْفَلٍ. وَهذا يجعلنا نُفَكِّرُ بِأنَّ هُنَاكَ تَأثِيراً عَظِيمَاً لكِتَابَاتِ الْحِكْمَةِ التي جاءت قبله على حَيَاتِهِ. ونَرَى هَذَا الْأمْرَ بِوُضُوحٍ تَامٍّ فِي اِقْتِبَاسِهِ مِنْ سِفْرِ الْأمْثَالِ وَاسْتِخْدَامِهِ لَهُ، وَكَذَلِكَ فِي الطَّرِيقَةِ الَّتِي يَتَذَكّر بِهَا كَلِمَاتِ ربِّنَا يَسُوعَ، الَّذِي كَثِيرَاً مَا تَكَلَّمَ فيِ سِياقِ الْحِكْمَةِ. وَبِالْإضَافَةِ إلَى هَذَا، فَقَدْ حَصَلَ تَطَوُّرٌ فِي فِكْرِ الْحِكْمَةِ وَكِتَابَةِ الْحِكْمَةِ، إلى نوعٍ أدبيٍ من كتابات الحكمة ينتمي إلى فَتْرَةِ مَا بَيْنَ الْعَهْدَيْنِ. وَأعْتَقِدُ أنَّنَا نَرَى من خلال أدب الحكمة في رِسَالَةِ يَعْقُوبِ البَعْضَ من الموضوعات نفسها. وَبَيْنَ الْحِينِ وَالْآخَرِ، نَرَى الْبُنْيَةَ نَفْسَهَا. وَلَكِنَّنِي أظُّنُ أنَّ الْكَثِيرَ مَنْ الْمَوَاضِيعِ تَعُودُ فِي أصْلِهَا إلَى سفر الْأمْثَالِ وَإلِى يَسُوع أيْضًا. وَلِذَا، فَإنَّنِي أعْتَقِدُ أنَّ أكْبَرَ مَصْدَرَيْنِ أثَّرَا عَلَى يَعْقُوبَ هُمَا كَلامُ يَسُوعَ وسفر الْأمْثَالِ. وَلَكِنَّ ذلك النوع الأدبي، وَأهَمِّيَةَ حِكْمَةِ الْأمْثَالِ، خِلالَ يَهُودِيَّةِ الْهَيْكَلِ الثَّانِي وزَمَنِ يَسُوعَ، كَانَ بَالِغُ الْأهَمَّيَّةِ أيْضًا في رِسَالَةِ يَعْقُوبَ.

د. ديڤيد تشاپمان

كَمَا تعكس رِسَالَةَ يَعْقُوبَ أيضًا مُحْتَوَى كُتُبِ الْحِكْمَةِ الْمُؤثِّرَةِ خَارِجَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، مِثْلَ حِكْمَةُ سِيرَاخَ، وَالَّذِي يُعْرَفُ أيْضًا بِبساطة باسم سِيرَاخَ، وَكَذَلِكَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ. وَقَدْ كَاَنَ هَذَانِ الْكِتَابَانِ مَعْرُوْفَيْنِ جَيِّدَاً فِي زَمَنِ يَعْقُوبَ، وَثَمَّةَ الْكَثِيرُ مِنَ التَّوَازِيَاتِ الْمُدْهِشَةِ بَيْنَ رِسَالَةَ يَعْقُوبَ مِنْ جِهَةٍ وَبَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَنَسَوُقُ مَثَالاً عَلَى هَذَا مِنْ سِيرَاخَ، في 1: 26 حَيْثُ يَقُولُ:

“إنْ رغبت في الْحِكْمَةَ، فَاحْفَظْ الْوَصَايَا، فيَهَبُها الرَّبُّ لَكَ.”

 وَتُخْبِرُنَا رِسَالَةُ يَعْقُوبَ 1: 5:

وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ، فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ. (يعقوب 1: 5)

وَبِالْإضَافَةِ إلَى هَذِهِ الْأنْوَاعِ مَنْ ْأدَبِ الْحِكْمِة، فَإنَّ الْكَثِيرَ مِنْ تَعْلِيمِ يَسُوع الْمُدَوَّنِ فِي الْأنَاجِيلِ هو ما يميز تَعْلِيمِ الْحِكْمَةِ فِي إسْرَائِيلِ. وَقَدْ لاحظَ الْمُفَسِّرُونَ بعض التَّشَابُهَاتِ بَيْنَ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ وَتَعْلِيمِ يَسُوعَ. اُنْظُرْ مَثَلاً إلَى إنْجِيلِ مَتّى 5: 10، حَيْثُ قَالَ يَسُوعُ:

طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. (متى 5: 10)

قَارِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ بِمَا يَرِدُ فِي رسالة يَعْقُوبَ 1: 12، حَيْثُ يقول يَعْقُوبُ:

طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ «إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ. (يعقوب 1: 12)

كَانَ لِأدَبِ الْحِكْمَةِ الْيَهُودِيِّ، في القرن الأول الْمِيلادِيِّ وَقَبْلَ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ، تَأثْيِرٌ عَظِيمٌ عَلَى يَعْقُوبَ، خَاصَّةً مِنْ حيث الْبِيئَةَ الثَّقَافِيَّةَ وَالْأدَبِيَّةَ الَّتِي كَانَ يَكْتُبُ بها. وَفِي الْحَقِيقَةِ، توجد عَشَرَاتٍ التلميحات والتوازيات بين رِسَالَةُ يَعْقُوبَ وكِتَابَاتِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ الأدبية وَغَيْرِهِا مِنَ الأدب الْيَهُودِيِّ. فَقَدْ اقْتَبَسَ يعقوب مَرَتَيْنِ مِنْ سِفْرِ الْأمْثَالِ، على الأقل مرة وعلى الأرجح مرتين. كَمَا تحتوي الرَّسَالَةَ عَلَى الْكَثِيرِ مِنَ التلميحات لما يَرِدُ بالأخص فِي حِكْمَةِ يَشُوعَ بْنِ سِيرَاخَ، وَهُوَ كِتَابٌ يَعُودُ إلَى حَوَالِي قَرْنٍ قَبَلَ زَمَنِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. وَلَكِنَّ ثَمَّةَ أمْرَاً تَتَفَرَّدُ بِهِ رِسَالَةُ يَعْقٌوبَ من حيث الْحِكْمَةِ، وَهُوَ أنَّهُ يَرْبُطُ الْحِكْمَةَ رَبْطاً وَثِيقاً بَتَعْلِيمِ يَسُوعَ. وَرُبَّمَا كَانَ يَعْقُوبُ أفْضَلَ مَنْ قَدَّمَ صُوَراً إيضَاحِيَّةً نَابِضَةً بِالْحَيَاةِ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، كَمَا يَظَهَرُ مِنْ تَصْوِيرِهِ للسُّفُنَ الَّتِي تُوَجِّههَا دَفَّةٌ صَغِيرَةٌ، وَالْمُزَارِعِينَ الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ بِصَبْرٍ، وَالتُّجَّارَ الَّذِينَ يُسَافِرُونَ لِأجْلِ عَمَلِهِم. وَتَحْتَوِي الرِّسَالَةَ عَلَى الْكَثِيرِ مِنَ الصور الإيضاحية. كُلُّ هَذِهِ السِّمَاتِ نَاتِجَةٌ عَنْ تَأثِيرِ أدَبِ الْحِكْمَةِ. وَلَكِنَّ مُحْتَوَى رِسَالَةِ يَعْقُوبَ يعكس حقًا الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُقَدِّمُ بِهَا يَسُوعُ الْمَلَكُوتَ وَالطَّرِيقَةَ الَّتِي بِهَا يُغَيِّرُ وجود الْمَلَكُوتِ حَيَاتِكَ.

د. دان مَكارتني

وَبِسَبَبِ صِلَةِ يَعْقُوبَ الْوَثِيقَةِ بِأدَبِ الْحِكْمَةِ، فَإنَّ بُنْيَةَ الرِّسَالَةِ مُخْتَلِفَةٌ تَمَامَاً عَمَّا يُمْكِنُ أنْ نَتَوَقَّعَهُ. فحَتَّى نَظْرَةٌ سريعة فقط إلَى هَذِهِ الرِّسَالَةِ كَفِيلَةٌ بِأنْ تُخْبِرُنَا بِأنَّ تَنْظِيمَهَا لَيسَ بَسِيطَاً. وَفِي الْحَقِيقَةِ، مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِنَا العصرية، قَدْ تَبْدُو الرِّسَالَةُ غَيْرَ مُنَظَّمَةٍ على الإطلاق. إذ تتناول رِسَالَةُ يَعْقُوبَ، نظير سِفْرِ الْأمْثَالِ، عَدَدَاً مِنَ الموضوعات الهامة. وَكَثِيراً مَا تُخَصِّصُ أعَدَادَاً قَلِيلَةً فَقَطْ لِمَوْضُوعٍ وَاحِدٍ قَبْلَ الْاِنْتِقَالِ إلَى آخَرٍ. وَفِي بَعْضِ الْأحْيَانِ، تَعُودُ الرِّسَالَةُ إلَى أحَدِ موضوعاتها لاحِقَاً، وَلَكِنَّ لَيْسَ بشكلٍ متسقٍ. حَتَّى أنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ اِسْتَنْتَجُوا أنَّ رِسَالَةَ يَعْقُوبُ بِلا بُنْيَةٍ. حَيْثُ اِقْتَرَحُوا أنَّهَا مُجَرَّدُ مَجْمُوعَةٍ مِنْ أقْوَالِ الْحِكْمَةِ دُونَ تَرْتِيبٍ أوْ تَسَلْسُلٍ فِكْرِيٍّ حَقِيقِيٍّ.

وَلَكِنْ يَنْبَغِي أنْ نَكُونَ حَذِرِينَ هُنَا. فَالرِّسَالَةُ لَيْسَتْ مزيجًا فَوْضَوِيّاً من أعْدَادٍ غير متصلة ببعضها، تم جمعها مَعَاً دُونَ أيِّ تَرْتِيبٍ عَلَى الْإطْلاقِ. فَفِي حِينَ تُشَابِهُ رِسَالَةُ يَعْقُوبُ أدَبَ الْحِكْمَةِ فِي الشَّكْلِ وَالْمُحْتَوَى، فَإنَّهَا تَخْتَلِفُ أيْضًا عَنْ ذَلِكَ النَّوْعِ الْأدَبِيِّ بِطُرُقٍ عِدَّةٍ. فَعَلَى خِلافِ كِتَابَاتِ الحِكْمَة الأُخْرَى، رِسَالَةُ يَعْقُوبُ هي رِسَالَةٌ كُتِبَتْ لِكَنَائِسَ مُعَيَّنَةٍ. وَلِذَا، فَإنَّهَا تعكسُ بَعْضَ السِّمَاتِ التَّنْظِيمِيَّةِ لرِسَائِلِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ الْأُخْرَى.

ثَمَّةَ الْقَلِيلُ مِنَ الْاِتِّفَاقِ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ حَوْلَ تَنْظِيمِ أوْ بُنْيَةِ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ. وَلَكِنْ لِأغْرَاضِنَا فِي هَذَا الدَّرْسِ، قمنا بتقسيم الرسالة إلَى سَبَعَةِ أقسام:

  • تَبْدَأُ الرِّسَالَةُ بِتَحِيّةِ يَعْقُوبِ، فِي رسالة يَعْقُوبَ 1: 1.
  • يُمَثِّلُ الْقِسْمُ الرَّئِيسِيُّ الْأوَّلُ مُقَدِّمَةً إلَى الموضوعات الرّئِيسِيَّةِ الَّتِي تُغَطِّيهَا الرسالة، وَيُمْكِنْ أنْ نضع له الْعُنْوَانِ الْحِكْمَةُ وَالْفَرَحُ، ونجده في رسالة يَعْقُوبَ 1: 2-18.
  • يعبرُ الْقِسْمُ الرَّئِيسِيُّ الثَّانِي عَنْ اِهْتِمَامِ يَعْقُوبِ بِمَوْضُوعِ الْحِكْمَةِ وَالطَّاعَةِ، ونجده في رسالة يَعْقُوبَ 1: 19-2: 26.
  • يتناولُ الْقِسْمُ الرَّئِيسِيُّ الثَّالِثُ مَوْضُوعَ الْحِكْمَةِ وَالسَّلامِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمَسِيحِيِّ، ونجده في رسالة يَعْقُوبَ 3: 1-4: 12.
  • يُرَكِّزُ الْقِسْمُ الرَّئِيسِيُّ الرَّابِعُ عَلَى مَوْضُوعِ الْحِكْمَةِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، ونجده في رسالة يَعْقُوبَ 4: 13-5: 12.
  • الْقِسْمُ الرَّئِيسِيُّ الْخَامِسُ، وَالْأخَيِرُ، مُخَصَّصٌ لِمَا يُمْكِنُ أنْ نَصِفَهُ بِالْحِكْمَةِ وَالصَّلاةِ، ونجده في رسالة يَعْقُوبَ 5: 13-18.
  • بَعْدَ هَذِهِ الْأقْسَامِ الْخَمْسَةِ الرَّئِيسِيَّةِ يَرِدُ تحريض خِتَامِيٌّ فِي 5: 19-20.

وَلِنُلْقِ الآن نَظْرَةً عَنْ كثبٍ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأقْسَامِ، بَدْءاً مِنْ التَّحِيَّةِ، فِي رسالة يَعْقُوبَ 1: 1.

 

التحية (1: 1)

 اِسْتَمِعْ ثَانِيَةً إلَى تَحِيَّةِ يَعْقُوبَ الْقَصِيرةِ فِي 1: 1:

يَعْقُوبُ، عَبْدُ اللهِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، يُهْدِي السَّلاَمَ إِلَى الاثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا الَّذِينَ فِي الشَّتَاتِ. (يعقوب 1: 1)

يَنْبَغِي ألَّا تَفُوتَنَا الطَّرِيقَةُ الَّتِي بِهَا وَصَفَ يَعْقُوبُ نَفْسَهُ هُنَا. فَقَدْ دَعَا نَفْسَهُ “عَبْدَ اللهِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ”. كَانَ يُمْكِنُ لِيَعْقُوبَ أنْ يُقَدِّمَ نَفْسُهُ بِصِفَتِهِ قَائِدَ الْكَنِيسَةِ، أوْ حتى بِصِفَتِهِ أخَا يَسُوعَ. وَلَكِنَّهُ اِخْتَارَ أنْ يُشَدِّدَ عَلَى حَقِيقَةِ أنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَالْمَسِيحِ. يُمْكِنُ لِهَذِهِ الْإشَارَةُ الْمُزْدَوَجَةُ أنْ تَكُونَ تَعْبِيرَ يَعْقُوبَ الشَّخْصِيَّ عَنْ الاتّضاع، وَهُوَ مَوْضُوعٌ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ لاحِقاً فِي الرِّسَالَةِ. وَلَكِنَّهُ هُنَا يضرب مثالًا لذَلِكَ الاتّضاع بِالْإشَارَةِ بِوُضُوحٍ إلَى كَوْنِهِ عَبْداً لِأخِيهِ، أي ليسوع.

وَبعَدَ التَّحِيَّةِ، يَأتِي الْقِسْمُ الرَّئِيسِيُّ الْأوَّلُ الْذِي يدور حَوْلَ مَا دَعَوْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَالْفَرَحَ.

 

الحكمة والفرح (1: 2-18)

 كَتَبَ يَعْقُوبُ رِسَالَتَهُ هَذِهِ إلَى مَسِيحِيِّينَ طُرِدُوا مِنْ أُورُشَلِيمِ، وَتَشَتَّتُوا فِي أنحاء عَالِمِ الْبَحْرِ الْمُتَوَسِّطِ. كَانَ هَؤُلاءِ يُوَاجِهُونَ تجاربَ متنوعة، الَّتِي بلا شَكٍّ سبّبت لَهُمْ الْإحْبَاطِ. وَلِهَذَا، فَقَدْ بَدَأتْ كَلِمَاتُ يَعْقُوبَ الْأولَى عَنْ أهَمِّيَّةِ الْحِكْمَةِ بِالدَّعْوَةِ إلَى الْفَرَحِ. اِسْتَمِعْ ثَانِيَةً إلَى رسالة يَعْقُوبَ 1: 2 حَيْثُ قَالَ يَعْقُوبُ لِقُرَّائِهِ:

اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ. (يعقوب 1: 2)

قَدْ يَبْدُو هَذَا الْمَقْطَعُ غَرِيبَاً بِالنِّسْبَةِ لَنَا، خَاصَّةً أنَّهُ يُخَاطِبُ أنَاسَاً كَانُوا يُوَاجِهُونَ “تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ”. وَلَكِنَّ دَعْوَةَ يَعْقُوبَ لِقُرَّائِهِ لِأنْ يَحْسِبُوا التَّجَارِبَ “كُلَّ فَرَحٍ” لَيْسَتْ أمْراً غَيْرَ اِعْتِيَادِيٍّ كَمَا قَدْ نَعْتَقِدْ.

تأتي عبارة “كُلَّ فَرَحٍ” مِنْ التعبير الْيُونَانِيَّ [πᾶσαν χαρὰν] بَاسَانْ خَارَانْ، الذي يُمْكِنْ تَرْجَمَتُه إلَى “فَرَحٍ كَامِلٍ تامٍ”. يَتَنَاسَبُ هَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّشْجِيعِ مَعَ كُتُبِ أدب الْحِكْمَةِ الْأُخْرَى الَّتِي كَانَتْ موجودَةً فِي زَمَنِ يَعْقُوبَ. فَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْأحْيَانِ، كَانَتْ كِتَابَاتُ الْحِكْمَةِ تُشَجِّعُ المتألمين عَلَى أنْ يَعْتَبِروا أنْفُسَهُمْ مُطَوَّبِينَ. فَيَسوعُ، مَثَلاً، خَتَمَ التَّطْوِيبَاتَ فِي إنجيل مَتّىِ 5: 12 بِالدَّعْوَةِ إلَى “الْفَرَحِ وَالتَّهَلُّلِ” فِي وَجْهِ الْاِضْطِهَادِ.

وَكَمَا ذكرنا سَابِقاً، فَإنَّ يَعْقُوبَ يُعَلِّمُ فِي 1: 3-4 بأنَّ الصَّبْرَ فِي التَّجَارِبِ يُمَكِّنُ الْمُؤمِنُ مِنْ أنْ يصير تامًا وكاملًا. وَبِكَلِمَاتٍ أُخْرَى، حِينَ يَحْتَمِلُ شَعْبُ اللهِ الضِّيقَ، فَإنَّهُمْ يَنْمُونَ لِيَصِلوا إلَى ملء ما قَصَدَ اللهُ لَهُمْ. وَلَكِنْ فِي الْحَقِيقَةِ، كَثِيراً مَا يَكُونُ صَعْباً، حَتّى على أكْثَرِ الْمُؤمِنِينَ إخْلاصَاً، أنْ يرى كَيْفَ يُمْكِنُ حدوث هَذَا وَسَطَ الْألَمِ. لِهَذَا يَقُولُ يَعْقُوبُ فِي الْعَدَدِ التَّالِي مباشرة لِقُرَّائِهِ أنْ يَطْلُبُوا الْحِكْمَةَ مِنَ اللهِ. تَذْكُرُونَ أنَّ رسالة يَعْقُوبَ 1: 5 تقُولُ:

وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ، فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ. (يعقوب 1: 5)

اَلَّذِينَ يُرِيدُونَ أنْ يَخْتَبِرُوا كل فرح بَيْنَمَا يقاسون التَّجَارِبِ يَنْبَغِي أنْ يَطْلُبُوا مِنَ اللهِ بَصِيرَةً. فَإنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ لِلْحِكْمَةِ لِمُسَاعَدَتِهِمْ فِي فَهْمِ كَيْفَ يُمْكِنُ لِتَجَارِبِهِمْ أنْ تَقُودَ إلَى الْأفْضَلِ لَهُمْ. وَإنْ طَلَبْنَا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْحِكْمَةِ مِنَ اللهِ، فَإنَّهُ سيُعطى لَنَا. كما قَالَ يَعْقُوبُ لاحِقَاً، فِي 1: 17 إنَّ اللهَ يُعْطِي عَطَايَا صَالِحَةً وهبات تامة لِشَعْبِهِ. وَيَخْتِمُ يَعْقُوبُ هَذَا الْقِسْمَ فِي 1: 18 بِهَذَا التَّأكِيدِ:

شَاءَ [الله] فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ. (يعقوب 1: 18)

حِينَ نَنَالُ الْحِكْمَةَ لِفَهْمِ كَيْفَ يَعْمَلُ اللهُ مِنْ خِلالِ التَّجَارِبِ، نَسْتَطِيعُ أنْ نَكُونَ فَرِحِينَ. الْحِكْمَةُ تُقَوِّي ثِقَتَنَا بِأنَّ اللهَ عَيَّنَ لَنَا بَرَكَةَ الْخَلاصِ الْأبَدِيِّ.

بَعْدَ حَدِيثَ يَعْقُوبُ عَنْ الْحِكْمَةِ وَالْفَرَحِ، يَنْتَقِلُ إلَى الْحَدِيثِ عَنْ الْعَلاقَةِ بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالطَّاعَةِ.

 الحكمة والطاعة (1: 19-2: 26)

 يُنَاقِشُ يَعْقُوبُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَوْضُوعَ الْحِكْمَةِ وَالطَّاعَةِ فِي ثَلاثِ خَطَوَاتٍ أَسَاسِيَّةٍ. فَيَبْدَأُ فِي 1: 19-27 بالحديث عَنْ أهَمِّيَّةِ الْعَمَلِ، بَدَلاً مِنْ الْاكْتِفَاءِ بِالْاِسْتِمَاعِ أوْ التكلّم.

 العمل (1: 19-27)

نَقْرَأُ فِي 1: 22:

وَلكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ. (يعقوب 1: 22)

ليس سَمَاعُ الِكَلِمَةِ ببساطة أمْراً جَيِّداً بِمَا فيه الكفاية. فَكَلِمَةُ الْحِكْمَةِ الْآتِيَةِ مَنْ اللهِ يَنْبَغِي أنْ تَقُودَ أيضًا إلَى الطَّاعَةِ الْأمِينَةِ. خلاف ذلك، نحن نَخْدَعُ أنْفُسَنَا.

حِينَ تَقْرَأُ رِسَالَةَ يَعْقُوبَ، تُدْرِكُ أنَّهُ يركّز فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى الْحَاجَةِ إلى تطبيق الْأمُورَ الَّتِي نَقُولُ إنَّنَا نُؤمِنُ بِهَا. هَذَا مَوْضُوعٌ بَارِزٌ جِدّاً فِي كُلِّ الرِّسَالَةِ. لِمَاذَا يركّز يَعْقُوبُ عَلَى هذَا؟ وَيَبْدُو أنَّ الْجَوَابَ الْأوَّلَ هُوَ أن يَعْقُوبُ يحيا فِي عالم واقعي، وَيَخْدِمُ أناساً حَقِيقِيِّين. وَالْعَالَمُ الَّذِي نَحْيَا فِيِهِ هو عَالَمٌ يسهل فيه الْكَلامُ دون تكلفة، ويَسْهُلُ فيه أنْ نَقُولَ إنَّنَا نُؤمِنُ بِاللهِ، والْأصْعَب هُوَ أنْ نظهر ما نُؤمِنُ بِهِ فِي التصرف العملي. وهَذَا مَثَّلَ تَحَدِيّاً لا لِيَعْقُوبٍ فَقَطْ، بَلْ وَلِيَسُوعَ أيْضًا. فَالْكَلامُ لَيْسَ نفسه كما الَعَمَلَ. وَيَسُوعُ وَيَعْقُوبُ يَعْرِفان هَذَا. وَقَدْ سَعَيَا لِأنْ يخاطبا بَشَراً لديهم مشكلات حَقِيقِيَّةٌ.

د. جيمي إيچان

تَوَقَّعَ يَعْقُوبُ أنْ يتجاوز قُرَّاؤُهُ سَمَاعَ كَلِمَةِ اللهِ. فَقَدْ تَوَقَّعَ أنْ يَضَعُوا إيمَانَهِمْ مَوْضِعَ التَّنْفِيذِ العملي. وَقَدْ كَانَ هَذَا الْمَوْضُوعُ بَالِغَ الْأهَمِّيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِيَعْقُوبَ، بِحَيْثُ، مَعْ أنَّهُ نَاقَشَهُ بِشَكْلٍ رَئِيسِيٍّ فِي الأصحاحين 1 و2، عَادَ إلَيْهِ بَيْنَ الْحِينِ وَالْآخَرِ فِي كل الرِّسَالَةِ. فَمَثَلاً، فِي 3: 13، يظَهَرُ ثانية منظور يَعْقُوبَ الْأسَاسِيَّ بِشَأنِ الْعَلاقَةِ بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالطَّاعَةِ، حَيْثُ يَقُولُ:

مَنْ هُوَ حَكِيمٌ وَعَالِمٌ بَيْنَكُمْ، فَلْيُرِ أَعْمَالَهُ بِالتَّصَرُّفِ الْحَسَنِ فِي وَدَاعَةِ الْحِكْمَةِ. (يعقوب 3: 13)

كَمَا يُشِيرُ هَذَا الْعَدَدُ، فَإنَّ الْحِكْمَةَ والعلم بمَقاصِدِ اللهِ فِي التَّجَارِبِ وَالْألَمِ لَيْسَا قَضِيَّةً عَقْلِيَّةً بَحْتَهً. فمن لَدَيْهِمْ هَذَا الْفَهْمُ وَهَذِا العلم سَيُظْهِرُونَهُمَا بِالتَّصَرُّفِ الْحَسَنِ، أيْ بِأعْمَالٍ فِي الوَدَاعَةِ التي تأتي من الْحِكْمَةِ، الَّتِي يَمْنَحُهَا اللهَ.

وَلِذَا، فَقَدْ خَتَمَ يَعْقُوبُ فِي 1: 27 هَذَا الْقِسْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْحَاجَةِ لِلْعَمَلِ، بتلخيصه للتَّقْوَى الْحَقِيقِيَّةِ أوْ الدِّيَانَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِالْكَلِمَاتِ التَّالِيَةِ:

اَلدِّيَانَةُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللهِ الآبِ هِيَ هذِهِ: افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ. (يعقوب 1: 27)

يَتَكَلَّمُ يَعْقُوبُ بصراحة شديدة عَنْ الدِّيَانَةِ – الَّتِي يَدْعُوهَا “الطَّاهِرَةَ النَّقِيَّةَ” – فَيَصِفُهَا بِأنَّهَا “افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ”. وَفِي مجتمعنا هذا، الذي يتَسِمُ بِالْمَادِيَّةِ فِي نَوَاحٍ كَثِيرَةٍ، هَذَانِ وَجْهَان لعُمْلَةِ وَاحِدَةِ. فَإحْدَى الطُّرُقِ الَّتِي بِهَا نتدنس بالْعَالَمِ هِيَ عَدَمُ الْاِهْتِمَامِ بِالْفُقَرَاءِ الَّذِينَ حَوْلَنَا، أوْ أن ننسب فَقْرِهِمْ إلَى شَيءٍ فِيهِمْ، دُونَ النَّظَرِ إلَى أسبابه النظامية، أوْ إلَى أنْفُسِنَا نَحْنُ الَّذِينَ نَمْلِكُ الْإمْكَانِيَّاتِ، فنَرَى أنَّنَا نَفُوقُ الْآخَرِينَ أو أن لَدَيْنَا بَرَكَةَ اللهِ، بَيْنَمَا الْفُقَرَاءُ لا يَمْلِكُونَهَا. مَعْ أنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ أنَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأحْيَانِ تَجِدُ أنَّ إيمَانَ الْفُقَرَاءُ أقْوَى وأكثر أصالة مِنْ الَّذِينَ لَمْ يُعَانُوا مَا عَانَاهُ الْفُقَرَاءَ.

ق. د. ثِرمان وايامز

بَعْدَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التمهيدية إلَى الْعَمَلِ، تَوَسَّعَ يَعْقُوبُ في الْحَدِيثَ عَنْ الصلة بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالطَّاعَةِ بِالتَّرْكِيزِ عَلَى مُشْكِلَةِ الْمُحَابَاةِ، فِي 2: 1-13.

المحاباة (2: 1-13)

وَاضِحٌ أنَّ بَعْضَ قُرَّاءَ رِسَالَةَ يَعْقُوبَ كَانُوا يُحَابُونَ الْأغْنِيَاءِ، وَيَتَجَاهَلونَ الْفُقَرَاءَ. وَفِي هَذَا الْقِسْمُ، يُعَالِجُ يَعْقُوبُ هَذِهِ الْمُشْكِلَةَ بِدَعْوَتِهِمْ أن يولوا الْاِنْتِباهِ الّلائِقِ وَالصَّحِيحِ إلَى مَا دَعَاهُ “النَّامُوسَ الْمُلُوكِيَّ”. فَيَقُولُ يَعْقُوبُ فِي 2: 8:

فَإِنْ كُنْتُمْ تُكَمِّلُونَ النَّامُوسَ الْمُلُوكِيَّ حَسَبَ الْكِتَابِ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. فَحَسَنًا تَفْعَلُونَ. (يعقوب 2: 8)

يعد إهْمَالُ الْفُقَرَاءِ لِحِسَابِ الْأغْنِيَاءِ في الأساس إخْفَاقًا فِي حِفْظِ وَصِيَّةِ “تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ”. وَقَدْ عَلَّمَ يَعْقُوبُ أنَّ عَلَيْهِمْ أنْ يَتَجَنَّبُوا خَطِيَّةَ الْمُحَابَاةِ مِنْ خِلالِ حِفْظِ النَّامُوسِ الْمُلُوكِيِّ.

نَرَى فِي تَعْلِيمِ يَعْقُوبُ عَنْ الْأغْنِيَاءِ وَعَلاقَتِهِمْ بِالْفُقَرَاءِ انْعِكَاسَاً حَقِيقِيّاً لِتَعْلِيمِ الْمُخَلِّصِ فِي الأصحاح السَّادِسِ عَشْرَ مِنْ إنجيل لُوقَا. وَفِي الأصحاح الثَّانِي مِنْ رِسَالَةِ يَعْقُوبِ، يَقُولُ يَعْقُوبُ: ألَا تعلمون أنَّ اللهَ اخْتَارَ الْفُقَرَاءَ، الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ، لِيَكُونُوا وَرَثَةَ مَلَكُوتِهِ. كان الْأغْنِيَاءُ يعامَلون بمحاباة حِينَ يَأتُونَ إلَى الْاِجْتِمَاعَاتِ الْمَسِيحِيَّةِ، فَيُعْطَوْنَ اِحْتِرَاماً خَاصّاً، حَيْثُ يُقَالُ لهم: “يُمْكِنُكَ أنْ تَجْلِسَ مَكَانِي. يُمْكِنُكَ أنْ تَجْلِسَ فِي أفْضَلِ مُقْعَدٍ فِي الْكَنِيسَةِ”. وَيُنَبِّهُ يَعْقُوبُ من يَتَصَرَّفُونَ هكذا إلَى حَقِيقَةِ أنَّ الْفُقَرَاءَ لَهُمْ مَكَانَةٌ كَامِلَةٌ فِي مَلَكُوتِ اللهِ، وَلَهُمْ حُقُوقُ مِيرَاثٍ كَامِلَةٌ، وَلِذَا يَنْبَغِي أنْ يُظهَر لكم الإكرام والاحترام، وَأن يَحْظُوا بِالْعُضْوِيَّةِ الْكَامِلَةِ وَسَطَ شَعِبِ اللهِ أيْضًا.

د. چريچ پيري

كَمَا رَأيْنَا، تركّز رِسَالَةَ يَعْقُوبَ بِإيجَابِيَّة عَلَى نَامُوسِ اللهِ. فَيَرَى يَعْقُوبُ أنَّ النَّامُوسَ يُعَلِّمُنا أنْ نهتم ببَعْضُنَا البَعْضٍ، وَأنْ نُشْفِقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ، ونَتَجَنَّبَ الْمُحَابَاةَ، وَكُلَّ مَا شَابَهَهَا. وَلَكِنْ يُمْكِنُ إساءة استخدام هَذِهِ النَّظْرَةِ الْإيجَابِيةِّ إنْ لَمْ نَكُنْ حَذِرِينَ. فَكَثِيرَاً مَا يُشِيرُ الْمَسِيحِيّونَ في العصر الحديث إلَى كيفية اِسْتِخْدَامِ نَامُوسِ اللهِ، باطلًا، كَوَسِيلَةٍ لِمُحَاوَلَةِ تبرير أنفسنا أمَامَ اللهِ بِأعْمَالِ بِرِّنَا. وَنَحْنُ مُحِقُّونَ فِي رَفْضِ إسَاءَةِ اِسْتِخْدَامِ نَامُوسِ اللهِ هكذا. وَلَكِنْ، في الْمُقَابِلِ تركّز رِسَالَةُ يَعْقُوبُ عَلَى وجه آخر لِلنَّامُوسِ. فَقَدْ عَلَّمَ يَعْقُوبُ أنَّهُ فِي حِينَ لا أحد يُمْكِنَهُ أنْ يَتَبَرَّرَ بِالنَّامُوسِ، لكنَّ نَامُوسَ اللهُ هُوَ مَصْدَرُ الْحِكْمَةِ لنا. وَعَلَيْنَا أنْ نَحْيَا في طاعة له. بالطبع نَحْنُ لا نُطِيعُ النَّامُوسَ كَمَا لَوْ كُنّا مَا نَزَالُ نَعِيشُ فِي زَمَنِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ. فَعَلَيْنَا دَائِمَاً أنْ نُطَبِّقَ نَامُوسَ اللهِ فِي ضَوْءِ الْمَسِيحِ وَتَعَالِيمِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. وَلَكِنَّ من آمنوا بالْمَسِيحِ لنَوَالِ خَلاصِهِمْ، يُطِيعُونَ النَّامُوسَ تَعْبِيراً عَنْ اِمْتِنَانِهِمْ للهِ، لِأنَّهُ إعْلانٌ عن حِكْمَةِ اللهِ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى، يُرَدِّدُ يَعْقُوبُ صَدَى كَلِمَاتِ المزمور 19: 7، حيث نقرأ:

نَامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ. شَهَادَاتُ الرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ الْجَاهِلَ حَكِيمًا. (مزمور 19: 7)

بَعْدَ أنْ استعرض يَعْقُوبُ أهَمِّيَّةِ الْعمَلِ تَجَاوُبَاً مَعَ كَلِمَةِ الْحِكْمَةِ ومُقَاوَمَةِ الْمُحَابَاةِ بِإطَاعَةِ نَامُوسِ اللهِ الُمُلُوكِيِّ، يتناول العَلاقَةِ بين الْإيمَانِ والطَّاعَةِ فِي 2: 14-26.

الإيمان (2: 14-26)

يُثِيرُ يَعْقُوبُ فِي 2: 14 هَذَا السُّؤالَ:

مَا الْمَنْفَعَةُ يَا إِخْوَتِي إِنْ قَالَ أَحَدٌ إِنَّ لَهُ إِيمَانًا وَلكِنْ لَيْسَ لَهُ أَعْمَالٌ، هَلْ يَقْدِرُ الإِيمَانُ أَنْ يُخَلِّصَهُ؟ (يعقوب 2: 14)

يُجِيبُ يَعْقُوبُ عَنْ هَذَا السُّؤالُ بِـ”لا” مُدَوِّيَةٍ. وَقَدْ قام بذلك بِطُرِقٍ عَدِيدَةٍ. إذ أشار أوَّلاً إلَى أنَّهُ حَتّى الشَّيْطَانَ يُؤمْنُ بِأشْيَاءٍ صَحِيحَةٍ عَنْ اللهِ، وَلَكِنَّ ذلك لا يجديه نفعًا. ثُمَّ أشَارَ إلَى أنَّ إيمَانَ إبْرَاهِيمَ قَادَهُ إلَى الطَّاعَةِ. وَوَصَفَ كَيْفَ برهنت رَاحَابُ على إيمَانَهَا بِأعْمَالِهَا الصَّالِحَةِ. وَهَكَذَا، يستخلص يَعْقُوبُ فِي 2: 26 هَذَا الْاِسْتِنْتَاجِ الشهير:

لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ بِدُونَ رُوحٍ مَيِّتٌ، هكَذَا الإِيمَانُ أَيْضًا بِدُونِ أَعْمَال مَيِّتٌ. (يعقوب 2: 26)

فبِحَسَبِ يَعْقُوب، ليس إيمَانَ الْإنْسَانِ بِالمُعْتَقَدَاتِ الصَّحِيحَةِ كَافِياً. فَالْإيمَانُ الَّذِي لا يَظَهَرُ فِي الطَّاعَةِ مَيِّتٌ. إنَّهُ لَيْسَ إيمَاناً خَلاصِيّاً حَقِيقِيّاً.

وَبَعْدَّ أنْ حَثّ يَعْقُوبُ قُرَّاءَهُ عَلَى أنْ يَحْيَوا حَيَاةَ الَّطَاعَةِ، رَّكِّزُ اِهْتِمَامَهُ عَلَى الْعَلاقَةِ بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالسَّلامِ وَسْطَ أتْبَاعِ الْمَسِيحِ.

 

الحكمة والسلام (3: 1-4: 12)

اِسْتَمِعْ إلَى سُؤالِ يَعْقُوبَ فِي 4: 1:

مِنْ أَيْنَ الْحُرُوبُ وَالْخُصُومَاتُ بَيْنَكُمْ؟ (يعقوب 4: 1)

مَعْ أنَّ هَذَا الْعَدَدَ يَأتِي في منتصف هَذَا الْقِسْمِ، لكن هَذَا الْقِسْمَ بأكمله يتناول هَذَا السُّؤالَ مِنْ نَوَاحٍ مُخْتَلِفَةٍ.

يُشِيرُ يَعْقُوبُ فِي هَذَا الْقِسْمُ إلَى ثَلاثِ قَضَايَا رَئِيسَيَّةٍ تَرْتَبِطُ بِالْحِكْمَةِ وَالسَّلامِ وَسَطَ الْمُؤمِنِينَ. أوَّلاً، يُشَدِّدُ يَعْقُوبُ فِي 3: 1-12 عَلَى اللِّسَانِ، أوْ كيفية اِسْتِخْدَامِنَا لِكَلِمَاتِنَا.

اللسان (3: 1-12)

فِي 3: 4-5، يُشَبِّهُ يَعْقُوبُ اللِسَانَ بِدَفَّةِ سَفِينَةٍ، حَيْثُ يَقُولُ:

هُوَذَا السُّفُنُ أَيْضًا، وَهِيَ عَظِيمَةٌ بِهذَا الْمِقْدَارِ، وَتَسُوقُهَا رِيَاحٌ عَاصِفَةٌ، تُدِيرُهَا دَفَّةٌ صَغِيرَةٌ جِدًّا. … هكَذَا اللِّسَانُ أَيْضًا، هُوَ عُضْوٌ صَغِيرٌ وَيَفْتَخِرُ مُتَعَظِّمًا. (يعقوب 3: 4-5)

 ثُمَّ فِي الْعَدَدِ 6، يُكْمِلُ حَدِيثَهُ فَيَقُولُ لِقُرَّائِهِ:

فَاللِّسَانُ … عَالَمُ الإِثْمِ. هكَذَا جُعِلَ فِي أَعْضَائِنَا اللِّسَانُ، الَّذِي يُدَنِّسُ الْجِسْمَ كُلَّهُ، وَيُضْرِمُ دَائِرَةَ الْكَوْنِ، وَيُضْرَمُ مِنْ جَهَنَّمَ. (يعقوب 3: 6)

كان تَحْذِيرُ يَعْقُوبُ مِنْ قُدْرَةِ اللِسَانِ عَلَى عَمَلِ الشَّرِّ شَدِيدُ الشَّبَهِ بِمَا نَجِدَهُ فِي سفر الْأمْثَالِ. فسفر الْأمْثَالُ أيْضًا يتناول الْأخْطَارَ المرتبطة بِاللِّسَانِ، أوْ الْكَلامِ، مَرَّاتٍ عَدِيدَةً. نَجِدُ هَذَا فِي مواضع عِدَّةٍ مِثْلَ سفر الأمْثَال 10: 31، وَ11: 12، وَ15: 4، وَأعْدَادٍ أُخْرَى كَثِيرَةٍ. تشير رسالة يَعْقُوبُ وَسفر الْأمْثَالُ إلَى أنَّهُ يُمْكِنُ لِلْكَلامِ أنْ يؤدي إلَى شَتَّى أنْوَاعِ المشكلات وَسَطَ شَعْبَ اللهِ. وَلِتَجَنُّبِ النِّزَاعَاتِ وَالْعَيْشِ فِي سَلامٍ، عَلَيْنَا أنْ نَضْبُطَ ألْسِنَتِنَا.

حِينَ يتحدّث يعقوب عَنْ كَلامِنَا في رسالته، نَتَذَكَّرَ مَا قَالَهُ يَسُوعُ: “مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْب يَتَكَلَّمُ الْفَمُ”. وإذْ يتأمل يَعْقُوبُ في كَلِمَاتِ يَسُوعَ هَذِهِ، ويقدم بَعْضَ الإرشادات لِلْكَنِيسَةِ – بِشَأنِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي يَنْبَغِي لَنا أنْ نَحْيَا بِهَا فِي ضُوءِ مَجِيءِ الْمَسيِحِ وَانْتِظَارِ عَوْدَتِهِ الْمُسْتَقْبَلِيَّةِ – فإن إحْدَى الطُّرُقِ الَّتِي يمدنا يَعْقُوبُ بها لِفَحْصِ قُلُوبِنَا هِيَ بِالتَّرْكِيزِ عَلَى كلماتنا. وَبِكَلِمَاتٍ أُخْرَى، يعتبر يَعْقُوبُ كلمات الْإنْسَانِ، التي يُشِيرُ إلَيْهِا بِاللِّسَانِ، كاختزال عن الكلمات، بِاعْتِبَارِهِ مِقْيَاساً لِكَامِلِ الْكَيَانِ الْأخْلاقِيِّ لِلْإنْسَانِ. وَيُمْكِنُنَا الْقَوْلَ إنَّ اللسان يعكس دَرَجَةُ حَرَارَةِ الْقَلْبَ. وَهَكَذَا، كَمَا قَالَ يَسُوعُ: “مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْب يَتَكَلَّمُ الْفَمُ”. حين يَقُولُ يَعْقُوبُ إن عَلَى الْإنْسَانِ أنْ يَلْجِمَ لِسَانَهُ، وَبِأنَّهُ يَنْبَغِي ألَّا يَخْرُجَ مِنَ الْفَمِ الْوَاحِدِ بَرَكَةٌ وَلَعْنَةٌ، فهو إنَّمَا يَقْصِدُ أنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ قَلْبُنَا مُكَرَّساً للهِ بِالْكَامِلِ. فَعَلَيْنَا ألَّا نَكُونَ ذَوِي رَأيَيْنِ، بَلْ أنْ نَتَمَسَّكَ بالإيمان بِتَعْلِيمِ الْمَسِيحِ. وبهَذَا، ستبارك كلماتنا إخْوَتَنَا وَأخَوَاتِنَا بَدَلَ أنْ تلْعَنَهُم.

د. براندن كرو

الْأمْرُ الثَّانِي الْمُتَّصِلُ بِالْحِكْمَةِ وَالسَّلامِ يتضمن نَوْعَين من الْحِكْمَةِ. نَجِدُ هَذَا فِي3: 13-18.

نوعان من الحكمة (3: 13-18)

فِي رسالة يَعْقُوبَ 3: 14-17، نَقْرَأُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ:

وَلكِنْ إِنْ كَانَ لَكُمْ غَيْرَةٌ مُرَّةٌ وَتَحَزُّبٌ فِي قُلُوبِكُمْ … لَيْسَتْ هذِهِ “الْحِكْمَةُ” نَازِلَةً مِنْ فَوْقُ، بَلْ هِيَ أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ. … وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلاً طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَارًا صَالِحَةً، عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ. (يعقوب 3: 14-17)

فكما نرى هنا، لكي يشرح يعقوب العلاقة بين الحكمة والسلام، ميّز بين الحكمة الأرضيّة، بل الشيطانيّة، والحكمة التي من فوق. فالحكمة الأرضية تؤدي إلى غَيْرَةٍ مُرَّةٍ وَتَحَزُّبٍ. ولكن الحكمة التي من الله تجلب السلام إلى المجتمع المسيحي.

دَعَا يَعْقُوب قُرَّاءَه أنْ يتخلوا عن النزاعات وَالْخُصُومَات بينهم. وَأوْضَح أنَّهْ حِينَ نَتَمَسَّك بِرَغَبَاتِنَا الأنَانِيَّة، لا يمكن أن يَكُون هناك سَلام فِي وَسَطْنَا. كما عَلَّمْ أنَّ الْحِكْمَة الأرْضِيَّة لا تَقُود إلا إلَى “التَّشْوِيشِ وَكُلِّ أَمْرٍ رَدِيءٍ”. وَلِذَلك، أوْصَى يَعْقُوب قُرَّاءَهُ بِأنْ يَعْتَمِدُوا عَلَى الْحِكْمَة الآتِيَة مِنْ الله. وَحِينَ نفعل هَذَا، نَجِدُ السَّلام. وَيُعَبِّرُ يَعْقُوبُ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقِةِ فِي 3: 18 بِالْكَلِمَاتِ:

وَثَمَرُ الْبِرِّ يُزْرَعُ فِي السَّلاَمِ مِنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ السَّلاَمَ. (يعقوب 3: 18)

الْقَضِيَّةُ الثَّالِثَةُ في هَذَا الْقِسْمُ، فِي 4: 1-12، تبحث في الْحِكْمَةِ وَالسَّلامِ فِي عَلاقَتِهِمَا بِالصراع الدَّاخِلِيِّ الَّذِي يَخْتَبِرَهُ أتْبَاعُ المَسِيحَ.

الصراع الداخلي (4: 1-12)

ينسب يَعْقُوبُ النِّزَاعَ بَيْنَ الْمُؤمِنِينَ إلَى الشهوات الْأنَانِيَّةِ، وَالَّدَوَافِعِ الْخَاطِئَةِ، وعدم القناعة. وَمِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ يَعْقُوبَ، فَإنَّ الشهوات الشريرة لدى قُرَّائِهِ تَسَبَّبَتْ بِضَرَرٍ جسيمٍ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمَسِيحِيِّ. فَقَدْ كَانُوا تَحْتَ سَيْطَرَةِ رَغَبَاتِهِم، وَلِذَا كَانُوا يتصارعون، وَيَشْتَهُونَ، بَلْ وَكَانُوا يُفْنُونَ بَعْضَهُمْ بَعْضَاً. وَلِذَا أخْبَرَهُمْ يَعْقُوبُ بِحَزْمٍ بِمَا عَلَيْهِمْ عَمَلَهُ مِنْ أجْلِ أنْ يَأتُوا بِالسَّلامِ. فَقَالَ يعقوب فِي 4: 7-10:

فَاخْضَعُوا ِللهِ. … اِقْتَرِبُوا إِلَى اللهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ. … اتَّضِعُوا قُدَّامَ الرَّبِّ فَيَرْفَعَكُمْ. (يعقوب 4: 7-10)

الْخُضُوعُ المتّضع للهِ هُوَ الْأمْرُ الْوَحِيدُ الَّذِي من شأنه أن يُنْهِي الْحُرُوبَ وَالْخُصُومَاتِ وَيَمْنَحَهُمْ السَّلامَ بعضهم مع بعضٍ.

وَلِنَنْظُرْ الْآنَ إلَى الْعَلاقَةِ بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالْمُسْتَقْبَلِ.

 

الحكمة والمستقبل (4: 13-5: 12)

 

يُمْكِنُ تَقْسِيمُ حَدِيثِ يَعْقُوبَ عَنْ الْحِكْمَةِ وَالْمُسْتَقْبَلِ إلَى ثَلاثَةِ أجْزَاءَ. يُوْجَدُ الْجُزْءُ الْأوَّلُ فِي 4: 13-17، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بمن يَضْعون الْخُطَطِ بِشَأنِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَكَأنَّ الله لَيْسَ هو المتحكّم.

وضع الخطط (4: 13-17)

تُشِيرُ هَذِهِ الْأعْدَادُ إلَى أنَّ كَثِيرِينَ مِنْ قُرَّاءِ يَعْقُوبَ كَانُوا يُحَاوِلُونَ تقرير مُسْتَقْبَلَهُمْ. فَقَدْ كَانُوا يُرَّكِّزُونَ عَلَى تكديس الثَّرْوَةِ، ويَتَفَاخَرُونَ بِشَأنِ مَا سَيَعْمَلُونَهُ وَبِشَأنِ الْأمَاكِنِ الَّتِي سَيَذْهَبُونَ إلَيْهَا. وَرَدّاً عَلَى هَذَا، يُذَكِّرُهُمْ يَعْقٌوبُ بِأنَّ حَيَاتَهُمْ زَائِلَةٌ كَالْبُخَارِ، وأنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أنْ يَعْرِفُوا مَا يُخْفِيهِ مُسْتَقْبَلُهُمْ. اِسْتَمِعْ إلَى 4: 15-16، حَيْثُ يَقُولُ يَعْقُوبُ لَهُمْ:

عِوَضَ أَنْ تَقُولُوا: «إِنْ شَاءَ الرَّبُّ وَعِشْنَا نَفْعَلُ هذَا أَوْ ذَاكَ». وَأَمَّا الآنَ فَإِنَّكُمْ تَفْتَخِرُونَ فِي تَعَظُّمِكُمْ. كُلُّ افْتِخَارٍ مِثْلُ هذَا رَدِيءٌ. (يعقوب 4: 15-16)

اللهُ وحده يتحكم في الْمُسْتَقْبَلِ، والْحُكَمَاءِ وحدهم يُدْرِكُونَ هَذَا.

فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، يُوَجِّهُ يَعْقُوبُ اِنْتِبَاهَهُ إلَى مَوْضُوعِ الْحِكْمَةِ وَالْمُسْتَقْبَلِ من وجهة مختلفة قليلًا. فَفِي 5: 1-6، حَذَّرَ مِنْ كنز الثَّرْوَةِ بسبب يَوْمِ الْقَضَاءِ الْمُسْتَقْبَلِيِّ.

كَنز الثروة (5: 1-6)

تَكَلَّمَ يَعْقُوبُ بإسهاب عَنْ طَرِيقَةِ مُعَامَلَةِ الْفُقَرَاءِ فِي مَقَاطِعَ كَثِيرَةٍ. وأدَانَ بِشَكْلٍ مُتَكَرِّرٍ الْأغْنِياءَ لأجل اسْتِغْلالِ من لهم أموالًا أقل. وَفِي هَذِهِ الْأعْدَادِ، يُحَذِّرُ يَعْقُوبُ الْأغْنِيَاءَ الذين جَمَعُوا ثَرْوَتَهُمْ عَلَى حِسَابِ الْفُقَرَاءِ، وَيُخْبِرُهُمْ أنَّهُمْ سَيُعَانُونَ قَرِيبَاً جَرَّاءَ عَمَلِهِمْ هَذَا. فَيُعَبِّرُ عَنْ هَذَا فِي 5: 3 قَائِلاً:

ذَهَبُكُمْ وَفِضَّتُكُمْ قَدْ صَدِئَا، وَصَدَأُهُمَا يَكُونُ شَهَادَةً عَلَيْكُمْ، وَيَأْكُلُ لُحُومَكُمْ كَنَارٍ! قَدْ كَنَزْتُمْ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ. (يعقوب 5: 3)

وَكَمَا يُشِيرُ هَذَا الْمَقْطَعُ، فَإنَّ تكديس الثَّرَوَةِ عَلَى حِسَابِ الْآخَرِينَ سيجلب دَيْنُونَةٍ قَاسِيَةٍ.

مَا يَقُولُهُ يَعْقُوبُ بِشَكْلٍ أسَّاسِيٍّ أمْرٌ من شأنه أن يصدم كَثِيرِينَ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ سَمِعُوهُ. فَهُوَ يناقض الْفَهْمَ الَّذِي كَانَ لَدَى كَثِيرِينَ فِي إسْرَائِيلِ عَنْ الْعَلاقَةِ بَيْنَ الْأغْنِياءِ وَالْفُقَرَاءِ، فَيَعْتَبِرُ أنَّ الْفُقَرَاءَ هُمْ الْمُبَارَكُونَ الْمُطَوَّبُونُ، بَيْنَمَا يُحَذِّرُ الْأغْنِيَاءَ بأن يستعدوا للتوبة وَيَتَوَقَّعُوا حُلُولَ الدَّيْنُونَةِ. وَأسَاسُ تِلَكَ الدَّيْنُونَةِ هُوَ أنَّ هَؤلاءِ كَانُوا يكنزون، إذ أنه إن بَارَكَكَ اللهُ بِثَرْوَةٍ فَإنَّ إرَادَتَهُ هِيَ أنْ تُشَارِكَ هَذِهِ الثَّرْوَةُ مَعَ قَرِيبِكَ، وَأنْ تَسْتَخْدِمَهَا لِبَرَكَتِهِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يكنزون لِأجْلِ أنْفُسِهِمْ. كَانُوا يَسْلِبُونَ الفعلة ولا يدفعون أُجُورَهَمْ. الثَّرْوَةُ عَطِيَّةٌ مِنَ اللهِ يَنْبَغِي أنْ تُسْتَخْدَمَ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي يُرِيدُهَا اللهُ، وَلَيْسَ لِأجْلِ نَفْسِكَ، بَلْ لِأجْلِ قَرِيبِكَ. وَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الْمَبْدَأُ “أحْبِبْ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ” هُوَ الْمَبْدَأَ الَّذِي يُوَجِّهُ كُلَّ أعْمَالَكَ.

ق. ديڤيد لوِس

فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْ حَدِيثِ يَعْقُوب عَنْ الْحِكَمَةِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَالَّذِي يَرِدُ فِي 5: 7-12، يَتَحَوَّلُ إلَى الْحَدِيثِ عَنْ التأني في انتظار اسْتِعْلانِ خِطَّةِ اللهِ لِلْمُسْتَقْبَلِ.

التأني في الانتظار (5: 7-12)

كَانَ يَعْقُوبُ قَدْ اِنْتَقَدَ من وَضَعُوا خُطَطاً مِنْ دُونِ الْاِعْتِمَادِ عَلَى اللهِ فِي نَوَالِ الْحِكْمَةِ. كما حَذَّرَ من تَجَاهَلُوا حِكْمَةَ اللهِ بأن كنزوا وأساءوا معاملة الْفُقَرَاءِ بِأنَّهُمْ سيقاسون دَيْنُونَةِ اللهِ. وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ، شَجَّعَ يَعْقُوبُ الَّذِينَ يَتَألَّمُونَ علَى أَنْ يتأنّوا في انتظارِ أنْ يأتي اللهُ بالتَّارِيخَ إلَى اكتماله النهائي. اِسْتَمِعْ إلَى استخدام يَعْقُوبَ للتشبيه في 5: 7-8:

فَتَأَنَّوْا أَيُّهَا الإِخْوَةُ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ. هُوَذَا الْفَلاَّحُ يَنْتَظِرُ ثَمَرَ الأَرْضِ الثَّمِينَ، مُتَأَنِّيًا عَلَيْهِ حَتَّى يَنَالَ الْمَطَرَ الْمُبَكِّرَ وَالْمُتَأَخِّرَ. فَتَأَنَّوْا أَنْتُمْ وَثَبِّتُوا قُلُوبَكُمْ، لأَنَّ مَجِيءَ الرَّبِّ قَدِ اقْتَرَبَ. (يعقوب 5: 7-8)

كَمَا أشَرْنَا لِلتوِّ، فَإنَّ كَلِمَاتَ يَعْقُوبَ فِي هَذَا الْقِسْمُ كَانَتْ أكْثَرَ مِنْ مجرد توبيخ لِلْأغْنِيَاءِ، إذْ هَدَفَتْ أيضًا إلى تَشْجِيعِ الْفُقَرَاءِ والمقهورين. وَقد ذكَّرَ توْبِيخُ يَعْقُوبَ الْقَوِيُّ قُرَّاءَهُ بَأنَّ يَوْمَ الدَّيْنُونَةُ آتٍ. وفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، سَيُكَافَأُ من اِعْتَمَدُوا عَلَى اللهِ بأمَانَةٍ. وبهذا شَجَّعَ الْأُمَنَاءَ عَلَى أنْ يَسْتَمِرُّوا فِي سبيل الْحِكْمَةِ التقويّة، وَأنْ يسلكوا بحسب اعتراف إيمَانَهُمْ، مطيعين اللهَ فِي ُضُوءِ الْخَاتِمَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي بِهَا سَتَكْتَمِلُ خُطَّةُ اللهُ لِلْمُسْتَقْبَلِ.

بَعْدَ أنْ شَرَحَ يَعْقُوبُ لِقُرَّائِهِ صِلَةَ الْحِكْمَةِ بِالْفَرَحِ، وَبِالطَّاعَةِ، وَبِالسَّلامِ، وَبِالْمُسْتَقْبَلِ، تُخْتَتَمُ رِسَالَةُ يَعْقُوبَ بِتَطْبِيقٍ عَمَلِيٍّ موجَز يَتَمَثَّلُ فِي الْحِكْمَةِ وَالصَّلاةِ.

 

الحكمة والصلاة (5: 13-18)

كَانَ قُرَّاءُ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ يُوَاجِهُونَ قَضَايَا عَدِيدَةً. فَقَدْ تشتتوا عن أوْطَانِهِمْ، وَكَانَ الْأغْنِيَاءُ يَظْلِمُونَ الْفُقَرَاءَ. وَكَانُوا يَتَخَاصَمُونَ ويفني بَعْضَهُمْ بَعْضاً. وَيَبْدُو أنَّ كَثِيرِينَ مِنْهُمْ كَانُوا تَحْتَ سَيْطَرَةِ شهواتهم ولذّاتهم الْأنَانِيَّةِ. كما كَانُوا يَجِدُونَ صُعُوبَةً فِي أنْ يسلكوا بحسب اِعْتِرَافِ إيمَانَهِمْ. وَلِذَلِكَ، يُعَلِّمُهُمْ يَعْقُوبُ فِي الْقِسْمِ الْأخِيرِ مِنْ رِسَالَتِهِ ما عَلَيْهِمْ عَمَلَهُ فِي الكنيسة الْمَسِيحِيَّةِ حِينَ يُوَاجِهُونَ هذه الصِّرَاعَاتِ. ونظير مَا عَلَّمَهُ يَعْقُوبُ فِي بِدَايَةِ رِسَالَتِهِ، يوصيهم هُنَا بِأنْ يُوَاظِبُوا عَلَى الصَّلاةِ. فَفِي المشقات أوْ المسرات، أوَ فِي مُوَاجَهَةِ الْمَرَضِ، حتى ذلك الْمَرَضَ النَّاتِجَ عَنْ خَطِيَّةٍ الفرد، من لديهم حكمة سيصلّون. اِسْتَمِعْ إلَى مَا يَقُولُهُ يَعْقُوبُ لِقُرَّائِهِ فِي 5: 13-14:

أَعَلَى أَحَدٍ بَيْنَكُمْ مَشَقَّاتٌ؟ فَلْيُصَلِّ. أَمَسْرُورٌ أَحَدٌ؟ فَلْيُرَتِّلْ. أَمَرِيضٌ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ؟ فَلْيَدْعُ شُيُوخَ الْكَنِيسَةِ فَيُصَلُّوا عَلَيْهِ. (يعقوب 5: 13-14)

وَاضِحٌ أنَّ يَعْقُوبَ تَوَقَّعَ أنْ يقترب قُرَّاؤهُ إلَى اللهِ طَالِبِينَ منه الْحِكْمَةَ في كل الظروف. ويتضحَ سَبَبُ هَذَا بِمَا يَكْفِي فِي الْعَدَدِ 16، حَيْثُ يَقُولُ يَعْقُوبُ:

طَلِبَةُ الْبَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيرًا فِي فِعْلِهَا. (يعقوب 5: 16)

بَعْدَ أنْ أنهى يَعْقُوبُ جسم رِسَالَتِهِ، بِدَعْوَة قُرَّاءَهُ إلَى التأني وَالصَّلاةِ فِي التَّجَارِبِ، ختم رِسَالَتَهُ بِنصيحةٍ.

 

نصيحة ختامية (5: 19-20)

فَفِي 5: 19-20، حَثَّ يَعْقُوبُ قُرَّاءَهُ عَلَى أنْ يَهْتَمَّوا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَبِأنْ يَرُدُّوا من ضَلُّوا عَنْ الْحَقّ. وَهُوَ يُذَكِّرُهُمْ بِأنْهم، كَإخْوَةٍ وَأخَوَاتٍ، ضِمْنَ جماعة الْإيمَانِ، عليهم التزام وَلديهم امْتِيَازٌ بِأنْ يَرُدُّوا النَّاسَ إلَى الْإيمَانِ الَّذِي يُخَلِّصُ حقاً.

 


الخاتمة


 

فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ إلَى رِسَالَةِ يَعْقُوبِ، نَظَرْنَا إلَى خَلْفِيَّةِ الرسالة، حَيْثُ درسنا هَوِيَّةَ الْكَاتِبِ وَالْقُرَّاءِ الْأصْلِييِّنَ وَمُنَاسَبَةَ كتابة الرِّسَالَةِ. كَمَا بحثنا أيضًا في بُنْيَةَ وَمُحْتَوَى الرِّسَالَةِ، وَرَأيْنَا أنَّ هذه الرسالة هي بمثابة سفر الحِكْمَةٍ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، تم توجيهه لِمُؤمِنِينَ يُوَاجِهُونَ حَالَةَ من الْإحْبَاطِ، من جرّاء تَجَارِبِهِمْ، متناولًا موضوع الحكمة من خلال الْفَرَحِ وَالطَّاعَةِ وَالسَّلامِ والْمُسْتَقْبَلِ وَالصَّلاةِ.

شَجَّعَت رسالة يَعْقُوب المؤمنين في الْقَرْن الأول الْمِيلادِي أنْ يَطْلُبُوا مِنَ الله الْحِكْمَة لِيَكُون لَدَيْهِمْ فَرَح وهم يحتملون التَجَارِب. وبالتأكيد نحيا أنا وأنت فِي ظُرُوف مُخْتَلِفَة تَمَامَاً عَنْ ظُرُوف قُرَّاء رِسَالَة يَعْقُوب الأصْلِييَّن. وَمَعْ هَذَا نُوَاجِه نَحْنُ أيْضًا تجارب متنوعة، وَنَحْتَاج أيْضًا لِحِكْمَة مِنَ الله تُسَاعِدْنَا فِي التعامل مع هذه التَّجَارِب. وَمثل قُرَّاء رِسَالَة يَعْقُوب الأصْلِييِّن، نَحْتَاج لكلِ فرح تَأتِي بِه حِكْمَةُ الله. ومَعْ أنَّنَا تَطَرَّقْنَا بِاخْتِصَار فِي هَذَا الدَّرْس لمَا تقدمُه هذه الرسالة، يَنْبَغِي أنْ يَكُون هُنَاكَ أمْرٌ وَاضِحٌ هُنَا: تَرْسُم رِسَالَة يَعْقُوب مسارًا لِلْحَيَاة الْحَكِيمَة فِي كُلِّ عَصْر. وَكُلَّمَا طَبَّقْنَا تَعْلِيم هَذِهِ الرِّسَالَة فِي حَيَاتْنَا، اِزْدَاد مَا نحصل عليه مِنْ بَرَكَات كل فرح يَمْنَحْهُ الله لِشَعبْهِ، مَهْمَا كَانَتْ التَّجَارِب وَالصُّعُوبَات الَّتِي قَدْ نُوَاجِهْهَا.

شارك مع أصدقائك