شفاعة المسيح

التعريف

إن شفاعة المسيح فعّالة بشكل كامل، فهي ليست مثل صلواتنا التي غالبًا ما تكون مشروطة وغير يقينية. على العكس، يقوم المسيح بمباركة كنيسته بطريقة فعّالة ومؤثرة، وتعتبر هذه الشفاعة سمة مُميِّزة للفترة بين صعوده ومجيئه الثاني.

 المُلّخَص

المسيح، بعد أن صعد عن يمين الآب، صار يبارك كنيسته بحضوره في السماء ومن خلال الروح القدس الذي أرسله. وهو بذلك يقدم لنا المساعدة في أوقات الحاجة، ويمنحنا بركات العهد، ويُمكّننا من اختبار الاتحاد والشركة معه والتمتع بهما.


الصعود والمسيح ككاهن

يسجل لوقا كلمات المسيح الأخيرة وإشارته عند صعوده. هناك في بيت عنيا، “وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ.” (لوقا 24: 50-51). لقد كان فعله الأخير هو الفعل الكهنوتي للبركة (عدد 6: 24). هذا العمل الكهنوتي يميز خدمته المستمرة بعد ذلك. وإذ كان المسيح ينفصل عنهم، باركهم، استمر بعد انفصاله عنهم في مباركتهم. وكما يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين، فإن يسوع ابن الله قَدِ اجْتَازَ السَّمَاوَاتِ، ولذلك فهو قادر أن يرسل لنا نِعْمَةً عَوْنًا فِي حِينِهِ (عبرانيين 4: 14-16). تتمثل خدمة يسوع الكهنوتية المستمرة بعد صعوده في ثلاثة أمور: شفاعته، وبركته، وشركته.

الشفاعة

أولاً، من المهم فهم ما لا تعنيه شفاعة المسيح. فهو لا يتوسل نيابة عنا أمام آب متردد؛ لأن هذا كان سيكون له عواقب كبيرة بالنسبة للثالوث، وذلك بالإضافة إلى عواقب أخرى. كما أن شفاعته لا تتساوى بأنواع الشفاعة التي نقوم نحن بها هنا والآن. فعندما نصلي، يكون هناك عنصر من عدم اليقينية؛ فقد نطلب من الله أن يشفي شخصًا ما، ولكن ربما يكون الله قد قرر أن ينتقل هذا الشخص بموت بطيء ومؤلم. أما شفاعة المسيح الذي صعد، فليس فيها استثناءات أو تحفظات أو احتمالات.

يمكن مقارنة شفاعة المسيح برئيس الكهنة في العهد القديم، الذي كان يدخل قدس الأقداس مرة واحدة في السنة، مرتديًا الصدرة المحددة، والتي تحتوي على اثني عشر حجرًا كريمًا تمثّل أسباط إسرائيل الاثني عشر.

بصفته ممثّلًا عن الشعب، كان رئيس الكهنة، إن جاز التعبير، يُدخِل معه أسباط إسرائيل الاثني عشر إلى قدس الأقداس. وبطريقة مشابهة، المسيح، بعد أن اجتاز السماوات، يُدخلنا نحن شعبه معه إلى حضرة الله، عن يمين الآب. وهو يفعل هذا ليس لأنه يمثّل الإنسان فقط، بل هو نفسه إنسان، وسيبقى كذلك إلى الأبد. ففي تجسده، اتحد ابن الله بشكل دائم بطبيعتنا، بجسدنا ودمنا، وبذلك يحمل طبيعتنا وإنسانيتنا أمام الآب على أساس دائم وأبدي.

كما ورد في السؤال 55 من التعليم الكبير لوستمنستر، فإن شفاعة المسيح تعني: ‘ظهوره بطبيعتنا باستمرار أمام الآب في السماء.’ الشفاعة المستمرة للمسيح الذي صعد تتمثّل في حضوره الدائم مع الآب كإنسان.

لذلك، كما تقول كلمات شارايتي ليس بانكروفت:

“عندما يغويني الشيطان باليأس، ويخبرني بالشر الذي بداخلي، أرفع نظري وأراه هناك، من وضع نهاية لكل خطاياي.”

بما أن شفاعة المسيح تشتمل على منح بركات عهد الله لنا بشكل فعّال، فينبغي أن ننظر إلى صلواته خلال خدمته المتجسدة من هذا المنظور. كانت هذه بالتأكيد صلوات من شخص كان حقًا إنسانًا كاملاً بكل معنى الكلمة. فقد عاش في اعتماد كامل على الآب، مدعومًا بالروح القدس، وواجه المعاناة، الفقد، تجارب العيش في عالم ساقط، وجميع الإحباطات وخيبات الأمل التي ترافق ذلك.

كان ذلك مُنبَئ به في العهد القديم، حيث يعبّر خادم الرب المتألم في سفر إشعياء، والذي تحقق أخيرًا في يسوع، عن خيبة أمله وحتى اكتئابه بسبب الفشل الظاهر لمهمته. لكنه يجد التأكيد في أن الله قد عيّنه للخلاص، ليس فقط لخلاص إسرائيل بل للخلاص لأقصى الأرض أيضًا (إشعياء 49: 1-6). يمكننا أن نكون واثقين من أنه يذكر هذه الصراعات البشرية، وأن لها تأثير على عمله المستمر من أجلنا.

البركة

ثانيًا، فيما يخص سمة البركة التي تُميّز خدمة يسوع المستمرة الذي صعد تختلف أيضًا عن الصلاة. فبينما تصبح الصلاة الشفاعية هي التعبير عن الرغبة في أن يحدث شيء معين، إذا كانت تلك هي إرادة الله، فإن البركة هي إعلان عن حالة أو حقيقة قائمة بالفعل، ومنح هذه الحقيقة كنعمة لمن يخصهم الأمر.

لا يوجد في تلك البركة أي نوع من التردد أو عدم اليقين الذي يكون مصاحب لشفاعاتنا نحن الشخصية، حيث إننا لا نملك إدراك التفاصيل الدقيقة لإرادة الله الأزلية في الأمور التي نتشفع لأجلها.

فنحن، لا يمكننا أن نكون متأكدين مما إذا كانت هذه الإمكانية أو تلك جزءًا مما قصده الله. فأحيانًا نشعر بعدم اليقين بشأن صحة مسار معين يخص فعل ما. أما في حالة المسيح الذي صعد وارتفع إلى السماوات، فإن عدم اليقينية هذه غائبة تمامًا، لأنه كملك صَعِدَ أَيْضًا فَوْقَ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلأَ الْكُلَّ (أفسس 4: 8-10).

البركة الكهنوتية للمسيح تمنح شعبه كل ما يحتاجونه للخلاص في هذه الحياة وما بعدها. فمن خلالها، يحافظ ويدافع على كنيسته، يحميها، يرعاها وينميها، ويحكم العالم ويُنفذ أحكامه السيادية على جميع سكانه. وهذا يشمل كل ما ورد في وصف كاتب الرسالة إلى العبرانيين له بأنه السَابِق (عبرانيين 6: 19-20)، والذي تم التنبؤ به في يوحنا 14: 1-3.

لقد سبقنا إلى هناك ونحن نتبعه. فنحن نتبعه لأنه سبقنا. وفي تقدمه أمامنا، صار يأتي بنا إلى هناك من خلال الروح القدس الذي أرسله. في الواقع، كل ما يحدث نتيجة لإرسال الروح القدس – من بركته لكنيسته، وخدمته لأفرادها، وشهادته للعالم – متضمن في هذا العمل.

لهذا السبب يمكن لبولس أن يقول، في المقطع المعروف، إن الله يعمل كل الأشياء معًا للخير للذين يحبونه، المدعوين حسب قصده (رومية 8: 28). وهذا لأن المسيح قد قام من بين الأموات، وهو الآن عن يمين الله، فهو يعمل لصالحنا بكل الطرق بحيث لا يستطيع أحد أن يتهمنا أو يشتكي علينا (رومية 8: 29-34). ورغم أنه قد يؤدبنا حسب ما يراه مناسبًا، فإنه يفعل ذلك لخيرنا (عبرانيين 12: 3-11)، لذلك ينبغي أن نرى هذا التأديب في السياق الشامل لخدمته المستمرة في مباركة شعبه. فهذه هي السِمة المُمَيِّزة لدوره وهو صاعد كرئيس كهنتنا العظيم.

الشركة

ثالثًا، هناك الاتحاد والشركة. يشير يسوع إلى صعوده مباشرة بعد حديثه عن خبز الحياة، الذي ارتبط كثيرًا بسر الإفخارستيا (يوحنا 6: 47-58، 62). ونستخلص من هذا، ومن حقيقة الشركة مع المسيح في عشاء الرب – وهو أمر واضح في أماكن أخرى في العهد الجديد إلى جانب هذا النص – أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين الصعود والإفخارستيا.

لقد رأى كالفن هذا الارتباط واضحًا؛ إذ إن يسوع غائب عنا بالجسد، ومع ذلك، نحن نأكل جسده ونشرب دمه ونتغذى روحيًا عليه. كيف؟ بالروح القدس (يوحنا 6: 63) الذي يرفعنا إلى السماء. يجب أن يتم الاحتفال بعشاء الرب خلال الفترة الممتدة من صعود المسيح إلى مجيئه الثاني – وهي نفس الفترة التي يكون هو فيها عن يمين الآب، بعيدًا عن مجالنا الحسي، ولكنه حاضر بيننا بالروح القدس.

على نفس المنوال، يذكر كاتب الرسالة إلى العبرانيين أننا قد اقتربنا من جبل صهيون، مدينة الله الحي، إلى جماعة لا تُحصى من الملائكة، وإلى يسوع نفسه (عبرانيين 12: 18-24). يُعتبر الصعود الجسدي للمسيح هو الأساس لعلاقتنا وشركتنا معه، سواء بطبيعته الإلهية أو البشرية، وذلك من خلال الروح القدس الذي يجمع بين الأشياء التي تفرقها المسافات، كما كان كالفن يحب أن يعبّر عن ذلك بهذه الكلمات.

الإفخارستيا ستظل جزءًا من حياة الكنيسة حتى يعود المسيح في مجيئه الثاني، وهي ترتبط بخدمة صعوده السماوية المستمرة. فطالما أنه يشفع لأجلنا ويبارك كنيسته، نحن نتغذى عليه من خلال الإفخارستيا. هذا الطقس يشير إلى مصيرنا النهائي وهو الاتحاد مع الله في المسيح. لقد أرسل لنا المسيح الذي صعد شخص الروح القدس ليحقق هذا الاتحاد بيننا وبينه، وبالتالي (يحقق اتحادنا) مع الآب. ويُعد صعوده هو الحدث الذي أتاح إمكانية حدوث هذا الاتحاد. كما قال يسوع: ‘من الأفضل لكم أن أنطلق’ (يوحنا 16:7).”

شارك مع أصدقائك

أستاذ اللاهوت النظاميّ والتاريخيّ بكليّة ويلز الإنجيليّة للاهوت، في ويلز بإنجلترا.