أحد اللَّاهوتيِّين الذين كتبوا باللُّغة العربيَّة في القرن التَّاسع الميلاديِّ هو حبيب بن حُذَيْفَة أبو رائطة التِّكريتيِّ (ت. ٨٣٥ م.) للأسف، لا نملك كثير عن سيرة حياته، وقد اختلف المُؤرِّخون فيما إذ كان قد شَغَلَ منصب أُسقفًا في مدينة تكريت للسُّريان. لكنَّه قد ترك لنا بعض الكتابات التي تُشير لكونه كان مُلِمًّا بالكُتب المُقدَّسة، كتابات الآباء، مبادئ الفلسفة والمنطق، وأيضًا الفكر الإسلاميّ في القرآن.[1]
كَتَبَ أبو رائطة رسالته الثَّانية “بالتَّزامُن مع الرِّسالة السَّابقة [الأولى] عن الثَّالوث إلى يعقوبيّ، لم يذكر اسمه، بهدف الإجابة على الأسئلة التي أثارها المُسلمون حول هاتين العقيدتين المسيحيَّتين.”[2] ويتَّضح من الأسلوب المُتبع في هذه الرِّسالة أنَّها تُعبِّر عن صياغات ناضجة لاهوتيًّا وصل إليها أبو رائطة بعد زمان طويل من الدِّراسة والتَّأمُّل، التَّفكير والخَوض في المُجادلات المختلفة.[3] تُلخِّص ساندرا كيتينج الموضوعات الرَّئيسة في الرِّسالة كالتًّالي: ربط بين رسالته الأولى عن الثَّالوث ورسالته التَّالية عن التَّجسُّد (١)؛[4] علاقة الأقانيم الثَّلاثة بالأقنوم الثاني الذي أخذ طبيعة بشريَّة (٢- ٧)؛ التَّعامل مع صُعوبة كيفيَّة دخول الله في حدود العالم المَخلوق (٨- ١٨)؛ الإجابة على ما إذا كان التَّجسُّد ضروريًّا للخلاص (١٩- ٢٣)؛ المُحاجَّة لتبرير التَّجسُّد عن طريق السُّؤال عن تبرير إرسال الله للرُّسل (٢٤- ٣٥)؛ اِتِّخاذ ابن الله طبيعة بشريَّة (٣٦- ٦٢)؛ معرفة المسيح بالمستقبل (٦٣- ٧٧)، واستعداده وإرادته لأنْ يُصلَب (٧٨- ٨٥).[5] وفيما يلي عرضًا، بطريقة نظاميَّة، لأهم الجوانب التي تَعرَّض لها أبو رائطة في حديثه عن التَّجسُّد، والتي يُمكن تقديمها في عصرنا الحاليِّ لشرح العقيدة بطريقة نظاميَّة والتَّفاعل مع الثَّقافة والفِكر الإسلاميّ المُحيطين.
- تُؤكِّد كَلِمَة الله أنَّ الذي تجسَّد لم يَكُن الله الثَّالوث، بل الأقنوم الثَّاني وحده.
أكَّد أبو رائطة في مُستهلّ كتابه أنَّ التَّجسد يَخُصُّ “أحد الأقانيم وهو الابن كَلِمَة الآب الأزلية” (١).[6] ثُمَّ يُؤكِّد لاحقًا بأكثر وضوح أنَّ “ظهور التَّجسُّد لأحدهما [أحد الأقانيم] خاصٌّ دون الاثنين” (٥، وأيضًا ٦)، أيْ لأُقنوم الابن دونًا عن أُقنوم الآب أو أُقنوم الرُّوح القدس. هذا لا ينفي أبدًا أنَّ الثَّالوث الأقدس كان مُشاركًا في حدث التَّجسُّد، سواءً في إرادته ومشيئته لحدوث التَّجسُّد أو في خَلقِهِ للطَّبيعة البشريَّة التي اِتَّحد بها الابن. “وأمَّا خِلقة الجسد أو مشيئتهم [أيْ مشيئة الثَّلاثة أقانيم] بتجسُّد أحدهم [بتجسُّد أُقنوم الابن] فهو عام لثَّلاثتهما” (٥). ولا شكّ أنَّ مثل هذا الفَهم الذي يُقدِّمه أبو رائطة يُعارض أيَّ صنف من صنوف الموداليَّة التي تُلاشي التَّمايُز بين الأقانيم مُركزة على الوحدانيَّة، ومُعلِنة بأنَّ لله جوهر واحد ظَهَرَ في ثلاثة مظاهر مختلفة خلال ثلاثة عصور مختلفة. فعقيدة أبو رائطة عن الثَّالوث نجد فيها الاتِّزان الكتابيّ عن الوحدانيَّة في الجوهر والتَّمايُز بين الأقانيم.
- لم يُحدِث التَّجسُّد أيَّ تغيير في أُلوهيَّة الابن وجوهره. فالإخلاء لم يُنقِصه مجدًا، ولا حطَّ التَّأنُس من عظمته.
يقول التِّكريتيّ، في مُستهلّ حديثه، “صَيرُورته [أيْ الابن] إنسانًا [حَدَثَ] بلا تغيير عن حاله أو تبدُّل عن جوهره” (١). ثُمَّ يُضيف، “فصارت[7] [كَلِمَة الله] إنسانًا بلا تغييرٍ عن جوهرها.” وفي تزامُن مع كتابات أبو رائطة، أكَّد نفس الأمر اللَّاهوتيّ ثاودُورُس أبو قُرَّة أُسقُف حَرَّان المَلَكيّ (٧٥٥- ٨٣٠ م.) فقد نفى أبو قُرَّة ترك المجد أو الألوهيَّة في التَّجسُّد، واستخدم تعبير “الإخفاء،” مُؤكِّدًا أنَّه في التَّأنُس أخفى الابن مجده وراء حِجَاب الجسد. فبعدما اِقتبس أبو قُرَّة من سفر إشعياء ٥٣، يقول: “هذا قول إشعياء فيه حيثُ رأى تجسُّده وأخفى جلال لاهوته ليَجترِئ عليه الشَّيطان فيُقدِم على صَلبه اليهود.”[8] هذا الفَهم يتَّفق مع وصف بولس الرَّسول لفعل الإخلاء في رسالة فيلبي ٢: ٦- ١١، في ثلاثة تعبيرات “آخِذًا،” “صَائِرًا،” “وَأَطَاعَ” في قَوله. كما هو مكتوب: “آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ. ٨ وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ، وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ، مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ.” وبهذا فَهِمَ أبو رائطة وآخرين من اللَّاهوتيِّين العرب أنَّ الإخلاء ليس بِتَرك الألوهيَّة ولا المجد[9]، لكنْ بإضافة طبيعة بشريَّة.[10]
لذا فالتَّجسُّد لم يُحِدّ الله الابن، فالذي كان مُتجسِّدًا كان يملأ الكُلُّ في الكُلِّ. ويُعطي أبو رائطة عدَّة صور للحديث عن هذه الحقيقة، فالنَّار يُمكن أنْ تشتعل في حَطب دُونَ أنْ تكون محدودة بهذا الحَطب. ومع ضَعف المِثال، فالأسمى من هذا هو أنَّ الله يُمكن أنْ يتَّحِد بطبيعة بشريَّة بشكل كامل دُونَ أنْ يُحَدّ بها (١٤). يتَّفق هذا الوصف مع حديث المسيح مع نيقوديموس، “وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلَّا ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ.” (يوحنا ٣: ١٣). فكون المسيح يُكلِم نيقوديموس على الأرض، لم يَمنَع أنَّه هو ذاته “ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ.”
- الابن المُتجسِّد أخذ طبيعة بشريَّة كاملة ودائمة، بما فيها عقل بشريّ وجسد بشريّ.
يقول التِّكريتيّ: “تجسَّد بجسم ذي نفس منطقيَّة بتجسُّد حقيقيّ دائم…” (١٠). فهذا القول يتَّفق مع تعاليم الكَنيسة المُستقيم والذي عارض تعليم أبوليناريوس أُسقُف لاوِدكية الذي أنكر أنَّ للمسيح عقل بشريّ. فعندما نقرأ أنَّ “ٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا” (يوحنا ١: ١٤)، لا ينبغي أنْ نَظُنّ أنَّه أخذ جسد فقط. فكَلِمَة الله الأزليّ في تأنُسه أخذ طبيعة بشريَّة كاملة بما فيها جسد وروح وعقل (وإرادة) بشريِّين (متى ٢٦: ٣٨- ٣٩؛ لوقا ٢: ٥٢؛ يوحنا ٦: ٣٨؛ ١١: ٣٣- ٣٥، ١٢: ٢٧، ١٣: ٢١؛ عبرانيين ٥: ٧). كما أنَّ استخدام أبو رائطة تعبير “تجسُّد حقيقيّ دائم“، ينفي من جهة أنَّ التَّجسُّد كان مثل ظهورات الابن في العهد القديم، والتي كانت ظهورات مُؤقَّتة (تكوين ١٨؛ قضاة ١٣). ومن جهةٍ أخرى، يُلّمِّح لحقيقة قيامة المسيح الجسديَّة وتمثيله لبشريَّتنا للأبد باتِّحاده الدَّائم ببشريَّتنا في السَّماوات والأرض الجديدة.
- الابن المُتجسِّد شخص واحد له طبيعتين، ولم يحدث أيُّ نوع من التَّغيير أو التَّبديل في طبيعتيّ المسيح.
“تجسَّد بجسم ذي نفس منطقيَّة بتجسُّد حقيقيّ دائم لازم بلا تبايُن من غير تبدُّل ولا تغيير. هو الكلمة أبدًا والجسد جسد أبدًا من غير أنْ يكون المٌتجمِّع منها اثنين، بل أٌقنوم واحد مُتجسِّد وهو إنسان حقٍّ. فهو واحد لا اثنين كما ذكرنا” (١٠).[11] بهذا القول يُعارض أبو رائطة الأٌوطاخيَّة التي تُنادي بذوبان الطَّبيعة البشريَّة في الطَّبيعة الإلهيَّة، ويُعارض ما عُرِفَ بالنسطوريَّة القائلة بأنَّ هناك ابنين أو شخصين في الابن المُتجسِّد. ففي صياغته الدِّفاعيَّة وإجابته في السِّياق الإسلاميّ، استمرَّ في تقديم العقيدة المُستقيمة الكتابيَّة والتَّاريخيَّة.
- يُعتبر الخَلق خطوة أولى من الجُود الإلهيّ تاليها، وفي نفس الاتِّجاه، خطوة التَّجسُّد. فالخَلق والتَّجسُّد كلاهما نَبَعَا من صلاح الله وتَفضُّله (١٩).
فكما أنَّ الله لم يكن مُحتاجًا للخَلق لكنَّه خَلق الإنسان بسبب “صلاحه وتفضُّله” (١٩)، فهكذا “الذي دَعَاه إلى أنْ يتجسَّد ويتأنس صلاحُه ورحمتُه…”[12] هذا الفهم اللَّاهوتيّ مُتناسق مع القدِّيس أثناسيوس الذي كَتَبَ “إنَّ عِصيَاننا اِستدعى تَعَطُُّف الكَلِمَة لكي يُسرع الرَّبُّ في إِغاثتنا والظُّهور بين البشر.”[13] وقد استمرَّ في نهج أبو رائطة لاهوتيِّين عرب أخرين، منهم يحي بن عُدّى (القرن العاشر)،[14] وبولس البُوشيّ (القرن الثَّالث عشر). فقد كَتَبَ الأخير في حديثه عن تفضُُّل الله في الخَلق والتَّجسُّد: “٨٨ هو جوَّادٌ متفضِّلٌ لم يَزَلْ في جوهريته، كما يَليقُ بصلاحه. ٨٩ بل أَظهر التَّفضُّل بالفعل، لمَّا خَلَقَ البرِّيَّة، ليس لِحَاجةٍ منه إليها، بل تفضُّلًا منه عليها… ٩٣ وهكذا تَعاهَد البرِّيَّة بالخلاص. ٩٤ ليس لِحَاجةٍ منه إلى التَّجسُّد، بل تفضُّلًا منه عليها، لِمَا هي مُضطرَّةٌ إليه.”[15]
- هدف التَّجسُّد كان تحقيق الخلاص.
تأنَس الابن لكي “يُجدِّد خَلِقَته لِمَا اَخلقَته الخطيَّة” (٢٠، ٢١). نعم، “الذي دَعَاه إلى التَّجسُّد والتَّأنُس اِلتماسًا بذلك إِنقاذه [لآدم] وذُرِّيَّته وتَخليصهم من ضَلالة تسلَّطت عليهم بتضعيفهم أنفسهم بطول أُلفَتهم بها [أيْ، أنَّ التَّمادي في التَّصالُح مع الخطيَّة زاد الإنسان ضلال وضعف] وانهضهم من صرعتهم وردَّهم إلى مَرتَبَتِهم الأولى” (١٩). تعليقًا على قول أبو رائطة، أنَّ هدف التَّجسُّد إِعادة الإنسان “لمَرتَبَتِهم الأولى،” يمكننا القول إنَّ الهدف كان أَسمى من ذلك. فإنَّ غَرَض الله في التَّجسُّد كان أعظم من مُجرَّد إِعادة الإنسان لحالته الأولى، فإنْ كان هذا هو كُلُّ ما صَنعه الابن بتجسُّده، ما الذي يمنع الإنسان من سقوطٍ آخر، والاحتياج لخلاص مرَّةٍ أُخرى. فحالة الإنسان الذي تَمَّ فِداؤه وتَبَنِّيه تَسمُو فوق “حالته الأولى” قبل السُّقوط، على الأقل في كَونِها اختبرت نعمة الله، الاتِّحاد بالمسيح، وكَونَهَا صارت غير قابلة للخطأ كالحالة الأولى.[16]
- إنَّ تجسُّد الابن وخلاصه كان سبب خلاص شعبه من الموت الرُّوحيّ (إذ أحيانا من حُبِّ الدُّنيا والانغماس فيها، وعَلَّمَنا طاعته) ومن الموت الجسديّ (فقيامة المسيح وعد وضمان قيامتنا) (٢٢).
“فقد خَلَّصَنا (له الحَمدُ!) من كِلا الموتين…” (٢٢). أبدع التِّكريتيّ في التَّأكيد على أنَّ المسيح يَهِب ضمان القيامة، وأنَّ هذا اليقين ذاته يدفع الإنسان لحياة القداسة هُنا، ويُعطي للإنسان مواجهة الموت بسلام. “فليس المُتيقَِّنُ بإعادة حياته، وإنْ مات، بميِّتٍ… لأنَّ المُتَيَقِّنَ بها [بالحياة الأبديَّة] خائِف أَوزَاره، وراجٍ حَسَناتِه. والشَّاكَّ فيها زاهدٌ في الحسنات، ورَاكِبٌ للخطيئات” (٢٣). أليس هذا نَفسَهُ ما أكَّده الرَّسول بولس بعدما تحدَّث عن قيامتنا بالجسد التي نَبعُها وأساس رَجَاؤها قيامة المسيح الجسديَّة، إذ قال: “إِذًا يَا إِخْوَتِي ٱلْأَحِبَّاءَ، كُونُوا رَاسِخِينَ، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ، مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ ٱلرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلًا فِي ٱلرَّبِّ.” (١ كورنثوس ١٥: ٥٨)؟
- التَّجسُّد لم يَكُن وحده كافي للخلاص، فهُناك تركيز أيضًا على أهمِّيَّة الصَّلب.
وهكذا يُؤكِّد التِّكريتيّ، “حقَّقت [كلمة الله] ذلك [الخلاص] لديهم بِنُهُوضِهَا بالجسد إلى الأبد، مِن بعدِ ما قُتِلَت بجسَدِها” (٢٥). هذا المنطق نفسه نجده في رسالة العبرانيِّين حيث التَّأكيد على أنَّ التَّجسُّد ضروريّ لكي ما يستطيع أنْ يَهزِم المسيح الموت، والذي هزمه لا بتجسُّده بحسب، بل بموته. “فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلْأَوْلَادُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ فِيهِمَا [التَّأنُس]، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ [بموت الصَّليب] ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ ٱلَّذِينَ- خَوْفًا مِنَ ٱلْمَوْتِ- كَانُوا جَمِيعًا كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ ٱلْعُبُودِيَّةِ.” (عبرانيين ٢: ١٤- ١٥).
- لم يَكُن مُمكِنًا أنْ يُخَلِّصنا ملَّاك أو إنسان، خَلِقَنا وحده يستطيع ويستحقّ أنْ يكون فادينا.
إذ يُؤكِّد رائطة أنَّ هذا (١) يُشابه فِعلَه في الخَلق الذي لم يُعطِيه لملاك أو لغيره، بل قام به هو بنفسه (٢٤). حقًا، “لأنَّ لا سبيل [إلى] أنْ يُجدِّدَ خِلقَتَهم غيرُ الذي تولَّى صَنْعَتَهم.” (٢) فإنْ خَلَّصَهم آخر غير الله لوَجَبَ على البشر عبادة مُخَلِّصَهم مع الله خَالِقَهم. أمَّا الآن وقد خَلَّصَهم خَالِقُهم، فعِبَادَتهم له مُضعَّفة، كخَالِقِهم ومُخَلِّصهم. (٣) كان لنوح وإبراهيم وموسى والرُّسل ضَعف في رسالتهم: (أ) فكُلُّهم أنذروا النَّاس، لكنْ رَجِعَت النَّاس للخطيَّة بعدهم؛ (ب) إذ قوي الموت عليهم، الأمر الذي يجعل الجيل الذي يليهم لا يقبل رسالتهم بقوَّةٍ (٢٤). لذلك، “فلهذا وأشْبَاهُهَا ممَّا لم نِصفْ لم يُرسِلْ سُبحانه غيره [غير الابن الأزليّ] لإنقاذ العالم وخلاصه” (٢٥).
ورغم توقُّفنَا هُنا لمحدوديَّة هذه المقالة وتَركِيزها على عقيدة التَّأنُس، إلا أنَّ أبو رائطة في رسالته لم يتوقَّف هُنا، بل استمرَّ في الرَّدِّ على اعتراضات كثيرة عن هويَّة المسيح وتَفَرُّده وتجسُّده وصلبه. حقًّا إنَّ كِتَابات أبو رائطة التِّكريتيّ يجب أنْ تُعدَّ أحد الإسهامات الهامَّة في صِياغَة اللَّاهوت بطريقة نظاميَّة ودفاعيَّة، والتي لديها المَقدِرَة لمَعُونتا اليوم لا على تَقدِيم رسالة كَلِمَة الله المتجسِّد فحسب، بل لعِبَادَته وتقديره. فَمَا عَمَله الابن الأزليّ، كَلِمَة الله، في تجسُّده وموته وقيامته، هو أنَّه:
“دَعَاهُم [قدَّم دعوة للمُؤمنين] ذلك إلى الرَّغبِة فيه [في كَلِمَة الله المُتجسِّد] والتَّعظيمِ لشأنه، وألزموا نفوسَهم عبادَتَه، لِمَا رأوْا من مُخالفة حالِه حال جميع المخلوقين.” (٢٥)
[1] سمير خليل، وسليم دكاش اليسوعيّ، “التُّراث العربيّ المسيحيّ القديم، الفصل الرَّابع عشر: دراسات حول بعض اللَّاهوتيِّين العرب (٢) الفيلسوف أبو رائطة التِّكريتيّ،” من مقالات المعهد الإكليريكيّ للبطريركيَّة اللَّاتينيَّة. تمَّ الاطِّلاع ١٩ ديسمبر ٢٠٢٤، من الرَّابط https://slpj.org/الفيلسوف-ابو-رائطة-التكريتي/. نَعرِف عن مؤلَّفاته أنَّها كانت إحدى عشر مُؤلَّفًا، ويبدو أنَّ أربعة منها كان مُوجَّهًا بشكلٍ خاصٍّ للدِّفاع عن المسيحيَّة من الاعتراضات الإسلاميَّة: (١) الرِّسالة الأولى: التَّوحيد والتَّثليث؛ (٢) الرِّسالة الثَّانية: التَّجسُّد؛ (٣) الرِّسالة الثَّالثة: إِثبات دين النُّصرانيَّة وإِثبات الثَّالوث المقدَّس وأمر التَّجسُّد؛ (٤) الرِّسالة الرَّابعة: قياس جدليّ فيه إشارة لكون النَّصارى قَبِلُوا المسيحيَّة بالآيات لا بالسَّيف (صفحة واحدة). أمَّا الباقي فيشمل (٥- ٨) رسائل أربعة فيها جَادَل مع النَّساطِرة والمَلَكِيِّين الخَلقَدونيِّين؛ وأيضًا (٩- ١١) مؤلَّفات قصيرة عن مواضيع التَّوحيد والتَّثليث، والاتِّحاد والتَّجسُّد.[1] من عناوين هذه المؤلَّفات نستطيع استنتاج تركيز أبو رائطة التِّكريتيّ بشكل خاص على عقيدتي التَّجسُّد (والثَّالوث). وسوف نُقدِّم ونُحلِّل في باقي بَحثِنا ما يُمكن أنْ نعتبره لاهوتًا نظاميًّا دفاعيًّا وسياقيًّا لعقيدة التَّجسُّد عند أبو رائطة التِّكريتيّ، مُستندين بشكل محدَّد على رسالته الثَّانية: في التَّجسُّد. الأب سليم دكاش اليسوعيّ، أبو رائطة التِّكريتيّ ورسالته في الثَّالوث المقدَّس (بيروت: دار الدمشق، ١٩٩٦)، ص. ٢٣- ٢٦.
[2] Sandra Toenies Keating, Defending the People of Truth in the Early Islamic Period (Brill, Leiden Boston, 2006), 217.
كُلُّ الأرقام التي بين قوسين في اقتباس رسالة التَّجسُّد لأبو رائطة التِّكريتيّ مأخوذة من النَّصّ الموجود والمُرقَّم في هذا الكتاب.
[3] المرجع السَّابق.
[4] هذه أرقام المقاطع كما وردت في النَّصّ كما هو مُدوَّن في المرجع السَّابق.
[5] المرجع السَّابق، ص. ٢١٧- ٢١٨. حيثُ تُقدِّم ساندرا عدَّة اختلافات بين رسالة أبو رائطة الأولى عن الثَّالوث والثَّانية عن التَّجسُّد: (١) في رسالته عن التَّجسُّد يُظهِر معرفة أعمق واستخدام أكثر للقرآن. (٢) في رسالته عن التَّجسُّد، يستخدم أدلَّة كتابيَّة أكثر في وصف الثَّالوث والتَّجسُّد، مؤكِّدًا أنَّ الكتاب المقدَّس مصدر أصيل وكافي لمعرفة الله. (٣) يُقدِّم في رسالته عن التَّجسُّد إجابات أكثر اختصار لأسئلة واعتراضات يبدو البعض منها اعتراضات حرفيَّة قدَّمها المسلمين (المرجع السَّابق، ٢١٨- ٢٢٠).
[6] لاحقًِا يَهِبُّ أبو رائطة وصف أشمل لهويَّة الابن بالاتِّفاق مع قوانين الإيمان التَّاريخيَّة، فيقول: عن كَلِمَة الله، “المَوصُوفة بأنَّها المولودة من الآب بلا ابتداءٍ، كامل من كاملٍ، إله حقِّ من إله حقٍٍ. وعِلَّةُ وصفِه نفسَه ابنًا – اتَّفاق ذاته ذات الذي منه ولد، في جميع أنحاء ذاته. كاتِّفاق ذاتِ كُلِّ واحدٍ ذاتَ أبيه، مِن غيرِ أنْ يلزَمه ما يُلزِم الأبناء والآباءَ المَخلُوقين. فصارت [كَلِمَة الله] إنسانًا بلا تغييرٍ عن جوهرها. فأنقذت البشر، وخلّصتهم من الضَّلالة، بما دَعَتهم إليه من الإيمان والعمل.” (٢٥)
[7] يُعبِّر أبو رائطة عن “كَلِمَة الله” بصيغة المؤنَّث لكون التَّعبير Logos (المذكَّر لُغويًّا في اللُّغة اليونانيَّة) هو مؤنَّث لُغويًا باللُّغة العربيَّة، إلا أنَّه (ونحن) بالطَّبع يُؤمن أنَّ عندما أخذ الكَلِمَة طبيعة بشريَّة كان رجُلاً، وأنَّ الله الثَّالوث في ذات جوهره مُنزَّه عن الأنواع الذَّكر والمؤنَّث كُلِيَّةً.
[8] ميامار ثاودُورُس أبو قُرّة أُسقُف حَرّان المَلَكيّ (بيروت: مطبعة الفوائد، ١٩٠٤)، ٨٦.
[9] راجع التَّأكيد على اِحتفاظ الابن بمجده أثناء التَّجسُّد في (يو ١: ١٤، ٢: ١١).
[10] ينفي أبو رائطة صورة تحوُّل المياه السَّائل لمياهٍ جامدةٍ (مُتجسِّدة!) كصورة للتَّجسُّد، فهذا تحوُّل (٨). بدلاً من ذلك، يستخدم صورة النَّار، التي تظلّ نار عندما تتَّحد بأيِّ جسم آخر، حطب أو شمع أو ذهب أو فضَّة، فهذه الاجسام تبقى على جوهريتها والنَّار تبقى على جوهريتها عند اِتِّحادهما (٩). ويضيف مثل آخر، هو اِتِّحاد النَّفس البشريَّة بالجسد البشريّ، فكلاهما يحتفظ بخصائصه دون تغيير رغم الاتِّحاد (١٠).
[11] يستخدم أبو رائطة صورة الفحم المشتعلة فيه النِّيران، لوصف الاتِّحاد الذي لم يُغيِّر جوهر أيًّا من الطَّبيعتين (١٨).
[12] الله كان صالحًا في ذاته قبل (ودُون) خَلقِهِ للإنسان (وفدائه)، وإنْ كان هذا الصَّلاح لم يُعلن للخليقة إلا عندما خلق (٢٠).
[13] أثناسيوس الرَّسوليّ، تجسُّد الكَلِمَة، الفصل الرابع، ط. 8، (القاهرة: مؤسسة القديس أنطونيوس للدراسات الآبائية، ٢٠١٤)، ١٠.
[14]أحد الجٌمل الشَّهيرة ليحي بن عدّى، “أفضل الجائدين هو الجائد بأفضل الذَّوات، وأفضل الذَّوات ذات البارئ، فَلًزِم جود البارئ بذاته علينا وهكذا كان باتِّصاله بنا.”
[15] بولس البوشيّ، “ التُّراث العربيّ المسيحيّ: مقالة في التَّثليث والتَّجسُّد وصحَّة المسيحيَّة، الفصل الخامس، جـ. 2″ (١٢٤٠ م.) (لبنان: دير الملاك ميخايل، ١٩٨٣)، ص. ٢٠٦- ٢٠٧. (في هذه النُّقطة رقم ٦، تمَّ الاستعانة بأحد المقاطع التي كتبتها في أحد الوجبات المُقدَّمة للمادَّة نفسها).
[16] بالإضافة لذلك، يمكننا أنْ نختلف مع إجابة أبو رائطة فيما إذا كان ممكنًا لله أنْ يُخَلِّص الإنسان دون التَّجسُّد (٢١). يُجيب أبو رائطة “بلى، له الحمد” ثُمَّ يُضيف، أنَّ الله لم يفعل ذلك لأنَّه “لم يُرِد أنْ يكون خلاصهم وإنقاذهم فعلًا منه وحده، دُنَهم، لِكَيلا يَحرِمهم الثَّواب على مُتابعتهم إيَّاه” (٢١). أيْ أنَّ التَّجسُّد أتاح أنْ يكون للإنسان وعي بخلاصه، وتجاوب مع الله المُخلص. وبالرغم من أنَّه سؤال افتراضيّ، إلا أنَّ كلمة الله تميل بنا للقول بأنَّ الله بالطَّبع لم يكن مُضطرًّا لإنقاذ الإنسان وللتَّجسُّد، ولكن عندما قرَّر أن ْينقذ الإنسان كان لابُد من طريق الصَّليب، الذي يُمهِّده التَّجسُّد. لماذا؟ لأنَّ “بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!” (عب ٩: ٢٢؛ انظر أيضًا رو ٣: ٢٠- للنِّهاية).” إلا أنَّ هذه الحتميَّة ليست حتميَّة فرضت على الله من خارجه، حاشا، بل هي حتميَّة بسبب اتِّساق الله في ذاته واتِّساق كل صفاته أثناء قراره وعمله للخلاص من عدل ورحمة، وقداسة ومحبَّة.