معمودية المسيح وبشارة الإنجيل: دلالات معمودية يسوع

الأناجيل ليست سيرة حياة شخص، وإنما هي البشارة المُفرحة عن ملكوت الله وخلاصه. ففي السير الذاتية أو القصص الشخصية يمكن أن تُذكر معلومات ليست ذي أهمية، ولكن في الأناجيل، كل تفصيلة مذكورة فيها هي جزء من الخبر السار الذي ليسوع المسيح.

فما علاقة معمودية المسيح بالبشارة المفرحة التي تُعلنها البشائر الأربعة؟

المعمودية ومسح الابن الملك

تُذكرنا معمودية المسيح بمشهد مسح الملوك والكهنة والأنبياء في العهد القديم. ففي هذا المشهد، أعلن الله الآب من خلال نزول الروح القدس مثل حمامة:  أن هذا “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (متى 3: 17)

في هذا الموقف، أعلن الله الآب أن هذا الشخص هو مختاره أو مسيحه الذي أرسله ليُتمم خطته. كلمات الله الآب هنا هي صدى لنبوات شهيرة في العهد القديم عن المسيح، أهمها في إشعياء 42 والمزمور 2. فيقول إشعياء 42:

 هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ.

في هذه النبوة، يمكننا أن نلاحظ بسهولة الإشارة إلى المسيًا على أنه عبد، مختار، سُرت به نفسي. وهي كلمات شديدة الارتباط بكلمات الله الآب: هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت.

ولكن عوضًا عن لفظ “عبد”، قال الآب عنه أنه “ابنه الحبيب”. وفكرة ابن الله، موجودة في العهد القديم، خاصة في المزمور الثاني، الذي يتحدث عن “مسيح الرب”، أو عن الملك الآتي على أنه الرب، وعلى أنه الابن، قائلًا:

“أَمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي. إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ: قَالَ لِي: أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. اسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثًا لَكَ، وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكًا لَكَ . . . اعْبُدُوا الرَّبَّ بِخَوْفٍ، وَاهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ. قَبِّلُوا الابْنَ لِئَلاَّ يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا مِنَ الطَّرِيقِ” (المزمور 2: 6-12).

وكرد فعل على شهادة الله الآب للابن الوحيد، شهد يوحنا المعمدان وأقر بإيمانه بما أعلنته السماء قائلًا في يوحنا 1: 32-34:

وشَهِدَ يوحَنا قائلًا: «إنّي قد رأيتُ الرّوحَ نازِلًا مِثلَ حَمامَةٍ مِنَ السماءِ فاستَقَرَّ علَيهِ. وأنا لم أكُنْ أعرِفُهُ، لكن الّذي أرسَلَني لأُعَمِّدَ بالماءِ، ذاكَ قالَ لي: الّذي ترَى الرّوحَ نازِلًا ومُستَقِرًّا علَيهِ، فهذا هو الّذي يُعَمِّدُ بالرّوحِ القُدُسِ. وأنا قد رأيتُ وشَهِدتُ أنَّ هذا هو ابنُ اللهِ.

المعمودية واللقاء مع المسيح

كانت خدمة يوحنا هي دعوة الناس للتوبة وليعتمدوا كعلامة على انفصالهم وموتهم عن الشر والفساد الذي في العالم. وفي أثناء خدمة يوحنا ودعوته للناس للتوبة وتحذيره لهم من الرياء والدينونة الآتية، جاء المسيح! وما أن جاءه المسيح ليعتمد منه، حتى انفتحت عينه، حتى قبل أن يسمع شهادة الآب عن المسيح. ما أن وقف يوحنا أمام المسيح حتى قال له: “أنا محتاج أن أعتمد منك، وأنت تأتي إليَّ” (متى 3: 14).

كثيرًا بسبب أننا محاطون دائمًا بالشر والخُطاة نظن أننا أفضل حالًا، أو أكثر تقوى. كثيرًا لأننا نخطيء أقل، بحسب مقاييسنا، نقف مكان الفريسيّ وندعي أننا لسنا مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة. ونخرج من كنائسنا وصلواتنا كما دخلنا. ولكن في اللحظة التي نتقابل فيها بحق مع المسيح، لن يسعنا سوى أن نصرخ مع العشار: اللهم أرحمني أنا الخاطئ (لوقا 18: 9-14). وسنكشف عن عمق احيتاجنا كيوحنا المعمدان بأنني “أنا محتاج أن أعتمد منك”.

رأينا مشاهد مشابهة لهذا المشهد المهيب في أكثر من موضع في الكتاب المقدس. رأيناه مع بطرس الذي سمح ليسوع أن يدخل سفينته، ثم حدثت المعجزة! ليست فقط معجزة صيد سمك كثير حتى أن شباك بطرس ومن معه كادت أن تتخرق، بل المعجزة الأعظم؛ إذ انفتحت عينيّ بطرس وبعد أن كان يتعامل مع يسوع على أنه مُعلّم صالح، عرف أنه هو الرب! وقال ليسوع:  اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَارَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ!” (لوقا 5: 8)

كيف عرف أنه رجل خاطئ؟ لقد رأى يسوع!

ذات المشهد تكرر من قبل مع إشعياء النبيّ، الذي نطق بـالكثير من الويلات عن خطايا وآثام شعبه والأمم (إشعياء 1: 4؛ 3: 9؛ 3: 11). بل أن أصحاح 5 وحده نطق فيه إشعياء 6 ويلات (إشعياء 5: 8، 11، 18، 20، 21، 22). ولكن ما أن تقابل إشعياء مع الله في أصحاح 6، ورأى السيد جالسًا على عرشه والملائكة تهتف قدوس، قدوس، قدوس! حتى صرخ إشعياء: “ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين … لأن عينيّ قد رأتا الملك رب الجنود” (إشعياء 6: 5).

المعمودية وتكميل كل بر

في بداية حديث البشير لوقا عن معمودية يسوع، يذكر تفصيلة هامة، فيقول:

“ولَمّا اعتَمَدَ جميعُ الشَّعبِ اعتَمَدَ يَسوعُ أيضًا” (لوقا 3: 21).

جاء يسوع ووقف مكان الخُطاة، ليس لأنه يحتاج إلى التوبة، ولكن ليُعلن تضامنه مع الخطاة وأنه جاء ليأخذ مكانهم ويموت عنهم. حين حاول يوحنا المعمدان منع يسوع من أن يعتمد، أجابه يسوع قائلًا:

“اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر” (متى 3: 15).

المسيح من البداية كان يعي هويته ودوره. كان يعلم من هو ولماذا قد آتى. لقد أتى “ليُكمّل كل برّ”. ليُكمّل كل وصية كسرها الإنسان، وليُتمم الناموس كاملًا نيابة عنا. لكيما يصنع المبادلة العظيمة، آخذًا لعنة خطايانا وعقوبتها على الصليب، وليُعطينا بره الكامل. يقول عنه الكتاب المقدس أنه “أحصي مع آثمة، وآثامهم هو يحملها”، “لنُصير نحن بر الله فيه” (إشعياء 53: 12؛ 2 كورنثوس 5: 21).

المسيح جاء ليُكمّل كل بر، ليتمم العمل الذي أعطاه إياه الآب ليتممه.

معمودية المسيح والإعلان عن طبيعة الله

في مشهد المعمودية، يأخذنا الوحي المقدس ويفتح جزء من حجاب السماء ليُعرّفنا لمحة عن من هو الله. وهذا ليس تعبيري، هذا ما يقوله متى 3: 16:

فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلًا مثل حمامة وآتيًا عليه، وصوت من السماوات قائلًا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت.

هنا، يمكننا أن نرى بوضوح الثالوث، الآب، والابن، والروح القدس. الثالوث عقيدة صعبة للغاية لكل من لم ينزع الله الحجاب عن عينيه ليرى جمال ومهابة هذا السر. أما الذين أنار الله لهم أعينهم، استطاعوا أن يُبصروا جمال هذا السر.

يخبرنا البشير يوحنا عن يوحنا المعمدان، أن الروح القدس هو من أعلن له أن هذا ليس مجرد نبي أو معلم، لكن أكثر من ذلك بكثير. الروح القدس هو من جعل يوحنا المعمدان، أعظم من ولد من النساء، مجرد صوت صارخ أمام من هو يسوع. الروح القدس هو من أعطى يوحنا أن يُدرك أن الذي يأتي بعده، صار قدامه، “لأنه كان قبليّ” (يوحنا 1: 30).

يعترف يوحنا أنه لم يكن يعرفه. “لكن الذي أرسلني . . . قال لي . . . وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله” (يوحنا 1: 33).

نحن بحاجة إلى عمل الروح القدس، ليفتح أعيننا وأذهاننا، لندرك من هو الله، ومن هو المسيح. فلا يستطيع أحد أن يقول أن يسوع رب، سوى بالروح القدس.

معمودية والنار

في النهاية، عندما نتحدث عن معمودية المسيح، نتذكّر  كلمات يوحنا المعمدان عن أنه جاء ليُعمّد بالماء، أما المسيح، فسيُعمّد بالروح القدس والنار. كما أنه حذّر المتدينين من خطورة التوبة والمعمودية الشكلية، قائلًا:

يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟ فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة . . .  الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلًا أن أحمل حذاءه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار. الذي رفشه في يده، وسينقي بيدره، ويجمع قمحه إلى المخزن، وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ” (متى 3: 11-12)

إن المعمودية باسم المسيح هي معمودية بالروح القدس ونار. نار تنقي وتطهر من الخطية كل من يأتي قارعًا على صدره صارخًا: أللهم أرحمني أنا الخاطي. ونار تحرق كل زيف وعبادة مظهرية. وكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدّا، تُقطع وتلقى في النار (متى 3: 10). إن الإعلانات والحقائق العظيمة لمشهد معمودية المسيح، يجب أن يقودنا لأن نأتي راكعين أمام الرب، طالبين منه تنقية وعملًا حقيقيًا بروحه داخل قلوبنا، لنتغير ونصنع أثمارًا تليق بالتوبة.

شارك مع أصدقائك

مينا م. يوسف

يدرس حاليًا درجة الدكتوراة (Ph.D) في الإرساليات والأديان المقارنة في الكليّة المعمدانيّة الجنوبيّة، بولاية كنتاكي الأمريكيّة. كما حصل على درجة الماجستير (M.A) في الدراسات الإسلاميّة من جامعة كولومبيا الدوليّة، بولاية ساوث كارولاينا الأمريكيّة. ويعمل كمدير مشروعات الشرق الأوسط في خدمات الألفيّة الثالثة، وكمساعد أستاذ للدراسات العربيّة والإسلامية بالكليّة المعمدانية الجنوبية. كما شارك في تأليف كتاب Medieval Encounters باللغة الإنجليزيّة.