التعريف
يتشكل التنوع التاريخيّ لنظريَّات الكفَّارة المختلفة من عدة زوايا مختلفة للموضوعات الكتابيَّة الرئيسيَّة مثل الفِدية، والفداء، واسترضاء الله، والبدليَّة، والمسيح كمثال أخلاقيٍّ.
الملخَّص
يتشكل التنوع التاريخيّ لنظريَّات الكفَّارة المختلفة من عدة زوايا مختلفة للموضوعات الكتابيَّة الرئيسيَّة مثل الفِدية، والفداء، واسترضاء الله، والبدليَّة، والمسيح كمثال أخلاقيٍّ. في حين أنَّ نظريَّة “المثال” موجودة في الكتاب المقدَّس، فهي ليست جوهر ما أُنجِزَ في الكفَّارة، ولكنَّها مشتقَّة من بقيَّة الموضوعات الرئيسيَّة. عبَّرَ اللاهوتيُّون الأوائل عن فهمهم للطبيعة البدليَّة للكفَّارة بوضوح تامٍّ، لكن الأمر استغرق وقتًا أطول حتَّى صارت الموضوعات الرئيسيَّة المختلفة الأخرى أكثر وضوحًا في لاهوت الكنيسة. وقد طوَّر هؤلاء اللاهوتيُّون أيضًا موضوعات رئيسيَّة أخرى مثل الاسترداد، والفدية، ونظرية المسيح المُنتصر على قوى الشر. في العصور الوسطى، واصل أنسلم تطوير نظريَّة تقوم على البدليَّة والفداء واسترضاء الله، بينما اقترح أبيلارد وجهة نظر بديلة تستند إلى التأثير الأخلاقيِّ لحدث الكفَّارة. أكَّد تقليد المُصلحين على الفدية واسترضاء الله والكفَّارة والبدليَّة، وربط الخلاص كلَّه بهذا الحدث. رفض اللاهوتيُّون اللاحقون مثل والتر راوشينبوش (Walter Rauschenbusch) كثيرًا من لاهوت المُصلحين بخصوص الكفَّارة وشدَّدوا فقط على وجهة النظر الأخلاقيَّة.
الموضوعات الكتابيَّة
في الأطروحات الكتابيَّة عن عمل المسيح الكفَّاريِّ، تُستخدَم عدَّة أفكار رئيسيَّة لإعطاء فهم شامل للطريقة التي نُنقَذ بها من الخطيَّة وعواقبها من خلال موت المسيح. أحد هذه الأفكار هي فكرة الفِدية (مرقس 10: 45؛ 1 تيموثاوس 2: 5-6؛ راجع أيُّوب 33: 24، 28؛ مزمور 49: 7-8). من خلال تبادل استخدام الكلمات التي تشير إلى الفِدية والفداء، نفهم أنَّ هذين المفهومين يرتبطان ارتباطًا وثيقًا. تتحدَّث هذه المفاهيم عن الثمن الواجب دفعه والذي يُعتبَر كافيًا للإفراج عن أسير أو عبد ممَّن أسروه أو لهم حقّ قانونيّ عليه (سفر العدد 25: 48-55؛ راجع رومية 3: 24-25؛ أفسس 1: 7). استرضاء الله هو أمر جوهريٌّ في ثمن الفِدية والفداء، إذ يشير ذلك إلى أنَّ الفِدية التي قدَّمها المسيح لإتمام فداء الخطاة قد قُدِّمت من خلال تحمُّل المسيح للغضب الإلهيِّ (يوحنَّا الأولى 4: 10). إنَّ محبَّة الله الأزليَّة للخطاة جعلت التجسُّد وحمل الغضب ضروريَّين كوسيلة لتحقيق هدف الله من الفداء. هذا الغضب هو تعبير عن العدالة التي يجب أن تُطبَّق على خطايا أولئك الذين مات من أجلهم، والذين بهذا الموت قد تحرَّروا من “الغضب الآتي” (تسالونيكي الأولى 1: 10). نجد أنَّ بولس يصرِّح بهذا باختصار في كتابته عن استرضاء الله كدليل “لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارًّا وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ” (رومية 3: 26).
أيضًا، يُقدَّم عمل المسيح هذا في الكتاب المقدَّس على أنَّه ذو طبيعة بدليَّة. فطبيعة عمله الطوعية، والضروريَّة ليكون تأثيره البدليُّ فَعَّالاً، لا يُمكن فصلها عن طابعه البدليِّ. لقد أرسى يسوع بنفسه هذا الأمر من خلال تعاليمه بأنَّه سيموت بدلاً من شعبه وخرافه (يوحنَّا 10: 15، 17، 18؛ متَّى 1: 21؛ رومية 4: 25؛ غلاطية 1: 4؛ 2: 20؛ 2 كورنثوس 5: 21؛ أفسس 5: 25؛ كولوسى 2: 14؛ تيطس 2: 14؛ عبرانيِّين 2: 17؛ 9: 26، 28؛ 1 بطرس 3: 18).
أيضًا، موت المسيح مُبيَّن كمثال. على الرغم من أنَّ البعض في تاريخ هذه العقيدة قد انجذبوا إلى هذه الفكرة باعتبارها القوَّة الدافعة الأساسيَّة لموت المسيح، فإنَّ الكتاب المقدَّس لا يقدِّمها على أنَّها جوهر ما قد تمَّ في موته. بدلاً من ذلك، يُستخدَم المضمون الموضوعي للكفَّارة نفسه كنموذج للكيفيَّة التي يجب أن نخضع بها لإرادة الله بالكامل (1 بطرس 2: 21). إذا كان المسيح قادرًا على التحلِّي بطول الأناة والسرور (عبرانيِّين 12: 1-2) وهو ذاهب لموت ينطوي على غضب إلهيٍّ كامل، فنحن كمفديِّين يجب أن نتحلَّى بطول الأناة والفرح ونحن نتألَّم من أجله. وفي الواقع، تفقد نظريَّات المثال قوَّتها التعليليَّة ما لم تُؤسَّس على استرضاء الله البدليِّ الحقيقيِّ.
كل الأفكار التاريخيّة لنظريَّات الكفَّارة لها وجاهتها وحججها. وكل مفهوم من هذه المفاهيم كان يتصدَّر المشهدَ بالتناوب على أنَّه الفكرة الرائدة التي تدور حولها سائر المفاهيم كعناصر مساعدة. تقترح هذه الآراء أنَّه يوجد أمر إلهيٌّ موضوعيٌّ أساسيٌّ في موت المسيح مرتبط بالضرورة بالغفران والقبول أمام الله. يُنظَر إلى موت المسيح على أنَّه التفعيل الملموس لكلٍّ من غفران الخطيَّة، والعتق من عبوديَّة الخطيَّة، واسترضاء الغضب الإلهيِّ. كما أن هناك وجهة نظر أخرى لكنها غير منتشرة على نطاق واسع، تركِّز على التأثير الشخصي لموت المسيح في خلق الرغبة لدى الخاطئ للتوبة عن الخطيَّة ومحبَّة الله وخدمته بأمانة. ويشمع هذا المنظور نظريات مثل النظام والمثال الأخلاقيِّ.
التطوُّر التاريخيُّ
-
الرسالة إلى ديوجنيتس
تُذكَر عبارة واضحة بشكل ملحوظ عن منظور البدليَّة في الكفَّارة في نصٍّ دفاعيٍّ مبكِّر باللغة اليونانيَّة والمعروف لنا باسم “الرسالة إلى ديوجنيتس“. ويؤكِّد فيها أنَّ الوحي المسيحيَّ والفداء المسيحيَّ يجعلان المسيحيَّة أسمى من الوثنيَّة والفلسفة. يقول هذا المُدافع: “لم يكرهنا ولم يرفضنا ولم يحمل ضغينة ضدَّنا. بدلاً من ذلك، نجد إمهاله وطول أناته، ففي رحمته حملَ على نفسه خطيَّتنا، وهو بنفسه أعطانا ابنه كفِدية لنا، القدُّوس من أجل المتعدِّين على الناموس، والبريء من أجل المذنبين، وٱلْبَارُّ مِنْ أَجْلِ ٱلْأَثَمَةِ، وغير القابل للفساد من أجل الفاسد، والأزليُّ من أجل الفاني. فماذا غير برِّه يُمكن أن يغطِّي خطايانا؟ وبواسطة مَن يُمكننا نحن الأشرار والمتعدِّين على الناموس أن نتبرَّر إلاَّ في ابن الله وحده؟ يا لهذه البدليَّة الحلوة، يا لعمل الله الفائق الإدراك، يا للبركات غير المتوقَّعة بحيث إنَّ خطايا الكثيرين سُترت في شخص واحد بارٍّ، في حين أنَّ ببرِّ واحدٍ تبرَّر كثيرون!” (الرسالة إلى ديوجنيتس، الآباء الرسوليُّون، 256-57).
-
يوستينوس الشهيد
رأى يوستينوس الشهيد (تقريبًا 100–165) بوضوح في الكتاب المقدَّس أنَّه لا خلاص من دون موت المسيح والإيمان به. فقد آمن أنَّ المسيح احتمل لعنة الجنس البشريِّ، إذ “أراد أب الكون أن يتحمَّل مسيحه لعنات الجنس البشريِّ كلِّه، مدركًا تمامًا أنَّه سيقيمه مرَّة أخرى بعد صلبه وموته”. يجب أن يقود ذلك أيَّ شخصٍ يرى هذه الحقيقة إلى أن ينوح على آثامه. لم نعد نتطلَّع إلى مجرَّد ظلال لذبائح تيوس وخراف “بل بالإيمان بدم وموت المسيح الذي اجتاز الموت من أجل هذا الغرض بالتحديد” (يوستينوس الشهيد، حوار مع تريفو، 13). لقد صُلب “وهو إنسان بلا خطيَّة وعادل” وبواسطة “آلامه يُشفى كلُّ من يتقدَّم إلى الآب من خلاله”.
-
إيريناوس
سعى إيريناوس (130 -202) نحو فهم للكفَّارة ممزوج فيه القيمة الفدائيَّة للتجسُّد مع القوَّة الفدائيَّة للصليب. لم يقتصر الأمر على أنَّ الإنسان “أصبح شريكًا في الخلود” في المسيح المتجسِّد، ولكنَّه ينتفع من التدبير الأخلاقيِّ وهو “تدمير الخطيَّة وفداء الإنسان من الذنب”. عبوديَّتنا للخطيَّة وقيود الموت جعلا التجسُّد والألم ضروريَّين لتحقيق الخلاص العادل. يشير جي. و. ه. لامبي (G. W. H. Lampe) إلى استرداد الإنسان ليشابه الله من خلال التجسُّد، وإشراك الإنسان في طاعة المسيح، والتي تُعتبر جوهر فكره (كونليف جونز، تاريخ العقيدة المسيحيَّة، 48). يتمُّ عمل المسيح الخلاصيُّ من خلال عمليَّة الاسترداد عن طريق عكس عصيان آدم بطاعة المسيح الكاملة. آمن إيريناوس بأنَّ المسيح استرد “الخطِّ الطويل للجنس البشريِّ، ممَّا حقَّق لنا خلاصًا شاملاً، حتَّى نتمكَّن في المسيح يسوع من استرداد ما فقدناه في آدم، أي كوننا على صورة الله وشبهه” (إيريناوس ضدّ الهرطقات 3.18.1، آباء ما قبل مجمع نيقيَّة). توجد ثلاثة جوانب تشكِّل هذا الاسترداد: طاعة المسيح أعطتنا البرَّ، وفديته حرَّرتنا، وقيامته أعادت لنا الخلود. لم تكن الفِدية تتعلَّق بإقرار “حقوق” للشيطان، بل بالأحرى تتعلَّق بما فعله الله ليتمِّم خلاصه بطريقة عادلة، وفقًا لتحذيره العادل بأنَّ الخطيَّة تؤدِّي إلى الموت.
-
غوستاف أولين (المسيح المُنتصر)
لاحقًا، أشار غوستاف أولين (1879-1978) في سلسلة من المحاضرات المنشورة باسم كريستوس فيكتور (المسيح المُنتصر) إلى نظريَّة الفِدية في هزيمتها لإبليس باعتبارها التركيز الكتابيَّ الأساسيَّ ووجهة النظر المسيحيَّة الكلاسيكيَّة. لقد أنقذ هذه النظريَّة من تلك التطوُّرات التي ظهرت بعد إيريناوس، والتي كانت تنادي بالهزيمة عن طريق الخداع ودفع الفِدية لإبليس كمطالبة عادلة، لكنَّه لم يكن متحمِّسًا للفهم المُصلَح عن البدليَّة وما صاحبها من تفاصيل (انظر غوستاف أولين، المسيح المُنتصر؛ إتش دي ماكدونالد، كفَّارة موت المسيح، 258-265).
آمن ترتليان (تقريبًا 160-220) بأنَّه بسبب خطيَّة آدم “أُصيب الجنس البشريُّ كلُّه بمجيئه من نسله، ناقلاً له خطيَّته المُميتة ودينونتها”. علَّم ترتليان بأنَّ عبارة “أبناء الغضب” تعني أنَّ “الخطايا، وشهوات الجسد، وغياب الإيمان، والغضب، تُنسَب إلى الطبيعة المشتركة بين جميع الناس”. لذلك فإنَّ لكلِّ نفس “وَضْع في آدم حتَّى تحصل على وَضْع جديد في المسيح”، ويأتي هذا من خلال عمل المسيح الفدائيِّ. يقول ترتليان إنَّ “موت المسيح … هو جوهر الدين المسيحيِّ وقيمته”، لأنَّه بسبب موت المسيح “افتداه الربُّ من القوى الملائكيَّة التي تحكم العالم، ومن أرواح الإثم، ومن ظلمة هذا الدهر، ومن الدينونة الأبديَّة، ومن الموت الأبديِّ” (من شهادة ترتليان عن النفس، ضدّ مرسيون، عن الهروب وقت الاضطهاد، الآباء المسيحيُّون الأوائل، 116، 128، 129).
-
أنسلم
بحث وناقش أنسلم الغرض من تجسُّد وموت المسيح في كتابه “لماذا صار الله إنسانًا” (Cur Deus Homo). المشكلة كما ذكرها بوسو (Boso)، مُحاورًا أنسلم، هي أنَّ “الإنسان الخاطئ مدين لله بدين لا يستطيع سداده وهو أجرة الخطيَّة، وفي نفس الوقت لا يُمكن أن يخلص من دون سداده” (أنسلم، “لماذا صار الله إنسانًا”، محتوى دراسيٌّ متنوِّع: رسالة أنسلم إلى أوكلاند، 146). حاجج أنسلم بأنَّ مهابة الله تستوجب استرضاءً وافيًا إذا كان سيُظهر العدل والرحمة معًا. صار ابن الله إنسانًا كاملاً وعاش في برٍّ كامل تحت ناموس الله ليكرم قداسة أبيه، ودفع دين الموت الذي لم يُدَن به كعقاب على خطايا لم يرتكبها. يرى أنسلم ذلك بأنَّه “ضرورة منطقيَّة”، وأنَّ فداء الإنسان واسترداده “لا يُمكن أن يتمَّ إلاَّ من خلال غفران الخطايا، والذي لا يُمكن أن يناله الإنسان إلاَّ من خلال الابن الذي هو إنسان كامل، الذي هو نفسه الله، والذي يصالح البشر الخطاة مع الله بموته”. إنَّ ديننا العادل تجاه الله كمخلوقات وديننا الأخلاقيَّ تجاه الله كخطاة سيكون من المستحيل الوفاء به بمنأى عن الطريقة التي أسَّستها الحكمة الأزليَّة: “لذلك كان من الضروريِّ أن يتَّحد الله بالطبيعة البشريَّة في شخصه الواحد، ليتمكَّن الإنسان -الذي بطبيعته يجب أن يدفع ولا يُمكنه ذلك- أن يكون في شخص يستطيع الدفع لأنَّ [حياته] عظيمة وسامية جدًّا، وثمينة جدًّا، بحيث تكفي لدفع ما هو مستحقٌّ عن خطايا العالم كلِّه، وأكثر من ذلك لعدد غير متناهٍ من البشر” (176). مُتأمِّلاً في ذلك الأمر مع بوسو، يختم أنسلم المناقشة بنتيجة موجزة: “مَن هم الأنسب من وجهة نظر المسيح ليحتسب لهم ثمار موته أكثر من أولئك الذين من أجل خلاصهم … جعل نفسه إنسانًا، والذين … بموته أعطى لهم مثالاً على الموت في سبيل العدالة؟ لأنَّهم عبثًا سيتمثَّلون به إن لم يشتركوا معه في برِّه واستحقاقات عمله” (180).
-
بيتر أبيلارد
قام بيتر أبيلارد (1079-1142) بتحويل المناقشات بخصوص الكفَّارة من التأثير الموضوعيِّ إلى التأثير الشخصيِّ –أي من المتطلِّبات الضروريَّة لعدالة وغضب الله إلى انعكاس تأثيرها على الروح البشريَّة. ينسب ماكدونالد الفضل إلى أبيلارد في مبادرته بطرح وجهة نظر التأثير الأخلاقيِّ للكفَّارة، والتي أشار إلى أنَّه يُمكن “التحدُّث عنها بشكل أفضل كنظريَّة المناشدة العاطفيَّة للمحبَّة الإلهيَّة”. من دون استرضاء قداسته كما يتجلَّى في الناموس، ومن دون تنفيذ موضوعي للعقاب، يغفر الله للخاطئ بناءً فقط على بداية ظهور المحبَّة تجاه الله إذ يلاحظ الخاطئ محبَّة المسيح الشديدة تجاه أبيه. وفقًا لأبيلارد، فإنَّ الطريقة التي أظهر بها الله عدله في موت المسيح كانت من خلال “إظهار محبَّته لنا، أو إقناعنا إلى أيِّ مدى يجب أن نحبَّ ذاك الذي ’لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ٱبْنِهِ لِأَجْلِنَا‘”. ربط أبيلارد بين كلٍّ من نعمة الله وعدالة الله وبرِّ الله بالمحبَّة (أبيلارد، “شرح رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية”، محتوى دراسيٌّ متنوِّع، 279، 283). إنَّ محبَّة المسيح الكاملة كإنسان كامل تُكمِّل نواقص محبَّتنا، كما أنَّ فضل محبَّته يغذِّى محبَّتنا، لذلك يغفر لنا الآب ويقبلنا (ماكدونالد، كفَّارة موت المسيح، 174-180).
-
مارتن لوثر
آمن لوثر بالتأكيد بالآثار الشخصيَّة للكفَّارة على الإنسان، ولكنَّه أسَّس ذلك بقوَّة على فهم ثريٍّ للتأثير الموضوعيِّ لموت المسيح. في عظة يوم أحد القيامة، أشار لوثر إلى ذبيحة المسيح مستخدمًا تعبيرات الفِدية واسترضاء الله والكفَّارة وإشارة ضمنيَّة للبدليَّة. كان مستمعيه بحاجة إلى التفكير في “عظمة وهول غضب الله تجاه الخطيَّة، بحيث إنَّه لا يُمكن استرضاء الله أو دفع الفدية فعليًّا بأيِّ طريقة أخرى إلاَّ من خلال الذبيحة الوحيدة لابن الله. يُمكن لموته وسفك دمه فقط أن يسترضوا الله. كما يجب أن نفكِّر أيضًا أنَّنا بسبب خطيَّتنا قد تحمَّلنا ذلك الغضب من الله، ومن ثمَّ كنَّا مسؤولين عن تقديم ابن الله على الصليب وسفك دمه”. وشدَّد على الناحية البدليَّة للكفَّارة عندما ذكَّر المصلِّين بأن يعوا “لماذا لم يشفق الله على ابنه بل قدَّمه ذبيحة على الصليب، وأسلمه إلى الموت، لكي يرفع عنَّا غضبه مُجَدَّدًا” (مارتن لوثر، عظات كاملة لمارتن لوثر، 4.1: 190، 191).
-
جون كالفن
على غرار أنسلم، بنى كالفن طرحه لعمل المسيح الكفَّاريِّ على الفهم القويم لشخص المسيح. واستعمل في طرحه لوجهة نظره موضوعات مثل الذبيحة، والفداء، واسترضاء الله، والمُصالحة، والكفَّارة، والفدية مع التركيز على جانب البدليَّة. لاحظ كالفن أنَّه “في المسيح” كان يوجد نظام جديد ومختلف، إذ يكون فيه نفس الشخص كاهنًا وذبيحة في نفس الوقت. والسبب في ذلك أنَّه لا يوجد استرضاء آخر لله مناسب عن خطايانا، ولا يوجد إنسان مستحقٌّ أن يقدِّم لله ما قدَّمه ابنه الوحيد. تابع كالفن قائلاً: “حسنًا، قام المسيح بالدور الكهنوتيِّ، ليس فقط ليجعل استرضاء الآب عنَّا وقبوله لنا بمقتضى ناموس المُصالحة الأبديِّ، ولكن أيضًا ليقبلنا كشركاء له في هذه المُهمَّة العظيمة” (جون كالفن، أُسُس الدين المسيحيِّ 1: 502). بالإشارة إلى إشعياء 53: 6-10، و2 كورنثوس 5: 21، وغلاطية 3: 13-14، و1 بطرس 2: 24، لخَّص كالفن قائلاً: “ابن الله، وهو بار تمامًا من كلِّ عيب، تحمَّل العار وعقاب آثامنا، وفى المقابل كسانا برَّه وطهارته” (510). يُسمِّي كالفن بدليَّة عمل المسيح بالعمل الذي من أجل “تطهير قذارة تلك الآثام تمَّ تغطيته به عن طريق الحُسبان المنقول”. لقد وقع تحت اللعنة من أجلنا، وحمل خطايانا، وغيَّر الصليب من أداة مأساويَّة للموت المُخزي إلى “مركبة انتصار”. يُمكننا أن نؤمن بالتأكيد “بأنَّ المسيح هو فدائنا وفديتنا وكفَّارتنا” فقط من خلال رؤية المسيح كذبيحة (510-511).
-
جون أوين
نقل جون أوين الفهم المُصلح عن الكفَّارة البدليَّة إلى مرحلة التطوُّر الأكثر دقَّة ونضجًا في عمله “موت الموت في موت المسيح” (The Death of Death in the Death of Christ). وفيه رأى أنَّه في ذلك الموت، حقَّق المسيح بالفعل المُصالحة مع الله، والتبرير، والتقديس، والتبنِّي. لخَّص أوين قائلاً: “إنَّ موت يسوع المسيح وسفك دمه قد أحدث ودَبَّر بشكل فعَّال فداءً أبديًّا لكلِّ المعنيِّين بهذا العمل، والذي يشمل النعمة هنا والمجد في المستقبل” (جون أوين، كتابات جون أوين، 10: 159). ولتحقيق ذلك، أرسل الآبُ الابنَ باعتباره الوحيد القادر على تنفيذ عمليَّة الفداء بشكل فعَّال للنهاية، ووضع عليه الآب “كلَّ العقاب الذي كان بسبب الخطيَّة سواء وفقًا لصرامة عدل الله، أو وفقًا لمتطلّبات ذلك الناموس الذي يقتضي الطاعة”. كانت ذبيحته مقصودة وفعَّالة من أجل أولئك الذين أعطاهم الآب له. “من الواضح أنَّ كلَّ شخص مات المسيح من أجله يجب أن تسري عليه جميع الأمور الصالحة التي اشتراها بموته” (181).
-
والتر راوشينبوش
يمثِّل والتر راوشينبوش (1861-1918) منظورًا عن الكفَّارة يُمكن تصنيفه على أنَّه تأثير أخلاقيٌّ، أو الذي يُقدَّم بما يُعرف بالنظام الأخلاقيِّ. توجِّه وجهة النظر تلك الاتِّجاه مرَّة أخرى نحو نموذج أبيلارد الأساسيِّ. بالنسبة لروشنبوش، فإنَّ التقليد المنسوب إلى أنسلم “يُسيء إلى قناعاتنا الإيمانيَّة المسيحيَّة” من خلال “محو محبَّة الله ورحمته”، وهو “بعيد عن روح الإنجيل” (والتر راوشينبوش، لاهوت للإنجيل الاجتماعيِّ، 242–43). إنَّ محبَّة يسوع الشديدة لمهابة ومبادئ العدالة التي أرساها الآب، دون تردُّد وفي مواجهة معارضة قاتلة، يجب أن تؤثِّر علينا أيضًا في العمل من أجل تحقيق العدالة في هذا العالم. “لم يحمل يسوع بأيِّ حال خطيَّة رجل بريطانيٍّ ضرب زوجته عام 56 قبل الميلاد، أو متسلِّق للجبال في ولاية تينيسي ثمل في عام 1917 ميلاديًّا، لكنَّه حمل بالمعنى الحقيقيِّ الفعليِّ ثقل الخطايا العامَّة للمجتمع المنظَّم، وهي بدورها مرتبطة سببيًّا بجميع الخطايا الخاصَّة. قُتل يسوع لمعارضته هذه الخطايا العامَّة، فقد كانت تلك الخطايا “عناصر فاعلة في الإجراءات القانونيَّة التي أدَّت إلى موته”. وهي الشرُّ الذي نزل على المجتمع من خلال التَعَصُّب الدينيِّ، والفساد، والسلطة السياسيَّة، وفساد العدالة، وروح وأفعال الغوغاء، والتسلُّط العسكريِّ، والازدراء الطبقيِّ. ضمنت معارضته لهذه الخطايا الاجتماعيَّة موته من أجل خطايانا (248-58).