بعد أيامٍ قليلة مِن وفاة جدي، عثرت على شريط الفيديو الخاص بولادة ابني الأكبر. استمتعت أنا وزوجتي بمشاهدتهُ، وشعرنا أننا نعود بالزمن إلى الوراء 17 عامًا لتلك اللحظات الأولى مع ابننا: ولادته، وحفل تكريسهُ، والشهور الأولى مِن نموه وتحركاته. كان لجدي حضور واضح في كل المقاطع، وكانت رؤيته مرة أخرى وهو يتمتع بصحة جيدة وسماع صوته أمرًا مُؤلمًا بحق، خاصة بعد فترة وجيزة مِن حضور جنازته.
ربما كنت تتصفح وسائل التواصل الإجتماعي أو صورك القديمة، ثم وجدت فجأة صورة أو مقطع فيديو لأحد أفراد أسرتك أو أصدقاءك الذين فقدتهم أمامك. ومِن ثم يُباغتك الحزن مجددًا، ويأتيك ذلك الشعور الذي يُذكرك بفقدان هذا الشخص دون سابق إنذار، وتتوقف مُتألمًا.
يبدو لنا اليوم أن بعض رواد الكنيسة يؤمنون أن الحزن علامة ضعف، كما لو كان يجب على رجاءنا المسيحي أن يمنعنا مِن ذرف الدموع. ولكن مثل هذا الاعتقاد القاسي ترجع جذوره للفلسفة الرواقية وليست المسيحية الكتابية.
في رسالته إلى كنيسة تسالونيكي، ناقش بولس مسألة الحزن عندما تحدث عن مجيء يوم الرَّب قائلًا:
ثُمَّ لاَ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ الرَّاقِدِينَ، لِكَيْ لاَ تَحْزَنُوا كَالْبَاقِينَ الَّذِينَ لاَ رَجَاءَ لَهُمْ. لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذَلِكَ الرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ سَيُحْضِرُهُمُ اللهُ أَيْضاً مَعَهُ. (تسالونيكي الأولى 4: 13-14)
نعم سيحزن المؤمنون
يؤكد لنا بولس في ذلك النص أن الكنيسة ستحزن. أراد بولس ألا يجهل المؤمنين ذلك الحق كيما يختبروا الحزن بشكل مختلف عن العالم. لا يُدين بولس الحزن. بل في الواقع، يؤكد أننا سنحزن.
نحن نعلم أن الحزن ليس بشيء خاطئ لأننا رأينا يسوع يذرف الدموع أمام قبر لعازر. بكى يسوع، حتى وهو مُتيقن أنه سيُقيم لعازر مِن الموت! كان لديه رجاء مؤكد، ولكنه بكى. كان يعرف بحق الفرح الذي سيأتي، ولكنه بكى أيضًا.
وإذا كنت تلوم نفسك بصفة مستمرة لأن دموعك لم تجف بعد، وأنك لا تزال تشعر بالأسى والحزن لفقدانك أحد أفراد أسرتك وأن وألمك لم يُخمد، أترجاك اليوم أن تُحرر نفسك مِن توقعاتك الغير كتابية والغير واقعية أيضًا.
يُمكنك أن تحزن وتبكي لمجد الله. ولا يجب أن تُشعر نفسك أبدًا بالذنب لفعل شيء قام به يسوع. الحزن هو رد الفعل الطبيعي للخسارة. لم يُدين بولس، بأي شكل مِن الأشكال، الحزن؛ بل قدم لمؤمني تسالونيكي الرجاء الذي به يختبرون نوعًا مختلفًا مِن الحزن عن أولئك الذين لا يعرفون المسيح.
لنحزن بحسب الإنجيل
يختلف الحزن المسيحي عن حزن العالم بسبب ما تُعلنه رسالة الإنجيل. يوضح بولس في هذا النص أساس رسالة الإنجيل: لقد مات المسيح وقام مرة أخرى.
يذكر الكتاب المقدّس بوضوح أننا، عندما مات المسيح مِن أجل خطايانا ليُخلصنا، مُتنا معه. وإن كنا قد مُتنا معه، ونحيا مُتحدين به، فإننا سنقوم كما قام هو أيضًا.
وفي وصفه لكيفية عمل ذلك، استخدم بولس تشبيه الرقود [أي، النوم]. فبالنسبة لبولس، إن الموت المسيحي هو بمثابة غفوة طويلة، تجربة مؤقتة لا أكثر. فبالنسبة للمسيحيين، نحن نستريح لوقت بسيط، متوقعين استيقاظنا العظيم، أي قيامتنا.
يجب ألا نُسيء فهم تشبيه بولس للموت بالرقود. فهذا ليس نوم للروح، ولا يُقصد به بأن الشخص يكون فاقد للوعي وغير مُدرك لأي شيء لحين عودة المسيح. فبولس يذكر بوضوح في مواضع أخرى أنه عندما تنفصل الروح عن الجسد، تصير في محضر الرَّب. فجزء مِن رجائنا المسيحي هو أننا على يقين أنه في اللحظة التي يموت فيها المؤمن، تصير روحه حاضرة مع يسوع، وهذا الحضور يستلزم أن يصاحبه وعي الشخص بأنه في محضر المسيح.
ولكن هذا بكل تأكيد ليس رجائنا المسيحي بأكمله، لأننا على يقين أن الله لديه خطة للجسد أيضًا. سوف يُقيم الله أجسادنا، تمامًا كما أقام جسد المسيح.
ليمتزج حزننا بالرجاء
يجب أن نثق أن الله يرعى ويعتني بأحبائنا الذين رقدوا. يُمكننا أن نحزن لفقدانهم، ولكن نظل مملؤين بالرجاء، مُتيقنين أن القبر ليس النهاية. فبالنسبة للمؤمنين، يوجد قوة وسط الألم لأننا نعلم أن صباح يوم القيامة يتحدى الموت. يوجد رجاء وسط حزننا ودموعنا لأننا نعلم أن شوكة الموت قد انكسرت وأن الكلمة الأخيرة لن تكون للموت فيما بعد، بل ستكون ليسوع.
ولكن، أولئك الذين لم يضعوا ثقتهم في المسيح لن يكون لهم ذات الرجاء. في زمن بولس، قال رجل يُسمى ثيوقريطس: “الرجاء للأحياء. أما الموتى فليس لهم رجاء.” كان هذا هو المفهوم المُتعارف عليه للموت في أيام بولس، وأراد أن يحمي مؤمني تسالونيكي مِن الوقوع في فخ هذا النوع مِن الحزن مثل كل مَن حولهم.
وبعد عدة قرون، كَتَب أوغسطينوس معلقًا على النص ذاته قائلًا:
ولا تحزنوا كما يفعل غير المؤمنين الذين بلا رجاء، لأننا لدينا الرجاء المبني على وعد الله الراسخ، أننا لم نفقد أحبائنا الذين رحلوا عن هذه الحياة ولكنهم سبقونا فحسب، لذلك سننطلق نحن أيضًا في يومٍ ما، ونصل إلى تلك الحياة التي ستكون فيها معزتهم لدينا أعمق مِن أي وقت مضى، وسنقدر على حبهم مِن دون خوف الفراق.
يا له مِن تعليق رائع على هذا الرجاء الذي لنا كمؤمنين! لقد سبقونا فحسب. فمهما بدت الخسارة قاسية، إلا أننا لا نفقد إلى الأبد الإخوة والأخوات الذين لنا في المسيح. قد ننفصل عنهم لبعض الوقت، ولكن هناك لم شمل عظيم يُعد الآن، فيه سنحتفل ونفرح بحق وسيتلاشى الحزن، وفيه أيضًا سنقف جميعًا مُستمتعين في حضور مُخلصنا المُحب.