من الواضح أن قصدنا النهائي في خدمة الله في هذا العالم يجب أن يكون الانحياز إلى قصده لهذا العالم والانسجام معه. وأنا أرى أن قصد الله يمكن أن يكون مُلخّصاً في مزمور ٨٦: ٩ (من بين مواضع أخرى في كلمة الله).
“كُلُّ الأُمَمِ الَّذِينَ صَنَعْتَهُمْ يَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ يَا رَبُّ، وَيُمَجِّدُونَ اسْمَكَ”.
نقرأ هنا أن الله صنع الأمم (أو الشعوب)؛ والتضمين الواضح هنا هو أن له كل الحق في أن يتوقع عبادتهم وتمجيدهم له بصفته خالقاً لهم. لكن ليس هذا توقُّعاً فحسب، لكنه أيضاً تنبُّؤ بأن هذا سيحدث (انظر أيضاً مزمور ٢٢: ٢٧-٢٨). ويتوق التاريخ والكنيسة والإرساليات إلى ذلك اليوم الذي سينضم فيه أشخاص “مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ” (رؤيا ٥: ٩) إلى أجناد الملائكة حول العرش ليهتفوا معاً: “لِلْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَلِلْخَرُوفِ الْبَرَكَةُ وَالْكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ” (٥: ١٣) أمّا الآن “فالإرساليات موجودة لأن العبادة غير موجودة”، لكن في ذلك الوقت مستقبلاً “لن تكون هنالك أية إرساليات فيما بعد. فهي ضرورة مؤقّتة. أمّا العبادة فستستمر إلى الأبد”.[1]
ونحن ممتنون لله على أن هذا اليقين غير معتمد على أمانتنا أو عزمنا – وإنما على الله الذي يتنازل فيستخدمنا في قصده الشمولي لهذا العالم في جمع المتعبدين من أجل مجد اسمه. ليتنا لا ننسى أن هذا القصد وإتمامه هما مسؤولية الله!
من السهل أن نلتهي عن الله ونحن نحاول أن نخدمه. فقد نهمل، شأننا في ذلك شأن مرثا، الشيء الوحيد الذي له احتياج، ونبدأ نقدّم الله على أنه كائن مشغول ومتذمر ونكد المزاج. وقد حذّرنا أ. و. توزر من هذا الأمر: “غالباً ما نمثّل الله كأب مشغول متلهّف ومحبِط نوعاً ما متعجّل في البحث عمّن يمدّ له يد العون في تنفيذ خطته الخيّرة في جلب الخلاص والسلام إلى هذا العالم… وترتكز مناشدات إرسالية كثيرة جداً على هذا الإحباط المتوهَّم لله العلي”.[2]
لا تهدف رؤية العبادة بصفتها القصد النهائي للكنيسة وغايتها، وبالتالي قصد الإرساليات، إلى أن تكون سبب مناداة بتفوُّق إحدى “الدوائر” أو الخدمات في الكنيسة على كل الدوائر أو الخدمات الأخرى. فالعبادة حسب الفهم الكتابي الأوسع لها، بصفتها استجابتنا الكلية لمجد الله، هي شيء أكبر بكثير من موسيقى الكنيسة، ومن اجتماعات العبادة، ومن الكنيسة نفسها، وحتى من هذا العالم. لكن العبادة يجب أن تكون ذات أهمية مركزية لكل هؤلاء، لأنها ذات أهمية مركزية لقصد الله، كما تبين الآية التاسعة من المزمور ٨٦ بوضوح.
يتوجب أن تُفهم الكرازة في التحليل النهائي على أنها دعوة للناس رجالاً ونساءً إلى أن يصبحوا متعبدين لإله عظيم ومجيد من خلال العمل الفدائي لابنه. وتهدف الكرازة بكل بساطة إلى ربح مزيد من المتعبدين من أجل تمجيد اسم الله (لأنه مستحق لذلك، ولأن هذا كان قصده في صُنع الأمم وافتداء البشر). وقد نظر الرسول بولس أيضاً إلى الكرازة بصفتها عمل عبادة في حد ذاتها: “فَإِنَّ اللهَ الَّذِي أَعْبُدُهُ بِرُوحِي، فِي إِنْجِيلِ ابْنِهِ، شَاهِدٌ لِي…” (رومية ١: ٩). وقد اعتبرها بولس أيضاً ذبيحة عبادة روحية يقدّم بها المهتدين من الأمم إلى الله (رومية ١٥: ١٦).
وتحتاج زراعة الكنائس أيضاً إلى التركيز على العبادة (بمعناها الأوسع) كجوهر لها – لا أن تكون مجرد نشاط ضمن قائمة الأنشطة التي تشرف عليها الكنيسة، بل أن تكون نشاطاً عمودياً متمحوراً على الله وموجَّهاً إليه في كل حياة الكنيسة وخدمتها. تتضمن زراعة كنيسة، وبناء الجسد، والوصول بالبشارة إلى الهالكين – وهي كلها أنشطة وجهود حيوية – حسب تعريفها عنصراً أفقياً متمحوراً على الناس، وهي لهذا مجرد وسيلة لغاية أعظم. يجب أن نضع مسألة تعظيم اسم الرب أمام عيوننا دائماً كهدف وقصد صريحين لنا. فلا يجب أن يكون تركيزنا في نهاية المطاف على الاحتياجات البشرية وإنما على استحقاق الله (وهو ما يساعدنا بدوره في رؤية الاحتياجات البشرية من منظوره).
إننا نفقد بسهولة كبيرة الصورة الشاملة بسبب كل الأشياء الصاخبة التي تطالب باهتمامنا وطاقتنا! فليت الله يساعدنا، في وسط أنشطة الحياة وضغوطها (سواء كان ذلك في ميدان الخدمة أو في مواضع أخرى)، في أن نضع أمامنا دائماً إحساساً بالدهشة لعظمة مجده، وليت أولئك الذين نخدمهم يرون فينا ارتواء يجعلهم يتلهّفون على أن يطفئ الله العطش الموجود في نفوسهم، وأن يرغبوا في أن يشربوا ويشربوا بعمق أيضاً. ليت خدماتنا توقظ في الناس جوعاً أعمق إلى جعل الله يأخذ موقع المركز في حياتهم – ويتزايد عدد الأشخاص الذين “يَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ يَا رَبُّ، وَيُمَجِّدُونَ اسْمَكَ”.
[1] John Piper, Let the Nations Be Glad: The Supremacy of God in Missions, p. 11.
[2] Piper, Let the Nations Be Glad, p. 13.