التعريف
لطالما كانت عطيَّة الروح القدس هي وسيلة الله لتجديد شعبه وإعطائهم حياة جديدة وتمكين القادة الروحيِّين. ولكن منذ معجزة يوم الخمسين، صار الروح القدس يُعطى لجميع المؤمنين لتمكينهم من القيام بالخدمات واسعة التنوُّع التي يدعوهم الله إليها، ولتمكين الآيات والمواهب الخارقة للطبيعة، ولتوجيه المؤمنين في مهمَّتهم للمناداة برسالة الإنجيل.
المُلخَّص
الروح القدس لم يُعط فقط في العهد الجديد؛ فلقد كان عاملاً عبر كل العهد القديم: فالروح القدس هو قوَّة الله الخالقة، وكان مسؤولاً عن تمكين القادة المدنيِّين والعسكريِّين في أُمَّة إسرائيل، ومَسَح ملوك إسرائيل ليمكِّنهم من تحقيق دعوتهم. ومنذ معجزة يوم الخمسين، التي كانت تحقيقًا لنبوَّة العهد القديم، أُعطيَت الكنيسة المسيحيَّة الروحَ القدسَ بطريقة ديمقراطيَّة. فالآن، يَقْبَلُ جميع المؤمنين عطيَّة الروح القدس لتمكِّنهم من القيام بالخدمات المتنوِّعة التي يدعوهم الله إليها. الروح القدس أيضًا يمكِّن المواهب والآيات الخارقة للطبيعة من العمل، مثل النبوَّة والتكلُّم بالألسنة. ويرشد الروح القدس المؤمنين في إيمانهم، وهو الختم عليهم بأنَّهم سيرثون في النهاية كل بركات المسيح. وفوق كل شيء، يُعطى الروحُ القدسُ لتسليط الضوء على يسوع وتوجيه تركيز ثقة قلوبنا وعبادتها عليه وحده.
يخطئ كثيرون إذ يعتقدون أن الروح القدس يَظهر لأوَّل مرة بين شعب الله في يوم الخمسين في أعمال الرسل 2. غير أنَّنا لن نفهم تمامًا عَظَمَةَ عطيَّة روح الله لنا حتى نفهم وجوده وقوَّته في العهد القديم.
يَظهر المصطلح العبري “رواخ” (نَفَس، ريح، روح) 377 مرَّة في العهد القديم (فقط 264 من هذه المرَّات، تُرجم إلى اليونانيَّة “نيما” في الترجمة السبعينيَّة). وتشير 94 مرَّة من هذه الـ 377 إلى روح الله. يُطلق على روح الله لفظ “روحك القدُّوس” ثلاث مرَّات في العهد القديم (مزمور 51:11؛ إشعياء 63: 10-11). غالبًا ما يدل لفظ “رواخ” بالعبريَّة على الروح البشريَّة، وصفًا للحياة أو دليلاً عليها (انظر هوشع 4: 12؛ 5: 4؛ إشعياء 54: 6؛ راجع أيضًا أمثال 11: 13؛ 15: 13؛ 16: 18؛ 18: 14؛ 29: 23؛ الجامعة 1: 14، 17؛ 2: 11، 17؛ 3: 21؛ 4: 4، 6؛ 10: 4؛ أيوب 7: 11؛ 10: 12). يؤكِّد أنثوني ثيسلتون (Anthony Thiselton) أنَّه يجب ألاَّ تُعطى أي أهميَّة لحقيقة أن “رواخ” مؤنَّثة. فهو يذكر أنَّه “من قبيل الصدفة أن تكون كلمة ’روح‘ (رواخ) في اللغة العبريَّة مؤنَّثة، وكلمة ’روح‘ (نيوما) في اليونانيَّة محايدة. فهذا لا يعني أن اليونانيِّين اعتبروا الأطفال أشخاصًا ثانويِّين أو أقل أهميَّة لمجرَّد أن كلمة ’طفل‘ (تيكنون) في اليونانيَّة محايدة” (انظر كتابه: The Holy Spirit—In Biblical Teaching, through the Centuries, and Today، ص121).
كان روح الله يعمل بعدَّة طرق في العهد القديم. يُصوَّر الروح القدس بأنَّه قوَّة الله الخالقة كما أنَّه هو المسؤول عن إحياء وإعطاء الحياة الجديدة لكلٍّ من الخليقة الماديَّة والبشريَّة (انظر تكوين ١: ٢؛ مزمور 104: 30؛ إشعياء 32: 14-15؛ 63: 11-14؛ أيوب 33: 4). الروح مسؤول أيضًا عن تمكين كلٍّ من القادة المدنيِّين والعسكريِّين في أُمَّة إسرائيل (عدد 11: 16-17). في سفر القضاة، باستثناء أبيمالك، حصل سبعة قضاة على الأقل على تمكين الروح القدس لأداء الخدمات بالنيابة عن جماعة إسرائيل بكاملها (على سبيل المثال، انظر قضاة 3: 10؛ 6: 34). مكَّن الروحُ القدس قادة عسكريِّين مثل يشوع (عدد 27: 18). ونستطيع أن نرى هذا بالأخص في حالة شمشون (قضاة 14: 5-6؛ 15: 14-15؛ 16: 20).
مَسَح الروح القدس ملوكًا في إسرائيل ليمكِّنهم من تحقيق دعوتهم (راجع ١ صموئيل 10: 1-10؛ 16: 12-14). كما مكَّن الروح القدس وزوَّد البعض بمهارات فريدة من أجل شعب إسرائيل، مثل أولئك الذين كُلِّفوا ببناء خيمة الاجتماع (خروج 31: 1-4). وحافظ الروح على وجود علاقة مهمَّة وخاصة مع أولئك الذين دُعوا أنبياء (انظر عدد 11: 24-30؛ 2 صموئيل 23: 1-2؛ 1 كورنثوس 12: 18؛ 2 كورنثوس 15: 1-2؛ 20: 14؛ ميخا 3: 8). وقد مكَّن الروحُ القدسُ أيضًا البعض من التفوُّق في تفسير الأحلام والرؤى الإعلانيَّة (دانيال 4: 8-9؛ 18؛ 5: 11، 14). أن يكون المرءُ في محضر الله يعني أن يكون في محضر روحه القدُّوس (مزمور 139: 7).
وفي نصوص عديدة كان روح الله مسؤولاً عن خلاص شعب الله وتجديده في المستقبل. فكان حضور الروح القدس وقوَّته سوف يميِّزان خدمة المسيَّا وسيكونان محوريَّين في تتميم العهد الجديد والأبدي.
“وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ، وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ”. (إشعياء 11: 1-2؛ انظر أيضًا 42: 1؛ 59: 21؛ 61: 1؛ حزقيال 11: 19؛ 36: 26-27؛ يوئيل 2: 28-29)
تُلقي هذه النصوص العديدة ضوءًا ملحوظًا على ما كان يدور في ذهن داود في مزمور 51: 11 عندما صلَّى: “وَرُوحَكَ الْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي”. هذا لا يعني أنه يتصوَّر فقدانه الخلاص أو سحب النعمة الإلهيَّة منه. فكما أشرنا سابقًا، بخلاف الدور الذي يقوم به الروح القدس في الخلاص في العهد القديم، وخدمة تمكينه للمؤمنين التي يُقدَّس بها المؤمنون ويُعطَون القدرة على عيش حياة القداسة، سُكب الروح القدس أيضًا على أفراد مختارين لتجهيزهم لأداء مهام جليلة في إسرائيل، جماعة العهد.
كما تدل هذه النصوص على وجود خدمة للروح القدس في العهد القديم، ليس لها علاقة بالخلاص الشخصي، وهي مصمَّمة فقط لتمكين وتجهيز شخصٍ ما لمهمَّةٍ عيَّنه الله لها. هذا، حسبما أعتقد، هو ما كان يدور في ذهن داود في مزمور 51: 11. فقد كانت صلاته هي أن لا ينزع الله منه مسحة الروح التي تُمكِّنه وتؤهِّله لقيادة إسرائيل كملك. في الواقع، ربَّما كان يدور في ذهنه ذلك المشهد المزعج حيث “ذَهَبَ رُوحُ الرَّبِّ مِنْ عِنْدِ شَاوُلَ” (1 صموئيل 16: 14)، وها هو يصلِّي لئلاَّ يصيبه مثل هذا المصير أبدًا.
ورغم أن العهد القديم صامت إلى حدٍّ كبير عمَّا أصبح يُعرف لاحقًا بالطبيعة الثالوثيَّة لوجود الله، فلا يوجد أي شك في حقيقة أن الروح هو حقًّا إله. ونرى هذا في مزمور 51: 11، 104: 29-30، 139: 7، وحجَّي 2: 4-5.
عطيَّة الروح القدس في العهد الجديد
يوم الخمسين هو اليوم الذي يأتي عادةً في اليوم الخمسين بعد سبت الفصح في التقويم الكنسي (انظر خروج 23: 16؛ 34: 22؛ لاويين 23: 15-16؛ تثنية 16: 9-10،16؛ 2 أخبار الأيام 8: 13). في يوم الخمسين انسكب الروح القدس على أتباع يسوع. وكما ذكرنا، لم يكن هذا هو الظهور الافتتاحي لروح الله، ولكنَّ بُعدًا جديدًا وأكثر اتِّساعًا لنشاطه وحضوره المعطي قوَّة في المؤمنين هو الذي بدأ في ذلك اليوم.
أعطى يسوع هذا الوعد لتلاميذه في عشية صعوده: “وَهَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي. فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي” (لوقا 24: 49). كان هذا الحدث ظاهرة فريدة لا تتكرَّر في تاريخ الفداء. فهناك يومُ خمسين واحدُ هو يوم الخمسين الذي انسكب فيه الروح القدس على شعب الله. ومع أن يوم الخمسين وانسكاب الروح القدس قد حدث مرةً واحدةً فقط، إلاَّ أن آثار وثمر مجيء الروح القدس تُختبر في جميع الأوقات على مدار تاريخ الكنيسة.
يُخبرنا نص أعمال الرسل 2: 2–3 بأنه عندما جاء الروح القدس، حدث “صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ” ملأ البيت الذي كانوا مجتمعين فيه. هذا منطقي، إذ إن الكلمة اليونانيَّة التي تُرجمت “الروح” (نيوما pneuma) هي أيضًا الكلمة اليونانيَّة نفسها التي تُترجم إلى “ريح” أو “نَفَس”. وكلمة “ريح” هي رمز متكرِّر للروح القدس (راجع يوحنا 3: 8؛ حزقيال 37: 9-14). غير أنَّ آخرين يجادلون بأنه لا يمكن الاتِّكال كثيرًا على هذا نظرًا لحقيقة أن الكلمة اليونانيَّة المترجمة “ريح” في أعمال الرسل 2: 2 ليست “نيوما” ولكنها “نوي” (pnoē).
وبالمِثْلِ، تُخبرنا الآية 3 أن “أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ” ظهرت للجميع و”استقرَّت” على كل واحدٍ منهم. كما ذُكر سابقًا، في زمن العهد القديم، كان الروح القدس يخدم في إسرائيل بشكل جماعي وأُعطي لأفراد مختارين (مثل الملوك، والكهنة، والأنبياء)، لكن ليس للجميع. أمَّا في العهد الجديد فيأتي الروح ويَسْكُنُ بداخل كل مؤمنٍ بشكل فردي. هذا هو “إضفاء الطابع الديموقراطي” لعمل الروح القدس.
هذه النقطة تؤكِّدها الآيةُ 17، حيث يقتبس بطرس نبوَّة يوئيل التي تقول إنه عندما يأتي الروح سوف يُسكب “على كل بشر”، أي إنه سيُسكب ليس فقط على الملوك والأنبياء والكهنة بل وعلى كلِّ ابنٍ لله: كل رجل وامرأة، كل ابن وابنة، صغير وشيخ (انظر أعمال الرسل 2: 17). انظر عن قرب إلى مدى حضور الروح القدس: “كل بشر” (2: 17)، أي بغض النظر عن السن (“الشيوخ” و”الشباب”)، بغض النظر عن الجنس (“الأبناء” و”البنات” و”الخُدَّام” و”الخادمات”)، دون الوضع في الاعتبار أو إعطاء امتيازات خاصة للرتبة الاجتماعيَّة (“العبيد”)، وللناس من كل عِرق (“كل بشر”؛ راجع 2: 39؛ أي اليهود والأمم على حدٍّ سواء).
يخبرنا الرسول بطرس، نقلاً عن يوئيل، أن ما حدث في يوم الخمسين هو شيء سوف يميِّز “الأيام الأخيرة”. و”الأيام الأخيرة” هو مصطلح يشير إلى كل العصر الواقع بين مجيئيِّ المسيح (انظر 2 تيموثاوس 3: 1؛ عبرانيِّين 1: 1-2؛ 9: 26؛ يعقوب 5: 3؛ 1 بطرس 1: 20؛ 1 يوحنا 2: 18؛ راجع أيضًا 1 كورنثوس 10: 11؛ 1 تيموثاوس 4: 1).
معنى يوم الخمسين
مع أن الروح كان نشطًا جدًّا في زمن العهد القديم، فإن يوم الخمسين يُمثِّل أول ظهور لملء الروح القدس لتمكين كل شعب الله وسُكناه الدائمة فيهم وتشجيعهم بشكل فردي. والأحداث المُسجَّلة في سفر أعمال الرسل هي أيضًا تحقيق لثلاث أقوال نبويَّة: أوَّلاً، نبوَّة يوئيل 2: 28-32 (وفقًا لشروط العهد الجديد)؛ ثانيًا، نبوَّة يوحنا المعمدان في متى 3: 11-12؛ وثالثًا، نبوَّة يسوع نفسه في يوحنا 14-16 عن “المعزِّي الآخر”. كانت عطيَّة الروح هذه في حد ذاتها هي عمل المسيح المُقام من بين الأموات:
“فَيَسُوعُ هذَا أَقَامَهُ اللهُ، وَنَحْنُ جَمِيعًا شُهُودٌ لِذلِكَ. وَإِذِ ارْتَفَعَ بِيَمِينِ اللهِ، وَأَخَذَ مَوْعِدَ الرُّوحِ الْقُدُسِ مِنَ الآبِ، سَكَبَ هذَا الَّذِي أَنْتُمُ الآنَ تُبْصِرُونَهُ وَتَسْمَعُونَهُ”. (أعمال الرسل 2: 32-33)
عمل الروح القدس القوي الذي أتى في يوم الخمسين
ولكن لماذا أُعطي الروح بهذه الطريقة، عالميًّا، لجميع شعب الله، ليسكن فيهم بشكل دائم؟ توجد أجوبة عديدة في سفر أعمال الرسل نفسه.
أوَّلاً، يملأ الروحُ القدسُ رجالَ الله ويمنحهم قوَّة لينادوا بالإنجيل بجرأة. عندما سُئل بطرس عن القوَّة التي شُفي بها الرجل الأعرج منذ ولادته، نقرأ ما يلي:
“حِينَئِذٍ امْتَلأَ بُطْرُسُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَقَالَ لَهُمْ …” (أعمال الرسل 4: 8)
كان هذا تحقيقًا لشيء تنبَّأ به يسوع نفسه:
“فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ، أَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ”. (متى 10: 20)
كان الروح القدس ساكنًا في بطرس بالفعل، لكنْ في هذه المناسبة كان بحاجة إلى قوَّة غير عاديَّة. نقرأ عن الأمر نفس لاحقًا في أعمال الرسل 4:
“وَلَمَّا صَلَّوْا تَزَعْزَعَ الْمَكَانُ الَّذِي كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِيهِ، وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِكَلاَمِ اللهِ بِمُجَاهَرَةٍ”. (أعمال الرسل 4: 31؛ راجع أيضًا أعمال الرسل 5: 32؛ 6: 10؛ 9: 17-19؛ 13: 9-11؛ 18: 25)
كان هذا هو الحال بشكل خاص عندما كان استفانوس يشهد ليسوع أمام القادة الدينيِّين. ففي مواجهة الموت المؤكَّد، وَجد استفانوس الشجاعة والقوَّة والجرأة لينادي بحق الإنجيل بلا خجل. كيف فعل هذا؟ هذا ما نقرأه في أعمال الرسل 7:
“فَلَمَّا سَمِعُوا [القادة الدينيُّون] هذَا حَنِقُوا بِقُلُوبِهِمْ وَصَرُّوا بِأَسْنَانِهِمْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا هُوَ [استفانوس] فَشَخَصَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، فَرَأَى مَجْدَ اللهِ، وَيَسُوعَ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ اللهِ. فَقَالَ: «هَا أَنَا أَنْظُرُ السَّمَاوَاتِ مَفْتُوحَةً، وَابْنَ الإِنْسَانِ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ اللهِ»”. (أعمال الرسل 7: 54-56).
وبعبارة أخرى، قد نمتلئ بالروح القدس في حالة طوارئ روحيَّة. وتكون هذه منحة خاصة جدًا من قوَّة الروح القدس لإنجاز عمل مهم وعاجل بشكل خاص. وهكذا، فإن أي شخص مملوء من الروح القدس قد يختبر ملئًا أكثر أو مزيدًا من الملء. أي بغض النظر عن “مقدار” الروح القدس الذي لدى المرء، يوجد دائمًا مُتَّسع لـ “المزيد” (انظر أعمال الرسل 4: 8، 31؛ 13: 9؛ لوقا 1: 41، 67).
ثانيًا، كان سكنى الروح القدس المانح للقوَّة ضروريًّا لتنفيذ رجالِ الله أنواع الخدمة المختلفة التي كانوا مسؤولين عنها. يَظهر مثال على ذلك في أعمال الرسل 6، حيث إن أحد المؤهِّلات لخدمة الشمَّاس في الكنيسة المحليَّة هو أن يكون الشخص “ممتلئًا من الروح القدس” (أعمال الرسل 6: 3؛ 11: 23-24؛ 13:52). وحتى الشيوخ يُحدِّدهم الروح القدس ويجهزهم ويُعيِّنهم. قال بولس لشيوخ الكنيسة في أفسس:
“اِحْتَرِزُوا إِذًا لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ الرَّعِيَّةِ الَّتِي أَقَامَكُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً، لِتَرْعَوْا كَنِيسَةَ اللهِ الَّتِي اقْتَنَاهَا بِدَمِهِ”. (أعمال الرسل 20: 28)
ثالثًا، ذُكر صراحةً أن القدرة على صُنع آيات وعجائب ومعجزات هي عمل الروح القدس في رجال الله ومن خلالهم. فعلى سبيل المثال،
“وَأَمَّا اسْتِفَانُوسُ فَإِذْ كَانَ مَمْلُوًّا إِيمَانًا وَقُوَّةً، كَانَ يَصْنَعُ عَجَائِبَ وَآيَاتٍ عَظِيمَةً فِي الشَّعْبِ”. (أعمال الرسل 6: 8؛ راجع أعمال الرسل 4: 30؛ 10: 38)
نجد في كتابات لوقا أن كلمة “قوَّة” تأتي تقريبًا دائمًا مرادفة للروح القدس.
رابعًا، إن الروح القدس هو الذي يخاطب رجال الله ويرشدهم فيما يتعلَّق بأين ومَتَى ولمن يجب أن تقدَّم الخدمة. إن تفسير سبب كرازة فيلُبُّس للخَصِيِّ الإثيوبي مذكور بوضوح:
“فَقَالَ الرُّوحُ لِفِيلُبُّسَ: «تَقَدَّمْ وَرَافِقْ هذِهِ الْمَرْكَبَةَ»”. (أعمال الرسل 8: 29؛ انظر الآية 39؛ 10: 19-20؛ 11: 12)
يظهر بوضوح في أعمال الرسل 13: 2 دورُ الروح القدس في تقديم الإرشاد من أجل الخدمة الإرساليَّة للكرازة بالإنجيل:
“وَبَيْنَمَا هُمْ يَخْدِمُونَ الرَّبَّ وَيَصُومُونَ، قَالَ الرُّوحُ الْقُدُسُ: «أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ الَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ» … فَهذَانِ إِذْ أُرْسِلاَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ …” (أعمال الرسل 13: 2، 4)
وبالمِثْلِ، نقرأ في أعمال الرسل 16 عن كيفيَّة إعادة توجيه بولس إلى مكدونية:
“وَبَعْدَ مَا اجْتَازُوا فِي فِرِيجِيَّةَ وَكُورَةِ غَلاَطِيَّةَ، مَنَعَهُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْكَلِمَةِ فِي أَسِيَّا. فَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مِيسِيَّا حَاوَلُوا أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى بِثِينِيَّةَ، فَلَمْ يَدَعْهُمُ الرُّوحُ”. (أعمال الرسل 16: 6-7؛ راجع 15: 28؛ 19: 21؛ 21: 22-23)
خامسًا، لقد استطاع رجال الله بفضل قوَّة الروح القدس أن يتنبَّؤوا ويتكلَّموا بألسنة. نقرأ في أعمال الرسل 11: 27-30 عن الأنبياء الذين سافروا من أورشليم إلى أنطاكية:
“وَقَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ اسْمُهُ أَغَابُوسُ، وَأَشَارَ بِالرُّوحِ أَنَّ جُوعًا عَظِيمًا كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَصِيرَ عَلَى جَمِيعِ الْمَسْكُونَةِ”. (أعمال الرسل 11: 28؛ راجع 21: 4، 10-11)
“وَلَمَّا وَضَعَ بُولُسُ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْهِمْ، فَطَفِقُوا يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَاتٍ وَيَتَنَبَّأُونَ”. (أعمال الرسل 19: 6)
عندما ننظر إلى ما أبعد من سفر أعمال الرسل، نرى الروح القدس يجدِّد أولئك الذين كانوا قبلاً أمواتًا في الذنوب والخطايا (يوحنا 3: 1-8؛ تيطس 3: 4-7)، ويمكِّن المؤمن من مقاومة إغراء الخطيَّة الخادع (رومية 8: 4-5، 13). ووجود الروح القدس وسكناه في الشخص هو في حد ذاته علامة على أنه مِلك للمسيح (رومية 8: 9-11؛ راجع أفسس 2: 22). والروح الذي يقود المؤمنين (رومية 8: 14) يوقظ في داخلنا حقيقة مكانتنا بصفتنا أولاد الله بالتبنِّي (رومية 8: 15؛ غلاطية 4: 6-7) و”يَشْهَدُ لِأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلَادُ ٱللهِ” (رومية 8: 16). يشفع الروح فينا عندما نكون ضعفاء أو جهلاء لا نعرف كيف نصلِّي (رومية 8: 26-27) ويهب لنا مواهب حتى نخدم بعضنا بعضًا لبنيان كل شخص (رومية 12: 6-8؛ 1 كورنثوس 12: 7-11). وفي الروح القدس يُعمِّدنا المسيح، ممَّا يؤدِّي إلى انضمامنا إلى ذلك الكِيان الروحي، الذي هو جسد المسيح (1 كورنثوس 12: 13).
إن عطيَّة الروح القدس لنا هي “ضمان” الله (2 كورنثوس 1: 22) و”الختم” بأننا حتمًا سنرث ملء وعوده (انظر أفسس 1: 13-14؛ 2 تيموثاوس 1: 14). فالروح، وليس الجسد، هو الذي يمكِّننا من أن نثمر ثمرًا روحيًّا لمجد الله (غلاطية 5: 16-26). ويُعدُّنا الروح لمحاربة الشيطان ويُنشِّط صلواتنا (أفسس 6: 10-20) ويملأنا بالفرح حتى في خضم التجربة والألم (1 تسالونيكي 1: 6؛ 2 تيموثاوس 1: 6-8؛ 1 بطرس 4: 14). وفوق كلِّ شيء، يُعطَى الروحُ القدسُ لتسليط الضوء على يسوع وتوجيه تركيز ثقة قلوبنا وعبادتها عليه وحده (يوحنا 14: 25-26؛ 15: 26؛ 16: 7-15).