الوثائق التأسيسيّة لهيئة ائتلاف الإنجيل

الإنجيل لأجل كل الحياة: افتتاحيّة

نحن شركة من الكنائس الإنجيليّة المُكرَّسة بالكامل لأجل تجديد إيماننا بإنجيل المسيح، ولأجل إصلاح ممارساتنا في الخدمة كي تتوافق تمامًا مع الكتاب المقدس. فإننا نعاني من قلق شديد بشأن بعض الحركات التي برزت بداخل المذهب الإنجيلي الكلاسيكي، والتي تبدو أنّها تحط من شأن حياة الكنيسة، وتدفعنا بعيدًا عن معتقداتنا وممارساتنا الهامة. فمن جهة، نشعر بالقلق إزاء وثنيّة الاستهلاكيّة الشخصيّة، وإضفاء الطابع السياسي على الإيمان؛ ومن جهة أخرى، ننزعج بسبب قبول النسبيّة اللاهوتيّة والأخلاقيّة بدون اعتراض عليها. وقد قادت هذه الحركات إلى التخلي بسهولة عن كلٍ من الحق الكتابي والحياة المتغيرة اللذين يلزمنا بهما إيماننا القويم. ولا نسمع عن هذه التأثيرات فحسب، لكننا نشهد أيضًا نتائجها. وقد كرّسنا أنفسنا لمهمّة إنعاش وتنشيط الكنائس برجاءٍ جديدٍ وفرحٍ لا يُقاوَم مُؤسّس على الوعود التي نلناها بالنعمة وحدها، من خلال الإيمان وحده بالمسيح وحده.

ونعتقد أنه يوجد في كثير من الكنائس الإنجيليّة إجماع واسع النطاق على حقائق الإنجيل. ومع ذلك فكثيرًا ما نرى الاحتفال باتحادنا مع المسيح يُستبدَل بجاذبيّة السلطة والثروة الموجودة منذ القدم، أو بالانسحاب الرهباني إلى الطقوس، والليتورجيّات، والفرائض. لكن ما يحل محل الإنجيل لن يعزّز قط إيمانًا مُثقّلاً بالإرساليّات، راسخًا في حق ثابت يتبرهن في تلمذة تعمل دون خجل، مُتلهّفة للصمود أمام امتحانات دعوة الملكوت وتضحياته. نحن نبغي أن نتقدم في طريق الملك، هادفين دائمًا إلى تقديم تأييد، وتشديد، وتدريب، بالإنجيل حتى يتأهل الجيل الحالي والقادم من قادة الكنيسة على نحو أفضل لدعم خدماتهم بمبادئ وممارسات تمجّد المخلّص وتصنع حسنًا لمن قد سفك دمه لأجلهم.

نحن نبغي أن نُولِّد جهدًا موحَّدًا بين جميع الشعوب — جهدًا غيورًا على إكرام المسيح ومضاعفة تلاميذه، بالانضمام معًا إلى ائتلاف حقيقي لأجل يسوع. مثل هذه المُهمة المُوحَّدة والموضوعة على أساس كتابي هي المستقبل الوحيد الثابت للكنيسة. تدفعنا هذه الحقيقة إلى الوقوف مع الآخرين الذين تحركهم القناعة بأن رحمة الله في يسوع المسيح هي رجاؤنا الوحيد في الخلاص الأبدي. ونرغب في أن نناصر هذا الإنجيل بوضوح، ورأفة، وشجاعة، وفرح — رابطين قلوبنا بسرور بقلوب إخوتنا المؤمنين عبر الطوائف، والأعراق، والطبقات.

ولنا اشتهاء أن نخدم الكنيسة التي نحبها بأن ندعو جميع إخوتنا وأخواتنا للانضمام إلينا في بذل جهد لتجديد الكنيسة المُعاصرة وفقًا للإنجيل العريق للمسيح، حتى يتسنّى لنا أن نتحدّث حقًا عنه ونحيا لأجله بطريقة مواكبة لعصرنا. ونحن كرعاة، ننوي أن نفعل هذا في كنائسنا من خلال وسائط نعمته العاديّة وهي: الصلاة، وخدمة الكلمة، والمعموديّة وعشاء الرب، وشركة القديسين. إننا نتوق إلى العمل مع كل من يقبل إقرار الإيمان والرؤية المنصوص عليها هنا، ويسعون نحو سيادة المسيح في كامل مجالات الحياة برجاء لا يشوبه حرج في قوة الروح القدس لتغيير الأفراد، والمجتمعات، والثقافات. ستجد مرفق هنا كل من إقرار إيماننا ورؤيتنا اللاهوتيّة
للخدمة — وهي رؤية لها أساس راسخ في الكتاب المقدس وتركز على رسالة الإنجيل.

إقرار إيمان هيئة ائتلاف الإنجيل:

١- الله الثالوث:

نؤمن بإله واحد، موجود منذ الأزل في ثلاثة أقانيم متساوين في اللاهوت: الآب، والابن، والروح القدس، يعرفون ويحبّون ويمجّدون بعضهم البعض. هذا الإله الواحد الحي والحقيقي هو إله كامل كمالاً غير محدود في كل من محبته وقداسته. هو خالق كل الأشياء، ما يرى وما لا يُرى، ولذلك فهو يستحق أن يأخذ كل المجد وكل العبادة. وإذ هو خالد وسرمدي، فهو يعرف بشكلٍ كاملٍ وشاملٍ النهاية منذ البدء، وفيه يقوم الكل، وهو يحكم بسيادة كل شيء، وفي عنايته الإلهيّة يحقّق مقاصده الأزليّة الصالحة بأن يفتدي لنفسه شعبًا، ويرد خليقته الساقطة، لمدح مجد نعمته.

٢- الإعلان:

لقد أعلن الله بنعمته عن وجوده وسلطانه في النظام المخلوق، وأعلن الإعلان الأسمى عن نفسه للبشر الساقطين في شخص ابنه، الكلمة المتجسّد. علاوة على ذلك، هذا الإله هو إله يتكلم، فهو بروحه قد أعلن عن نفسه بنعمته في كلمات بشريّة: نؤمن أن الله أوحى بالكلمات المُسجَّلة في الكتاب المقدس، أي الستة وستين سفرًا للعهدين القديم والجديد، اللذين يُعد كلاهما سجلاً وواسطة لعمله الخلاصي في العالم. هذه الكتابات وحدها تمثّل كلمة الله الموحى بها شفهيًا، والتي لها سلطان تام، ومعصومة في الكتابات الأصليّة، وكاملة في إعلانها عن إرادته لأجل الخلاص، وكافية لكل ما يطالبنا الله بأن نؤمن به ونعمله، وقاطعة في سلطانها على كل مجال من مجالات المعرفة التي تتناولها. كما نقر بأن محدوديتنا وأيضًا كوننا خاطئين يعيقان إمكانية معرفة الحق الإلهي بشكل تام، لكننا نؤكد أننا، إذ نستنير بروح الله، يمكننا أن نعرف بصورة صحيحة الحق المُعلَن. ينبغي تصديق الكتاب المقدس، باعتباره تعليم وإرشاد الله، في كل ما يُعلِّمه؛ كما ينبغي طاعته، باعتباره وصايا الله، في كل ما يُطالب به؛ وينبغي أيضًا الوثوق به، باعتباره تعهد الله، في كل ما يعد به. وحين يستمع شعب الله إلى الكلمة، ويصدقونها، ويعملون بها، يتأهّلون ليصيروا تلاميذ للمسيح وشهودًا للإنجيل.

٣- خلق الجنس البشري:

نؤمن أن الله قد خلق البشر، ذكرًا وأنثى، على صورته. فإن آدم وحواء ينتميان إلى النظام المخلوق الذي أعلن الله بنفسه أنه حسن جدًا، وهما كانا وكيلين عن الله للعناية بالخليقة، ولإدارتها، والتسلّط عليها، وكانا في شركة مقدسة وخاصة مع خالقهم. فإن الرجال والنساء، المخلوقين بالتساوي على صورة الله، يتمتعون بالتساوي بحق الاقتراب إلى الله بالإيمان بالمسيح يسوع، وهم مدعوون أيضًا لتخطّي التدليل السلبي لذواتهم إلى الانخراط الخاص والعام الواضح في العائلة، والكنيسة، والحياة المدنيّة. فقد خُلق آدم وحواء ليكمل أحدهما الآخر في اتحاد في جسد واحد يرسّخ النمط المعياري الوحيد للعلاقات الجنسيّة للرجال والنساء، حتى صار الزواج في النهاية رمزًا للاتحاد بين المسيح وكنيسته. ففي مقاصد الله الحكيمة، لم يجعل الرجال والنساء قابلين للتبادل، بل بالأحرى هم يكمّلون بعضهم بعضًا بطرق تثريهم بصورة مشتركة. فالله عيّن أن تكون لهم أدوار متباينة تعكس علاقة المحبة بين المسيح والكنيسة، حيث يمارس الزوج الرئاسة والقيادة على نحو يُظهر محبة المسيح الراعية، والباذلة، كما أن الزوجة تخضع لزوجها على نحو يُقدم نموذجًا لمحبة الكنيسة لربها. ففي خدمة الكنيسة، يتم تشجيع كل من الرجال والنساء على أن يخدموا المسيح، ويتقدموا حتى يصلوا إلى كامل طاقاتهم في الخدمات المتنوعة لشعب الله. والدور القيادي المُميَّز داخل الكنيسة المُعطى لرجال مؤهّلين هو دور مؤسس في الخليقة، والسقوط، والفداء، ولابد ألا يتم تهميشه من خلال اللجوء إلى التطوّرات الثقافيّة.

٤- السقوط:

نؤمن أن آدم، المخلوق على صورة الله، قد شوّه تلك الصورة، وفقد حالة النعيم الأصليّة — له ولنسله — بسقوطه في الخطية بغواية إبليس. وكنتيجة لهذا، جميع البشر متجنّبون عن حياة الله، فاسدون في جميع جوانب كيانهم (على سبيل المثال: جسديًا، وعقليًا، وإراديًا، وعاطفيًا، وروحيًا)، وصار محكومًا عليهم نهائيًا ودون رجعة بالموت — بعيداً عن تدخل الله برأفته. فإن الحاجة القصوى لجميع البشر هي أن يتصالحوا مع الله، الذي نقف جميعنا تحت غضبه العادل والمقدس. فإن الرجاء الوحيد لجميع البشر يكمن في محبة هذا الإله ذاته التي لا يستحقونها، ذلك الإله الذي وحده يمكنه أن ينجّينا ويردّنا إليه.

٥- خطة الله:

نؤمن أن الله منذ الأزل عيّن بالنعمة أن يخلّص جموعًا غفيرة من الخطاة المذنبين من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة، ولأجل هذا الهدف، سبق فعرفهم واختارهم. نؤمن أن الله يُبرّر ويُقدّس من لهم بالنعمة إيمان بيسوع، وأنه يومًا ما سيُمجّدهم — وهذا كله لمدح مجد نعمته. فإن الله في المحبة يأمر جميع البشر ويناشدهم أن يتوبوا ويؤمنوا، إذ تعلّق بمحبته الخلاصيّة بمن اختارهم، وعيّن المسيح فاديًا لهم.

٦- الإنجيل:

نؤمن أن الإنجيل هو الخبر السار عن يسوع المسيح — حكمة الله. وهو جهالة تامة للعالم، مع أنّه هو قوة الله لمن يخلصون. هذا الخبر السار يتعلّق بالمسيح، إذ يتمحور حول الصليب والقيامة: فلا مناداة بالإنجيل دون مناداة بالمسيح، ولا مناداة بالمسيح الحقيقي إن لم يكن موته وقيامته في المركز (الرسالة هي “المسيح مات لأجل خطايانا وأقيم”). هذا الخبر السار كتابي (فإن موته وقيامته هما بحسب الكتب)، ولاهوتي، وخلاصي (المسيح مات لأجل خطايا، كي يصالحنا لله)، وتاريخي (إن لم تكن الأحداث الخلاصيّة قد وقعت، فإن إيماننا باطل، نحن بعد في خطايانا، ونحن أشقى جميع الناس)، ورسولي (فقد اؤتمن الرسل على الرسالة، ونقلوها، وهم من كانوا شهودًا عن هذه الأحداث الخلاصيّة)، وشخصي للغاية (فحيث يتم قبوله، والإيمان به، والتمسّك به بشدة، يخلص أفراد).

٧- فداء المسيح:

نؤمن بأن المسيح، مدفوعًا بمحبته لأبيه وطاعته له صار الابن الأزليّ إنسانًا: الكلمة صار جسدًا، إلهًا كاملاً وإنسانًا كاملاً، شخصًا واحدًا ذي طبيعتين. الإنسان يسوع، مسيّا إسرائيل الموعود به، حُبل به بتدخل معجزيّ من الروح القدس، ووُلد من مريم العذراء. هو أطاع أباه السماوي طاعة كاملة، وعاش حياة خالية من الخطية، وصنع آيات معجزيّة، وصُلب في عهد بيلاطس البنطيّ، وقام بالجسد من الأموات في اليوم الثالث، وصعد إلى السماوات. وهو جالس الآن، كملك وسيط، عن يمين الله الآب، ممارسًا في السماء وعلى الأرض كل سيادة الله، وهو رئيس كهنتنا وشفيعنا البار. نؤمن بأن يسوع المسيح بتجسّده، وحياته، وموته، وقيامته، وصعوده، كان ممثّلاً وبديلاً عنّا. وهو فعل هذا حتى نصير نحن بر الله فيه: فعلى الصليب أبطل الخطية، واسترضى الله، وبحمله عقوبة خطايانا كاملة، صالح إلى الله جميع من يؤمنون. وبقيامة المسيح يسوع تبرّر من قبل أبيه، وكسر سلطان الموت، وغلب إبليس الذي كان قبلاً له سلطان على الموت، وجلب حياة أبدية لجميع شعبه؛ وبصعوده تمجّد إلى الأبد كرب، وأعدّ مكانًا لنا كي نكون معه. نُؤمن بأن الخلاص لا يُوجد في أي شخص آخر، إذ ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص. لأن الله قد اختار أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ، لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ، فلا مجال إذن أن يفتخر كل ذي جسد أمامه — فقد صار يسوع المسيح لنا حكمة من الله — أي صار لنا برًا، وقداسةً وفداءً.

٨- تبرير الخطاة:

نؤمن أن المسيح، بطاعته وموته، قد سدّد دين جميع المتبررين كاملاً. فهو بذبيحته، تحمّل عنا العقوبة التي نستحقّها عن خطايانا، صانعًا عنّا إرضاءً ملائمًا، وحقيقيًا، وكاملاً لعدل الله. وبطاعته الكاملة أرضى مطالب بر الله عنّا، بما أن تلك الطاعة الكاملة توضع بالإيمان وحده في حساب جميع من يتّكلون على المسيح وحده لأجل قبول الله لهم. نظرًا لأن الآب قد بذل المسيح لأجلنا، ونظرًا لأن طاعة المسيح وعقوبته قد تم قبولها بديلاً عن طاعتنا وعقوبتنا، مجانًا وليس لأي شيء فينا، فإن هذا التبرير هو بالتالي بنعمة مجانيّة تمامًا، كي يتمجّد عدل الله التام وأيضًا نعمته الغنيّة في تبرير الخطاة. نؤمن بأن غيرة وحماسًا من نحو الطاعة الشخصيّة والعامة تنبع من هذا التبرير المجاني.

٩- قوة الروح القدس:

نؤمن أن هذا الخلاص، المُصدَّق عليه من كل الكتاب المقدس، والذي ضمنه يسوع المسيح، يتم تطبيقه على شعبه بالروح القدس. فإن الروح القدس، المُرسَل من الآب والابن، يمجّد الرب يسوع المسيح، وباعتباره المُعزّي الآخر، يمكث مع المؤمنين ويكون فيهم. فهو يُبكّت العالم على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة، ومن خلال عمله القوي والسري يُجدّد الخطاة الأموات روحيًا، مقيمًا إيّاهم إلى التوبة والإيمان، وفيه يعتمدون إلى الاتحاد بالرب يسوع، حيث يتبرّرون أمام الله بالنعمة وحدها بالإيمان وحده في يسوع المسيح وحده. وبواسطة الروح، يتجدّد المؤمنون، ويتقدّسون، ويتم تبنّيهم في عائلة الله، صائرين شركاء الطبيعة الإلهيّة، وينالون مواهبه الروحيّة التي يقسّمها بسلطانه. إن الروح القدس نفسه هو عربون الميراث الموعود به، وهو في هذا العصر يسكن بداخل المؤمنين، ويرشدهم، ويعلّمهم، ويؤهّلهم، وينعشهم، ويشدّدهم، كي يحيوا حياة وخدمة مشابهة للمسيح.

١٠- ملكوت الله:

نؤمن أن جميع من خلصوا بنعمة الله بواسطة الاتّحاد بالمسيح بالإيمان، وبواسطة التجديد بالروح القدس، يدخلون ملكوت الله، ويتلذّذون ببركات العهد الجديد: وهي غفران الخطايا، والتغيير الداخلي الذي يُوقظ رغبة في تمجيد الله، والاتّكال عليه، وطاعته، بالإضافة إلى انتظار المجد العتيد أن يُستعلن فينا.  وتُمثّل الأعمال الصالحة برهانًا رئيسيًا على النعمة المخلصة. فإن المؤمنين، إذ يحيوا كملحٍ للعالم الفاسد، وكنور للعالم المُظلم، لا ينبغي أن ينسحبوا من العالم إلى العزلة، كما لا ينبغي ألا يمكن تمييزهم عنه: بل لابد أن نعمل خيرًا للمدينة، إذ أن كل مجد وكرامة الأمم لا بد وأن يُقدَّم ذبيحة للإله الحي. فبإدراكنا لمن ينتمي هذا النظام المخلوق، وبكوننا مواطنين في ملكوت الله، فإننا ينبغي أن نُحب قريبنا كأنفسنا، وأن نعمل الخير للجميع، ولا سيما الذين من أهل الإيمان. فإن ملكوت الله، الموجود بالفعل لكنه غير مُدرَك بالكامل، هو ممارسة الله لسيادته على العالم حتى الفداء النهائي لكل الخليقة. فإن ملكوت الله هو قوة تغزو وتنهب مملكة إبليس المُظلمة، وتُجدّد وتُصلح من خلال التوبة والإيمان حياة أفراد نجوا من هذه المملكة. وبالتالي فإن هذا يُؤسّس حتميًا مجتمعًا جديدًا من الحياة البشريّة معًا تحت سيادة الله.

١١- شعب الله الجديد:

نؤمن أن شعب العهد الجديد المنتمي لله قد بلغ بالفعل أورشليم السماويّة، وهو جالس بالفعل مع المسيح في السماويّات. هذه الكنيسة الكونيّة تُستعلَن في الكنائس المحليّة التي المسيح هو الرأس الوحيد لها؛ وهكذا فإن كل “كنيسة محليّة” هي، حقًا، الكنيسة، بيت الله، كنيسة الله الحي، عمود الحق وقاعدته. الكنيسة هي جسد المسيح، قرّة عينه، المنقوشة على كفّه، وهو قد عهد بنفسه لها إلى الأبد. وتمتاز الكنيسة برسالة الإنجيل، وفرائضها المقدّسة، وتأديبها، وإرساليّتها العُظمى، وفوق الكل، بمحبتها لله، ومحبة أعضائها بعضهم نحو البعض، ونحو العالم. وحتمًا، هذا الإنجيل الذي نعتزّ به له أبعاد شخصيّة وأيضًا جماعيّة، ولا يمكن التغاضي عن أي بعد منهما. فإن المسيح يسوع هو سلامنا، فهو لم يحقق لنا السلام مع الله فحسب، بل أيضًا السلام بين الشعوب المتغرّبة عن بعضها. فإن قصده كان أن يخلق في نفسه إنسانًا واحدًا، صانعًا بهذا سلامًا، وأن يصالح في جسد واحد كلاً من اليهود والأمم مع الله بالصليب، قاتلاً العداوة به. فإن الكنيسة تصير علامة تشير إلى عالم الله المستقبلي الجديد حين يحيا أعضاؤها لأجل خدمة بعضهم البعض، وخدمة أقربائهم، بدلاً من أن يحيوا للتركيز على ذواتهم. فالكنيسة هي الموضع الجماعي لسكنى روح الله، وهي الشاهد المستمر عن الله في العالم.

١٢- المعموديّة وعشاء الرب:

نؤمن أن المعموديّة وعشاء الرب قد عيّنهما الرب يسوع نفسه. فإن الفريضة الأولى تتعلّق بالدخول إلى جماعة العهد الجديد، أما الفريضة الأخيرة فهي تتعلّق بالتجديد المستمر للعهد. ومعًا تمثل هاتان الفريضتان تعهد الله لنا، ووسائط نعمة معيّنة إلهيًا، وتعهداتنا العلنيّة بالخضوع للمسيح الذي صُلب، وهو الآن قائم، والتطلّع إلى مجيئه ثانية، واكتمال كل شيء.

١٣- رد كل شيء:

نؤمن بالمجيء الثاني الشخصي، والمجيد، لربنا يسوع المسيح بالجسد مع ملائكته القديسين، حين يُمارس دوره كالديّان الأخير، وحين يكتمل ملكوته. ونؤمن بقيامة كل من الأبرار والأشرار بالجسد — الأشرار إلى الدينونة، وإلى العقوبة الأبديّة بوعي في الجحيم، كما علّمنا ربنا نفسه، والأبرار إلى النعيم الأبدي في محضر ذاك الجالس على العرش والحمل، في السماء الجديدة والأرض الجديدة، مسكن البر. وفي ذلك اليوم، ستمثُل الكنيسة بلا عيب أمام الله بسبب طاعة المسيح، وآلامه، وغلبته، وستطهَّر من جميع خطاياها، وتزول عنها جميع تأثيراتها الرديئة إلى الأبد. وسيصير الله الكل في الكل، وسيُسبىَ شعبه بآنية قداسته الفائقة الوصف، ويصير كل شيء لمدح مجد نعمته.

الرؤية اللاهوتيّة للخدمة:

ليس هذا عرضًا لعقائدنا الإيمانية (انظر إقرار الإيمان)، ولكنه بيان حول رغبتنا في إطلاق خدمة مسيحية وتفاعل مع ثقافتنا بأمانة كتابيّة ولاهوتيّة.

I. كيف ينبغي أن يكون رد فعلنا تجاه أزمة الحق المجتمعيّة؟ (قضية المعرفيّة)

لمئات من السنوات، منذ بزوغ فجر عصر التنوير، تم الاتفاق على نطاق واسع على أن الحق — المُعبَّر عنه في كلمات تتعلّق في الأساس بالواقع — موجود بالفعل ويمكن معرفته. فقد اعتُقِد أن المنطق البشري دون أي مساعدة قادر على معرفة الحق معرفة موضوعيّة. لكن مؤخرًا، انتقد فكر ما بعد الحداثة هذه الحصيلة من الافتراضات، مُؤكدًا على أننا في الحقيقة لسنا موضوعيين في سعينا نحو المعرفة، لكننا نُفسّر المعلومات من خلال خبراتنا ومصالحنا الشخصيّة، وعواطفنا، وأحكامنا المجتمعيّة المُسبقة، ومحدوديّات اللغة، والمجتمعات الترابطيّة. فإن ادّعاء الموضوعيّة هو ادّعاء مُتغطرس، كما يُخبرنا فكر ما بعد الحداثة، ويقود حتمًا إلى صراعات بين المجتمعات المختلفة في الآراء بشأن أين يكمن الحق. مثل هذه الغطرسة، كما يقولون، تُعلّل جزئيًا الكثير من الظلم والحروب المنتشرة في العصر الحديث. إلا أن رد فكر ما بعد الحداثة على هذا هو رد خطير من ناحية أخرى: فإن الأصوات الأبرز فيه تصر على استبدال ادّعاءات الحق الموضوعي بتعدديّة ذاتيّة أكثر اتضاعًا و”قبولاً”، وتنوّعًا على نحو شامل — وهي تعدديّة كثيرًا ما تكون غارقة في وحل مستنقع لا يسمح بوجود أي أساس ثابت “لأَجْلِ الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ”. مثل هذا الموقف لا مكان فيه للحق المُرتبط بالواقع، بل هو مجرد نظام من حقائق مُشكَّلة ذاتيًا. وكيف ينبغي أن يكون رد فعلنا تجاه أزمة الحق المجتمعيّة هذه؟

١- نحن نؤكد بأن الحق يُعبّر عن الواقع. نؤمن بأن الروح القدس الذي أوحى بكلمات الرسل والأنبياء يسكن أيضًا فينا، حتى يتسنّى لنا نحن المخلوقين على صورة الله أن نستقبل ونفهم كلمات الكتاب المقدس التي أعلنها الله، ونستوعب أن حقائق الكتاب المقدس تعبّر عن الواقع وتتوافق معه. فإن تصريحات الكتاب المقدس صحيحة، بالتحديد لأنها تصريحات الله، وهي تعبّر عن الواقع حتى وإن كانت معرفتنا بتلك الحقائق (أو حتى قدرتنا على إثبات صحتها لآخرين) دائمًا وبالضرورة ناقصة. فإن اعتقاد فكر التنوير بوجود معرفة موضوعيّة تمامًا جعل من الفكر البشري الذي لا يحتاج إلى مساعدة صنمًا. لكن إنكارنا لإمكانيّة وجود معرفة موضوعيّة خالصة لا يعني فقدان الحق المُعبِّر عن الواقع الموضوعي، حتى وإن كنا غير قادرين البتة على معرفة هذا الحق دون تدخل عنصر من الذاتيّة في هذا. انظر إقرار الإيمان (2).

٢- نحن نؤكّد بأن الحق مُقدَّم في الكتاب المقدس. نؤمن بأن الكتاب المقدس هو كتاب تصريحي بشكل كبير، وأن جميع تصريحات الكتاب المقدس هي صحيحة وموثوق بها بالكامل. إلا أن حق الكتاب المقدس لا يمكن اختصاره في سلسلة من التصريحات. بل هو موجود في قوالب وأساليب أدبيّة قصصيّة، ومجازيّة، وشعريّة غير قابلة للاختزال بالكامل إلى تصريحات عقائديّة، ومع ذلك فهي تنقل مشيئة الله وفكره لنا لتغييرنا إلى شبهه.

٣- نحن نؤكد بأن الحق يتعلّق بالحياة مع الله. فإن الحق ليس توافقًا نظريًا فحسب بل هو أيضًا علاقة عهديّة. فالإعلان الكتابي لا ينبغي فقط معرفته، بل الحياة بمقتضاه (تثنية ٢٩: ٢٩). إن غرض الكتاب المقدس هو أن ينشيء الحكمة فينا — أي حياة خاضعة بالكامل لواقع الله. فإن الحق إذًا يُعدّ رابطة وعلاقة متبادلة بين حياتنا بأكملها وبين قلب الله، وكلماته، وأفعاله، وهذه الرابطة تنشأ من خلال وساطة الكلمة والروح القدس. فإن استبعادنا للطبيعة التصريحيّة للحق الكتابي يضعف على نحو خطير قدرتنا على التمسّك بالإنجيل، والدفاع عنه، وتفسيره. لكن حديثنا عن الحق باعتباره مجرد تصريحات يضعف من تقديرنا للابن المتجسّد باعتباره الطريق، والحق، والحياة، ولقوة القصة والرواية على نقل المعلومات، ولأهمية الحق باعتباره حياة في توافق حقيقي مع الله.

٤- كيف تساهم هذه الرؤية عن الحق في تشكيلنا.

أ. نحن نتبنى نظرية توافقيّة “منقاة” عن الحق، وهي أقل تفاخرًا وتكبرًا من نظريّة البعض في المذهب الإنجيلي الأقدم. لكننا أيضًا نرفض الرأي الذي يرى أن الحق هو شيء لا يزيد عن كونه اللغة التي تربط داخليًا جماعة إيمانيّة معينة. وهكذا فإننا نتمسّك، باتضاع نرجو أن يكون ملائمًا، بمبدأ الكتاب المقدس وحده يكفي (sola scriptura).

ب. بالرغم من كون الحق تصريحيًا، إلا أنه ليس شيئًا يُؤمَن به فحسب، بل أيضًا يُقبَل في عبادة وسجود ويُمارَس في حكمة. هذا التوازن يُشكّل فهمنا للتلمذة والوعظ. فإننا نود تشجيع الشغف نحو العقيدة السليمة، لكننا نعلم أن النمو المسيحي ليس مجرد نقل معلومات معرفيّة. لكن النمو المسيحي يحدث فقط حين تتشكّل الحياة بأكملها من خلال الممارسات المسيحيّة في الكنيسة — بما في ذلك الصلاة، والمعموديّة، وعشاء الرب، والشركة، والوعظ العام بالكلمة.

ج. إن معرفتنا النظريّة للحق الإلهي ليست سوى معرفة جزئيّة وإن كانت دقيقة، لكننا مع ذلك يمكن أن نتيقّن من أن ما تخبرنا به الكلمة صحيح (لوقا ١: ٤). فبقوة الروح القدس نقبل كلمات الإنجيل في يقين شديد وقناعة تامة (١ تسالونيكي ١: ٥).

II. كيف ينبغي أن نقرأ الكتاب المقدس؟ (قضية التفسير)

1- القراءة “التتبعيّة” عبر كل الكتاب المقدس. فإن القراءة بصورة تتبعيّة في كل الكتاب المقدس هي بمثابة تمييز المخطط الأوحد الرئيسي للكتاب المقدس على أنه قصة فداء الله (مثل: لوقا ٢٤: ٤٤)، بالإضافة إلى الموضوعات الرئيسيّة للكتاب المقدس (مثل العهد، والملكوت، والهيكل)، التي تسود في كل مرحلة من مراحل التاريخ، وفي كل جزء من الأسفار القانونيّة، وتصل إلى قمتها وذروتها في يسوع المسيح. من هذا المنظور، يَظهر الإنجيل على أنه قصة الخلق، والسقوط، والفداء، والاسترداد. فهو يُبيّن القصد من الخلاص، الذي هو تجديد الخليقة. كما نقر في إقرار الإيمان، الفقرة الأولى، أن الله في عنايته الإلهيّة يحقق مقاصده الصالحة الأزليّة ليفتدي لنفسه شعبًا، ويرد خليقته الساقطة، لمدح مجد نعمته.

٢- القراءة “عبر” الكتاب المقدس بأكمله. أن تقرأ عبر الكتاب المقدس بأكمله هو أن تجمع تصريحاته، ودعواته، ووعوده، وادّعاءات الحق إلى أقسام من الفكر (مثل عقيدة الله، وعقيدة المسيح، وعقيدة الأمور الأخيرة)، والوصول إلى فهم متماسك لما يعلّمه بصورة مُوجَزة (مثل لوقا ٢٤: ٤٦-٤٧). من هذا المنظور، يظهر الإنجيل على أنه قصة الله، والخطية، والمسيح، والإيمان. فهو يُبيّن وسائط الخلاص، وهي عمل المسيح البديلي ومسئوليّتنا في قبول هذا العمل بالإيمان. كما نقر في إقرار الإيمان، الفقرة السابعة، أن يسوع المسيح كان مُمثّلاً وبديلاً عنّا. وهو فعل هذا حتى نصير نحن بر الله فيه.

٣- كيف تساهم هذه القراءة للكتاب المقدس في تشكيلنا؟

أ. كثيرون اليوم (لكن ليس الجميع) ممن يتخصّصون في الطريقة الأولى من هاتين الطريقتين لقراءة الكتاب المقدس — أي القراءة التتبعيّة في كل الكتاب المقدس — يطيلون التفكير والبحث بشكل أكبر في الأبعاد الجماعيّة للخطية والخلاص. فإن الصليب يُنظَر إليه في الأساس على أنه نموذج للخدمة الباذلة، وهزيمة لسلاطين العالم، وليس عملاً بديليًا وكفارة عن خطايانا. ومما يعد مفارقة، هو أن هذا الاتجاه يمكن أن يكون ناموسيًا للغاية. فبدلاً من دعوة الناس إلى التجديد الشخصي من خلال رسالة النعمة، يُدعى هؤلاء إلى الانضمام إلى المجتمع المسيحي، وإلى برنامج الملكوت المختص بما يعمله الله لتحرير العالم. فالتركيز هنا هو على كون المسيحيّة أسلوبًا للحياة إلى حد فقدان المكانة المشتراة بالدم في المسيح، والتي يتم نوالها بالإيمان الشخصي. وفي عدم التوازن هذا، هناك تركيز ضئيل على الكرازة النشطة والدفاعيّات، وعلى الوعظ التفسيري، وأيضًا على علامات التجديد أو الولادة الجديدة، وأهميتها.

ب. على الصعيد الآخر، نزع المذهب الإنجيلي القديم (لكن ليس كله) إلى القراءة عبر الكتاب المقدس. ونتيجة لهذا، كان أكثر ميلاً للفرديّة، متمحورًا بالكامل تقريبًا حول التجديد الشخصي، والعبور الآمن إلى السماء. أيضًا، كان وعظ هذا المذهب، على الرغم من كونه تفسيريًا، أحيانًا أخلاقيّاً، دون التركيز على كيفية وصول جميع الموضوعات الكتابيّة إلى ذروتها في المسيح وفي عمله. وفي عدم الاتزان هذا، يوجد تركيز ضئيل أو لا يوجد على الإطلاق على أهمية أعمال العدل والرحمة للفقراء والمقمعين، وعلى الانتاج المجتمعي الذي يُمجّد الله في مجال الفنون، والتجارة، إلخ.

ت. نحن لا نؤمن بأن هاتين الطريقتين لقراءة الكتاب المقدس، عند تطبيقهما بأفضل صورة، متناقضتان على الإطلاق، على الرغم من أن كثيرين اليوم يضعونهما الواحدة في مناقضة مع الأخرى. لكننا نؤمن في المقابل أن كلا الطريقتين، في أفضل صورهما، مكملتان لبعضهما من أجل استيعاب معنى الإنجيل الكتابي. فإن الإنجيل هو الإعلان بأنه من خلال موت يسوع المسيح وقيامته، يصالح الله الأفراد بنعمته، ويجدّد العالم بأكمله بواسطة مجده ولأجل مجده.

III. كيف يجب أن تكون علاقتنا بالمجتمع من حولنا؟ (قضية المواكبة)

١- بأن نكون مناقضين للمجتمع. نريد أن نكون كنيسة لا تقدم فقط الدعم للمؤمنين أفرادًا في مسيراتهم الشخصية مع الله، بل أيضًا تشكّلهم ليصيروا المجتمع البشري البديل الذي يخلقه الله بكلمته وروحه (انظر بالأسفل 5 ج)

٢- لأجل الصالح العام. لا يكفي أن تناقض الكنيسة قيم ثقافة المجتمع السائدة. بل لابد أن نكون مناقضين للمجتمع لأجل الصالح العام. نريد أن نكون مُميَّزين جوهريّاً عن المجتمع من حولنا، ومع ذلك، ومن تلك الهويّة المُميَّزة، لابد أن نخدم أقرباءنا بل وأعداءنا أيضًا خدمة باذلة، عاملين لأجل ازدهار وتطوّر البشر، هنا والآن، وأيضًا في الأبديّة. ولذلك نحن لا نعتبر خدمات العبادة الجماعيّة هي نقطة الوصل الرئيسيّة مع من هم بالخارج. بل نتوقع أن نتقابل مع أقربائنا في أثناء عملنا لأجل سلامهم، وأمانهم، وخيرهم، محبين إيّاهم بالقول والفعل. إن فعلنا هذا نكون “ملحًا” و”نورًا” في العالم (داعمين الظروف المعيشيّة ومطوّرين إيّاها، مظهرين للعالم مجد الله من خلال أنماط حياتنا؛ متى ٥: ١٣-١٦). وكما دُعي اليهود المسبيون إلى أن يطلبوا سلام بابل ويعملوا لأجل تحقيقه (إرميا ٢٩: ٧)، هكذا المسيحيّون أيضًا هم شعب الله “في السبي” [في الشتات] (١ بطرس ١: ١؛ يعقوب ١: ١). فإن مواطني مدينة الله لابد وأن يكونوا أفضل مواطنين ممكنين في مدينتهم الأرضيّة (إرميا ٢٩: ٤-٧). لسنا متفائلين بما يزيد عن الحد أو متشائمين بما يزيد عن الحد بشأن تأثيرنا في مجتمعنا، لأننا نعلم أننا فيما نسلك في خطى ذاك الذي وضع حياته لأجل أعدائه، فإننا سنواجه اضطهادًا حتى بينما لنا تأثير اجتماعي (١ بطرس ٢: ١٢).

٣- كيف تشكّلنا هذه العلاقة بالمجتمع.

أ. نؤمن أن كل أسلوب تعبير عن المسيحيّة هو بالضرورة وبالحقيقة مواكب إلى حد ما لسياق وإطار مجتمع بشري معين، فلا يوجد ما يسمى تعبيرًا شاملاً غير تاريخي عن المسيحيّة. لكننا لا نريد أن نكون متأثرين بمجتمعنا بشدة إلى حد المساومة في حقائق الإنجيل. كيف لنا إذن أن نحافظ على هذا التوازن؟

ب. الإجابة هي أننا لا يمكننا أن “نواكب” الإنجيل مع المجتمع على نحو مطلق باعتباره تجربة فكريّة. فإن كانت الكنيسة تسعى إلى أن تكون مناقضة لمجتمعها لأجل الصالح الزمني والأبدي للبشر، فإنها ستحفظ نفسها ضد كل من الناموسيّة التي يمكنها أن تصاحب الانسحاب المفرط من المجتمع، والمساومة التي تنشأ من التكيف المفرط معه. فإن كنا نسعى إلى الخدمة وليس إلى السلطة، فحينئذ يكون لنا تأثير مجتمعي لا يُستهان به. لكن إن كنا نسعى للسلطة المباشرة، والسيطرة الاجتماعيّة، فإننا سنتغير إلى شبه أصنام الثروة، والمركز، والسلطة ذاتها التي نسعى إلى تغييرها.

ج. يحمل الإنجيل نفسه مفتاح المواكبة السليمة. فإننا إن أفرطنا في المواكبة، فهو سيفترض أننا نرغب في الحصول على رضا المجتمع المستقبل للإنجيل بصورة تزيد عن الحد. وهذا يفضح غياب الثقة في الإنجيل. أما إن قلّلنا من المواكبة، فهو سيفترض أننا متمسكون بشدة بالزينة والمظاهر الخارجيّة لمجتمعنا الفرعي. وهذا يفضح غياب الاتضاع الإنجيلي، وغياب المحبة لقريبنا.

IV. ما هي نواحي تفرّد الإنجيل؟

يملأ هذا الإنجيل المؤمنين بالاتضاع والرجاء، وبالوداعة والجرأة، على نحو فريد. فإن الإنجيل الكتابي يختلف اختلافًا ملحوظًا عن الديانات التقليديّة كما عن العلمانيّة. فإن الديانات تعمل بناء على مبدأ “أنا أطيع، إذن أنا مقبول”، لكن مبدأ الإنجيل هو: “أنا مقبول بالمسيح، إذن أنا أطيع”. وهكذا يختلف الإنجيل عن كل من التدين واللا دينيّة. يمكنك أن تسعى كي تكون “الرب والمخلص” لنفسك بكسرك لناموس الله، لكن أيضًا يمكنك أن تفعل هذا بحفظك للناموس كي تربح بهذا خلاصك.

فإن اللا دينيّة والعلمانيّة يميلان إلى تضخيم التشجيع الذاتي “للثقة بالنفس”، وتقديرها، دون خضوع للنقد؛ أما التديّن والناموسيّة فهما يسحقان البشر تحت الشعور بالذنب من جراء المعايير الأخلاقيّة التي يستحيل الحفاظ عليها. لكن الإنجيل في المقابل يجعلنا نتضع، وفي نفس الوقت يثبّتنا، بما أن كل واحد منا هو في المسيح بار، ومازال خاطئ في الوقت ذاته. فإننا فاسدون وخطاة أكثر مما جرؤنا يومًا على التصديق، ومع ذلك وفي الوقت نفسه نحن محبوبون ومقبولون أكثر مما جرؤنا يومًا على أن نرجو.

تميل العلمانيّة إلى جعل الناس أنانيين وفرديين. أما التديّن والناموسيّة فهما بوجه عام يميلان إلى جعل الناس قبائليّين، مظهرين برهم الذاتي من نحو جماعات أخرى (بما أن خلاصهم، كما يعتقدون، قد تم نواله من خلال إنجازاتهم). لكن إنجيل النعمة، المتمحور حول إنسان مات عنّا ونحن بعد أعداء، فهو في المقابل يبيد البر الذاتي والأنانيّة، ويوجّه أعضاءه نحو خدمة الآخرين لأجل الازدهار الزمني للجميع، وخاصة الفقراء، ولأجل خلاصهم أيضًا. فهو يدفعنا نحو خدمة الآخرين بغض النظر عمّا يستحقونه، كما خدمنا المسيح (مرقس ١٠: ٤٥).

فإن العلمانيّة والتديّن يجعلان الناس مطابقين للمعايير السلوكيّة من خلال الخوف (من العواقب) والكبرياء (رغبة في تعظيم الذات). أما الإنجيل فهو يدفع الناس إلى القداسة والخدمة بدافع فرح ممتن بالنعمة، وبدافع محبة لمجد الله لأجل الله ذاته.

V. ما هي الخدمة التي مركزها الإنجيل؟

تتصف بالآتي:

١- عبادة جماعيّة مُمكَّنة:

يغير الإنجيل من علاقتنا بالله من علاقة عداوة أو من رضوخ العبيد إلى علاقة حميميّة وفرح. فإن المحرك الرئيسي إذن للخدمة التي مركزها الإنجيل هو العبادة والصلاة الحارة. فإن شعب الله في العبادة الجماعيّة يستقبل بصيرة خاصة مُغيرة للحياة عن قيمة وجمال الله، ومن ثَم يقدّم لله في المقابل تعبيرات ملائمة عن قيمته وعمّا يستحقه. وفي مركز العبادة الجماعيّة تقع خدمة الكلمة. فإن الوعظ لابد أن يكون تفسيريًا (أي يفسّر النص الكتابي)، ومركزه المسيح (أي يشرح جميع الموضوعات الكتابيّة بحيث تصل إلى ذروتها في المسيح وعمله الخلاصي). ولكن هدفه النهائي ليس مجرد تعليم المستمعين، بل قيادتهم إلى العبادة، الفرديّة والجماعيّة، التي تُقوّي إنسانهم الباطن كي يعملوا مشيئة الله.

٢- فاعليّة وتأثير في الكرازة:

لأن الإنجيل (على خلاف الناموسيّة الدينيّة) ينشئ أناسًا لا يزدرون بمن يختلفون معهم، فإن الكنيسة التي هي بالحقيقة مركزها الإنجيل لابد أن تمتلئ بأعضاء يخاطبون آمال وتطلعات البشر على نحو جذاب من خلال المسيح وعمله الخلاصي. لدينا رؤية عن كنيسة تشهد ولادات ثانية بين كل من الأغنياء والفقراء، والمتعلمين ومن لم يكن لهم نصيب وافر في التعليم، والرجال والنساء، والشيوخ والشباب، والمتزوجين وغير المتزوجين، ومن جميع الأجناس والأعراق. نتمنّى أن نجتذب أولئك العلمانيّين وأتباع ما بعد الحداثة، وأيضًا الوصول إلى المتديّنين والتقليديّين. وبسبب جاذبيّة مجتمع الكنيسة التي مركزها الإنجيل واتّضاع شعبها، فهذه الكنيسة لابد أن تبحث في محيطها عمّن يبحثون في المسيحيّة ويحاولون فهمها. ولابد أن ترحب بهم بالمئات من الطرق. لن يفيدهم كثيرًا أن تجعلهم الكنيسة “يشعرون بالراحة”، لكن سيفيدهم أكثر أن تجعل رسالتها قابلة للفهم. وبالإضافة إلى هذا كله، يجب أن تمتلك الكنائس التي مركزها الإنجيل تحيزًا تجاه زراعة الكنائس باعتبارها أكثر الوسائل فاعليّة للكرازة.

٣- مجتمع مناقض للمجتمع:

لأن الإنجيل يزيل كلاً من الخوف والكبرياء، فإن الناس لابد أن يكونوا متوافقين بداخل الكنيسة مَن لا يمكنهم قط أن يكونوا متوافقين خارجها. وإذ يوجهنا الإنجيل إلى إنسان مات عن أعدائه، فهو بهذا يخلق علاقات من الخدمة وليس من الأنانيّة. ولأن الإنجيل يدعونا إلى القداسة، فإن شعب الله يحيا في روابط محبة من الخضوع للمساءلة والتأديب المتبادل. وهكذا يخلق الإنجيل مجتمعًا بشريًا يختلف جوهريّاً عن أي مجتمع يحيط به. وفيما يخص الجنس، لا بد للكنيسة أن تتجنّب كلاً من عبادة المجتمع العلماني لصنم الجنس، وخوف المجتمع التقليدي منه. فإنها مجتمع يحب أعضاءه ويهتم بهم بصورة عمليّة حتى أن الطهارة الكتابيّة تصير ذات معنى. فهي تُعلّم أعضاءها أن يشاكلوا بكيانهم الجسدي الإنجيل — أي بالامتناع عن ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، والإخلاص والفرح بداخله. أما فيما يتعلّق بالعائلة، فلابد للكنيسة أن تؤكّد على صلاح الزواج بين رجل وامرأة، داعية إيّاهم لخدمة الله بأن يعكسوا محبته العهديّة من خلال وفاء وإخلاص إلى مدى الحياة، ويعلّموا طرقه لأبنائهم. لكن أيضًا تؤكّد الكنيسة على صلاح خدمة المسيح كغير متزوجين، سواء لبعض الوقت أو لمدى الحياة. وعلى الكنيسة أن تحيط جميع الذين يعانون من سقطات الحياة الجنسيّة البشريّة بمجتمع وعائلة مترائفة. أما فيما يخص المال، فإن أعضاء الكنيسة لابد وأن يشتركوا في مشاركة اقتصاديّة جوهريّة مع بعضهم البعض — حتى “لا يكون فِيهِمْ أَحَدٌ مُحْتَاجًا” (أعمال الرسل ٤: ٣٤). هذه المشاركة تعزّز أيضًا تكريسًا سخيًا جوهريّاً للوقت، والمال، والعلاقات، وموضع الإقامة، لتحقيق العدالة الاجتماعيّة وسداد حاجات الفقراء، والمضطهدين، والمهاجرين، والضعفاء اقتصاديًا وجسديًا. وفيما يخص السلطة، فإن الكنيسة ملتزمة على نحو منظور بتقاسم السلطة وبناء العلاقات بين الأجناس، والطبقات، والأجيال البعيدة عن جسد المسيح. والبرهان العملي على هذا هو ازدياد ترحيب الكنائس المحليّة للبشر من جميع الأجناس والثقافات وقبولها لهم. فعلى كل كنيسة أن تسعى كي تعكس تنوّع مجتمعها الجغرافي المحلي، في كل من شعبها بوجه عام وقادتها.

٤- تكامل الإيمان والأعمال:

إن الخبر السار للكتاب المقدس ليس هو الغفران الفردي فحسب، بل تجديد الخليقة بأكملها. فقد وضع الله البشريّة في الجنة كي تعتني بالعالم المادي لمجده، وكي تساهم في ازدهار الطبيعة والمجتمع البشري. فإن روح الله لا يجدّد الأفراد فحسب (مثل يوحنا ١٦: ٨) بل أيضًا يجدّد وينمّي وجه الأرض (تكوين ١: ٢؛ مزمور ١٠٤: ٣٠). ولهذا فإن المؤمنين يمجّدون الله ليس فقط من خلال خدمة الكلمة، بل أيضًا من خلال أعمالهم في الزراعة، والفن، والتجارة، والإدارة، والعلم — وكل هذا لمجد الله وتعزيز وتقدّم الصالح العام. كثيرون جدًا من المؤمنين قد تعلّموا فصل معتقدات إيمانهم عن طريقة أدائهم لمهنهم. فإنهم يعتبرون الإنجيل وسيلة لإيجاد السلام الشخصي، وليس أساسًا للرؤيّة العامة — أي تفسير شامل للواقع يؤثّر في كل ما نعمله. لكننا لدينا رؤية عن كنيسة تعد شعبها لتطبيق الإنجيل على كيفية ممارستنا للنجارة، والسباكة، وإدخال البيانات، والتمريض، والفن، والتجارة، والإدارة، والصحافة، والتسلية، والعلم. مثل هذه الكنيسة لن تؤيد مشاركة المؤمنين في المجتمع فحسب، لكنها ستساعدهم أيضًا بأن يعملوا بتميز، وتفوّق، وشعور بالمسئوليّة في حرفهم ووظائفهم. فإن تطوير بيئات عمل إنسانيّة، ومع ذلك مبدعة ومتفرّدة، على أساس فهمنا للإنجيل هو جزء من عمل الإتيان بمقدار من الشفاء إلى خليقة الله بقوة الروح القدس. فإن تجسيد الفرح، والرجاء، والحق المسيحي في الفنون هو أيضًا جزء من هذا العمل. ونحن نعمل كل هذا لأن إنجيل الله يدفعنا إليه، مع إدراكنا الجيد بأن رد كل شيء ينتظر المجيء الشخصي والجسدي لربنا يسوع المسيح (إقرار الإيمان 13).

٥- ممارسة أعمال العدل والرحمة:

لقد خلق الله كلاً من النفس والجسد، وتبيّن قيامة يسوع أنه عتيد أن يفتدي الجانبين الروحي والمادي على حد سواء. وهكذا فإن الله مهتم ليس بخلاص النفوس فحسب، بل أيضًا بالحد من الفقر، والجوع، والظلم. فإن الإنجيل يفتح أعيننا على حقيقة أن جميع ثرواتنا (حتى تلك التي عملنا بكد للحصول عليها) هي بالكامل عطية من الله لا نستحقها. وهكذا فإن مَن لا يبذل ثروته بسخاء للآخرين ليس فقط يفتقر للرأفة، بل هو أيضًا ظالم. فإن المسيح قد ربح خلاصنا من خلال الخسارة، ووصل إلى القوة بالضعف والخدمة، ووصل إلى الغنى بالتضحية بكل شيء. وليس من ينالون خلاصه هم الأقوياء والماهرين، بل هم مَن يقرّون بأنهم ضعفاء وضالون. لا يمكننا النظر إلى الفقراء والمضطهدين، وندعوهم في قسوة إلى انتزاع أنفسهم من صعوباتهم. فإن يسوع لم يتعامل معنا هكذا. فإن الإنجيل يستبدل التشامخ من نحو الفقراء بالرحمة والرأفة. لابد للكنائس المسيحيّة أن تعمل لأجل تحقيق العدالة والسلام في محيطها من خلال الخدمة، كما أنها تدعو الأفراد إلى التجديد والولادة الجديدة. لابد لنا أن نعمل لأجل الصالح العام والأبدي، ونظهر لأقربائنا أننا نحبهم محبة باذلة سواء آمنوا مثلنا أو لا. إن التبلّد واللا مبالاة تجاه الفقراء والمحرومين يعني أننا لم نستوعب بالحقيقة أن خلاصنا كان بنعمة خالصة.

خاتمة:

إن الخدمة التي قمنا بالتحدّث عنها بإيجاز هي خدمة نادرة نسبيًا. توجد العديد من الكنائس التي يحركها الباحثين عن الإيمان تساعد الكثيرين على إيجاد المسيح. وتوجد عدة كنائس تسعى للاشتراك في المجتمع من خلال النشاط السياسي. وتوجد حركة كاريزماتيّة سريعة النمو تركّز على العبادة المتألّقة، والحماسيّة، والجماعيّة. وتوجد الكثير من الكنائس المهتمة بشدة بالدقة العقائديّة والطهارة، والتي تعمل بكد شديد لتحفظ نفسها منعزلة عن العالم. وتوجد العديد من الكنائس التي لديها التزام جوهري تجاه الفقراء والمهمّشين.

لكننا مع ذلك لا نرى عددًا كافيًا من الكنائس الفرديّة التي تجسّد التوازن الكامل والتكميلي للإنجيل الذي تحدّثنا عنه هنا. وفي حين يوجد بنعمة الله عدد مشجّع من البقاع المضيئة في الكنيسة، لكننا لا نرى بعد تحرّكًا واسع النطاق صوب هذه الخدمة التي مركزها الإنجيل. نؤمن بأن مثل هذا التوازن ينتج كنائس مليئة بالبهجة وعوامل الجذب، وبالوعظ المتين لاهوتيّاً، وبالكرازة الحيويّة والدفاعيّات، ونمو الكنائس وزراعة كنائس جديدة. هذه الكنائس ستقوم بتسليط الضوء على التوبة، والتجديد الشخصيّ، وقداسة الحياة. وفي الوقت ذاته، وداخل الكنائس ذاتها، سيكون هناك انخراط في تركيبات المجتمع من البشر العاديين، بالإضافة إلى الانخراط الثقافي في الفن، والتجارة، والتعليم، والإدارة. وستكون هناك دعوات لمجتمع مسيحيّ أصيل، فيه يشترك جميع الأعضاء في الثروة، والموارد، ويفسحون مجالاً للفقراء والمهمَّشين. هذه الأولويّات جميعها ستجتمع معًا، وستعزّز بعضها الآخر في كل كنيسة محليّة.

ما الذي يمكن أن يقود إلى اتجاه متزايد نحو الكنائس التي مركزها الإنجيل؟ إن الإجابة الحاسمة هي أن الله لا بد، ولمجده، أن يرسل نهضة استجابة منه للصلاة الحارة، والخارقة، والواسعة الانتشار لشعبه. لكن نؤمن أيضًا بأنه توجد أيضًا خطوات معينة تسبق هذه الخطوة الأخيرة لابد من القيام بها. هناك رجاء وأمل كبير إن استطعنا أن نتّحد حول طبيعة الحق، وكيفيّة قراءتنا الكتاب المقدس بأفضل صورة، وحول علاقتنا بالمجتمع، ومحتوى الإنجيل، وطبيعة الخدمة التي مركزها الإنجيل. ونعتقد أن مثل هذا الالتزام يدفع بنا من جديد إلى الكتاب المقدس، ومسيح الكتاب المقدس، وإنجيل المسيح، فتبدأ طاقاتنا في النمو، بنعمة الله، ككنائس، كي “نسلك بِاسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ الإِنْجِيلِ” (غلاطية ٢: ١٤). فإننا نشعر بالخجل من خطايانا وإخفاقاتنا، وممتنون فوق الطاقة من أجل الغفران، ومتلهّفون لأن نرى من جديد مجد الله، ونجسّد مشابهتنا لابنه.

تم اعتماد هذه الوثائق في ٢٢ مايو ٢٠٠٧. وتم تعديلها في ١٢ أبريل ٢٠١١.

شارك مع أصدقائك