في ستينات القرن الماضي اندلعت ما تُسمّى بالثورة الجنسيّة أولًا في أمريكا ثم انتشرت حول العالم ولا تزال آثارها وموجاتها المُختلفة تؤثر علينا إلى اليوم، والتي تتمثّل ملامحها في قبول العلاقات الجنسيّة خارج إطار الزواج، وقبول المثليّة الجنسيّة، والإجهاض، والتسامح مع مواد العُري والأفلام الإباحيّة. وقد وَجَدَت كنيسة المسيح نفسها في حربٍ شرسة، تعني المُهادنة فيها هزيمة ساحقة للأخلاقيات المسيحيّة. ولم تكن هذه الحرب هي الأولى التي خاضتها الكنيسة، فقد سبق للكنيسة وقامت هي نفسها بثورة جنسيّة على أخلاقيات الإمبراطورية الرومانيّة القديمة في القرون الأولى للمسيحيّة وانتصرت فيها. فما القصة؟
في كتابه “من العار إلى الخطيّة (From Shame to Sin)”، يناقش كايل هاربر (Kyle Harper) أستاذ الدراسات الكلاسيكيّة وعميد جامعة أوكلاهوما كيف أن الأخلاق الجنسيّة المسيحية، والتي كانت مُحتقرة ومهمشة وتُصَم بالرجعيّة في القرن الأول الميلادي، انتصرت لتُصبِح هي الثقافة السائدة والتي سُنّت منها الكثير من القوانين بحلول القرن السادس.
في هذا الكتاب، لا ينحاز هاربر إلى أي طرف من أطراف هذا التغيير الجذري. ففي الواقع، يُمكِن للمسيحيين قراءته ثم يُعلّقون عليه قائلين: “انظروا كم من صلاحٍ جلبته المسيحية!” بينما يمكن لغير المسيحيين قراءة نفس المادة التاريخيّة في هذا الكتاب ويقولون: “انظروا إلى كل القهر الذي أحدثته المسيحية!” فهذا ليس كتابًا وراءه دوافع خفية. ولكن لكوني مسيحيًا، وجدت هذا الكتاب مُذهلًا، ليس فقط في سرده لتاريخ الأخلاق الجنسيّة، ولكن أيضًا في الدروس التي يُمكن أن تتعلمها الكنيسة في القرن الحادي والعشرين مِن شهود الكنيسة في قرونها الأولى.
الثورة
يدور عنوان كتاب هاربر “من العار إلى الخطيّة” حول تغيير النظام الأخلاقي السائد إلى نظام أخلاقي مختلف اختلافًا جذريًا – من نظام كان يحكُم على الأشياء من منظور “العار” كمفهوم اجتماعيّ، إلى تفسير الأشياء بكونها “خطيّة” كمفهوم لاهوتيّ.
فيمكن تلخيص هذا التغير الذي حدث هَكذا:
كانت الأخلاق الجنسيّة في الإمبراطورية الرومانيّة مُتَحرّرة لدرجة التساهل، ومؤسسة على وضع الأشخاص الاجتماعيّ، وكان يمكن تحقيق الرغبة الجنسية بطرقٍ لا تعد ولا تحصى.
بينما كانت الأخلاق الجنسيّة في ظل انتصار المسيحية صارمة وحازمة، ومؤسسة على أساس نوع الجنس (gender)، ويمكن تحقيق الرغبة الجنسية بطريقة واحدة فقط.
الأخلاق الجنسيّة في الإمبراطوريّة الرومانيّة
كانت العلاقات المِثليّة شائعة في العالم الروماني، أما ما كان يُحدد قبولها في بعض الأوساط من عدمه هي عوامل السن والمركز الاجتماعيّ. تَحكي إحدى الكتابات الرومانيّة القديمة عن السَفَر إلى العالم الآخر بأنه مكان “يتم فيه تبادل الزوجات دون أيّة غيرة… ويستسلَم فيه الوِلْدَان للراغبين فيهم دون مقاومة” (24). وكما لم يُعتبر الشذوذ الجنسي مع الأطفال مشكلة، كذلك كان إشباع الرغبات الجنسيّة مع العبيد. وكان يُنظر إلى العبيد والداعِرات والوِلْدَان على أنهم مُتَنَفَس مشروع تمامًا لإشباع الرغبات الجنسية للذكور. وفي إمبراطورية قوامها 70 مليون نسمة، تم استعباد ما بين 7 و10 مليون. يقول هاربر: “لعب العبيد دور يُشبِه الدور الذي لعبته العادة السرية في معظم الثقافات” (27).
كان الشذوذ الجنسيّ مع الأطفال شائعًا ومقبولًا على نطاقٍ واسع مِن قِبَل الرومان (باستثناء بعض الفلاسفة الرواقيون). فلم يكن من العار أن يُقدِّم الأولاد أنفسهم للرجال الكِبار، كما لم يكن من العار أن يُلاحِق الرجال الكِبار الأولاد. ما كان عارًا بالنسبةِ لهم هو أن يلعب الرجال الدور السلبيّ في العلاقات المثليّة.
تُختَتَم إحدى الروايات اليونانيّة القديمة بعنوان قصة الأَفَسُسِيَّ (The Ephesian Tale) “بتبني” العاشق الكبير حبيبه الشاب. لم يكن ذلك زواجًا، ولكن يُخبرنا هاربر أنه كان نوع من الاتحاد فيه عاشوا في سعادة كالمتزوجين. وفي إحدى القصائد الساخرة للشاعر اليونانيّ جوفينال تَخيَّل يومًا فيه يتم الزواج الذكور علنًا ويتم توثيقه في السجلات الرسمية للدولة.
لم يكن كل الشذوذ الجنسي لديهم بين الرجال والفتيان فقط. ففي الواقع، هناك أدلة على أن بعض الأزواج المثليين أصدروا لأنفسهم حقوق زوجية خاصة بهم. ولكن في الوقت نفسه، لم يكن هناك أبدًا، حتى في الإمبراطورية الرومانية المتساهلة جنسيًا، أي نوع من عقد زواج للمثليين قانونيًا أو رسميًا.
أما بالنسبة للنساء، فكان عليهن أن يبقين عذارى إلى حين زواجهن ويصبحن زوجات مخلصات وأمينات في الزواج. وكان اتباع أي مسار آخر يعني عارًا عظيمًا. وكان ينُظر للزنا على أنه جريمة ضد الرجال. وكانت فضيلة المرأة الرئيسية هي الاحتشام (pudicita). ويشرح هاربر أن النساء كُنّ يرتدين غِطاء على شعرهن من سن البلوغ كعلامة على الاحتشام والحياء.
بصفة عامة، كانت هناك قوانين تؤيد أهمية موافقة المرأة، الحرة، على الزواج والجنس. وكان هناك قوانين طلاق متحررة، تسمح لكل من الرجال والنساء برفع دعوى الطلاق من جانب واحد لأي سببٍ كان. وينبغي ألا نعتقد أن النساء الرومانيات الأحرار كن يتوقن للحريّة الجنسيّة.
كانت الدعارة متفشية في أنحاء الإمبراطورية ولا يعترض عليها أحدًا. كان يُنظر إليها على أنها منفذ مناسب للطاقة الجنسية لدى الرجال. إذا مارس الرجل الجنس مع داعرات قبل الزواج، فكان لا يزال من الممكن اعتباره عذراء. وإذا مارس الجنس معهن أثناء الزواج، فلم يُعتبر ذلك زنا. كما اعتُبرت الدعارة ضرورة اجتماعية، وصمام أمان أساسيّ في المجتمع. فقد كان يُعتقد أنه إذا أقاموا بإزالة الداعرات من المُجتمع، سينقلب النظام الاجتماعي بأكمله، وستنتصر الشهوة. “تم تحويل الجنس إلى سلعة بكفاءة شديدة تشبه عملية صناعية لا هوادة فيها، لذا وجب على العبيد تحمل ضغوطات طلبات السوق الذي لا يُشبع. حتى أصبحت أجسام الداعرات، في بيوت الدعارة، كالجثث”(49).
باختصار، كان هذا هو النظام الرئيسيّ للأخلاق الجنسيّة في المجتمع الروماني: “الزواج المبكر للمرأة، والرقابة الغيورة على عفة المرأة الجنسيّة، ونظام استعباد واسع النطاق، والزواج المتأخر للرجال، وسلوك متساهل للغاية مع سُبُل الحريّة الجنسيّة المتنوعة للرجال، ما دامت تتفق مع المجتمعات الذكوريّة والتسلسل الهرمي للمجتمع” (78).
الأخلاق الجنسية في الإمبراطورية المسيحية
يجب أن يكون واضحًا لنا، أن الأخلاق الجنسيّة المسيحيّة كانت مُختلفة اختلافًا جذريًا عن الثقافة الرومانية السائدة. حتى الفلاسفة الرواقيون الأكثر “تحفظًا” لا ينبغي أن يُنظر إليهم على أنهم من مهدوا للأخلاق المسيحية. فقد كانت الأفكار، والقيم، وأسباب الأخلاق المسيحيّة مُختلفة تمامًا عن تلك التي لدى الرواقيون. كما أشار هاربر، سرعان ما جاءت الأخلاق الجنسية لتؤكّد على انقسامًا رهيبًا بين المسيحين وسائر العالم.
لا مفر من استخلاص أن المبادئ الأخلاقيّة التي قدمتها المسيحيّة كانت جديدة تمامًاـ ويظهر ذلك بوضوح في موقفها تجاه المثليّة الجنسيّة. فيقول هاربر: “إن أي محاولة التفاف تفسيريّ لتطهير أو تلطيف كلمات بولس من شأنه التشويش على نقطة التحوّل الرئيسيّة في التاريخ ضد السلوكيات المثليّة الجنسيّة” (95). فقد كانت نقطة التحوّل الجديدة هذه هي أساس بولس في تقدير ما إذا كان الفعل الجنسي مشروعًا أم لا ، وليس السن أو المركز الاجتماعيّ. كان اهتمام بولس بالأخلاق الجنسية يتعلق بالذكور والإناث، وليس بالرجال والوِلْدان، أو بالنساء المتزوجات وغير المتزوجات، أو بالعبيد والأحرار.
يوَضِح هاربر أنه بدءًا من بولس فصاعدًا، فإن الأخلاق الجنسية المسيحية “وضعت جميع أشكال العلاقات المثليّة، سواء كانت مع الأطفال أو الكبار، في خانة واحدة” (99). في ظل الثقافة الرومانيّة، كان يُنظر إلى تلك المُمارسات على إنها “طبيعية”، ما إذا توافقت مع المعايير الاجتماعية. أما في المسيحية، فالأفعال “الطبيعية” هي تلك التي تتوافق مع الأخلاق الجنسيّة للرجال والنساء. فقد أدان مُعلّمين أمثال يوحنا ذهبيّ الفم السلوكيات المثليّة، بغض النظر عما إذا كانت مع أطفال، أو استغلالًا للعبيد، أو حتى في إطار ارتباط!
يخبرنا هاربر أن المبادئ الجنسيّة المسيحيّة أدت إلى فَهمٍ أعمق لمفهوم حُريّة الإرادة. ففي الأخلاق المسيحيّة، يمتلك البشر قوة أخلاقيّة تُسيطر على دوافعهم الجنسية. فقد كانوا يؤمنون أنه حتى الرجال، يمكنهم السيطرة على رغباتهم الجنسية. فليس البشر ضحايا أو تحت رحمة شهواتٍ لا تُشبع أو فيض جنسي “طبيعي”.
كان الزواج أمرًا بالغ الأهمية بالطبع. يقول هاربر أن الزواج من شريك واحد كان نموذجًا رومانيًا أكثر من كونه يهوديًا. تم اعتبار الزواج من شخص واحد فقط هي القاعدة للرومان الأحرار (حتى لو سُمح للرجال بجميع أنواع الاستثناءات التي ذُكرت آنفًا، فإنها لا تُحتسب مقابل الشريك الواحد في الزواج.
أعادت المسيحيّة تعريف الزواج من شريك واحد لوضع حد لأي ممارسات جنسيّة أخرى. يُخبرنا هاربر أن هناك عقيدتين كانت الأساس الذي ميّز الزواج المسيحي عن المجتمع الروماني: حصريّة الجنس مع طرف واحد فقط، والمعارضة الصارمة للطلاق والزواج الثاني.
إذن، كانت المبادئ الأساسية للأخلاق الجنسية في العصر المسيحي تتلخص في: “كانت العُذريّة شيئًا مثاليًا، والزواج مقبول، والجنس خارج إطار الزواج خطيّة، والمثليّة الجنسيّة بكل أنواعها مرفوضة على نحو قاطع” (135).
الفائزون والخاسرون
لم يكن من الممكن تخيّل انتصار مبادئ الأخلاق الجنسيّة المسيحيّة، لكنه حدث بالفعل. لقد قضى المسيحيون على أفروديت، إلهة الجنس والجمال عند الإغريق (135). أثرت الثورة الأخلاقيّة الجنسية المسيحية على القوانين في عهد جستنيان (527-565). كان الجنس بين الذكور جريمة، وتم حظر ممارسة الجنس مع الأطفال. كما عارضت القوانين المسيحيّة في عهد جستنيان بشدة الدعارة القسريّة.
بموجب مبادئ الأخلاق الجديدة، كان الحب بين نفس الجنس، بغض النظر عن العُمر، أو المركز الاجتماعيّ محظورًا تمامًا. لقد تحول أي انحراف جنسيّ من شيء له مجرّد تداعيات اجتماعية، إلى خطيّة مؤلمة في نظر الله ويمكن أن يكون لها تداعيات أبديّة. أصبح الزواج، الذي كان يُفهم دائمًا في المجتمع الروماني على أنه اتحاد بين الرجل والمرأة، المنفذ الوحيد المقبول للنشاط الجنسيّ (161).
إذا كان هناك “رابحون” و “خاسرون” في التحول الذي قامت به المسيحية في مبادئ الأخلاق الجنسيّة، فيمكننا القول أن الخاسر الأول كانوا المثليّين والرجال الرومان المملوئين شهوة، في حين كانت النساء، والعبيد، والداعرات والأولاد الصغار هم أكبر رابحين.
الدروس المستفادة
يجب أن نفهم أن كتاب هاربر هو عمل تاريخي الأكاديمي. في الجزء الأغلب، هو لا يُعلق على التاريخ الذي يقدمه سواء بالموافقة أو بالإدانة. واكن يجب أن نكون واضحين هنا أن القرون الأولى من تاريخ الكنيسة لم تكن بالضرورة أنقى أو أفضل من القرون اللاحقة. لدي ثقة أن عدد قليل من المسيحيين اليوم يُنادون بإمبراطورية مسيحية، أو بتطبيق مبادئ الأخلاق المسيحية عبر أي وسائل عُنف للمخالفين.
إن الدرس الذي يجب أن تتعلمه الكنيسة اليوم هو ليس محاولة استنساخ كنيسة من عصر آخر. ومع ذلك، هناك دروس يجب تعلّمها من التغيير الذي أحدثته الكنيسة في مبادئ الأخلاق الجنسيّة في العصور القديمة المتأخرة. دعني أذكر بعض الأمثلة:
أولًا، في أغلب تاريخ الكنيسة المبكر، استمدت قوتها من خلال الوعظ الصحيح بالكلمة، والكتابات، ونظامها المتشدد للانضمام إليها والتأديب الكنسيّ. حتى عند محاولة تهميشها، والضغط عليها، بل واضطهادها بشكل صريح، ظلت الكنيسة تُعلن، وتدافع عن الحق بسُلطانٍ، والتأكيد على أن أفرادها يؤمنون ويعيشون ذلك الحق. لا يمكننا ببساطة ربح الثقافة الأوسع المحيطة بنا إذا فقدنا ثقافتنا وهويتنا!
ثانيًا، تحولت المسيحية من شيعة دينيّة إلى ثقافة مؤثرة، والسبب يرجع في ذلك، ولو جزئيًا لكون مبادئ الأخلاق الجنسيّة المسيحيّة كانت أفضل وأكثر أمانًا وتحريرًا لكثيرٍ من الناس. ومن الواضح أنه كان هناك خاسرون، ولكن نجحت الأخلاق المسيحيّة في إحداث تغييرًا عميقًا في حياة النساء، والأطفال، والعبيد، والفقراء. جاءت التغييرات ببطء –على مدار عِدة قرون، وليس سنوات قليلة أو عقود- ولكنها نجحت بالفعل.
ثالثًا، علينا أن نتوقع دائمًا وجود صراعًا حول الجنس. لو كان المسيحيون في العصور القديمة قد صنعوا سلامًا أو هُدنة مع العالم حول الجنس، لما بقيت المسيحية صادقة لمبادئها. ويمكننا قول الشيء نفسه اليوم. لا يمكن للخطاب الليبراليّ المتحرر أن يُنهي النزاعات حول مبادئ الأخلاق الجنسيّة المختلفة، ولا يمكن أيضًا التخلص منها من خلال المساومة والبحث عن حلول وسط.
“فمشكلة الجنس مرتبطة بشكل حتميّ بمشكلة علاقة المسيحية بالعالم، فإنها تُشكّل توتراً سوف يتصاعد أثناء أي تغيير عظيم في العلاقة بين المسيحية والعالم” (160). بعبارة أخرى، فإن المشكلة لن تنتهي، ولنصلي ألا ينتهي أيضًا التزام الكنيسة بالحق وعدم المساومة على تعاليم الإنجيل.