رسالة أفسس


دعوة إلى أفسس

كُتِبَتْ رسالةُ أفسس على الأرجح في فترة ٦٠-٦٢ م تقريبًا، نحو نهاية السجن الرومانيِّ (الأوَّل) للرسول بولس حين كان يَنتظر أن يُحاكم أمام الإمبراطور نيرون. وُجِّهَتْ الرسالة إلى القدِّيسين في أفسس، وهي واحدة من المُدن الرائدة على ساحل أسيَّا الصغرى (تركيا حاليًّا). في أثناء تلك الفترة، أفسس، والتي كانت في الأصل مستعمرةً يونانيَّة بها مؤسَّسات هلينستيَّة سياسيَّة واجتماعيَّة، كانت تَتعافى ببُطء من زلازل وحروب عديدة سابقة وكانت تَتحوَّل إلى عاصمة إداريَّة رومانيَّة للمنطقة. في هذه الرسالة، قَدَّم بولس تعبيرًا حيًّا وغنيًّا وشاملاً عن مكانة قُرَّائه باعتبارهم مواطنين بالكامل “فِي مَلَكُوتِ الْمَسِيحِ وَاللهِ” (أفسس ٥: ٥)، وأوضَح عديدًا من النتائج المُترتِّبة على هذه المكانة المُتميِّزة بالنسبة إلينا. علاوةً على ذلك، كان الهدف الثانويُّ لبولس هو التأكيد لقُرَّائه أنَّه يَجب ألاَّ يُحبَطوا عندما يسمعون عن سجنه (خصوصًا نَصُّ أفسس ٣: ١٣ في سياقه).

ما هو الموضوع الرئيسُّ لرسالة أفسس؟

تُعتبَر رسالة أفسس رسالةً مُفضَّلةً عند كثيرٍ من المؤمنين اليوم لأسباب جيِّدة. تحتوي الرسالة على كثيرٍ من الأمور القويَّة والعميقة والغامرة. يُمكن تلخيص تركيز رسالة أفسس على أنَّه دعوة بولس للوحدة في الخليقة الجديدة التي تمَّ تأسيسها. يتوسَّع بولس في هذا الموضوع الرئيس عن طريق بَدئه للرسالة ببَركة وتعليم عن وحدة الكنيسة كما تَتأصَّل في مشورة الله الأزليَّة ثُمَّ في إنجازه الفدائيِّ في الابن المُتجسِّد والمختوم في المؤمنين بالروح القُدس. يُمنَح هذا الفداء كعطيَّة مجَّانيَّة للبشر الخُطاة والضائعين بالإيمان وحده. لكنَّ الإيمان الحقيقيَّ لا يُوجَد بمُفرده أبدًا، لذلك يَحثُّ الرسول بولس قُرَّاءه على إظهار إيمانهم الحيِّ من خلال محبَّتهم لله وللآخرين. تَظهر خصوصًا هذه المحبَّة في الكنيسة عن طريق عَمل كلِّ عضوٍ من أجل “وَحْدَانِيَّةَ الرُّوحِ بِرِبَاطِ السَّلاَمِ” (أفسس ٤: ٣).

لماذا كُتِبَتْ رسالةُ أفسس؟

يوجد عديدٌ من العناصر في رسالة أفسس والتي تُوجَّه تحديدًا نحو عالم تسوده الوثنيَّة ومُمارساتها “السحريَّة”. كانت تعاويذ اللعنة، وتعاويذ الحُبِّ، وإبعاد العين الحاسدة، وسُكنى الأرواح الشرِّيرة جزءًا يوميًّا في حياة أهل مدينة أفسس كما تُبيِّنه مكتبتهم الواسعة والغالية بشأن هذا الموضوع (أفسس ١٩: ١٩). بإرسالها في وسط ذلك المزيج الحضاريِّ للساحرات، تَلمع رسالة أفسس بشُعلة رجاءٍ قويَّة. لقد هزمَ المسيحُ يسوعُ الذي صعد للسماء القوَّات القديمة التي اعتادت أن تُبقي أهل أفسس مُقيَّدين ويائسين، “بِلاَ إِلهٍ فِي الْعَالَمِ” (أفسس ٢: ١٢)، ويَحكم المسيحُ في سموٍّ على الخليقة الجديدة التي أسَّسها بقيامته وصعوده فوق كلِّ قوَّة في هذا الدهر وفي الدهر الآتي (انظر التعليقات بخصوص أفسس ١: ١٥-٢٣).

لماذا يُعَدُّ هذا التفسير فريدًا؟

على الرغم من أنَّ هذا التفسير القصير سيُضحِّي بكثيرٍ من النقاط الدقيقة للتفسير، فإنَّ الملاحظات ستُسلِّط الضوء على موضوع تأسيس الخليقة الجديدة عبر أجزاء الرسالة. سيبدأ كلُّ قسم بعبارة واحدة “أطروحة”، والتي ستكون بمثابة نقطة ارتكاز تُوجِّه القارئ نحو وحدة المقطع بينما تَتكشَّف كلُّ آية. تُعَدُّ الأطروحات مُفيدة بالتحديد للوعظ والتعليم، ممَّا يُبقي المُتحدِّث بعيدًا عن الدخول في متاهات مُبهرة لكن تُشتِّت المُستمع والتي ستُعيق المعنى العامَّ للنصِّ.

الغرض

يُعلِّم بولس في رسالة أفسس بأنَّ الكنيسة التي تتكوَّن من أشخاص من كلِّ أمَّة وعِرق تَتمتَّع بالوحدة ويجب أن تُحافظ عليها في الخليقة الجديدة التي تمَّ تأسيسها وهُم وَرثةٌ فيها مع المسيح.

آيات مفتاحيَّة

“لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَال كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ. لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا.”

أفسس ٢: ٨-١٠

تقسيم الرسالة

١. افتتاحيَّة الرسالة (١: ١-٢)
أ. كاتبُ الرسالة وقُرَّاؤها (١: ١)
ب. البركة الرسوليَّة (١: ٢)

٢. التمجيد الافتتاحيُّ (١: ٣-١٤)
أ. بخصوص مقاصد الآب الأزليَّة المُنعمة (١: ٣-٦أ)
ب. بخصوص الإنجاز الفدائيِّ النهائيِّ للابن (١: ٦ب-١٠)
ج. بخصوص عربون الروح القُدس للخليقة الجديدة (١: ١١-١٤)

٣. تقرير بخصوص صلاة بولس للاستنارة (١: ١٥-٢٣)
أ. متى وكيف يُصلِّي بولس (١: ١٥، ١٦)
ب. موضوع صلاته لأجل قُرَّاء الرسالة (١: ١٧، ١٨ب)
ج. محتوى الاستنارة التي يُصلِّي بولس من أجلها (١: ١٨ج، ١٩)
د. التوسُّع بخصوص ارتقاء المسيح في القوَّة على الخليقة (١: ٢٠، ٢١)

ه. ارتقاء المسيح والكنيسة (١: ٢٢، ٢٣)

٤. الإنقاذ من الموت إلى الحياة في المسيح (٢: ١-١٠)
أ. الحياة القديمة في الموت (٢: ١-٣)
ب. ومع كونهم أمواتًا، تمَّ إحياء المؤمنين بحياة المسيح (٢: ٤-٧)
ج. التوسُّع بخصوص هذه الحياة الجديدة باعتبارها عملاً إلهيًّا يقود إلى طاعة جديدة (٢: ٨-١٠)

٥. تأسيس الخليقة الجديدة المُتَّحدة (٢: ١١-٢٢)
أ. انفصال الأمم عن إسرائيل وعن الله (٢: ١١، ١٢)
ب. وَحَّدَ المسيحُ الأممَ مع القدِّيسين في عِرقٍ بشريٍّ واحد (٢: ١٣-١٨)
ج. عائلة الكنيسة المُتَّحدة باعتبارها هيكل الخليقة الجديدة (٢: ١٩-٢٢)

٦. سِرُّ الفداء وإعلانه (٣: ١-١٣)
أ. افتتاحيَّة للصلاة “التي تأخَّرتْ” (٣: ١)
ب. الإعلان الفدائيُّ باعتباره سِرًّا (٣: ٢-٧)
ج. إعلان هذا السِرِّ (٣: ٨-١٢)
د. الختام بألاَّ يُحبَطوا (٣: ١٣)

٧. استكمال صلاة بولس (٣: ١٤-٢١)
أ. وضعيَّة الصلاة أمام الآب (٣: ١٤، ١٥)
ب. تقرير عن محتوى التشفُّع لأجل قُرَّاء الرسالة (٣: ١٦-١٩)
ج. بركة ختاميَّة من الله (٣: ٢٠، ٢١)

٨. توصية بولس بخصوص وحدانيَّة المحبَّة (٤: ١-٦)
أ. محتوى التوصية (٤: ١-٣)
ب. أساس التوصية (٤: ٤-٦)

٩. عطايا من المسيح الذي صعد إلى السماء لأجل توحيد كنيسته (٤: ٧-١٦)
أ. عطايا بسبب انتصار المسيح وصعوده (٤: ٧-١٠)
ب. وظائف كنسيَّة مُرتبطة بخدمة الكلمة باعتبارها عطايا للبُنيان (٤: ١١-١٣)
ج. نتيجة عمل المواهب (٤: ١٤-١٦)

١٠. سلوك الحياة الجديدة في مُقابل سلوك الحياة القديمة (٤: ١٧-٢٤)
أ. توصية جادَّة للابتعاد عن الحياة القديمة (٤: ١٧أ)
ب. الحياة القديمة هي فساد، وجهل، ونجاسة (٤: ١٧ب-١٩)
ج. المُهتدون إلى المسيح انفصلوا بشكلٍ حاسمٍ عن الماضي (٤: ٢٠-٢٤)

١١. سلوك الخليقة الجديدة في المحبَّة (٤: ٢٥ – ٥: ٢)
أ. في الكلام (٤: ٢٥)
ب. في الفِكر (٤: ٢٦، ٢٧)
ج. في السلوك (٤: ٢٨)
د. في الكلام مُجدَّدًا (٤: ٢٩)
ه. في الفِكر وفي الكلام (٤: ٣١، ٣٢)

١٢. القدِّيسون والعالَم الشرِّير (٥: ٣-١٤)
أ. ممارسات العالَم الشرِّير (٥: ٣-٥)
ب. توصية بمُقاومة إغراءات العالَم (٥: ٦)
ج. توصية مركزيَّة (٥: ٧)
د. السلوك بحكمة في النور والإتيان بثَمره (٥: ٨-١٤)

١٣. توصية مُلخَّصة لكلِّ الكنيسة (٥: ١٥-٢١)
أ. السلوك بحكمة لا في جَهل (٥: ١٥-١٧)
ب. لا في سُكْرٍ وخلاعة (٥: ١٨أ)
ج. الكنيسة في مَحضر الله في الروح القُدس باعتبارها الهيكل والكهنوت الجديد (٥: ١٨ب)

١٤. توصيات إلى بيوت المؤمنين (٥: ٢٢ – ٦: ٩)
أ. إلى الزوجات والأزواج (٥: ٢٢-٣٣)
ب. إلى الأولاد والوالديْن في الربِّ (٦: ١-٤)
ج. إلى العبيد والسادة في الربِّ (٦: ٥-٩)

١٥. تجهيز الكنيسة لصراعها (٦: ١٠-٢٠)
أ. الحَثُّ على الثبات في الصراع الروحيِّ (٦: ١٠-١٣)
ب. الحَثُّ على الثبات بسلاح الله للمعركة (٦: ١٤-١٧)
ج. الحَثُّ على المواظَبة في الصلاة (٦: ١٨-٢٠)

١٦. أفكار وبركات ختاميَّة (٦: ٢١-٢٤)
أ. خدمة تِيخِيكُس (٦: ٢١، ٢٢)
ب. البركة الرسوليَّة الختاميَّة (٦: ٢٣، ٢٤)


 

افتتاحيَّة الرسالة

في هذا القسم، يَفتتح بولس رسالته بالتعريف بنفسه وبقُرَّائه، ثمَّ بنُطق بركةٍ رسوليَّةٍ تَتعلَّق “بالنعمة والسلام” لقُرَّائه أو مُستمعيه.

تُعتبَر افتتاحيَّات الرسائل مثل ١: ١-٢ جوانب قياسيَّة في رسائل العهد الجديد. إنَّ ما يَجعل افتتاحيَّة رسالة أفسس مُتميِّزة ومُثيرة للجَدل هو أنَّ الكلمات التي تَصف القُرَّاء بأنَّهم “في أفسس” غير موجودة في بعض المخطوطات المُبكِّرة المُهمَّة، لكن من الأفضل أن يُنظَر إلى ذلك على أنَّه إهمال بسيط لأنَّ النصَّ لن يكون له معنًى إذا كانت تلك العبارة غير موجودة. بخلاف ذلك، تُعتبَر افتتاحيَّة رسالة أفسس مُشابهة لأغلب الرسائل البولسيَّة الأخرى.

التمجيد الافتتاحيُّ (١: ٣-١٤)

في هذا القسم، يُمجِّد بولس الآبَ بخصوص مقاصده الأزليَّة، والفداء الذي تمَّ تحقيقه بشكلٍ مُنعِمٍ بالنيابة عن كلِّ مُختاريه في الابن، والذي تمَّ ختمه لهم عن طريق الروح القُدس.

افتتحَ بولس رسالته بالتمجيد والتعجُّب من نعمة الله الغنيَّة في المسيح. يَكمُن النصُّ الضمنيُّ في أنَّ التمجيد الذي نطقَ به بولس يُعلِّمنا تلك الأمور وكيف ينبغي أيضًا أن نَفيض بالتمجيد والحَمد لله.

إنَّ التمجيد في هذا القسم في رسالة أفسس يأخذ شكل “المُبارَكة” اليهوديَّة الشائعة لمُبارَكة الله والتي كان يُردِّدها اليهود خلال اليوم والمعروفة بالكلمة العبريَّة للبركة، بِرِكاه (berekah)، وجمعها بِرِكوت (berekoth). يُعتبَر ذلك الشكل للصلاة قديمًا جدًّا وشائعًا في العهد القديم كذلك: “مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سَامٍ” (تكوين ٩: ٢٦)؛ “مُبَارَكٌ اللهُ الْعَلِيُّ” (تكوين ١٤: ٢٠)؛ “مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ” (مثل: ١ ملوك ١: ٤٨؛ ١ أخبار الأيَّام ١٦: ٣٦؛ ٢ أخبار الأيَّام ٢: ١٢؛ ٦: ٤؛ قارن مع العديد من المزامير مثل: مزمور ٢٨: ٦؛ ٣١: ٢١؛ ٤١: ١٣؛ ٧٢: ١٨؛ ٨٩: ٥٢؛ ١٠٦: ٤٨).

توجد مُقدِّمة هذه البِرِكاه بالنصِّ أيضًا في ٢ كورنثوس ١: ٣ وفي ١ بطرس ١: ٣؛ لكن يُستبدَل هنا وَصف “اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ” بوَصف “الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ” المُتكرِّر. يُشير ذلك بوضوح إلى أنَّ اللهَ غيَّرَ اسمه ممَّا كان عليه، ليَشمَل الابن المُتجسِّد، يسوع المسيح، الذي هو الوسيط لكلٍّ من اليهود والأمم، والذي يستطيع الجميع من خلاله أن يَصِلوا إلى الإله الحيِّ (انظر أفسس ٢: ١١-١٣).

إنَّ هذه البركة الطويلة في ١: ٣-١٤ كرَّرتْ أفكارًا تَرِد حيث قد يلتقط قارئ الرسالة أنفاسه بشكلٍ طبيعيٍّ وفي بداية القسم التالي. إنَّ التأثير المطلوب هو أن يُؤسَّس تركيزٌ على الله الآب وما صنعه في المسيح عن طريق الروح القُدس: “كَمَا اخْتَارَنَا… فِي الْمَحَبَّةِ، إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا… الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا… الَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا، إلخ”. وفي نهاية الأقسام يقول: “فِي الْمَسِيحِ… قُدَّامَهُ… مَجْدِ نِعْمَتِهِ… نِعْمَتِهِ… مَسَرَّتِهِ… فِيهِ… فِي الْمَسِيحِ… رُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ… لِمَدْحِ مَجْدِهِ”.

ينتهي التمجيد الطويل في هذا المقطع بعبارة رائعة عن كيف يَختم الروحُ القُدس المؤمنين بصفتهم مُقتنيات الله الغالية والذين افتداهم في المسيح (قارن مع أعمال الرسل ٢٠: ٢٨؛ ١ تسالونيكي ٥: ٩؛ ٢ تسالونيكي ٢: ١٤؛ تيطس ٢: ١٤؛ ١ بطرس ٢: ٩). إنَّ كلَّ المؤمنين اليوم هم ميراث الله كما كان اللاَّويُّون تحت مظلَّة العهد القديم، في تحقيقٍ لوعد الله في ملاخي: “وَيَكُونُونَ لِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ، فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَنَا صَانِعٌ خَاصَّةً” (ملاخي ٣: ١٧). هذه هي ترجمتي لنَصِّ أفسس ١: ١٣، ١٤ والتي تُوضِّح ذلك: “الذي فيه أنتم أيضًا، عندما سمعتم كلمة الحقِّ، إنجيل خلاصكم، الذي فيه أيضًا عندما آمنتم، خُتمتم بروح المَوعد القدُّوس الذي هو عربون ميراثنا لِفداء المُقتنى الغالي، لمدح مجده”.

تقرير بخصوص صلاة بولس للاستنارة (١: ١٥-٢٣)

في هذا القسم، يُقدِّم بولس تقريرًا عن صلواته لأجل مُستَقبِلي الرسالة، لأجل فَهمٍ أعمق لله نفسه ولعطاياه وقوَّته الفدائيَّة لأجل شعبه في المسيح.

إنَّ هذا المقطع في حدِّ ذاته ليس صلاةً بل هو تقريرٌ عن تَشفُّع بولس بالنيابة عن أهل أفسس. في افتتاحيَّة رسائله الأخرى، كثيرًا ما يَذكر بولس أنَّه يُصلِّي من أجل مُستَقبِلي الرسالة، ويُعطي إشارات لمحتوى تلك الصلوات (رومية ١: ٩، ١٠؛ ١ كورنثوس ١: ٤؛ فيلبِّي ١: ٣، ٤؛ كولوسِّي ١: ٣، ٤؛ ١ تسالونيكي ١: ٢، ٣؛ ٢ تيموثاوس ١: ٣؛ فليمون ٤، ٥). في أفسس ١: ١٥-٢٣، يُحوِّل بولسُ ببراعة تقريرَ الصلاة هذا إلى وسيلة انتقال لكي يُحقِّق ما يُصلِّي لأجله عن طريق تعليم بعض الحقائق العميقة التي يَرجو أن ينمو قُرَّاؤه في رؤيتها “بعيون أذهانهم”؛ بشكلٍ مُحدَّد، يساعدهم بولس على إدراك قوَّة الله السياديَّة التي تَعمل فيهم في المسيَّا المُمجَّد في ١: ١٨-٢٣.

يَستكمل هذا القسم أفكارًا مُعيَّنة من ١: ٣-١٤ عن ميراث المؤمنين الفدائيِّ (١: ٣، ١٤، ١٨)، وعن إعلان معرفة الله (١: ٨، ٩، ١٧)، وعن مركزيَّة المسيح السياديَّة الشاملة في هذا الدهر (١: ١٠، ٢٠-٢٢)، ويُوسِّع تلك الأفكار إلى ما هو أبعد. يَضع بولس أيضًا الأساس هنا لموضوعات مُعيَّنة والتي سيتمُّ توسيعها بينما تَتكشَّف الرسالة، خصوصًا في القسم التالي (٢: ١-١٠).

لقد كانت السيطرة على القوى الخارقة للطبيعة عن طريق السِحر والشعوذة مَحطَّ اهتمامٍ كبيرٍ في مدينة أفسس القديمة (أعمال الرسل ١٩: ١٩)، لكنَّ قوَّة الإله الحيِّ في المسيح تَتفوَّق على كلِّ الرياسات المُنافسة (أعمال الرسل ١٩: ٢٠؛ فيلبِّي ٢: ٩-١١). عندما أُقيمَ يسوعُ من الأموات وجلسَ في مجدٍ وسُلطانٍ سماويٍّ، حدَّد ذلك بداية الخليقة الجديدة (رؤيا ٢١: ١-٧). لكنَّه ليس غائبًا أبدًا عن شعبه (متَّى ٢٨: ٢٠؛ يوحنَّا ١٤: ١٨)؛ بالتأكيد، كما يُوضِّح نَصُّ أفسس ١: ٢٢، ٢٣؛ تُعَدُّ كنيسته هيكلاً جديدًا والذي يَسكنه المسيحُ بمِلئه. إنَّني أحاول توضيح تلك الأمور في الترجمة الآتية لأجزاء من المقطع:

١٦… لقد كنتُ أذكركم في صلواتي… ١٧كي يُعطيكم الله أبو ربِّنا يسوع المسيح، أبو المجد، روح الحكمة والإعلان في معرفته، ١٨وأن تستنير عيون قلوبكم، لتفهموا ما هو رجاء دعوته، وما هو الغنى المجيد لميراثه وَسط القدِّيسين، ١٩وما هو مقدار قوَّته الفائضة نحونا نحن الذين نؤمن، حسب تأثير شدَّة قوَّته، ٢٠الذي عمله في المسيَّا، إذ أقامه من الأموات، وأجلسه عن يمينه في السماويَّات، ٢١فوق كلِّ رياسة وسُلطان وقُوَّة وسيادة، وكلِّ اسم يُمكن أن يُسمَّى، لا في هذا الدهر فقط بل أيضًا في الدهر الآتي، ٢٢و”أخضعَ كلَّ شيءٍ تحت قدميه” وقدَّمه رأسًا فوق كلِّ شيءٍ في الكنيسة، ٢٣التي هي جسده، مِلء الذي يَملأ كلَّ شيءٍ بالتمام.

الإنقاذ من الموت إلى الحياة في المسيح (٢: ١-١٠)

في هذا القسم، يُعلِّم بولسُ قُرَّاءه عن يأسهم الشديد في السابق وشعورهم بالذنب تحت وطأة الميول الشرِّيرة لهذا الدهر، ثُمَّ يتوسَّع في حديثه عن التدخُّل المُنعم بالكامل من الله بالنيابة عنهم عندما أقام المسيح ومجَّده وحرَّرهم إلى طاعة مُمتنَّة بصفتهم جُزءًا من الخليقة الجديدة في المسيح لأجل مجده.

لدى كلِّ شخصٍ مقطعٌ مُفضَّل في أسفار الكتاب المُقدَّس، وغالبًا هذا هو مقطعي المُفضَّل في رسالة أفسس. يُعتبَر هذا المقطع صعبًا في أسلوبه ومُعقَّدًا للغاية –مقطع بولسيٌّ بشكلٍ نموذجيٌّ! لكنَّه يَفيض أيضًا بنعمة الله في موقفنا الذي كان سيكون بلا رجاء من دونها. وما هو الرجاء الذي كان لنا!

لقد تَحدَّث بولس للتوِّ في أفسس ١: ١٥-٢٣ عن صلاته لأجل فَهم كنيسة أفسس لعمل الله في المسيح بالنيابة عنهم. تمَّ التركيز هناك على ارتفاع المسيح بالقوَّة الفائقة فوق كلِّ القوى الكونيَّة المُنافسة، جنبًا إلى جنبٍ مع بركات ذلك للكنيسة. بينما يبدأ نَصُّ أفسس ٢: ١-١٠، يُركِّز بولس بشكلٍ موجز على حقيقة أنَّ هذا العمل تَمَّ من أجل شعب الله في الوقت الذي كانوا فيه مُبعَدين عن الله، وأعداءً له بإرادتهم (“أَمْوَاتًا بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا… عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ”). بسبب هذا التركيز المبدئيِّ، نستطيع أن نرى أنَّ اهتمام بولس الشامل هنا هو التشديد على أنَّ إنقاذ المؤمنين هو بالكامل عملُ نعمةٍ إلهيٌّ. علاوةً على ذلك، نرى بالتحديد في الأفعال المذكورة في ٢: ٥، ٦ توسيعًا لفكرة اتِّحاد المؤمنين بالمسيح، والتي كان بولس يتعامل معها في ١: ١٩، ٢٠.

إنَّ التعقيد النحويَّ والبلاغيَّ في ٢: ١-١٠ يجعل تقديم النصِّ بلُغة إنجليزيَّة سلسة أمرًا في غاية الصعوبة. تُقسِّم الترجمات الإنجليزيَّة عادةً هذا المقطع إلى عبارات عديدة وتُحوِّل العبارات في ٢:١ وفي ٢: ٥ (“وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا… وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ”) إلى عبارات مُستقلَّة. مع ذلك، تَتَّصل هذه العبارات بالأفعال في ٢: ٥، ٦ (“أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ… وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ”) باعتبارها موضوعها المباشر. نتيجةً لذلك، تَخلُق الافتتاحيَّة في ٢: ١-٣ توتُّرًا حادًّا، وقد تقودنا إلى اليأس عندما يَذكُر بولسُ حالتنا اليائسة تمامًا أمام الله الذي تَدخَّل في غناه ونعمته في المسيح لكي يُنقذنا وتحديدًا عندما كنَّا أعداءً له بإرادتنا (قارن مع رومية ٥: ٥-١١).

يُعتبَر مُجمل نَصِّ أفسس ٢: ١-١٠ موحَّدًا بواسطة الكلمات المُتكرِّرة: “بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ” (أفسس ٢: ٥، ٨) وبواسطة المُقارنة الصارخة بين السلوك القديم “بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا” و”حَسَبَ دَهْرِ هذَا الْعَالَمِ… فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا”. لكنَّ الله بسبب غنى رحمته ومحبَّته (٢: ٤) تدخَّل بشكلٍ حاسمٍ وأقامنا مع ابنه المُتجسِّد. لقد كنَّا أمواتًا في الخطيَّة، لكنَّه أحيانا مع المسيح يسوع وأجلسنا معه في السماويَّات بنعمته. لكنَّ الله لا يترُكنا جالسين وغير فعَّالين –لقد بدأ فينا الخليقة الجديدة لكي نَبدأ في السلوك في الأعمال الصالحة المُرتبطة بالسماوات الجديدة والأرض الجديدة (٢: ١٠). لا يَصدُر أيٌّ من هذا من ذواتنا بل هو عطيَّةٌ من الله (٢: ٨، ٩).

تأسيس الخليقة الجديدة المُتَّحدة (٢: ١١-٢٢)

في هذا القسم، يَطلب بولسُ من قُرَّائه الأمميِّين أن يَتذكَّروا حالتهم اليائسة السابقة، ثُمَّ يُعلِّم عن كيف أتى لهم المسيح بالسلام ووَحَّدهم مع القدِّيسين باعتبارهم جنسًا بشريًّا أخرويًّا، ويَبنيهم بصفتهم بيتًا وهيكلاً للخليقة الجديدة التي تمَّ تأسيسها.

لقد تمَّ تقديم موضوع الخليقة الجديدة في أفسس ٢: ١٠ لكن يتمَّ توسيعه هنا في ٢: ١١-٢٢، حيث تُقدَّم الكنيسة باعتبارها “جنسًا بشريًّا جديدًا” أو “إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا”. قبل ذلك في رسالة أفسس، تمَّ وَصف الله الآب بأنَّه في مَركز الحدث، لكنَّ التركيز يَقع الآن على يسوع المسيح وفدائه، باعتباره من يقوم بعمله المُوحِّد في الكنيسة.

يوجد في هذا القسم بأكمله وحدة جوهريَّة لكنَّه يَنقسم نحويًّا وموضوعيًّا إلى ثلاث “حركات”. يَتحرَّك فيها بولس من تذكيرٍ بانفصال الأمم عن إسرائيل وبالتبعيَّة انفصالهم عن الله (٢: ١١، ١٢) إلى الحديث عن عمل المسيح لتوحيد هؤلاء الأمم الغرباء مع قدِّيسي العهد القديم وقدِّيسي العهد الجديد الظاهرين حديثًا في خليقة جديدة (٢: ١٣-١٨). يَختتم بولس بالتعليم بأنَّ الكنيسة الجديدة والمُتَّحدة تنمو لتصير هيكلاً وبيتًا للخليقة الجديدة (٢: ١٩-٢٢).

لقد كان للأمم في أفسس والذين يكتُب إليهم بولس آلهةٌ عديدةٌ: آلهة دوليَّة (أعمال الرسل ١٥: ١١-١٣)، وآلهة محلِّيَّة مثل أرطاميس الأفسسيِّين (أعمال الرسل ١٩: ٢٤-٣٦)، وآلهة للقبيلة الواحدة، وآلهة منزليَّة، وبالتأكيد، كان هناك آلهة في كلِّ مكان (أعمال الرسل ١٧: ١٦، ٢٣). مع ذلك، “كُلُّ آلِهَةِ الشُّعُوبِ أَصْنَامٌ” (مزمور ٩٦: ٥)؛ يوجد واحد فقط هو “اللهَ الْحَيَّ الْحَقِيقِيَّ” (١ تسالونيكي ١: ٩). أن يكون الإنسان بعيدًا عنه معناه أنَّه “بِلاَ إِلهٍ فِي الْعَالَمِ” وبذلك يُصبح “لاَ رَجَاءَ” له.

إنَّ التقسيم القديم لكلِّ الشعوب إلى فئتين: اليهود والأمم (أعمال الرسل ١٤: ٥؛ رومية ٣: ٢٩؛ ٩: ٢٤؛ ١ كورنثوس ١: ٢٣) أو اليهود واليونانيُّون (يوحنَّا ٧: ٣٥؛ أعمال الرسل ١٤: ١؛ ١٨: ٤؛ رومية ٣: ٩؛ ١ كورنثوس ١: ٢٢، ٢٤؛ إلخ)، تمَّ تجاوزه بواسطة كيان جديد في المسيح: “كنيسة الله” (١ كورنثوس ١٠: ٣٢). يوجد لدينا في الكنيسة، من خلال المسيح يسوع، نظام “السلام” (أفسس ٢: ١٤) والمُصالحة في “جسدٍ واحدٍ” (٢: ١٦، ١٧). بعدما صرَّح بذلك، انتقلَ بولس إلى لُغة المواطنة (٢: ١٩) التي كان بإمكان القُرَّاء الأفسسيِّين أن يفهموها بما أنَّهم كانوا يعيشون في مدينة كان لعدد قليل من السُكَّان هذه المكانة الثمينة (فيلبِّي ٣: ٢٠، ٢١). يتمتَّع كلُّ المؤمنين بهذه المكانة المرغوب فيها للمواطنين في ملكوت الله، الخليقة الجديدة. هذا هو وَطننا السماويُّ إلى الأبد (قارن مع كولوسِّي ٣: ١-٤؛ عبرانيِّين ١١: ١٣-١٦).

علاوةً على ذلك، يُعَدُّ شعبُ المسيح، القدِّيسون، أعضاءً كلَّهم الآن في عائلة الله، “أهل بيته”. بمجرَّد أن يذكُر بولس تعبير “أهل البيت”، ينتقل في أفسس ٢: ٢٠-٢٢ إلى وَصف الكنيسة باعتبارها بيتًا، وبالتأكيد تُعتبَر بيتًا يسكن فيه الله مع شعبه، هيكلاً جديدًا (قارن مع ٢ صموئيل ١٥: ٢٥؛ عزرا ٧: ١٥؛ ١ بطرس ٢: ٥). إنَّ المؤمنين الأمم الذين تمَّ تقريبهم إلى الله في المسيح لم يعودوا “بِلاَ إِلهٍ فِي الْعَالَمِ”! الله هو إلههم وهم شعبه إلى الأبد (مثل: رؤيا ٢١: ٣).

سِرُّ الفداء وإعلانه (٣: ١-١٣)

في هذا القسم، يتوقَّف بولس ليؤكِّد لقُرَّائه الأمميِّين أنَّ سجنه لا يعني أنَّ الله عزله من مَنصبه الرسوليِّ ممَّا قد يُعرِّض ميراثهم في المسيح للخطر.

بدأ بولس بدافعٍ للتمجيد الذي يَنبع من الحقائق الموجودة في أفسس ١، ٢ ومن رجائه لأجل تقديسٍ أعمق لقُرَّائه. لكنَّه تحوَّل عن هذا الغرض في أفسس ٣: ١ عندما عرَّف نفسه بصفته سجينًا، والذي استدعى بعض التوضيح في ٣: ٢-١٣ (قارن مع أفسس ٦: ١٩، ٢٠).

إنَّ هذا النوع من التحويل ليس غريبًا على بولس، وفي الواقع، يُعَدُّ إشارةً واضحةً على أنَّ رسالة أفسس رسالة بولسيَّة وليست مُزيَّفة. إنَّ هذا الاستطراد حدثَ أيضًا في رومية ٥: ١٢، حيث بدأ بولس في الحديث عن أمرٍ ما، ثمَّ تحوَّل مساره بواسطة معلومات مُهمَّة وتفاصيل بخصوص خلفيَّة الموضوع، ثمَّ استكملَ ما كان يقوله في رومية ٥: ١٨. في أفسس ٣: ١-١٣، من السهل رؤية إلى أين كان ذاهبًا عند نهاية إصحاح ٢، عند طريق الذهاب مباشرةً إلى ٣: ١٤ والقراءة من هناك. لن تَرغب في تَخطِّي ٣: ١-١٣ بالطبع، لأنَّه استطراد مهمٌّ للغاية، لكن تلك هي طريقة تَعقُّب مسار النَصِّ.

ما هو هدف الاستطراد في ٣: ٢-١٣؟ يُفسِّر أحدُ الآراء الشائعة هذا القسم بأنَّ بولس كان يُدافع عن مَنصبه وسُلطانه الرسوليِّ. مع ذلك، يبدو أنَّ ذلك لا يتوافق مع المسائل التي يُغطِّيها بولس في رسالة أفسس بشكلٍ عامٍّ، ولا يوجد دليل على وجود تحدٍّ لمكانته الرسوليَّة في أفسس.

ربَّما تَحوَّل بولس عن مساره المقصود عندما ذكر سجنه في ٣: ١. شعرَ بولس بأنَّ ذلك استدعى تفسيرًا كما يُرى في نهاية المقطع في ٣: ١٣: “لِذلِكَ أَطْلُبُ أَنْ لاَ تَكِلُّوا فِي شَدَائِدِي لأَجْلِكُمُ الَّتِي هِيَ مَجْدُكُمْ”. توقَّع بولسُ أنَّه يوجد فَصلٌ ظاهريٌّ بين الانتصار المُبتهج وجلوس المسيح على العرش بكلِّ سُلطان في هذا الدهر في الكنيسة الذي علَّم عنه للتوِّ (أي في أفسس ١، ٢) وسجنه، وفي ذلك توجد الهزيمة الواضحة والضعف لمُمثِّل المسيح الرسوليِّ للأمم. كيف يَملِك المسيَّا إذا كان شعبه يُعاني على يد عالَمٍ مغلوب؟ يُجيب الاستطراد عن هذه المُفارقة. قد يكون بولس مُقيَّدًا، لكنَّ رسالة الإنجيل لا تُقيَّد، والمسيح يَملِك بالتأكيد. وتؤدِّي كراهية العالَم واضطهاده للمؤمنين إلى نموِّ الكنيسة كما أدرك أحد آباء الكنيسة المُبكِّرة، ترتليان: “إنَّنا نتضاعف متى تمَّ جَزُّنا بواسطتكم؛ دماء المسيحيِّين هي البذرة”.

إنَّ الهيكل الأساسيَّ لنَصِّ أفسس ٣: ١-١٣ يتكوَّن من افتتاح المُناقشة التي يَقصدها بولس (٣: ١)، والاستطراد (٣: ٢-١٢)، وسبب الاستطراد وتعبير عن رغبة بولس في تشجيع القُرَّاء (٣: ١٣). في النصف الأوَّل (٣: ١-٧)، يشرح بولس أنَّ دعوته إلى أن يكون رسولاً كانت بالتحديد “لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا الأُمَمُ” (٣: ١ب؛ قارن مع ٣: ٢ب، ١٣ب). في ضوء ذلك، يُفسِّر بولس مَنصبه باعتباره عطيَّةً، لا لأجل مجده الذاتيِّ أو مكانته، بل لأجل قُرَّائه (٣: ١٣)؛ من ثمَّ، يُعَدُّ خادمًا في قيودٍ. في النصف الثاني من هذا القسم (٣: ٨-١٣)، يتوسَّع بولس في الحديث عن مَنصبه الفريد بصفته رسولاً للأمم وعن الغرض الكونيِّ لله بأن يُظهر مجد نعمته أمام الخليقة كلِّها.

استكمال صلاة بولس (٣: ١٤-٢١)

في هذا القسم، يستكمل بولس تمجيده للآب ويُخبر القُرَّاء عن صلواته أن يسكن الله في قُرَّائه وأن ينموا في المحبَّة ومعرفة الربِّ.

كما هو مُبيَّن في مناقشة المقطع السابق، يُعبِّر نَصُّ أفسس ٣: ١٤-٢١ عمَّا بدأ بولس في قوْله في ٣: ١. فهذا القسم استكمال للفكرة التي تركها بولس قبل الاستطراد في ٣: ٢-١٣.

يُعتبَر نَصُّ أفسس ٣: ١٤-٢١ نفسه شكلاً للصلاة التشفُّعيَّة (أو “تقريرًا عن صلاة تشفُّعيَّة”). يبدأ بالتأكيد بذلك في ذهنه في ٣: ١٤، ١٥، مع ذلك، مثل ١: ١٥-٢٣ سابقًا، يتحدَّث بولس في ٣: ١٦-١٩ إلى قُرَّائه (“لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ”؛ ٣: ١٦) عوضًا عن الحديث إلى الله وبذلك يَسمح له بأن يستمعوا إليه بينما يَتشفَّع من أجلهم. ويبدو أنَّ بولس يَنتقل إلى التقرير عن صلاته بالنيابة عنهم، وثُمَّ يتوسَّع في الحديث عن مضمون الأمور التي يرغب في أن يُعطيها لهم اللهُ. تَكمُن الصلاة، والتضرُّع، والتسبيح، والتشفُّع، والشكر (أفسس ٦: ١٨؛ قارن مع فيلبِّي ٤: ٦؛ ١ تيموثاوس ٢: ١، ٢) وراء ما يقوله بولس في هذا المقطع، وينتهي بمُباركة الله في أفسس ٣: ٢٠، ٢١ (نوعٌ من الصلاة)، وهو ما يَختم النصف الأوَّل للرسالة. لذلك، يُعتبَر هذا القسم تقريرًا عن الصلاة وصلاةً ممزوجين معًا.

توصية بولس بخصوص وحدانيَّة المحبَّة (٤: ١-٦)

في هذا القسم، يَحثُّ بولسُ الكنيسةَ بقوَّة على الوحدة في المحبَّة على أساس الحقائق المُرتبطة بالإله الواحد، ودعوته، وعمله الفدائيِّ الواحد.

في ٤: ١، يَنتقل بولس من الجزء الأوَّل من رسالته، الذي ركَّز على تعاليم عقائديَّة تتعلَّق بفداء المؤمنين، إلى الكشف عن توصيات تُحدِّد طاعتهم التي يجب أن تَنبُع من النعمة الإلهيَّة المُرتبطة بإنقاذهم ومن عمل الروح القُدس فيهم (قارن خصوصًا مع ٢: ١٠). لا يُعتبر المثل الأعلى المُتعلِّق بوحدة الكنيسة وبمحبَّتها أمرًا مركزيًّا لأفسس ٤: ١-٦ فقط، بل أيضًا بالنسبة إلى كثيرٍ من الأمور التي سيقولها بولس في هذا الإصحاح وما يليه.

يُوجَد هذا القسم وسط قسم أكبر في أفسس ٤: ١-١٦ باعتباره مُقدِّمةً وتقريرًا عن الموضوع الأساسيِّ المُتعلِّق بوحدة الخليقة الجديدة. يُطالَب المؤمنون بالحفاظ على “وَحْدَانِيَّةَ الرُّوحِ بِرِبَاطِ السَّلاَمِ” (٤: ٣) والتي تمَّ شراؤها لنا بثمن كبير بواسطة “الربِّ الواحد” يسوع المسيح (٤: ٥) مُحضرًا إيَّانا إلى “إيمان واحد” من خلال “معموديَّة واحدة” (٤: ٥) إلى شركة حميمة مع “إلهٍ وآبٍ واحدٍ للكُلِّ، الَّذِي عَلَى الْكُلِّ وَبِالْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ” (٤: ٦). تتغلغل المحبَّةُ بعمقٍ في النوع الوحيد للحياة الذي كما يحقُّ للدعوة التي قدَّمها الله لنا بدعوته إيَّانا “إِلَى مَلَكُوتِهِ وَمَجْدِهِ” (١ تسالونيكي ٢: ١٢؛ قارن مع أفسس ٥: ٥؛ ٢ تسالونيكي ١: ١١).

عطايا المسيح لأجل توحيد كنيسته (٤: ٧-١٦)

في هذا القسم، يُصوِّر بولس عطاء الربِّ المُنتصر لكنيسته لأجل حمايتها ونموِّها في الوحدة والمحبَّة.

كما ذُكِرَ أعلاه، هذا هو الجزء الثاني من المقطع الأكبر في أفسس ٤: ١-١٦. هذا القسم الموجود في ٤: ٧-١٦ له وحدته الجوهريَّة الخاصَّة به حتَّى إذا كان مُقترنًا بالقسم الأوَّل (٤: ١-٦). تَظهر الرابطة بين ٤: ١-٦ و٤: ٧-١٦ في تكرُّر صفة “واحد” المُستخدَمة سبع مرَّات في ٤: ٤-٦ والمُستخدَمة في تعبيرٍ غير مُعتاد (“كلِّ واحدٍ”) في ٤: ٧ وفي ٤: ١٦.

يُمثِّل نَصُّ أفسس ٤: ٧-١٦ صورة مُختصرة لأفكار لاهوتيَّة رئيسة، لأنَّ بولس بالفعل افتتحَ جُزء التوصيات في رسالته في ٤: ١ باستخدام العبارة الكلاسيكيَّة: “فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ” (قارن مع رومية ١٢: ١؛ ١ كورنثوس ٤: ١٦؛ ٢ كورنثوس ١٠: ١؛ ١ تيموثاوس ٢: ١). مع ذلك، في أفسس ٤: ٧-١٦، يُوقِف بولسُ التوصيات لكي يُؤسِّسها على عمل الله في المسيح، العمل الذي يرتبط بشكل مُباشر بتوصياته أكثر ممَّا تمَّ في أفسس ١-٣. لا يعود بولس حتَّى جُزء لاحق في الإصحاح (٤: ٢٥، ٢٦) إلى توصياته بخصوص الكلام الصادق في المحبَّة، الذي يُعبِّر ويُرسِّخ لنوع اللُطف والاحتمال الصبور في المحبَّة والذي دعا إليه سابقًا (٤: ١-٣).

يُعتبر جزآن من نَصِّ ٤: ٧-١٦ ضمن أكثر الأجزاء التي تتمُّ مُناقشتها بخصوص رسالة أفسس. يدور الأوَّل حول اقتباس بولس لمزمور ٦٨ في ٤: ٧-١٠ ليُعِدَّ الطريق لفَهم خدمات الكلمة في الكنيسة باعتبارها عطايا المسيح لجَسده (٤: ١١-١٦). يَتعلَّق الثاني بكيف نقرأ ونُفسِّر بالتحديد عبارات مُعيَّنة في ٤: ١١-١٢: “رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ” مُنفصلين أم “رُعَاةً مُعَلِّمِينَ” (٤: ١١) وما إذا كان يشترك المؤمنون بشكلٍ عامٍّ في “عَمَلِ الْخِدْمَةِ” أم لا (٤: ١٢). من السهل أن يُغمَر المرء بموجة الأبحاث بشأن هذه القضايا، لكنَّ تفاصيل ما يقوله بولس لا يَنبغي أن تَطغى على الفكرة الأساسيَّة: تَهدُف عطايا المسيح للكنيسة في انتصاره إلى تحقيق حياةِ وحدةٍ وإعلانٍ للحقِّ والتي ترتبط بالنموِّ والمحبَّة وسط شعبه.

كيف تَقتبسُ رسالةُ أفسس مزمور ٦٨؟

يقول مزمور ٦٨: ١٨: “صَعِدْتَ إِلَى الْعَلاَءِ. سَبَيْتَ سَبْيًا. قَبِلْتَ عَطَايَا بَيْنَ النَّاسِ، وَأَيْضًا الْمُتَمَرِّدِينَ لِلسَّكَنِ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ”. والذي يَقتبسه بولسُ في أفسس ٤: ٨ قائلاً: “إِذْ صَعِدَ إِلَى الْعَلاَءِ سَبَى سَبْيًا وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا”. يَكمن الاختلاف الواضح في أنَّه في المزمور، يَقبَل الربُّ عطايا، بينما في أفسس يُعطيها. كيف نَحلُّ الاختلافات؟ هل ببساطة أساء بولس اقتباس المزمور؟

يأتي الحَلُّ عندما نُدرك خاصِّيَّة شائعة في أسلوب العهد الجديد: يُمكن لأحد كُتَّاب العهد الجديد أن يَقتبس آية أو اثنتين فقط من مقطع في العهد القديم بينما يكون في ذهنه كلُّ السياق الذي يَنبغي تقديمه ليَفهم المرء كيف يُستخدم ويُفسَّر نَصُّ العهد القديم. في الحالة التي أمامنا، يُعَدُّ مزمور ٦٨ تصويرًا واضحًا للربِّ بصفته مُحاربًا مُنتصرًا والذي يُنقذ شعبه من أعدائهم في الخلاص من الموت (مزمور ٦٨: ٢٠)، ثُمَّ يَمدَح المزمور صعوده الانتصاريَّ ليَسكن وسط شعبه في سلام. تُقسِّم النساء غنائم المعركة (مزمور ٦٨: ١٢)، وتُقدِّم الملوك المهزومة هدايا الخضوع للإله المُنتصر (مزمور ٦٨: ٢٩) بينما يُدعى العالَم كلُّه لعبادة الربِّ (مزمور ٦٨: ٣١، ٣٢). يُعطي الربُّ، الجالس على العرش في قُدسه (مزمور ٦٨: ٢٤) والذي يَخدمه أتباعه المُخلِصون، “قُوَّةً وَشِدَّةً لِلشَّعْبِ” (مزمور ٦٨: ٣٥). تَقف هذه الآية الأخيرة وراء تصريح بولس بأنَّ الربَّ يُعطي عطايا عند صعوده بانتصار بينما يَتقاطر الأمم ليَعبدوا الربَّ. يُعَدُّ هذا الأمر الأخير وكذلك سخاء الربِّ النابع من غنى نعمته اهتمامات بارزة عبر رسالة أفسس (مثل: أفسس ١: ١٥-٢٣؛ ٢: ١١-٢٢؛ ٣: ٥-١٣) ويُمكن رؤيتها عندما يُقرأ مزمور ٦٨ كلُّه باعتباره مزمورًا يُؤثِّر على اقتباسٍ صغير لبولس في أفسس 4: 8.

الحياة الجديدة في مُقابل القديمة (٤: ١٧-٢٤)

في هذا القسم، يَستكمل بولسُ بشكلٍ جادٍّ توصياته بأن يَعيش قُرَّاؤه حياةً جديدةً تنبُع من الخليقة الجديدة التي تمَّ تأسيسها، في مُقابل عقليَّتهم ومُمارساتهم القديمة الفاسدة التي ما زالت تَتَّصف بها الشعوبُ.

إنَّ جدِّيَّة حديث بولس في ٤: ١٧-٢٤ يُشار إليها بالجمع غير المُعتاد بين عبارة: “فَأَقُولُ هذَا” مع عبارة: “أَشْهَدُ”. لكنَّ الإشارة إلى الجدِّيَّة تحتاج إلى الشرح. يَنبُع هذا التوجُّه من أنَّ بولس علَّم للتوِّ في ٤: ٧-١٦ عن عطاء المسيَّا المُقام والمُمجَّد لكنيسته لكي تَنمو في القداسة، وبسبب ما سيقوله الآن عن اشتراكهم في الخليقة الجديدة (٤: ٢٢-٢٤). يُقدِّم ذلك إشارةَ استعجالٍ للمؤمنين لأن يَتخلَّوا عن حياتهم القديمة ويَنضمُّوا في حياة الخليقة الجديدة المُشتركة بينهم والتي تَتَّصِف بالبِرِّ الأصيل والتكريس للربِّ.

مع ذلك، لا تبتعد كثيرًا التوصيات الموجودة في أفسس ٤: ١٧-٢٤. تُعيدُ التأكيد جوهريًّا على ٤: ١٧ بينما يَنشغل بولس مُجدَّدًا في شرح ماذا يُسبِّب الحياة القديمة للخطيَّة وما مشكلتها (قارن مع رومية ١: ٢١-٢٤) وشرح التجديد الجذريِّ للحياة الذي حقَّقه الله في المسيح لشعبه. لا يبدأ بولس توصياته الأكثر استدامة حتَّى يَصل إلى أفسس ٤: ٢٥ –في المقطع التالي– بخصوص الممارسات المسيحيَّة الأخلاقيَّة، وهي توصيات يَتركها بشكلٍ أو بآخر حتَّى يأتي إلى نهاية الرسالة.

يوجد قلبُ نَصِّ أفسس ٤: ١٧-٢٤ في ٤: ٢١-٢٤ حيث يقول بولس إنَّ المؤمنين أحضرهم اللهُ في المسيح إلى اتِّصالٍ حقيقيٍّ وحيٍّ مع تجديد الخليقة الجديدة في إنساننا الداخليِّ. توجد طريقتان لقراءة نَصِّ ٤: ٢٢-٢٤ بالتحديد: إمَّا باعتباره توصيات وإمَّا باعتباره إقرارًا بالحقيقة. تَقرأ عديدٌ من الترجمات الإنجليزيَّة الحديثة هذه الآيات على أنَّ بولس يَحثُّ المؤمنين بأن “يَخلعوا الإنسان العتيق… ويَتجدَّدوا… ويَلبسوا الإنسان الجديد”. رُغم أنَّ ذلك مُمكنٌ نحويًّا، فإنَّه ليس ما يقوله بولس؛ يقول بولس إنَّه بمجرَّد أن يَقبل المؤمنُ المسيحَ، فهو يقوم بتلك الأفعال لأنَّه (بالفعل) تَغيَّر إلى عضوٍ جديدٍ في بشريَّة جديدة للخليقة الجديدة. وهذا هو كيف أُترجم أفسس ٤: ٢٢-٢٤:

لأنَّكم بالتأكيد سمعتم عنه وعُلِّمتم فيه، حيث إنَّ الحقَّ يوجد في يسوع، ٢٢أنَّكم خَلعتم إنسانكم العتيق، من جهة التصرُّف السابق في الحياة، الذي يَفنى بسبب شهواته الخادعة، ٢٣وأنَّكم تَختبرون التجديدَ بروح ذهنكم، ٢٤وأنَّكم لبستم الإنسان الجديد المخلوق بحسب صورة الله في البرِّ والتكريس الحقيقيِّ.

إنَّ تلك القراءة لنَصِّ ٤: ٢٢-٢٤ تُعتبَر مُفضَّلة لثلاثة أسباب. أوَّلاً، يَجب أن تكون تلك الآيات إقرارًا بالحقيقة لا توصيات، لأنَّ بولس يستخدمها كأساس لتوصياته التي ستبدأ في ٤:٢٥، وهو الأمر الذي يُشار إليه عندما يقول: “لهذا السبب” أو “لِذلِكَ”، ويُخبر قُرَّاءه كيف يعيشون في ضوء الحقائق المُتعلِّقة بهم. ليس من المنطقيِّ القول بأنَّهم كانوا يُطالَبون بأن “يخلعوا الإنسان العتيق” ثُمَّ نستنتج من ذلك أنَّه يجب عليهم أن “يطرحوا” الكذب. تَنبُع التوصيات كنتائج للحقائق، لا من توصيات أخرى (مثل: أفسس ٤: ١؛ ٥: ٧؛ رومية ٦: ١٢؛ ١٥: ٧؛ ١ كورنثوس ١٤: ١٣؛ غلاطيَّة ٥: ١؛ كولوسِّي ٢: ١٦؛ ١ تسالونيكي ٥: ١١).

ثانيًا، يقول بولس إنَّ أهل أفسس عرفوا المسيح، وسمعوه، وعُلِّموا فيه كما هو حقٌّ، في مُقابل فساد حياتهم القديمة. توجد الخليقة الجديدة في خلفيَّة ذلك التمييز بين الحقِّ والفساد، ويُعبِّر بولس عن اشتراكهم في تلك الخليقة الجديدة بصفتهم “الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ” (٤: ٢٤). تُعَدُّ هذه حقائق بخصوص المؤمنين في أجزاء أخرى من رسالة أفسس (مثل: أفسس ٢: ١-١٠، ١٥؛ ٥: ٨) وفي أماكن أخرى أيضًا، وهي أشياء لا يستطيعون أن يقوموا بها بأنفسهم.

أخيرًا، في المسيح، لقد “خلعَ”، ونزعَ وطرحَ المؤمنون إنسانهم العتيق. إنَّه ميِّت –وكان من الجيِّد التخلُّص منه. كما قال أحد آباء الكنيسة، يوحنَّا ذهبيُّ الفم: “لقد دُفن إنساننا الأوَّل: دُفِن لا في الأرض بل في الماء، لم يُدمَّر بالموت بل دُفِن بواسطة موت المُدمِّر” (Chrysostom, Hom. Col., 7). هذا هو أساس كلِّ الأخلاقيَّات المسيحيَّة: لقد مضت الأشياء العتيقة وأشرقتْ الأشياء الجديدة في نظامٍ مُنير (أفسس ٥: ٨؛ ٢ كورنثوس ٥: ١٧). لقد مات المؤمنون مع المسيح على الصليب وماتت العبوديَّة للخطيَّة التي اتَّسمتْ بها الحياةُ القديمة في آدم (رومية ٦: ٨؛ غلاطيَّة ٢: ٢٠؛ ٥: ٢٤؛ ٦: ١٤؛ كولوسِّي ٢: ٢٠؛ ٣: ٣؛ قارن مع أفسس ٢: ٥). يُعلَن ذلك بأنَّه حقيقة بخصوص المؤمنين في كولوسِّي ٣: ٩، ١٠ (“لاَ تَكْذِبُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، إِذْ خَلَعْتُمُ الإِنْسَانَ الْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ، وَلَبِسْتُمُ الْجَدِيدَ الَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ”) وكذلك يَمُرُّ ذلك كالخيط في نسيج رومية ٦: ١-٢٣.

يَعتبر بولسُ الحقائقَ الموجودة في أفسس ٤: ٢٢-٢٤ جزءًا مِفتاحيًّا لكلِّ التعليم المسيحيِّ (٤: ٢١)، ويُعبِّر موت المؤمن مع المسيح عن الجانب السلبيِّ للتجديد، بينما يُعبِّر نَصُّ ٤: ٢٣، ٢٤ عن الجانب الإيجابيِّ. سيُقدِّم بولس هذه الديناميكيَّة بطريقة أخرى قريبًا “لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلاً ظُلْمَةً، وَأَمَّا الآنَ فَنُورٌ فِي الرَّبِّ” (أفسس ٥: ٨).

سلوك الخليقة الجديدة في المحبَّة (٤: ٢٥ – ٥: ٢)

في هذا القسم، يستكمل بولس شرحه لكيف ينبغي أن يَسلُك مُواطنو الخليقة الجديدة معًا في المحبَّة، والفِكر، والكلام، والتصرُّف.

في هذا الموضع، ينبغي تَخطِّي تقسيم الإصحاحات الموجود لنُبقي الأجزاء المُرتبطة ببعضها معًا، حيث إنَّ نَصَّ ٥: ١، ٢ ينتمي إلى نَصِّ ٤: ٢٥-٣٢ (ويَرتبط أيضًا مع نَصِّ ٥: ٣-١٤). علاوةً على ذلك، تدور وحدة المقطع كلِّه حول الموضوع الموجود في ٥: ٢، “اسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ”، التي تُوضِّح حياة الخليقة الجديدة في البرِّ وقداسة الحقِّ (٤: ٢٤). إنَّ هذا الموضوع البسيط بخصوص السلوك في المحبَّة يَرتبط بشكلٍ أعمق بالآيات السابقة، من أجل أن نرى في أفسس ٤: ٢٥ – ٥: ٢ تصويرًا لمعنى السلوك كما يحقُّ للدعوة (٤: ١) لا كما يسلك الأمم الذين لا يؤمنون (٤: ١٧؛ قارن مع ٥: ٨، ١٥).

لقد افتتحَ بولس القسميْن السابقين (٤: ١-١٦ و٤: ١٧-٢٤) بالتوصيات، لكنَّه تَحوَّل قليلاً عن مساره إلى تقديم حقائق لاهوتيَّة أو بركات الفداء الإلهيِّ التي تُعَدُّ الأساسَ المنطقيَّ للسلوك المسيحيِّ وقوَّته. في أفسس ٤: ٢٥ – ٥: ٢، يبدو أنَّ بولس مُستعدٌّ أخيرًا لشرح نوع السلوكيَّات التي يجب أن تُميِّز المؤمنين الحقيقيِّين. يَتعامل بولس بشكلٍ أعمق مع الأساس المنطقيِّ لتوصيات مُعيَّنة، لكنَّه على الأكثر، يُذكِّر القُرَّاء بعمل الروح القُدس كالختم في ٤: ٣٠ (من ١: ١٣، ١٤) وعن طريق الترسيخ لمَغفرة الله المُحِبَّة والفداء المُضحِّي بالذات في ابنه باعتبار ذلك يُقدِّم للمؤمن مِثالاً لحياة المحبَّة (٤: ٣٢ – ٥: ٢).

لا يأمر بولس المؤمنين في أفسس ٤: ٢٦ بأن يَغضبوا، تُعَدُّ نوبات الغضب خطيَّة (انظر أفسس ٤: ٣١؛ غلاطيَّة ٥: ٢٠؛ كولوسِّي ٣: ٨؛ إلخ). لكنَّه يقول إنَّه إذا تَملَّك منَّا الغضبُ، يجب أن نتعامل معه ونعمل على حَلِّه بسرعة قبل أن يَنال فُرصةً لأن يَتفاقم إلى ضغينة قاسية، وانتقامٍ، وشرورٍ أخرى.

في أفسس ٤: ٢٨، يستخدم بولس مِثال السارق ليُوضِّح كيف تؤثِّر التوبة على أسلوب الحياة. تتضمَّن التوبة كلاًّ من التوقُّف (سلبيٌّ) والبدء (إيجابيٌّ). يجب أن يتوقَّف السارق عن السرقة وأن يبدأ في العمل الأمين. تَنبُع السرقة من الكسل والطمع، لذلك لاحظ كيف يُواجه بولس تلك الصفات الشرِّيرة بِقوْله إنَّ السارق التائب يجب أن يكون النقيض: مُجتهدًا في العمل وكريمًا في العطاء. من السهل توسيع هذا المِثال ليُخاطب خطايا سلوكيَّة أخرى يجب أن نتوقَّف عنها وأن نُطوِّر بشكلٍ إيجابيٍّ حياةً مُقدَّسةً مُخالفةً لتلك الخطايا (انظر أيضًا ٤: ٣١، ٣٢). يوجد في قلب كلِّ السلوك المسيحيِّ تركيزٌ على ذبيحة المسيح بصفته الوسيط النيابيَّ لأجلنا، الذبيحة التي يُعبِّر عنها بولس في ٥: ١، ٢ بمصطلحات الذبيحة الحيوانيَّة من العهد القديم، وتُتَمِّم ذبيحة المسيح كلَّ تلك الذبائح، وتُعَدُّ النموذج الأسمى لمحبَّتنا المُمتنَّة والمُضحِّية بالذات (انظر أيضًا فيلبِّي ٤: ١٨؛ عبرانيِّين ٩: ١١-١٥؛ ١ يوحنَّا ٣: ١٦).

القدِّيسون والعالَم الشرِّير (٥: ٣-١٤)

في هذا القسم، يستكمل بولس توصياته للقدِّيسين بصفتهم مواطني الخليقة الجديدة، ويُنذرهم يأن يَتجنَّبوا المُمارسات الشرِّيرة لأهل العالَم.

يوجد انتقالٌ هنا من المقطع السابق (أفسس ٤: ٢٥ – ٥: ٢). كان التركيز في التوصيات السابقة على التفاعلات مع المؤمنين الآخرين، أمَّا هنا في ٥: ٣-١٤، يُصبح التركيز على تفاعل الكنيسة مع العالَم. يُركِّز الجُزء الأوَّل من ٥: ٣-١٤ على تجنُّب أيِّ شكلٍ من أشكال الزنا، أو النجاسة، أو الطمع (الشهوة) التي يَسلُك فيها “أبناء المعصيَّة” (٥: ٦) في ضوء وجود المركز في التوصية الموجودة في ٥: ٧. يوجد انتقالٌ في ٥: ٨ إلى تركيزٍ أكبر على السبب الذي لأجله يجب على الذين يعترفون بالإيمان بالمسيح ألاَّ يشتركوا في هذه الشرور بعد: إنَّهم نورٌ ويجب أن يسلكوا كأولادٍ للنور وأن يأتوا بثمره (٥: ٨، ٩). يَختتم بولس هذا القسم بتركيبٍ مُثيرٍ للاهتمامِ لاقتباسٍ من العهد القديم في ٥: ١٤ والذي يربُط موضوعي النور والظُلمة معًا.

توجد تشابهات وثيقة بين ٥: ٣-١٤ والمقطع التالي من رسالة كولوسِّي:

فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ: الزِّنَا، النَّجَاسَةَ، الْهَوَى، الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ، الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ، الأُمُورَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا يَأْتِي غَضَبُ اللهِ عَلَى أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ، الَّذِينَ بَيْنَهُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا سَلَكْتُمْ قَبْلاً، حِينَ كُنْتُمْ تَعِيشُونَ فِيهَا. وَأَمَّا الآنَ فَاطْرَحُوا عَنْكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا الْكُلَّ: الْغَضَبَ، السَّخَطَ، الْخُبْثَ، التَّجْدِيفَ، الْكَلاَمَ الْقَبِيحَ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ. (كولوسِّي ٣: ٥-٨)

لاحظ كيف لا تَتمثَّل الشرور التي تُقيِّد الإنسان فقط في الأفعال بل في الكلمات أيضًا (“التَّجْدِيف، الْكَلاَم الْقَبِيح”) وفي الأفكار (“الْغَضَب، السَّخَط، الْخُبْث”). سيُلاحظ المرء نفس التركيز على الأخلاقيَّات في الفِكر، والكلام، والفعل في عديد من المواضع في الكتاب المُقدَّس، بما في ذلك، كلمات يسوع الشهيرة في الموعظة على الجبل (خصوصًا متَّى ٥: ٢١-٤٨). يُفكِّر البشر، ويتكلَّمون، ويَتصرَّفون –لا يوجد أمر آخر نفعله، لذلك تتغلغل مَطالب البرِّ “لملكوت المسيح والله” (أفسس ٥: ٥؛ قارن مع متَّى ٦: ٣٣) في كلِّ حياتنا.

يتحدَّث بولس في مواضع أخرى عن أنَّ المسيح يَملِك الآن عن يمين الله (انظر أفسس ١: ٢٠-٢٢؛ رومية ٨: ٣٤؛ ١ كورنثوس ١٥: ٢٤-٢٧؛ كولوسِّي ٣: ١؛ إلخ)، والذي نُقلنا إلى ملكوته الفدائيِّ بالفعل (أفسس ٢: ٦؛ كولوسِّي ١: ١٣، ١٤)، رُغم أنَّه سيكتمل فقط عند مجيئه الثاني (١ كورنثوس ١٥: ٢٠-٢٤؛ ٢ تيموثاوس ٤: ١). إنَّ ملكوت الله هو العالَم الأبديُّ، الخليقة الجديدة، الذي سندخل إليه في اكتمالٍ عن طريق خلود القيامة (١ كورنثوس ١٥: ٥٠؛ ١ تسالونيكي ٢: ١٢)، مع ذلك، نحيا الآن في ضوء برِّه (رومية ١٤: ١٧؛ ١ كورنثوس ٦: ٩، ١٠؛ غلاطيَّة ٥: ٢١؛ ٢ تيموثاوس ٤: ١٨) وقوَّته (مثل: عبرانيِّين ٦: ٥).

تعمل صورُ النور والظُلمة الموجودة في ٥: ٣-١٤ كمجازٍ عن قداسة الله وشعبه المُتحالف معه في وجه شرور العالَم وتُعَدُّ صورًا شائعة في الكتاب المُقدَّس (إشعياء ٥: ٢٠؛ ٥٨: ٨؛ متَّى ٦: ٢٣؛ يوحنَّا ٣: ١٩؛ رومية ١٣: ١٢؛ ١ تسالونيكي ٥: ٥؛ ١ يوحنَّا ١: ٥؛ ٢: ٨). يستخدم بولس هذه الصورة في موضع آخر عندما يُخبر الكنيسة بأن تَتجنَّب أن تكون “تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ” في ٢ كورنثوس ٦: ١٤، ويقول الكثير ممَّا يقوله في أفسس ٥: ٧-١٤.

توصية لكلِّ الكنيسة (٥: ١٥-٢١)

في هذا القسم، يَختتم بولس توصياته العامَّة لكلِّ أعضاء الكنيسة عند هذه النقطة قبل أن يَنتقل إلى أمورٍ تَتعلَّق بمجموعات مُحدَّدة في البيت.

يَعمل نَصُّ أفسس ٥: ٢١ كتوصية ختاميَّة انتقاليَّة إلى الخضوع الذي سيتَّضح إذًا في كيف يَتناسب ذلك مع مجموعات مُختلفة في العائلة في ٥: ٢٢ – ٦: ٩. وهكذا، ينتمي نَصُّ ٥: ٢١ –بالتأكيد كلُّ ٥: ١٥-٢١– إلى المجموعة الأكبر من الحديث الذي يَمتدُّ حتَّى ٦: ٩ لكنَّه يُعامَل هنا بشكل مُنفصل لأجل المُلائمة.

يَبدأ هذا القسم بالحَثِّ على “السلوك”، وهي استعارة شائعة (مثل: مزمور ١: ١) والذي يُحدِّد أقسامًا رئيسةً في توصيات بولس في رسالة أفسس كما يلي:

٤: ١   أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ.

٤: ١٧ أَنْ لاَ تَسْلُكُوا فِي مَا بَعْدُ كَمَا يَسْلُكُ سَائِرُ الأُمَمِ.

٥: ٢   وَاسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ.

٥: ٨   اسْلُكُوا كَأَوْلاَدِ نُورٍ.

٥: ١٥ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِالتَّدْقِيقِ.

في أفسس ٢: ١-١٠، يُشير هذا الفعل “يَسلُك” إلى هَيكلٍ تضمينيٍّ (يُسمَّى إنكلوسيو inclusio أي أسلوب الأقواس)، والذي يَبدأ بشرحٍ عن “سلوك” القُرَّاء السابق الذي تُسيطر عليه الخطيَّة والضياع (٢: ٢أ) ويَنتهي “بسلوكهم” الجديد في الأعمال الصالحة نتيجةً لمُبادرة محبَّة الله لهم التي تَرتبط بالخليقة الجديدة في حياتهم من خلال المسيح (٢: ١٠). لذلك، يُشرَح سلوكُ الخليقة الجديدة هذا، أو سلوك الحياة، في توصيات النصف الأخير من الرسالة. كيف يَسلُك الإنسان في “جِدَّةِ الْحَيَاةِ” هذه (رومية ٦: ٤)؟ هذا هو السؤال الذي يُوجِّه مَسار التوصيات في أفسس ٤-٦ و”السلوك” المسيحيَّ.

توصيَّات إلى بيوت المؤمنين (٥: ٢٢ – ٦: ٩)

إلى الزوجات والأزواج (٥: ٢٢-٣٣)

في هذا القسم، يبدأ بولس في توضيح توصياته بشأن الخضوع المُتبادل في عائلة الكنيسة بعلاقات الخضوع والمحبَّة في الزواج والتي تُبنى على مشورة الله الأزليَّة وفداء المسيح للكنيسة.

توجد ثلاث مناطق في البيت المسيحيِّ القديم يُوضِّح بولس فيها توصيته العامَّة في أفسس ٥: ٢١: “خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِي خَوْفِ اللهِ”. هذه المناطق الثلاث هي بين الأزواج (٥: ٢٢-٣٣)، وبين الوالديْن والأولاد (٦: ١-٤)، وفي العلاقات بين العبيد والسادة (٦: ٥-٩). في هذه النصوص، ينبغي التشديد على أنَّ تركيزها هو على الاهتمام الشامل والمُستمرِّ للرسالة بالوحدة في مُجتمع الخليقة الجديدة التي تمَّ تأسيسها، والذي يَمتدُّ الآن إلى الأسرة.

إنَّ المِثال الأوَّل الذي يستخدمه بولس للخضوع العامِّ من ٥: ٢١ هو الترتيب الصحيح لعلاقات الزواج (انظر أيضًا كولوسِّي ٣: ١٨؛ ١ بطرس ٣: ١-٧). لاحظ أنَّه لا يقول للزوجات أن يُطِعن أزواجهنَّ كما لو أنَّهنَّ أطفال أو عبيد (انظر ٦: ١، ٥)، ولا يقول للنساء عامَّةً أن يُطِعن الرجال عامَّةً، لأنَّ كلا النوعيْن مخلوقان على صورة الله بالتساوي (تكوين ١: ٢٦-٢٨) ووَرثة للحياة الأبديَّة معًا (غلاطيَّة ٣: ٢٨، ٢٩). إنَّ هذا الخضوع هو احترامٌ لقيادة الزوج من أجل صحَّة علاقة الزواج وعملها المُتناغم.

إنَّ جُزءًا ممَّا سيجعل توصيات بولس مفهومة بشكلٍ أكبر هو فَهمٌ أفضل للسياق الأصليِّ. كانت أغلب النساء في العالَم الذي كان فيه أهل أفسس يَتزوجْن في المتوسِّط عند عُمر الرابعة عشر تقريبًا (بعضهنَّ مُبكِّرًا عند عُمر الثانية عشر) من رجالٍ أكبر منهنَّ في المتوسِّط بعشرة إلى ثلاثين عامًا تقريبًا. علاوةً على ذلك، بسبب نقص التغذية والمُضاعفات في أثناء الحمل تحديدًا، كانت هذه النساء تَموتن في العشرينيَّات أو الثلاثينيَّات من عُمرهنَّ. على سبيل المِثال، عُثِرَ على علامة قبر باقية في مدينة أفسس والذي يعود تقريبًا إلى زمن هذه الرسالة، نُقِشَ عليها: “كلوديا ماجنا، جَدَّة ذات ثمانية وثلاثين عامًا”. بكلمات أخرى، بالنسبة إلى النساء اللاَّتي يتحدَّث إليهنَّ بولس في رسالة أفسس، بعضهنَّ كُنَّ في عُمر الخامسة عشر ويُرضعن طفلهنَّ الأوَّل أو الثاني، ولهنَّ أزواج أكبر منهنَّ بعشرة إلى ثلاثين عامًا. كانت أخريات في عُمر السادسة والعشرين –العُمر الذي فيه أوَّلاً تتزوَّج امرأةٌ في الولايات المُتَّحدة– وبصحَّة ضعيفة بسبب انتفاخ الرئة والضعف المُزمن بعد ولادة طفلها الرابع أو الخامس (كان يموت ٥٠ بالمئة منهم قبل الوصول إلى عُمر السادسة).

وفقًا لذلك، يَحثُّ بولس بعدها الزوجَ المؤمن أن يُحبَّ زوجته بطريقة مُضحِّية بالذات (أفسس ٥: ٢٣-٣٣)، زوجته التي هي “جسده” (٥: ٢٩؛ انظر تكوين ٢: ٢٤؛ متَّى ١٩: ٥؛ مرقس ١٠: ٨؛ ١ كورنثوس ٦: ١٦). إنَّ محبَّة المسيح المُضحِّية بالذات من أجل كنيسته هي النموذج لمحبَّة الزوج (انظر خصوصًا يوحنَّا ١٥: ١٣)، والتي هي النموذج الأصليُّ لاتِّحاد الزواج نفسه (أفسس ٥: ٢٣، ٣٢).

إلى الأولاد والوالديْن (٦: ١-٤)

في هذا القسم، يَحثُّ بولسُ على العلاقات الصحيحة والجوهريَّة بين الأولاد والوالديْن في الربِّ.

هذا هو المِثال الثاني من ثلاثة أمثلة مُحدَّدة لكيف ينبغي أن يخضع أعضاء جماعة الإيمان بعضهم لبعضٍ في بيوتهم والذي يُوسِّع شرح ٥: ٢١: “خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِي خَوْفِ اللهِ”. كان المِثال الأوَّل بخصوص العلاقات المُتبادلة بين الزوجات والأزواج (٥: ٢٢-٣٣)، وسيدور الثالث والأخير حول العبيد وسادتهم (٦: ٥-٩). هذه هي العلاقات الثلاث الرئيسة في البيت القديم. مع ذلك، لا يهتمُّ بولس بتقديم دراسة مُطوَّلة عن هذه العلاقات؛ يُعطي مُجرَّد أفكار أساسيَّة قليلة باعتبارها أساسًا يُطبِّقه المؤمنون على عديدٍ من الظروف والعلاقات المُتنوِّعة التي يُقابلها الإنسان في الحياة في البيت، وفي العالَم، وفي الكنيسة.

إنَّ التوصية إلى الأولاد بأن “يُطيعوا” (لا بأن “يُحبُّوا) والديهم هي أمرٌ جديرٌ بالمُلاحظة. تَتطلَّب الطاعة خضوعَ الإرادة ولا يُمكن تزييفه بسهولة؛ وهي تعبير عن الطاعة لوصيَّة الله بأن يُكرموا والديهم –الوصيَّة الخامسة في الوصايا العشر (خروج ٢٠: ١٢؛ تثنية ٥: ١٦)، والتي يقتبسها بولس في أفسس ٦: ٢، ٣. ينبغي تحديدًا مُلاحظة أنَّ الأولاد المؤمنين لهم نموذج إلهيٌّ لطاعتهم، حيث إنَّ ابن الله المُتجسِّد نفسه كان “خاضعًا” لمريم ويوسف في أثناء طفولته (لوقا ٢: ٥١؛ قارن مع متَّى ١٩: ١٩؛ لوقا ١٨: ٢٠) مثلما كان خاضعًا لمشيئة أبيه السماويِّ (مثل: يوحنَّا ٦: ٣٨).

يُخاطب بولس بشكلٍ لافت للنظر الأولادَ في جماعة المؤمنين مُباشرةً في أفسس ٦: ١-٣. ناقشَ المُعلِّمون الأخلاقيُّون الكبار في العصور القديمة مسائل تربية الأولاد إلى حدٍّ ما باستفاضة، لكنَّهم وجَّهوا كلامهم إلى الآباء لا إلى الأولاد أنفسهم. لكنَّ بولس يَتكلَّم مُباشرةً إلى الأولاد المؤمنين بافتراض أنَّهم موجودون مع والديهم عندما كانت الرسالة تُقرأ وسط جماعة المؤمنين وأنَّهم كانوا يسمعون أيضًا كلَّ التوصيات التي فيها، لأنَّهم “فِي الرَّبِّ”، أي أنَّهم أعضاء في جماعة العهد لشعب المسيح جنبًا إلى جنبٍ مع والديهم. هذا هو الأساس لكلا الوالديْن (يُمثِّلان في توصية بولس إلى “الآباء” في ٦: ٤) لأنْ يُربُّوا أولادهم “بِتَأْدِيبِ الرَّبِّ وَإِنْذَارِهِ”. إنَّ هذه التربية بحسب حكمة الربِّ هي إرثهم كما هو واضحٌ، على سبيل المِثال، في سِفر الأمثال (انظر خصوصًا أمثال ١-٩). “يَا ابْنِي، لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ وَلاَ تَكْرَهْ تَوْبِيخَهُ، لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَكَأَبٍ بِابْنٍ يُسَرُّ بِهِ” (أمثال ٣: ١١، ١٢).

إلى العبيد والسادة (٦: ٥-٩)

في هذا القسم، يَحثُّ بولسُ على علاقات مُخلِصة ومُتفهِّمة بين العبيد والسادة في الربِّ.

هذه هي التوصية المُخصَّصة الثالثة والأخيرة لخضوع المؤمنين بعضهم لبعضٍ في خوف الله في أفسس ٥: ٢١، في ما يَتعلَّق بالبيت المسيحيِّ. ستنتهي الرسالة قريبًا بعد قسمٍ طويلٍ آت عن “الحرب” في الحياة المسيحيَّة (٦: ١٠-٢٠). حتَّى تلك اللحظة، يُؤسِّس بولس للكيفيَّة التي ينبغي أن يَخدم بها العبيدُ سادتهم “حَسَبَ الْجَسَدِ” بإخلاص “كَمَا لِلْمَسِيحِ” (٦: ٥) عن طريق تحديد أنَّه عليهم تقديم الطاعة مثلما على الأولاد نحو والديهم.

في نوعي العلاقات المُتبادلة السابقة، ناقشَ بولسُ علاقات مُتأصِّلة في الخليقة (الزواج والأولاد) –لكنَّ العبوديَّة ليست كذلك. يُمكن أن تُعتبر العبوديَّة في العصور القديم أحقر أشكال الحياة –وكان بإمكانها أيضًا أن تقود إلى ثروة كبيرة وقوة سياسيَّة. بالنسبة إلى أغلب العبيد، وضعتهم العبوديَّة بالتأكيد تحت رحمة سادتهم (قارن مع متَّى ٨: ٩؛ لوقا ١٧: ٧-١٠)، ولم يُمارس السادةُ الرحمةَ وضبطَ النفس دائمًا.

كيف يُناقش بولس العبوديَّة؟

لماذا لا يدين بولسُ العبوديَّة صراحةً هنا في أفسس ٦: ٥-٩ وفي مواضع أخرى (مثل: كولوسِّي ٣: ٢٢ – ٤: ١؛ فليمون)؟ كثيرًا ما يُطرَح هذا السؤال كما لو أنَّ بولس كان بإمكانه ببساطة أن يدين العبوديَّة دون تَوقُّع أن تكون هناك آثار خطيرة لدرجة أن يتهدَّد الوجود المستمرُّ للكنيسة بشكلٍ خطير: “جَمِيعُ الَّذِينَ هُمْ عَبِيدٌ تَحْتَ نِيرٍ فَلْيَحْسِبُوا سَادَتَهُمْ مُسْتَحِقِّينَ كُلَّ إِكْرَامٍ، لِئَلاَّ يُفْتَرَى عَلَى اسْمِ اللهِ وَتَعْلِيمِهِ” (١ تيموثاوس ٦: ١، التشديد مُضاف؛ قارن مع تيطس ٢: ٥).

لم تَكُن العبوديَّة سِمة عرضيَّة للاقتصاديَّات الزراعيَّة القديمة في القرن الأوَّل الميلاديِّ، بل كانت جُزءًا من نسيجها الأساسيِّ –كان ٨٠ إلى ٨٥ بالمئة من الناس في العصور القديمة مُشتركين مُباشرةً في إنتاج الطعام بشكلٍ ما وكان جُزءٌ كبيرٌ منهم عبيدًا. حتَّى لو قام الإمبراطور الرومانيُّ بتجريم العبوديَّة بواسطة مرسومٍ، كان سيحدث تضخُّم لا يُمكن تخيُّله واضطرابٌ اجتماعيٌّ كنتيجة مُباشرة لذلك. ستُصبح المزارع خالية؛ ستكون المجاعة وأعمال الشغب بسبب الطعام أمورًا مُعتادة –لقد قُدِّر أنَّ نَقص الطعام بالفعل تمَّ اختباره في أغلب الأماكن مرَّةً واحدةً كلَّ عامين أو ثلاثة. لا يُقصَد من ذلك بأيِّ شكلٍ أن يُبرَّر للعبوديَّة في العصور القديمة، لكنَّ بولس كان سيكون شخصًا غير مسؤول بأكثر ما يُمكن وغير حكيم إذا تحدَّثَ ببساطة ضدَّها وإذا ألهمَ المؤمنين بالقيام بثورة اجتماعيَّة.

لذلك، لم يُدِن بولس العبوديَّة صراحةً، لكن ما فعله كان لَبِقًا، وحكيمًا، وعلى الأرجح أسهم في زوال العبوديَّة نهائيًّا في العالَم القديم: لقد أكَّد على الميراث الكامل والمواطنة الكاملة للعبيد في ملكوت المسيح في مواضع مثل ١ كورنثوس ١٢: ١٣، غلاطيَّة ٣: ٢٨، وكولوسِّي ٣: ١١ –وضمنيًّا في أفسس ٦: ٥-٩. في هذه الأثناء، طلبَ من العبيد أن يُقدِّموا طاعةً مُخلصة لسادتهم، وبأكثر أهمِّيَّة، يُذكِّر سادتهم أنَّ سيِّدهم وسيِّد عبيدهم في السماوات، وأنَّ لديه اهتمامًا خاصًّا باليتامى والمحرومين في العالَم (مثل: تثنية ١٠: ١٧-١٨؛ مزمور ١٠: ١٤-١٨؛ ٨٢: ٣، ٤؛ ملاخي ٣: ٥).

تجهيز الكنيسة لصراعها (٦: ١٠-٢٠)

في هذا القسم، يَحثُّ بولسُ الكنيسةَ على المثابرة مُصلِّين في هذه الحياة في مواجهة كلِّ مُقاومة روحيَّة بالاعتماد على عطايا الله القويَّة.

هذا هو القسم الأطول في هذا الإصحاح، ويقوم بدور التوصية الختاميَّة للرسالة. يُمكن تقسيم أفسس ٦: ١٠-٢٠ بسهولة إلى ٦: ١٠-١٧ بتركيزه على الصورة الحربيَّة، و٦: ١٨-٢٠ والذي به توصية ختاميَّة بخصوص الصلاة المُستمرَّة لأجل القدِّيسين ولأجل بولس خصِّيصًا. يُمكن لهذا الجُزء الأخير بشأن الصلاة أن يُفصَل بسهولة عن القسم التالي من حيث الموضوع، ومن المُمكن أن يكون قد كُتِبَ بيد بولس نفسه، لكنَّه جزءٌ ضروريٌّ في المقطع الأكبر في ٦: ١٠-٢٠، حيث إنَّ الصلاة هي الأداة الأكثر فاعليَّة وواقعيَّة للكنيسة في حربها.

كان بولس من بعض النواحي في موقف يشوع. مثلما رحل موسى تاركًا يشوع يَدخُل كنعان، كذلك صعدَ يسوع تاركًا بولس يَدخُل مناطق الأمم (رومية ١١: ١٣؛ ١ تيموثاوس ٢: ٧). مثلما تحرَّكَ يشوع من على الجانب الآخر لنهر الأردنِّ ليبدأ امتلاك أرض الموعد، كذلك تحرَّكَ بولس ليبدأ حملة هجوميَّة ليُسيطر على العالَم كلِّه. لكنَّ الفارق بين الاثنين كبيرٌ. كان لدى يشوع أوامر بأن يبدأ غزوًا تحت حُكمٍ إلهيٍّ، وهي أوامر من رئيس جُند الربِّ والذي سيفه مسلول بيده (يشوع ٥: ١٣-١٥). أمَّا بولس فكان يتحرَّك بأوامر من رئيس السلام (إشعياء ٩: ٦؛ أفسس ٢: ١٤-١٧) وكان سلاحه الهجوميُّ الوحيد للسيطرة على العالَم هو أخبار السلام (٦: ١٥) والذي يُصبح فعَّالاً من خلال الصلاة في الروح القُدس (٦: ١٨-٢٠). تحرَّكَ بولس ليُسيطر على عالَمٍ كان بالفعل تحت أقدام مَلكه (١: ٢٠-٢٣) الذي قال: “أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ” (يوحنَّا ١٦: ٣٣)، وقال: “دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، فَاذْهَبُوا …” (متَّى ٢٨: ١٨، ١٩). نتيجةً لذلك، يُوصي بولسُ الكنيسةَ في ٦: ١٠-٢٠ ألاَّ يَتقدَّموا إلى معركة غزوٍ تحت حُكمٍ إلهيٍّ، بل أن يَثبتوا ويُصلُّوا.

إنَّ الجانب الأبرز في ٦: ١٠-٢٠ والذي كثيرًا ما تتمُّ مُلاحظته هو الربط بين هذا النَصِّ مع الربِّ بصفته مُحاربًا إلهيًّا. إنَّ الربط مع إشعياء والسلاح الحربيِّ في أفسس ٦: ١٤-١٧ تحديدًا هو ربطٌ صريحٌ. مع ذلك، ينبغي الإشارة إلى أنَّ السلاح في إشعياء هو السلاح الشخصيُّ للربِّ والذي يَلبسه ليَغلب أعداءه من أجل شعبه العاجز:

فَرَأَى أَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَانٌ، وَتَحَيَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ شَفِيعٌ. فَخَلَّصَتْ ذِرَاعُهُ لِنَفْسِهِ، وَبِرُّهُ هُوَ عَضَدَهُ. فَلَبِسَ الْبِرَّ كَدِرْعٍ، وَخُوذَةَ الْخَلاَصِ عَلَى رَأْسِهِ… (إشعياء ٥٩: ١٦، ١٧)

فبعد أن حقَّق الملكُ المسيَّانيُّ الخلاصَ بشكلٍ حاسمٍ، أصبحَ شعبه مُجهَّزين بنفس هذا السلاح ليُدافعوا عن أنفسهم في هذا الدهر.

سيَظهر سؤالٌ مهمٌّ والذي تتمُّ مُناقشته بشكلٍ دوريٍّ: ما الذي يُشكِّل السلاح المسيحيَّ؟ هل هي التقوى أو الفضيلة الشخصيَّة، التي هي التكلُّم بالحقِّ والبرِّ الشخصيِّ (٦: ١٤)، والاستعداد إلى المُشاركة برسالة الإنجيل (٦: ١٥)، وإلخ؟ أم أنَّ السلاح هو الجوانب الموضوعيَّة لانتصار المسيح بالسلاح الإلهيِّ الذي ارتداه هو شخصيًّا ليُحقِّق الخلاص لشعبه (أي إشعياء ٥٩: ١٦، ١٧ بأعلاه)؟

إنَّ الإجابة غالبًا ستكون مزيجًا من الاثنين، بالإضافة إلى مكوِّنٍ تفسيريٍّ ضروريٍّ. لا يَتعامل نَصُّ أفسس ٦: ١٠-٢٠ مع المؤمنين في عُزلةٍ ويُطالبهم بالتصرُّف بشكلٍ فرديٍّ، بل باعتبارهم أفرادًا في جماعةٍ بنفس الطريقة التي في ها يجب على الجُنديِّ الفرد أن يكون جُزءًا من جيشٍ لكي يَثبُت أمام كتيبة العدوِّ. تُوجَّه التوصيات في ٦: ١٠-٢٠ إلى الكنيسة كَكُلٍّ بأن يَثبتوا في السلاح الذي يُوفِّره الله لهم في المسيح، والذي بالطبيعة يرتديه الأفراد –لكن دون الانعزال بمُفردهم. إنَّ أعضاء شعب المسيح المُتَّحد المُكتسين بالمسيح الذي فيه كلُّ الحقِّ (٤: ٢١)، يستطيعون أن يَثبتوا وهُم لابسون الحقَّ (٦: ١٤) ويتكلَّمون بالحقِّ بعضهم لبعضٍ (٤: ٢٥) وينمون معًا إلى قياس قامة المسيح بواسطة كلمة الله وإرشادها (٤: ٧-١٦؛ ٦: ١٧). يُوفِّر اللهُ “سلاحَ النور” الذي يرتديه المؤمنون عندما يَلبسون المسيح لكي يتمكَّنوا من الوقوف بثباتٍ في نظامٍ مُقدَّسٍ مُكرَّسٍ:

قَدْ تَنَاهَى اللَّيْلُ وَتَقَارَبَ النَّهَارُ، فَلْنَخْلَعْ أَعْمَالَ الظُّلْمَةِ وَنَلْبَسْ أَسْلِحَةَ النُّورِ. لِنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي النَّهَارِ: لاَ بِالْبَطَرِ وَالسُّكْرِ، لاَ بِالْمَضَاجعِ وَالْعَهَرِ، لاَ بِالْخِصَامِ وَالْحَسَدِ. بَلِ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيرًا لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ. (رومية ١٣: ١٢-١٤، التشديد مُضاف)

أفكار وبركات ختاميَّة (٦: ٢١-٢٤)

في هذا القسم، يَختتم بولس رسالته بإشارةٍ إلى خدمة تِيخيكُس لأجل القُرَّاء بالنيابة عنه، وببَركةٍ رسوليَّةٍ للكنيسة.

تُعتبَر هذه خاتمة قصيرة نسبيًّا للرسالة عندما تُقارن برسائل بولس الأخرى، مع ذلك، فيها نوع من التوازن. تُفتَتح الرسالة كما بدأتْ: ببَركةٍ مُختصرة لنعمة الله وسلامه ليستقرَّا على قُرَّاء الرسالة (قارن أفسس ١: ٢ مع ٦: ٢٣، ٢٤). ليس من قبيل المصادفة أنَّ النعمة والسلام موضوعان مُنتشران في هذه الرسالة كلِّها (مثل: ٢: ٨، ١٤-١٧).

كانت إحدى طرائق التحقُّق من أصالة إحدى الرسائل هي بأن يُوقِّع الكاتب عليها بيده (انظر خصوصًا ٢ تسالونيكي ٣: ١٧؛ قارن مع ١ كورنثوس ١٦: ٢١؛ غلاطيَّة ٦: ١١-١٨؛ كولوسِّي ٤: ١؛ فليمون ١٩). من ثَمَّ، على الأرجح كتبَ بولس على الأقلِّ نَصَّ ٦: ٢١-٢٤ بيده، مثلما حدثَ مثلاً في ١ كورنثوس ١٦: ٢١ حيث كُتِبَتْ التحيَّات فقط بيد بولس (“اَلسَّلاَمُ بِيَدِي أَنَا بُولُسَ”). من المُثير للاهتمام أنَّ التوقيع على إحدى الرسائل يَتَّضح في رسالة مكتوبة من مدينة أفسس عندما خصَّصتْ كلوديا أنطونيا تاتيان لأخيها (“صاحب السعادة، إيميليوس أريستيدس”) مكانًا في مقبرتها بالقرب من البوَّابة المغنيسيَّة “the Magnesian Gate” (على الحدود الجنوبيَّة الشرقيَّة للمدينة حيث تمَّ اكتشافها) لكي يَتمكَّن من دَفن زوجته هناك. تقول كلوديا تاتيان: “لقد كتبتُ هذه الرسالة عن طريق عبدي، ديونيسيوس، والتي وقَّعتُ اسمي عليها بنفسي” (Die Inschriften von Ephesos 2121; late II–early III AD). لقد ضمنَ توقيعها أصالةَ رسالتها.

بِذِكْره لتِيخيكُس في ٦: ٢١، ٢٢، قدَّمَ بولس للقُرَّاء الأصليِّين طريقةً ثانية تَضمن أنَّ هذه الرسالة كانت من بولس بشكلٍ أصيل. إذا كان تِيخيكُس، والذي من “أسيَّا الصُغرى” من مُقاطعتهم حيث تَقع مدينة أفسس (أعمال الرسل ٢٠: ٤؛ قارن مع ٢ تيموثاوس ٤: ١٢) والذي عرفه أهلُ أفسس شخصيًّا بلا شكٍّ، أحضرَ لهم الرسالة، فهي رسالة حقيقيَّة. لقد كان هو نفسه خَتم الأصالة. لم تستطِع الرسائل المُزيَّفة أن تُقدِّم هذا الدليل على الأصالة وهو أحد الأسباب التي لأجلها يَذكُر بولسُ تِيخيكُس في الرسالة.

يَختتم بولس رسالته الصغيرة الرائعة إلى أهل أفسس ببَركة رسوليَّة ختاميَّة وغنيَّة لقُرَّائه (ولَنا نحن): “سَلاَمٌ عَلَى الإِخْوَةِ، وَمَحَبَّةٌ بِإِيمَانٍ مِنَ اللهِ الآبِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. اَلنِّعْمَةُ مَعَ جَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. آمِينَ” (أفسس ٦: ٢٣، ٢٤). بِقَوْله إنَّ رَبَّنَا يسكن “فِي عَدَمِ فَسَادٍ”، أشار بولس إلى الموضوع المركزيِّ في رسالة أفسس والمُرتبط بالخليقة الجديدة، لأنَّ “عدم الفساد” هو في قلب حياة المسيح بعد القيامة بصفته باكورة حصاد شعبه (١ كورنثوس ١٥: ٢٠-٢٨). “لأَنَّ هذَا [الجسد] الْفَاسِدَ لاَ بُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ، وَهذَا [الجسد] الْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ… فَأَقُولُ هذَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ: إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يَرِثَا مَلَكُوتَ اللهِ، وَلاَ يَرِثُ الْفَسَادُ عَدَمَ الْفَسَادِ” (١ كورنثوس ١٥: ٥٣، ٥٠، التشديد مُضاف؛ قارن مع ١ كورنثوس ١٥: ٤٢، ٥٤؛ رومية ٢: ٧؛ ٢ تيموثاوس ١: ١٠).

من ثَمَّ تَختتم الكلمات الأخيرة لرسالة أفسس موضوعها المركزيَّ: في المسيح يسوع ومن خلال نعمة الثالوث الفادية، يَختبر المؤمنون الآن تأسيس الخليقة الجديدة وسيسكنون مع ربِّنا في سلام مُوحَّد في حياة القيامة الجديدة غير القابلة للفساد. مثلما يسكُن ملكنا المسيَّانيُّ المُقام في عدم فساد الآن بصفته باكورةً، هكذا أيضًا سيعيش كلُّ شعبه معه في مجدٍ غير قابل للفساد إلى الأبد. “مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ، لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ” (أفسس ١: ٣، ٦).

س. م. بوه

 

شارك مع أصدقائك