تحرير لاهوتيّ: لا يهدف هذا المقال الادعاء بأن إله العهد القديم يختلف عن إله العهد الجديد، وإنما بأن الفهم القاصر للجماعات اليهوديّة لإعلان الله الذي في المسيح جعلهم يعبدون فهمهم هم عن الله، وليس الإله الحقيقيّ المُعلن في كتبهم.
يمكنك أن تجد مفهومًا لطيفًا عن التوحيد في كلٍ من اليهوديّة والإسلام، ولكن فقط في المسيحيّة يتجلى هذا الحُب في عملٍ من جانبٍ واحد فقط لخلاص الخُطاة بصرف النظر عن المحاولات والجِهاد الدينيّ. لذا، قال سي. إس, لويس: “نحن نثق ليس لأن هناك إله موجود، بل لأن الله موجود.”[1]
هناك بالطبع العديد من اليهود والمسلمين والمسيحيين الذين يؤمنون بأن أتباع الأديان الثلاثة يعبدون نفس الإله، ولكن من خلال تعابير ومصطلحات مختلفة. ونرى هذا الرأي بوضوح في القرآن إذ يقول:
“وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.” (سورة العنكبوت 46)
كما أن لدى اليهود والمسيحيّون الكثير من المعتقدات المشتركة. فأصبح من الشائع بين الناس خاصة في العالم الغربي الإشارة إلى هذا التراث المشترك عبر مصطلح “Judeo-Christian” أو “القيم اليهودية-المسيحية”. وهذا أمر حقيقيّ وجائز في أغلب الحالات. وهذا أشبه بما قاله الرئيس الأمريكيّ الأسبق جورج بوش، الابن في لقاء عام 2007، والذي قال فيه: “أنا أؤمن بإله قدير، وأعتقد أن كل العالم، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو من أي دين أخر، يُصلّون إلى نفس الإله. هذا ما أؤمن به.”[2]
هذا الاعتقاد شائع ومنتشر وسط هذه التقاليد الدينية الثلاثة. ولكن أعتقد أننا نقفز إلى هذا الاستنتاج بلا تفكير أو تروٍ. فنفترض أنه نظرًا لأن هذه الأديان الثلاثة—اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام— تؤمن بعقيدة التوحيد ولها جذور تاريخيّة وتراثيّة مشتركة، فإذًا، هم يعبدون ذات الإله. ولكن، ليس معنى أن بعض الناس تعبد إلهًا واحدًا أن يكون معنى ذلك أنهم يعبدون نفس الإله!
هل يعبد اليهود والمسيحيّون نفس الإله؟
في الواقع، هذا السؤال مُعقد للغاية، لكن الإجابة المختصرة هي: لا!
بالطبع يمكنك تجاهل مثل هذا التأكيد. فهو ليس اعتقادًا شائعًا حتى داخل الأوساط الإنجيليّة، حيث يعتقد الكثيرون أن اليهود يعبدون ما يعرفونه عن الله. فيُقال أنهم يعبدون الإله الواحد الحقيقيّ، لكن برؤية غير كاملة عنه. لكن، ألا يمكن أن يُقال ذات الأمر عن أي ديانة تحمل بعض أوجه التشابه مع الإله الذي يعبده المسيحيّون.
إن ما يجعل هذا السؤال أكثر تعقيدًا هو كثرة التيارات والمذاهب في كلٍ من اليهوديّة والمسيحيّة، حتى أن أحد علماء اللاهوت اليهود قال: “الحقيقة هي أنه لا يوجد فهم يهوديّ واحد عن الله.”[3] هذا يجعل من التمييز عمل صعب، فأننا لا نتعامل مع ديانة واحدة، بقدر ما نتعامل مع فِرق ومذاهب عديدة. على النقيض، وعلى الرغم من تعدد المذاهب المسيحيّة، إلا أنها ظلّت موّحدة بشكلٍ كبير في الأمور المركزيّة لعقائدها الأساسيّة. لكن هناك تناقض صارخ بين النظرة المسيحيّة واليهوديّة إلى الله حول عقيدة “النعمة”.
قد يبدو وضع خطًا فاصلًا حول مفهوم النعمة تقسيمًا ضيقًا للغاية في نظر البعض. فالإله الذي يُعلنه التناخ اليهوديّ (الكتاب المقدس لدى اليهود والذي يحوي مجموعات التوراة، والنڤييم، والكتوڤيم) يُظهر دائمًا نعمة غزيرة. والمسيحيّون سيؤكّدون ذلك. ولكننا نؤمن أيضًا أنه يجب علينا أن نؤمن بالله كما أعلن هو عن نفسه. وفي الواقع، أن عدم تصديق ما أعلنه الله عن نفسه أو نسخ تصوّر عن الله مُفضّل لدينا لهو في الواقع عبادة أصنام. في قصة عبادة بني إسرائيل للعجل الذهبي، نرى أن هارون قاد الإسرائيليين إلى عبادة هذا الإله المُزيّف مُدعيًا أنها عبادة ليهوه الرب الذي أصعدهم من أرض مصر (خروج 5:32)!
فعندما يتحدث المسيحيّون عن النعمة، ذلك الأمر الذي يفصلها عن سائر الأديان، فإننا لا نشير ببساطة إلى سمة في شخصيّة أو معاملات الله. نحن نشير إلى هذه الأشياء بالطبع، ولكننا نُشير تحديدًا إلى الطريقة التي أعلن بها الله عن نعمته، أي من خلال شخص يسوع المسيح وعمله.
في الحقيقة، قد تتقابل الأديان وتتداخل في الكثير من المبادئ والعقائد، ولكنها جميعًا ستتفرّق كل إلى حاله عند نقطة مركزيّة واحدة هي يسوع المسيح ابن الله!
هذا ليس مُجرّد رأي، إنما مقاومة للحق الذي أعلنه يسوع. ونرى تلك المقاومة تتكرر مرارًا وتكرارًا خلال خدمة يسوع التي نقرأ عنها في البشائر الأربعة من العهد الجديد.
فمثلًا، نتقابل في يوحنا 8 مع قادة اليهود وهم يتجسسون على يسوع محاولين اصطياده بكلمة وفصحه والتشهير به. ويجب أن نتذكّر بأن الفريسيين في زمن يسوع لم يكونوا شخصيّات هامشيّة في الديانة اليهوديّة، بل كانوا هم النخبة الدينيّة والتيار السائد. وكان القاسم المشترك بينهم وبين تعاليم يسوع كبير جدًا. فقد كانوا يؤمنون بكافة أسفار العهد القديم، وبتاريخ العهود، وبقيامة الأموات، وغيرها الكثير.
ولكن يخبرنا إنجيل يوحنا 8 عن صدامٍ بين يسوع والفريسيين. ليس مجرّد صدام بين يسوع اللطيف وقادة اليهود الخبثاء، إنما هو أكثر من ذلك بكثير. إنه في جوهره خلاف حول من هو الله.
في هذا الإطار نقرأ كيف أن يسوع قد فعل ذات ما اعتاد القيام به وهو إعلانه عن نفسه. فهو تكلّم باعتباره القاضي (في قصة المرأة التي أُمسكت في ذات الفعل)، ونور العالم، وطريق الحريّة من الخطيّة، والكثير من الأمور الصادمة الأخرى التي لم يعتاد أي زعيم دينيّ أو نبيّ قولها. فنحن في العادة لا نأخذ ادعاءات الزعماء الدينيين أو منتحلو صفة الأنبياء محمل الجد.
ولكن يسوع استطرد وقال ما هو أكثر غرابة:
أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ. فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ، أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ. (يوحنا 56:8-58)
ما الذي كان يقصده؟
إن ما يقوله يسوع هنا هي أشياء لا تُصَدَّق. أولًا، يدّعي أنه كان موجودًا قبل إبراهيم. هذا ادعاء صريح بأن وجوده يجتاز الحدود (كليّ الوجود) والزمن (أزليّ). وباستخدامه تعبير “أَنَا كَائِنٌ” إنما كان يُطبّق اسم يهوه (“أَهْيَهِ”) على نفسه؛ أي أنه كان يدعيّ أنه الله. ونحن نعلم أن هذا ما فهمه اليهود من كلامه حين امسكوا بالحجارة لرجمه (يوحنا 59:8). فهذا ما يشعر أي يهوديّ صالح بأن عليه أن يفعله حين يسمع مثل هذا التجديف الصارخ.
مرة أخرى، هذا ليس مجرّد خلاف في الرأي، وليس مجرّد عبادة نفس الإله بطرقٍ مختلفة. إذا كان يسوع بالحقيقة هو الله، وحاولت قتله، فكيف لنا بأي حال أن نقول إنك تؤمن وتعبد ذات الإله؟
وهذا ليس رأيًا متطرفًا منغلقًا، إنما هو ذات الرأي الذي أوضحه يسوع بنفسه في ذات الإصحاح.
أَجَابُوا وَقَالُوا لَهُ: أَبُونَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كُنْتُمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ، لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ! وَلكِنَّكُمُ الآنَ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي، وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللهِ. هذَا لَمْ يَعْمَلْهُ إِبْرَاهِيمُ. أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ أَبِيكُمْ». فَقَالُوا لَهُ: إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِنًا. لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كَانَ اللهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي، لأَنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ اللهِ وَأَتَيْتُ. لأَنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي، بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي. لِمَاذَا لاَ تَفْهَمُونَ كَلاَمِي؟ لأَنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي. أنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ. وَأَمَّا أَنَا فَلأَنِّي أَقُولُ الْحَقَّ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي. مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ فَإِنْ كُنْتُ أَقُولُ الْحَقَّ، فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي؟ اَلَّذِي مِنَ اللهِ يَسْمَعُ كَلاَمَ اللهِ. لِذلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ اللهِ. (يوحنا 39:8-47)
باختصار، إن ما يقوله يسوع هنا هو أه إذا عَبَدَ شخص ما الإله الحقيقيّ، فسيعبدونه؛ لأنه من نفس طبيعة الإله الحقيقيّ. وأنه إن رفضه أحد، فإنه بهذا يرفض الإله الواحد الحقيقيّ. بل والأكثر من ذلك بحسب كلمات يسوع هنا، هو أن أي شخص -بما في ذلك اليهود الأرثوذكس هنا- لا يؤمن به، فإنه ينتسب إلى الشيطان نفسه.
لقد أردت بمشاركتي لهذا المقطع المطوّل أعلاه أن ترى بنفسك أنني لا اختلق هذا الأمر من نفسي. فهذا ما قاله يسوع. وأنت لك مطلق الحريّة أن تختلف مع هذا، بل وحتى أن تشعر بالاستياء. لكن يجب أن ترى بوضوح ان يسوع نفسه يقول هنا إن رفضه يعني رفض الله، وإنكار الحق، وأنه بمثابة إعلان من غير المؤمن بأنه “[ليسوا] مِنَ اللهِ.”
في يوحنا 30:10، يسوع يُضاعف من ادعاءاته قائلًا: “أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ.” ومرةٍ أخرى، يأخذ اللاهوتيّون اليهود الحجارة لرجمه، الأمر الذي ما كان يمكنهم فعله لو أن كل ما كان يقصده يسوع هو أنه هو والله “في ذات الفريق”. يوضح يوحنا هنا في 33:10 دافعهم:
أَجَابَهُ الْيَهُودُ قَائِلِينَ: لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَل حَسَنٍ، بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ، فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلهًا.
أعتقد أنه من الهام جدًا أن نفهم هذا التضاد الجوهريّ، إذا أردنا فَهم كلًا من اليهوديّة الأرثوذكسيّة والمسيحيّة القويمة التي خرجت منها منذ زمن المسيح فصاعدًا. فلم يكن الصراع بين يسوع واليهود في أيامه حول مدى جمال يسوع ومدى لؤم الفريسييّن. هذه قراءة سطحيّة للغاية لعلاقة يسوع بالقادة الدينيين، والذي يُعَدّ السبب الشائع لدى العالم غير المسيحيّ لسبب رفض اليهود للمسيح وقتلهم إياه.
ولكن صراع يسوع مع الكتبة والفريسيين لم يكن مُجرّد صراع شخصيّ. لقد كان صدامًا جوهريًا حول المنظور الكونيّ لكلٍ منهما. وللدقة، كان يسوع يوجّه العالم كله إلى نفسه واضعًا شخصه في مركز كل شيء. كان في الواقع يدعيّ أنه هو الله. وإذا كان هذا الادعاء حقيقيًّا، فإن الاختلاف معه يعني الاختلاف مع الله! إنكاره يعني إنكار الله! رفضه يعني رفض الله! وعبادة الله ودون عبادة يسوع هي في الحقيقة عبادة إله آخر.
فالمسيحيّون يؤمنون أن الله صار بشرًا في شخص يسوع المسيح، وأنه حُبل به من الروح القدس في بطن عذراء اسمها مريم ونما وكبر كإنسانٍ حقيقيّ.
نعود ونسأل السؤال الذي طرحناه في بداية هذا المقال: “هل يعبد اليهود والمسيحيّون نفس الإله؟” الإجابة هي لا! لأنه إذا كان الله قد أظهر ذاته في شخص يسوع المسيح، وإذا كان يسوع هو الله حقًا، وإذا كان الله بالفعل ثالوثًا، فإن رفض هذه الحقائق المتعلّقة بطبيعة جوهره، لا تعني خطأ في الإلمام بصفات مُعيّنة في الله، أو عدم فَهم جوانب من شخصيته؛ إنما هو رفض لله نفسه!
إن يسوع المسيح هو النقطة المركزيّة الوحيدة التي عندها تتفرّق الأديان والفِرَق.
[1] C.S. Lewis, “On Obstinacy in Belief,” in “The World’s Last Night” and Other Essays (San Diego: Harcourt, 1988), 25.
[2] Mona Moussly, “Bush denies he is an ‘enemy of Islam’,” Al Arabiya News (October 5, 2007).
[3] Alon Goshen-Gottstein, “God Between Christians and Jews—Is it the Same God?” (pdf) Paper presented at the Yale Center for Faith and Culture.