الاكتئاب والخِدمة [5]: مواجهة الاكتئاب مع المسيح

التركيز على الحل أم التركيز على الروح؟

دائمًا ما يسألني أحدهم عند نهاية مُحاضَرتي الأولى حول الاكتئاب هذا السؤال: “كيف سأعرف أنيّ قد ’ تعافيت‘، هل عندما أُصبِح “أفضل”؟ كيف سيبدو ‘تعافيَّ’ مِنْ الاكتئاب؟”

مِنْ ناحية، يُعتبر هذا سؤالًا جيدًا لكونه مُفعَم بالرجاء. لَكِن مِنْ ناحة أخرى، هو في الغالب ليس السؤال الأفضل لمَن يُعاني مِنْ الاكتئاب. قد يكون متوافق مع نمط شخصية القائد الذي يسعى دائمًا نحو الإنجاز وتحقيق الأهداف حالًا والآن. كما يتوافق هذا السؤال مع فِكر العالم حول العلاج المختصر الذي يُرَكِز على الحلول أكثر مِنْ خطة الرّب التي تُرَكِز على الروح الإنسانيّة ونموها في المسيح التي تستغرق الحياة بأكملها.

بالطبع، أنه ليس من الحكمة تِجاهُل هذا السؤال، وسَيكون أيضًا من الحماقة أن اُصِر وأقول للسائل “أنك ستكون دائمًا هكذا- ويجب أن تَعتاد على ذَلِك”. ولكن سيكون أيضًا مِنْ الخِداع بأن أعد السائل بأن “التعافيّ” الكامل أمرًا مضمونًا هنا على الأرض.

لذَلِك، عادةً ما أقول شيئًا من هذا القبيل: “مِن حقك أن تسأل هذا السؤال. ولكن الصِراع مع الاكتئاب يختلف مِنْ شخص لآخر. وتُعتبر رحلة كل شخص عَبر وادي اليأس عمليّة علاقاتية فَريدة. لِذا دَعونا نَتحدث عن كيف سيبدو الأمر بالنسبة لك عِندما تواجه الاكتئاب مُباشرة مع المسيح.”

تحديد مراحل للتعافي أم دَرب شخصيّ؟

في كِتابي “شفاء الله لخسائر الحياة- God’s Healing for Life’s Losses”، قمت بمقارنة وتضاد نموذج العالم حول “مراحل الحُزن الخمس” وبين نموذج كلمة الله حول الدَرب العلاقاتي مِنْ أجل النموّ وسط المُعاناة. ووَجدت انه إذا كُنا نَتحدث عن حزن، أو قلق، أو اكتئاب، أو أي معاناة، أو خطية أخرى، فلا توجد رحلتان متطابقان للتعافي.

تأمل كُلَا مِنْ داود، وإيليا، وأيوب، وبولس. فكلًا مِنهُم واجه ما يُمكِن أن يكون “اكتئاب”، ولكن مع مُسَبِبات وطُرق “علاج” مُتباينة. فيتَميز كلًا مِنْ دَرب داوُد في المَزامير، وعِلاج إيليا في ملوك الأول 19، ورحلة أيوب كما نَعرفها مِنْ خِلال سِفره، وصِراع بولس في رسالة كورنثوس الثانية بالخصوصيّة.

وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل المُشيرين الكِتابيين لا يأخذون آية واحدة أو مقطعًا كِتابيًا واحدًا ويسقطوه على كل مَن يُصارع مع الاكتئاب، على اعتبار أن هذه الآية أو هذا المقطع سيُناسِب الكُل في معرفة أسباب اكتئابهم وفي رحلة تعافيهم وعِلاجهم. وأيضًا هذا هو السبب في أن المَشورة الكِتابيّة ليست “حالة مِنْ النُصح” بل هي عملية علاقاتية. فنحن لا نَنصح ببساطة الناس بقولنا: “لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ” أو “اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ” كما لو كانت هذه كلمات سحرية تُعالِج الاكتئاب بشكلٍ فوريّ. فَبولس، قائل هذه الكلِمات، قال أيضًا في رسالة أخرى: “هكَذَا إِذْ كُنَّا حَانِّينَ إِلَيْكُمْ، كُنَّا نَرْضَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ، لاَ إِنْجِيلَ اللهِ فَقَطْ، بَلْ أَنْفُسَنَا أَيْضًا، لأَنَّكُمْ صِرْتُمْ مَحْبُوبِينَ إِلَيْنَا” (تسالونيكي الأولى 8:2). فالرَّب يدعونا لمُشاركة إنجيله وأنفسنا—بقوة وبطريقة علاقاتية.

أيها الخادِم—لا يُمكَنني أن أُقدم لك إجابة سريعة وسهلة مكونة مِنْ ثلاث خطوات ومِنْ شأنها أن “تُعالج” اكتئابك. ولا يُمكنَني تقديم قائمة واحدة تُناسب الجميع يمكنها تعريف وتحديد “التعافي مِنْ الاكتئاب”. ولَكِن بدلًا مِنْ ذَلِك، أشجعك على العثور على بعض الأصدقاء المَوثوق بهم يكونون على استعداد أن يجتازوا معك عَبر وادي يأسك الخاص.

انتصار على أم صِراع مع؟

أيًا كانت طبيعة الشوكة التي كانت في جسد بولس، فحتى بعدما تضرّع إلى الله ثلاث مرات، اختار الرَّب ألا تُفارقه. تأمل كيف يُعَد أمرًا عاديًا أن يختبر بولس “صِراع مع الشوكة” بدلًا مِنْ “الانتصار عليها”.

“فَإِنَّنَا لاَ نُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ ضِيقَتِنَا الَّتِي أَصَابَتْنَا فِي أَسِيَّا، أَنَّنَا تَثَقَّلْنَا جِدًّا فَوْقَ الطَّاقَةِ، حَتَّى أَيِسْنَا مِنَ الْحَيَاةِ أَيْضًا. لكِنْ كَانَ لَنَا فِي أَنْفُسِنَا حُكْمُ الْمَوْتِ” (كورنثوس الثانية 1: 8-9أ).

“مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ. مُتَحَيِّرِينَ، لكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ. مُضْطَهَدِينَ، لكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ. مَطْرُوحِينَ، لكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ.” (كورنثوس الثانية 4: 8-9).

” فِي صَبْرٍ كَثِيرٍ، فِي شَدَائِدَ، فِي ضَرُورَاتٍ، فِي ضِيقَاتٍ … كَحَزَانَى وَنَحْنُ دَائِمًا فَرِحُونَ” (كورنثوس الثانية 4:6ب، 10أ).

فمن النادِر أن يَختبر الشخص انتصار مُعجَزيّ، وفوريّ، ودائم على الاكتئاب. وبدلاً من أن تكون مُحبَطًا، فإن الرسالة الواضحة للصِراعات اليومية الشجاعة ضد الاكتئاب لهي مُشَجَعة للغاية، فهذا هو واقع الحياة، إذ أننا نَعيش في عالم ساقط في أجساد ساقطة.

أيها الخادِم—عليَّ أن أُخبَرك بكُل أمانة أن الرَّب لا يَضمن “الانتصار على الاكتئاب” ولا يَعِد أيضًا “بالشِفاء” و”التعافي” مِنْ الاكتئاب، إذا كُنا نَقصِد بقول ذلك التَخلُص الكامل المَضمون مِنْ أعراض الاكتئاب. وإنما، يَعِد الرَّب بالتعزية والرِعاية (كورنثوس الثانية 1: 3-5). ويَعِد أيضًا بأن ما لا يُمكِن عِلاجه يُمكِن تَحمُله (كورنثوس الأولى 13:10).

الاكتفاء الذاتيّ أم الاعتماد على المسيح؟

ولكن لماذا لا يَعِدنا الرَّب “بالسعادة الدائمة”؟ يوضح بولس هذا الأمر في أكثر من موضع.

“لِكَيْ لاَ نَكُونَ مُتَّكِلِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا، بَلْ عَلَى اللهِ الَّذِي يُقِيمُ الأَمْوَاتَ” (كورنثوس الثانية 9:1ب).

“وَلكِنْ لَنَا هذَا الْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ للهِ لاَ مِنَّا” (كورنثوس الثانية 7:4).

“تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ” (كورنثوس الثانية 9:12).

أيها الخادِم—كيف سَتعرف بأنك أصبحت “أفضل”؟ سَتعرف، عِندما تكون شخصًا أكثر اعتمادًا على المسيح. عِندما تَعتمد بشكل مُتَزايد على مَن يُقيم الموتى (فالاكتئاب أشبه بالموت). عِندما يظهر بشكل مُتَزايد لكُل مَن حَولِك (سواء كانت عائلتك أو من تخدمهم) بأن الرَّب هو قوَتك. عِندما تَتَشكل أكثر وأكثر بحقيقة كفاية نعمة الرَّب لك، وبأن قوَته تَكمُل في ضَعفك.

التَخلُص مِنْ الأعراض أم النمو في التَشبُه بالمسيح؟

الصلاة مِنْ أجل التَخلُص مِنْ أعراض الاكتئاب أمر مشروع—تمامًا كما صلّى بولس مِنْ أجل التَخلُص مِنْ الشوكة التي كانت في جسده. ومع ذلك، فإن هَدفنا النهائي ليس أن نُغيّر مَشاعرنا أو ظروفنا، بل أن نتعامل مع مَشاعرنا وظروفنا عبر التَشَبُه بالمَسيح؛ بحيث تَعكِس حياتنا الداخليّة بشكل مُتَزايد حياة المَسيح.

صلّى المسيح في البُستان أن يُجيز الله الآب عنه الكأس. لقد عَبَّر عَن ألمه الشديد بشكل واضح لأبيه السماويّ. ولكن حتى عندما لم يتَخلص مِنْ الألم وحتى عندما لم تُرفَع عنه الكأس، اعتمد المسيح على الآب الذي يُقيم الأموات!

لقد أدرك مارتن لوثر، الذي عانى مِنْ الاكتئاب والقلق الروحيّ العميق، أن المُعاناة هي دواء الرَّب المُفَضل لشفائنا مِنْ أشرس أمراضنا: ألا وهو الاكتفاء بذواتنا. وهذا لا يعني أن كٌل اكتئاب نُصارِع معه ناتج عن خطايانا الشخصية. ولكِن هذا يعني أن الرَّب يمكنه استخدام الاكتئاب كأداة عِلاجية بطريقة علاقاتية تجعلنا أكثر تَشبُهًا بابنه.

أيها الخادِم—كيف سَتعرف بأنك قد “شُفيت”؟ سَتعرف عِندما تُدرِك أن وجود الرَّب أهم من أن تجد الراحة. سَتعرف عِندما تُدرِك أن معرفة المسيح والتَشبُه به أكثر أهميّة من إيجاد العلاج. سَتعرف عِندما تُدرِك بأنك سَتعكس وجه المسيح بشكل مُتَزايد، إذا كانت مواجهتك المباشرة للاكتئاب هي معه.


تم نشر هذا المقال أولًا على موقع TGC: U.S Edition

شارك مع أصدقائك

حاصل على درجة الدكتوراة (PhD)، وقد قام برعاية ثلاث كنائس (وأطلق خدمات المَشورة كتابيّة في كل منها). كما عمل لمدة اثنتي عشر عامًا كرئيس مؤسس لماجستير الآداب لقسم المَشورة والتلمذة المسيحيّة في كليّة كابيتال للاهوت.